وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : سورة الإخلاص - تفسير الآيات 1 - 4 صفات الألوهية وأسماء الله الحسنى .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

القرآن أُنزل أثلاثاً


أيها الإخوة الكرام، سورة اليوم هي سورة الإخلاص، ووالله ما تهيَّبْتُ شرح سورة تهيُّبي لشرح هذه السورة، كيف لا وهي سورة تعدل ثلث القرآن، كيف لا وهي سورة تتحدَّث عن الله تعالى:

﴿ قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ (1) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ (2) لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ (3) وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ (4)﴾

[ سورة الإخلاص ]

 لهذه السورة أسماء عديدة؛ سورة الإخلاص، سورة التوحيد، سورة التَّجريد، سورة التفريد، سورة الجمال، هذه كلها أسماء لهذه السورة العظيمة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر سورة الكافرون وسورة الإخلاص، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في ركعتي الوتر سورة الكافرون وسورة الإخلاص، وقد قيل: إن القرآن أُنزِل أثلاثاً؛ ثلاثة أنواع، أو ثلاثة أقسام، ثلثٌ منه أحكام، وثلث منه وعدٌ ووعيد، وثلث منه أسماء وصفات لله عز وجل، وقد جمعت سورة الإخلاص أحد الأثلاث وهو الأسماء والصفات، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((  أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ. ))

[  رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّه عَنْهُ  ]


طائِفَةٌ من الأحاديث الشريفة التي تُبَيِّنُ عظَمَة هذه السورة:


(( أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.))

[ البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ]

(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَث رجُلًا على سَريَّةٍ فكان يقرَأُ لأصحابِه في صلاتِهم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلمَّا رجَعوا ذكَروا ذلكَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: سَلُوه لِأيِّ شيءٍ صنَع هذا؟ فسأَلوه فقال: أنا أُحِبُّ أنْ أقرَأَها فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبِروه أنَّ اللهَ يُحِبُّه. ))

[ صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها ]

 

(( كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَقَرَأَ بِهَا افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةٍ أُخْرَى مَعَهَا وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، قَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِهَا فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ وَكَانُوا يَرَوْنَهُ أَفْضَلَهُمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ أَنْ تَقْرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ.  ))

[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  ]

(( عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: يَا عُقْبَةُ احْرُسْ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ قَالَ: ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأَنِي فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: يَا عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَرٍ أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ الْعَظِيمِ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: فَأَقْرَأَنِي قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ: يَا عُقْبَةُ لَا تَنْسَهُنَّ وَلَا تَبِيتَنّ لَيْلَةً حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ قَالَ: فَمَا نَسِيتُهُنَّ مِنْ مُنْذُ قَالَ لَا تَنْسَاهُنَّ وَمَا بِتُّ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى أَقْرَأَهُنَّ قَالَ عُقْبَةُ: ثُمَّ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.  ))

[ أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ  ]

 هذه طائِفَةٌ من الأحاديث الشريفة التي تُبَيِّنُ عظَمَة هذه السورة، وكيف أنَّها تعْدِلُ ثُلُثَ القرآن.

سورة قُلْ هو الله أحد الله سورةٌ تَصِفُ الله سبحانه وتعالى وتَصِفُ أحدِيَّتَهُ وصَمَدِيَّتَهُ:


 بَقِيَ السؤال: ما وَجْهُ هذه العَظَمَة أو أين تَكْمُنُ هذه العَظَمَة؟ أقول وبالله المُستعان: إنَّ سورة ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ*ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ*لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ*وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُ﴾ سورةٌ تَصِفُ الله سبحانه وتعالى، وتَصِفُ أحدِيَّتَهُ وصَمَدِيَّتَهُ وأنَّهُ لا مثيل له، ولِهذا الكلام تفْصيلات، ربنا عز وجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ جواباً لسؤال بعض الكفار الذين سألوا النبي عليه الصلاة والسلام قائِلين له: يا محمَّد، صِفْ لنا ربَّك؟! أَمِنْ ذهب؟ أم من نحاس؟ فَنَزَل قوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ وجاءَهُ جماعَةٌ أُخْرى وقالوا له: يا محمَّد اُنْسُب لنا ربَّك؟ فَنَزَل قوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ وبعض المفَسِّرين على أنَّ هذه السورة نَزَلَتْ عدَّة مرات، حينما اتَّحَدَتْ المناسبة نزلَتْ عِدَّة مرات، بعضُهم يقول: هي مَكِّيَّة، وبعْضُهم يقول: هي مَدَنِيَّة.

كَلِمَةُ (هو) إذا عادَتْ على ما بعْدها فَهِيَ ضميرُ الشأن:


 قال تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ (هو) يُسَمِّيها علماء النَّحْو والبلاغة ضَمير الشأن، لأنَّ الضمائِر كُلَّها تعود على ما قبلها، تقول: جاء زيْد، وأكل طعامَهُ، فالهاء ضمير يعود على زَيْد، وأيُّ ضمير على الإطْلاق؛ الضمائر المُسْتَتِرة والمتَّصِلَة والمنفصِلة، كل أنواع الضمائر حيثما ذُكِرَتْ تعود على ما قبلها، إلا ضميراً واحِداً في اللغة، هو هذا الضمير: ﴿قُلۡ هُوَ﴾   ضميرُ الشأن يعود على ما بعْدَهُ، فقال بعض العلماء: ضمير الشأن هو الخبر الحقُّ الصادِق، وهو يعود على الذي لا يغيبُ عن الأنْظار أبداً، ويعود على الشيء الذي لا يخْفى على أحَدٍ، وهو يعود على الله سبحانه وتعالى، ﴿قُلۡ هُوَ﴾ مثلاً: 

﴿ قُلْ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ(67)﴾

[ سورة ص ]

قال أحد الشعراء:

لِكُلِّ شيءٍ إذا ما تَمَّ نُقْصــــانُ    فلا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسانُ

هي الأمور كما شاهَدْتها دُوَلٌ    من سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتْهُ أزْمـانُ

وهذه الدارُ لا تُبْقي على أحَـدٍ    ولا يدوم على حالٍ لها شــانُ

[ أبو البقاء الرندي ]

 كَلِمَةُ (هو) إذا عادَتْ على ما بعْدها فَهِيَ ضميرُ الشأن، الشيءُ العظيم والذي لا يسْتطيعُ أنْ يُنْكِرَهُ أحدٌ، والذي لا يخْفى على أحدٍ، إذا استعملت هو دون أنْ تعود على شيءٍ قبلها، فَهُوَ ضميرُ الشأن، أيْ يعود على شيءٍ عظيم لا يخْفى على أحدٍ، ﴿قُلْ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ﴾ ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ .

هي الأمور كما شاهَدْتها دُوَلٌ    من سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتْهُ أزْمـــــانُ

* * *

 فهو ضمير الشأن، وكلمة (قُلْ) أيْ أمْرٌ إلهي للنبي عليه الصلاة والسلام أنْ يُبَلِّغَ من حَوْلَهُ ممن يدْعوهم إلى عبادة الله هذا النص بِحَرْفِيَّتِه، لأنَّ الحديث القدسي:

((  إنَّ روح القُدُس نفث في رَوْعي أن نفْساً لن تموت حتى تسْتكمل أجلها ))

[ صحيح الجامع ]

 روحُ القُدُس نفَثَ في رُوع النبي عليه الصلاة والسلام، فَنَطَقَ بما نفَثَ به روح القُدُس فكان الحديث القُدْسي، لكنَّ القرآن الكريم بِكَلِماته وحُروفِهِ وترْتيب سُوَرِهِ وحَرَكاتِهِ وسَكَناتِه وتفْصيلاته وجُزْئِياته من الله سبحانه وتعالى نصاً ومعْنىً، يُؤَكِّد هذا كلمة ﴿قُلۡ﴾ ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾

فضل أسماء الله الحسنى:


 أما كلمة (الله) فقال العلماء: هذا اسم عَلَمٍ على واجب الوُجود، وواجب الوُجود هو الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى له أسْماءُ أفْعال، وله أسماءُ ذات، وبعضهم يقولون: له صِفات، والحقيقة الصِّفَةُ تُكْتَسَب، مثلاً: فُلانٌ كريم، وكَرَمُ فُلان مُكْتَسَبٌ من الله عز وجل، فَهُوَ في الإنسان صِفَة، ولكنَّ كَرَم الله عز وجل ذاتِيٌّ في ذاته عز وجل، فهو اسم من أسْماء الله الحُسْنى، لذلك قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ أَسْمَٰٓئِهِۦ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(180)﴾

[ سورة الأعراف ]

 وتقول: فُلانٌ غَنِيّ، فَهَذِهِ صِفَة، فإذا قُلْتَ: الغَنِيّ وعَرَّفْتها وأطْلَقْتَها فَهِيَ اسم من أسماء الله، الغَنِيّ والقدير والسميع البصير والحق والعدْل والحكم الحكيم، الصفات إذا أطلقتها انصرفت إلى الله عز وجل فكانت اسماً من أسماء الله، وقد جاء في بعض الأحاديث الشريفة:

((  إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مئة إِلَّا وَاحِداً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. ))

[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

((  إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مئة غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِيَ الْمُتَعَالِي الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الْهَادِي الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ. ))

[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ]


معرفة كل اسم من أسْمَاء الله الحسنى معرفة وافية طريق دخول الجنَّة:


 (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مئة إِلَّا وَاحِداً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) إياكم أنْ تفهموا أنَّهُ من قرأها أو من حفِظَها أو من عَدَّها ورَتَّبَها دخل الجنَّة، بل من عَرَفَ كُلَّ طَرَفٍ منها وهنا مَوْطِنُ الشاهد، ماذا تعرف عن اسم اللطيف؟ وماذا تعرف عن اسم الرحيم؟ وماذا تعرف عن اسم القويّ؟ وماذا تعرف عن اسم الغنيّ؟ وماذا تعرف عن اسم الحكيم؟ لو سألنا أحداً من الناس: ماذا تعرف عن اسم الحكيم؟ قال: أيْ الحكيم حكيم، فربنا حكيم! معنى ذلك أنَّهُ لا يعرف شيئاً! فَلَو ذكر لنا آيةً تُؤَكِّدُ حِكْمَتَهُ، وآيةً ثانية، وثالثة، ورابعة، ومضى من الوقت ساعة وساعتان وثلاثُ ساعات وهو يحدِّثُك عن الحكيم فهذا قد عرف طرَفاً من اسم الحكيم، لا بد أن تَعْرِف طرفاً من كل اسم من أسْمَائِهِ الحسنى حتى تَسْتَحِقَّ دخول الجنَّة. (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مئة إِلَّا وَاحِداً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) لذلك الله عز وجل قال:

﴿  وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31)﴾

[  سورة البقرة ]

 قِيل في تفسير هذه الآية: الأسماء كلها هي أسماء الله سبحانه وتعالى، لأنَّه عَرَفَها، وتعلَّمَهَا، وأقْبَل عليها، وهفَتْ نفْسُه إليها، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِآدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ(116)﴾

[ سورة طه ]

 لأنَّه أعلى منْكُم، لقد تعرَّف إلى أسماء الله الحسنى، وهذا واجبٌ علينا أن نتَعَرَّف إلى أسمائه الحسنى.

آيات كونية دالة على لطف الله تعالى وجماله:


 اسم (اللَّطِيفِ) مثَلاً هل عنْدَكَ دليل على لُطْفِ الله سبحانه وتعالى؟ قال تعالى:

﴿  وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88)﴾

[ سورة النمل ]

 أي هذه الجبال الشَامِخَة الرَّاسخَة التي تَظُنُّها لِرُسُخوِها وِلضخَامَتِها وشمُوخِها سَاكِنة إنَّما هي متَحَرِكة ﴿تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ ، والسَحَاب يَمُرُّ بِلا صَوْت، هذا من لُطْفِ الله عز وجل، بخلاف مُحَرِّك صغير ليَولِد الطاقة الكهربائية فإنه يُزْعِج المَّارة، والمُشْتَرين، والبائِعِين، أو طائرة تَحْمِل ثَلاثمئة رَاكِبْ تَملأ الدُنْيا صَخَباً وضجِيجاً، فمن أسماء الله اللَّطِيف، بينما هذه الجبال، وهذه الأرض تَمُرُّ مَرَّ السَحَاب ثَلاثِين كيلو متراً في الثَّانية الواحِدة، ففي الدقيقة ثَلاثون كيلو متراً ضرب سِتيِّن، الحاصل ألف وثَمَانُمئة كيلو متراً في الدقيقة، ففي الساعة ضرب سِتِّينْ، أرقام مُذْهِلة! ودون أن تسمع أدنى صوت، هذا من اسم اللَّطيفْ، والطفْل الصغير حينَما يُغَيِّر أسْنَانَه يَدُ الله اللطيفة تعمل، فهذه السِّنّ تَذُوبُ جُذُورها شَيْئاً فشَيْئاً حتّى تُصْبِح السِّنُ مُتَحَركةً، ثم تخْتَلِط معَ لُقْمَة الطعام من دُونِ مُخَدِر، ومن دُونِ ألَمٍ شَديد، هذا اسم الله اللَّطيِفْ، والهواء يؤَكِد اسم الله اللَّطِيفْ، والماء كذلك لا لونَ له ولا طَعْمَ ولا رائِحَة. 

اسم الله الجميل:


(( إنّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ. ))

[ صحيح المسند ]

خلَق الأزْهار، والأطْيَار، والأسْماك، والأشْجار، أشْجار الزينَة، الألوَان، زُرْقَة البَحر، زُرْقَة السَماء.
 من أسماء الله القَّويْ، هذه الأرضْ التي نحن عليها ما وَزْنُها؟ خَمْسَة آلاف مِلْيار مِليار طُنْ، قال تعالى:

﴿  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)﴾

[ سورة الزمر ]

 فلو اجْتَمَعُ سُكَّانُ الأرض كُلِهِمْ على زَحْزَحَة جبل قاسيون هل يَسْتَطيعون؟ قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ .

آيات أخرى كونية دالة على اسم الواسع واسم الغنيّ والقَوِيّ:


 قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾ لذلك ماذا تَعْرف عن اسم القَّوِيْ؟ هذه الأرض بِضَخامتِها وبِجِبالها وصحاريها وسُهولِها وبِحارِها، الماء مثلاً لا ينْضَغِط، فَلَو وضعت ماء في مُكَعَّب، وفوق المُكَعَّب مِكْبس لا يسْمح بِتَسَرُّب الماء، فَلَو وضَعْتَ على هذا المِكْبس مئة طن لا ينْضَغِط الماء ولو ميِلِيمِتْراً واحداً! قالوا: هناك منطقة في الكَوْن وفي الفضاء اسْمُها الثقوب السَّوْداء، لو دَخَلَتْها الأرض لأصبَحَتْ بحجم البيْضة لأنها تنضغط، وزْنُها كَوَزْن الأرض، خمْسَة آلاف مليار ملْيار طنّ، والمليار تِسْعَة أصْفار، ستة أصْفار المليون، والمليار ألف مليون، ومليار مليار تسعة وتسعة، وخمسة آلاف فيها ثلاثة أصفار، أي واحدٌ وعشرون صفراً أمامها خمسة، هذه الأرض بِضَخَامتِها إذا دخَلَتْ إلى هذه المناطق السوْداء في الكون تُصبح كالبيضة بالضبْط في حجْمها، ويبقى لها وزْن الأرض، ما هذه القِوى الهائِلَة التي تضْغط الأرض، مع أنَّ الماء وحْدَهُ لا يسْتطيع البشر جميعهم أنْ يضْغَطوه! هذا طَرَفٌ عن اسم القَوِيْ.
 وطرفٌ عن اسم الغَنِيّ، فهذا عطاؤُنا، يقال: المياه قليلة، وعلينا أنْ نُقَنِّنَ في الماء، وهذا واجب ديني ووطَني، فالتقْنين واجبٌ وطَني وديني، أما نَهْر الأمازون ثلاثمئة ألف متر مكعَّب في الثانِيَة، هذا عطاؤنا، والمَجرَّة الواحدة فيها ألف مليون ملْيون كوْكَب أو نجْم. 
اسم الواسع واسم الغنيّ والقَوِيّ، فهذه البطيخة مثلاً كُلُّ بذْرة يُمْكن أنْ تكون نبات بطيخ، وفي كُلِّ نبات سبْع عشرة بطيخة تقْريباً، هذا عطاؤُنا، والبذور عالم قائِمٌ بِذاتِه، فماذا تعرف عن اسم القويّ والغنيّ والحكيم والقدير والرحيم العَدْل الحَكَم؟ (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مئة إِلَّا وَاحِداً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) .

الأسْماءُ الحُسْنى جُمِعَتْ في اسمٍ واحدٍ هو الله وهو عَلَمٌ على واجب الوُجود:


 لا بد أنْ تشْهَدَ طَرَفاً من رحْمَتَه حتى تتيقن اسم الرحيم، ولا بدّ أنْ تشْهَدَ طرَفاً من لطْفِهِ حتى تتيَقَّنَ من اسم اللَّطيف، هذه الأسْماءُ الحُسْنى كلها جُمِعَتْ في اسمٍ واحدٍ هو الله، وهو عَلَمٌ على واجب الوُجود، والأسْماءُ كُلُّها أسْماءُ صِفات، لكِنَّ كلمة الله هي اسم الذات الأعْظم، لذلك: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ﴾ فَكَلِمَة الله جَمَعَتْ الأسْماء الحُسْنى كُلَّها، فكلمة الله تنطوي فيها الأسماء الحسنى، فماذا عَرَفْتَ عنها؟ وماذا عرفْتَ عن المانع؟ فَلَو أنَّ هذه الأسْنان ظَلَّتْ تنْمو فماذا يحْدُث؟ ينْكسِرُ الفكّ، ولو أنَّ هذه العِظام ظَلَّتْ تنْمو ماذا يحْدُث؟ مرَضٌ خطير اسمُهُ "العَمْلَقَة" أنْ يُصْبح الإنسان عِمْلاقاً، ولو أنَّ هرمونات النمو تَوَقَّفَتْ عن العمل، يُصبحُ الإنسانُ قزَماً، فهو سبحانه القابِض والباسط، مَن أمَدَّ هذه العِظام بالنُّمُو؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أوْقَفَها عند هذا الحدّ؟ الله سبحانه وتعالى، فأسْماء الله سبحانه وتعالى لا بد أن تأخذ من حَيّز عقولنا وتفكيرنا اهْتِماماً كبيراً، ويجبُ أن نتعَرَّفَ إليها كُلَّ يوم، من أحْصاها دخل الجَنَّة، إذا أحْصَيْتَها سَعِدْتَ بها، وإذا أحْصَيْتها عَرَفْتَ الله سبحانه وتعالى.
﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ فكلمة (الله) تعني هذه الأسْماء كُلَّها، اسمُ الحكيم مثَلاً، ماذا تعرِفُ عن حِكْمَتِهِ؟ جعل لك عَيْنَيْن، ولم يجْعَلْهُما واحدة، لو أنَّ هناك عَيْناً واحدة لَرَأيْتَ بُعْدين فقط، لَرَأيْتَ الأشْياءَ مًسَطَّحة، ولكنَّك بالعَيْنَيْن تراها بأبْعادٍ ثلاثة، ترى الطول والعرض والعُمْق، جعل العَيْنَيْن في مغارةٍ تقيهِما التَّلَف، في مَحْجَر العَيْن، جعل فوقهما حاجِبَيْن، جعل للعينين رُموشاً، وجعل لهما جَفْنَيْن، والجَفْنَان يمْسحان هذه الطَّبَقَة الشفافة، ويُعَقِّمانها من كُلِّ مادَّةٍ غريبة، ولئلا يلْتَهِبَ الجَفْنان جعل لهما رُموشاً، 

﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ(8)﴾

[ سورة البلد ]

وجَعَلَك ترى الألْوان الدقيقة، مئة وثلاثون مليون عُصَيَّة ومخْروط في شَبَكَية العَيْن، وهذه العَيْن جعل مُدَّة انْطِباع الصورة جزءاً من خمْسين من الثانِيَة، فأنت بها تستطيع أن ترى الأشْياء مُتَّصِلة لا مُنْفَصِلة، ومن جعل هذه الأُذن وعَتَبَةً للسَّمْع، ولو أنَّ هذه العَتَبَة انْخَفَضَتْ لما نِمْتَ الليل، صَوْتُ ارْتِطام الهواء على وَجْهِك لا يجعلك تنام الليل، قال تعالى:

﴿  إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)﴾

[ سورة القمر ]

 جعل لك عَتَبَة سمع لا تقِلُّ ولا تزيد، اسمُهُ الحكيم، من جعل الشعْر على رأسِك؟ ولم يجْعَل فيه أعْصاباً حِسِيَّة؟ الحكيم، لو أنَّ في الشَّعْر أعْصاباً حِسِيَّة لوَجَب أن تذهب للمستشفى لِتَحْلِقَ رأسك إذْ تحْتاج إلى تخدير، فالله اسمُهُ الحكيم، ومن جعل هذه العِظام وهذه المفاصِل، ولولا هذا المفْصل الذي في اليد كيف تأكل؟ ومن جعل هذه التجْعيدات في جِلْد الأصابِع؟ اسمه الحكيم لولاها لما أمْكَنَكَ أنْ تثْنِيَ أصابِعَك، ومن جعل هذا الجلْد على عقد الأصابع مُخَطَّطاً؟ من أجل أن تُحْسِنَ مسْكَ الأشْياء؟ ومن جعل الشَّعْر ينْبُت في الأنف إذْ له وظيفة خطيرة ولا ينبت في الفم؟ اسمه الحكيم، ومن جعل طول اليَدَيْن بِهذا الطول المُناسب؟ اسمه الحكيم، ومن جعلهما مُتساوِيتينْ؟ فالخياط يأخذ طول يَدٍ واحدة، وانتهى الأمر، فالثانية كالأولى، اسمه الحكيم، ومن جعل لك الهضْم مُيَسّراً من دون أنْ تشْعُر؟ اسمه الحكيم، فاسمُ الحكيم اسمٌ واسِع جداً، ومن جعل هذا الغذاء مُتناسباً مع حاجتك؟ اسمه الحكيم، متناسباً في قِوامه ولونه وطعمه ورائحته ومضْمونه، لذلك لا بد لنا أنْ نُفَكِّر في أسماء الله الحسنى؛ اسْمُ الحكيم واسْم الجامع والمانع والباسط والقابض والرافع والخافض والمُعزّ، إذا كان الله معك فَمَن عليك؟ يعزك، وإذا تخلى عنك ؟ يُذِلُّك

التعمق في أسْماء الله الحُسْنى سبيل السعادة:


 قال تعالى:

﴿ لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ(11)﴾

[ سورة الرعد ]

 قد ترى رَجُلاً يبْكي وهو ملء السَّمْع والبصر، فَمَن أبْكاه؟ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:

﴿  وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43)﴾

[ سورة النجم ]

 قد تضيق الأمور وتضيقُ حتى تنْفجِرَ بالبُكاء، وأنت رجُلٌ ولك أوْلاد وزَوْجة، وقد تتيَسَّرُ الأمور حتى تضْحك، فَمَن أبْكاك؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أضْحَكَكَ؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أعْطاك؟ الله سبحانه وتعالى، فلو تَعَمَّقْتَ في أسْماء الله الحُسْنى لَسَعِدْتَ بالله سبحانه وتعالى، فيكْفي أن تقول: الله الرحيم، والله العَدْل، ولو عَرَفْتَ عدالته لذهلت، كان أحدهم يطوف حول الكعْبة ويقول: ربِّ اغفر لي، ولا أظنُّ أنَّك تغْفر لي، فقالوا: يا هذا ما أشَدَّ يأْسَكَ من رحْمَة الله! فقال: ذَنْبي عظيم، فقالوا له: وما هو؟ فَحَدَّثَهُم عن ذنْب عظيمٍ جداً، دخل بيتَ رجل وقتله وولده وسلب ونَهَب، وأعْطَوْهُ فيما أعْطَوْهُ دِرْعاً ذَهَبِيَّةً عليها بَيتَان من الشِّعْر، فلما قرأهما وقع مغشيّاً عليه:

إذا جار الأمير وحاكِمــاهُ    وقاضي الأرض أسْرفَ في القضاءِ

فَوَيْلٌ ثمَّ وَيـــــْلٌ ثمَّ وَيْـــلٌ    لِقاضي الأرض من قاضي السـمـاءِ

[ لقائله ]


أسماء حسنى أخرى عن عظمة الله وعدالته:


 هل تخاف الله سبحانه وتعالى؟ وهل تخاف عَدَالة الله سبحانه وتعالى؟ هل تخاف حكم السماء؟ وهل تخاف أن يقول لك أحدٌ: أشْكوك إلى الله؟ وهل تعرف ماذا تعني عدالة الله سبحانه وتعالى؟ قال تعالى:

﴿  إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾

[ سورة البروج ]

 إن بطشه أليم شديد، وهل تعرف عن اسمه: الجبار؟ والقهار؟ وماذا تعرف عن غِناه؟ كيف أخْشى الفقْر، وأنا عبد الغَنِيّ، إذا أعْطى أدْهَش، وهو يُعْطي بِغَيْر حِساب، ماذا تعرف عن غِناه؟ اُنظر إلى السماء وما فيها من كواكب ونجوم، جعلها زينةً للسماء الدنيا، نُجوم ومَجَرات من أجل أن تكون زينةً لك في الدنيا، اسمه الغنِيّ، لذلك الحديث يطول عن أسماء الله الحُسنى وحَبَّذا لو تَتَبَّع كُلُّ أخٍ كريم اسْماً من أسْماء الله الحسنى، وجاء على هذا الاسم بِآية من الكون، على اسم اللطيف والودود والرحيم، هذه الأزْهار لِمَ خُلِقَت؟ لِتُؤكل! لا والله، لِتُشاهَد وتُشمّ، فهذه مَوَدَّةٌ مِمَن؟ من الودود، قال تعالى:

﴿  وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)﴾

[ سورة البروج ]

 أنواع الفواكه مصدرها من اسم الودود، أما القمْح فهو من اسم المُقيت، الله المُقيت، هناك غِذاءٌ أساسي تقْتاتُ به، وهناك غِذاء ثانوي تتفَكَّهُ به فهو من اسم الودود، إذْ يتَوَدَّدُ لك، قال تعالى:

﴿  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70)﴾

[ سورة الإسراء ]


معنى كلمة (أحد) :


﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ من الآن فصاعِداً، كلما سمعتَ كلمة الله فإنَّما تعْني الأسْماء الحسنى كُلَّها، لأنَّ الأسْماء الحُسنى كُلَّها جُمِعَتْ في كلِمَة (الله)، اسمُ الله الأعْظم، يا الله يعني يا رحيم، يا قوي، يا غني، يا لطيف، يا حَكَم، يا عدل، يا حكيم، يا قدير، يا مُقْتَدِر، يا مُعِزّ، يا رافع، يا مُعْطٍ، ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ﴾ أَعرفْتُم الله سبحانه تعالى؟ واللهِ لو مَضَتْ السِّنون تلو السنين ما عَرَفْنا طرَفاً من اسمٍ من أسْماء الله الحُسْنى! لكن أخْذُ القليل خيرٌ من تَرْك الكثير، لا يَحُدُّهُ حادٌّ ولا يُحيطُ به مخْلوق، نحن مخْلوقون ولكنَّ الله هو الخالق.
﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ الآن كلمة (أحد) لا تعني واحداً، فالواحد شيءٌ، والأحدُ شيءٌ آخر، تقول: هناك قلَمُ واحِدٌ على هذه الطاوِلَة، قد يكون هناك شيءٌ آخر، ونظارَةٌ واحِدة، أما أحد فَهِيَ تعْني أنَّهُ واحِدٌ ولا شيء معه، ولا شيءَ سِواه، هذا قَوْلٌ، فَكَلِمَة أحد تعني أنَّه واحدٌ من جهة، ولا شيء آخر معه من جِهَةٍ أُخْرى، يوصف بأنه واحد.
وكلمة (أحد) تعني أنّه ليس كمثله شيء، أما كلمة (واحد) فهي تعْني أنَّهُ لا شريك له، فالله رحيم، وليس هناك مخْلوقٌ يرحم كرحمة الله عز وجل، هو وحده الرحيم والغني والقويّ واللطيف، فلا قَوِيَّ معه، ولا رحيم معه، معنى أحد فَهُو أحَدٌ في أسْمائِه، هو رحيمٌ وليس معه رحيمٌ آخر، وهو َقَوِيٌّ وليس معه قَوِيٌّ آخر، وهو قديرٌ وليس معه قديرٌ آخر، كلمة (أحد) تعني واحِداً في أسْمائِه، أسْماؤُهُ حُسْنى، وهو أَحَدِيٌّ في أسْمائِه، لو كان معه جِهاتٌ أُخْرى تسأله وتسأل غيره، ولكنَّهُ أحدٌ لا شيء قبله، ولا شيء بعده، ولا شيء مثله، ولا شيء مُقارب له، هذا معنى كلمة (أحد)، ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ لذلك لا يجوز أن يوصَفَ مخْلوقٌ في الأرض بِكَلِمَة أحد، كلمةُ (أحد) لا يُوصف بها إلا الله سبحانه وتعالى﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾.
 شيء آخر، وهي أنَّ كلمة أحد إذا تأمّلتها تيقَّنْتَ أنْ لا مَوْجود إلا الله، ولا فاعل في الكون إلا الله، هذه حقيقة يجب أن تُشاهِدَها فإن شاهَدْتَها سَعِدْتَ إلى الأبد، وإن لم تُشاهِدْها شَقيتَ إلى الأبد، لا مَوْجود في الكون إلا الله، ولا فاعل إلا الله، فإذا قطعْتَ آمالك من غيرهِ وُجوداً وفِعْلاً، ماذا ينقطِعُ مع هذه الآمال؟ تنقطِعُ العلائِق والرغائِب، وتُخْلِصُ الوِجْهة لله سبحانه وتعالى، إذا أخلصت الوُجهة إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قُطِعَت الآمال مما سواه، وقُطعت الرغائب عمّن سواه، وقُطِع الخوف ممن سواه صَفتْ نفسك ورأيت الله في كل شيء، وإذا رأيْتَهُ في كُلِّ شيء سَعِدْتَ بِقُرْبِهِ إلى الأبد، لا بد من التوحيد، والفرق بين المؤمن وغيره أنَّ المؤمن لا يرى إلا الله، ولا موْجود سِواه، ولا أحد معه، هو الرب والإله والمُتَصَرِّف والمُعْطي والمُغْني والمُقيت والرزاق والمُعِزّ والمُذِلّ والحكيم والعليم، هو الحكيم ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ ولا حكيم سِواه، وهو الرؤوف ولا رؤوف سِواه، هو القوي ولا قويَّ سواه، هو المُتعالي ولا مُتعالِيَ سِواه، هذا معنى الأحَد، فكلمة أحد تعني أنَّهُ واحِدٌ في أسْمائِه، وأسْماؤُهُ كُلُّها حُسْنى، فَـ ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ﴾ الله اسم جامع لأسمائه الحسنى، ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعْني أنَّهُ واحِدٌ في أسْمائِه، ليس كمثله شيء.

الصَّمَد يعْني الذاتي:


 ثمَّ قال تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ هذه الأسْماء ليسَتْ مأخوذة عن سِواه، ذاتِيٌ في أسْمائِهِ، أحَدِيٌّ في أسْمائِه، فهذه الأسماء الحسنى، التسْعة والتسْعون اسماً التي ذَكَرْناها قبل قليل، الله سبحانه وتعالى واحِدٌ فيها، أحد فيها، وَصَمَدٌ فيها، معنى أَحَدٌ أيْ لا يُشْرِكُهُ فيها أحد، رحيمٌ ولا رحيمَ سِواه، أما الصَّمَد فَرَحْمتُهُ من ذاته وليْسَتْ من غيره، فإذا كان الإنسان صاحب منصب، وله سُلْطة وحَوْل وطَوْل ولكن بِكِتابٍ بسيطٍ يصدر عمَّن هو أعلى منه يعْزِلُهُ عن هذا المنصب! فهل هذا صَمَدٌ؟ لا، هو مُفْتَقِرٌ لِمَن هو فوْقَه كي يُقِرُّهُ على منصبِهِ، فهذا لا يُسَمى صَمَداً، لكنَّ الله تعالى وُجوده ذاتي، ليس مُفْتَقِراً لشيءٍ آخر، مثلاً الإنسان، هل هو صَمَدٌ؟ لا، هو مُفْتَقِرٌ للهواء، فَلَو مُنِع عنه الهواء يموت، هل هو صمد؟ لا، مُفْتَقِرٌ للماء فلو مُنِع عنه يموت، هل هو صمد؟ لا، مفتقر إلى الطعام، ولو مُنِعَ عنه الطعام يموت كذلك، فهل هو صَمَدٌ؟ لا، يفْتَقِرُ إلى زَوْجَة وإلى أوْلاد، فمعنى الصَّمَد يعْني الذاتي، وهناك معانٍ أُخْرى سَوْف أُحَدِّثُكم عنها بعد قليل، فالإنسان -كما قلتُ آنفاً- إذا عرف أَحَدِيَّةَ الوُجود وعرف أحدية الفاعِلِيَّة تَحَرَّرَ من الرَّغْبة، والرغْبَة أصْل قُيودٍ كثيرة، الطَّمَعُ أذَلَّ رِقاب الرِّجال، وتَحَرَّر أيضاً من الرَّهْبة وهي أصْل قُيودٍ كثيرة، فإذا تَحَرَّر من الرغبة ومن الرَّهْبة صارَ حُراً وعَبْداً لله، كُنْ عبْد الله فعَبْدُ الله حُرٌّ، أما الكافر فهو عَبْدٌ لِشَهْوَتِهِ، وعَبْدٌ للدِّرْهم والدِّينار، وعَبْدٌ للخميصة، وعبْدٌ لِفَرْجِهِ وبطْنِهِ، أما عبد الله فَهُوَ مُتَحَرِّر مِن كُلِّ قَيْدٍ سببُهُ الخوف أو الطَّمَع، لأنَّك رأيْتَهُ أحَداً في وُجودِه وأحداً في فاعِلِيَّتِهِ قَطَعْتَ الآمال ممن سِواه.

إذا شَهِدْنا أحَدِيَّة الله واسْتَغْرَقْنا بها سَعِدْنا في الدنيا والآخرة:


 مَعْنى (أحد) دقيقة جداً، كم هناك من قِوى تبْدو على السَّطْح وهي كُلُّها لا تعْني شيئاً، وليس إلا الله، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ هو القَوِيّ، قال تعالى:

﴿  إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾

[ سورة يونس ]

 إنْ رأيْتَهُ أحَداً في وجوده، أحداً في أسْمائِهِ، أحداً في رُبوبِيَّتِه، أحداً في أُلوهِيَّتِه، أحداً في تَصَرُّفاتِهِ، أحداً في غِناه قَطَعْتَ الآمال ممن سِواه، وتَحَرَّرْتَ، أصبحت حراً من القُيود التي أصْلها الرغْبة والرَّهْبة، وإن أصبحت حراً أقبلت عليه فشهدته في كل شيء، وهذه هي حالة الكَشْف الصوفي! شَهِدْتَ الله في كُلِّ شيء.

وفي كُلِّ شيء له آيةٌ   تَدُلُّ على أنَّهُ واحِـدٌ

[ لبيد بن ربيعة  ]

فإذا شَهِدْتَ أحَدِيَّتَهُ واسْتَغْرَقْتَ بها سَعِدْتَ بقربه في الدنيا والآخرة، أيْ مفتاحُ السعادة كُلِّها أنْ تشْهَدَ أَحَديَّتَهُ، وأنْ تشْهَدَهُ واحِداً لا مثيل له، ولا مُشابِهَ له، ولا شريك له، ولا مُقارب له، فإذا شَهِدْتَ هذه المُشاهَدَة ملكْتَ حالة لا يعْرِفُها إلا من ذاقَها، هذه الحال هي الطمأنينة، إنَّ الله يُعْطي الصِحَّة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلْقِهِ، ولَكِنَّهُ يُعْطي السكينة بِقَدَرٍ لأصْفِيائِه من المؤمنين، السكينة التي في قلب المؤمن طمأنينة لو وُزِّعَت على أهْل الأرض لَكَفَتْهُم، فلا يرى إلا الله عز وجل، ولا يرى معه أحداً، ولا يخاف إلا من الله، ولا يرْجو إلا الله، ولا يرْغب إلا فيمَا عند الله.

شَرَفُ المؤمن قِيامُهُ بالليل وعِزُّهُ اسْتِغناؤُهُ عن الناس:


 جاء ملِك إلى الكعبة المشرَّفة يطوف، فَطَلَب أحد علمائِها الكبار، فلما الْتَقى به قال: سَلْني كُلَّ حاجة، فقال: والله إنِّي أسْتَحي أنْ أسْألها غير الله وأنا في بَيْتِ الله.
سيّدنا أبو حنيفة دخل على المنصور، فقال له المنصور: يا أبا حنيفة تَغَشاَّنا، أيْ زورنا، فنأْنسَ بك ونتبارك بك، أنت الإمام الأعظم، قال: ولِمَ أتَغَشَّاكم وليس لي عندكم شيء أخافُكم عليه؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ معنى أحد ألاّ ترى إلا الله، وبه تصيرُ عزيزاً، مرفوع الرأس، فإن رأيْتَ مع الله إلهاً آخر فلا بدَّ أن تخاف منه، ولا بدّ أن ترْجوه وتُنافق له، أما إنْ رأيْتَ الله عز وجل وليس معه أحد كنت عزيزاً، وعلامة المؤمن عِزَّتُه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( واعلم أن شَرَفَ المؤمنِ قِيامُهُ بالليل، وعِزُّهُ اسْتِغناؤُهُ عن الناس. ))

[ الجامع الصغير ]

إن رأيت أحديته فهو الرحيم، أحْياناً الإنسان يُعَلِّق آماله بِزَوْجَتِهِ فإذا به يخيبُ ظنُّه، ويُعَلِّق آماله بابنه فإذا به يسافر ويتزوَّج ويتجنَّس ويبْقى بأوروبا! فهذا ما رأى الأحَدِيَّة، إنما رأى ابنه هو المُعِين، إذا رأيْتَ الله سبحانه وتعالى أحداً ولا شيء معه فهذه رؤْية عميقة، وبهذه العَيْن ترى معه آلاف الشُّركاء، فلان وفلان و....، لكنَّك إذا رأَيْتَ الله وحْدَهُ تَحَرَّرْتَ من كُلِّ قَيْد، قَيْد الذُلَّ والخوف والطَّمَع والمُداهَنَة، هذه كلها قيود، وإذا رأيت أَحَدِيَّتَهُ عبدته وحْده فلا تُطِيع معه جِهَةً أُخْرى، 

(( لا طاعةَ لِمَخْلوقٍ في مَعْصِيَة الخالق. ))

[ السيوطي ]

وإذا عَرَفْتَ أَحَدِيَّتَهُ اتَّجَهْت إليه وحْدَهُ، إقْبالكَ عليه لا على جِهَةٍ أُخْرى، وَمَوَدَّتُك إليه لا إلى سِواهُ، ورَغْبَتُك إليه لا إلى سِواه واتَّجَهْتَ إليه وحْده، وإذا عرفت أحديّته تلَقَّيْتَ عنه الشَّرْع والقِيَم والتّصَوُّرات والأُسُس، إذْ لا مصْدر آخر لك، أما المُشركون فيرون العالم الفُلاني والكتاب الفُلاني، والفلان الفلاني، والمؤلَّف الفُلاني، أنت لك مصدر واحد للحقائق هو القرآن الكريم والسنَّة المُطَهَّرة، الحلال ما أحلَّهُ الله، والحرام ما حرَّمَهُ الله، فإذا عرفْت أحَدِيَّتَهُ تلقَّيْتَ عنه القِيَم، والشرائِع، والنُّظم، والمقاييس، تقيس الناس بِمِقْياس الله عز وجل، بمِقْياس العِلْم، أما إذا تَلَقَّيْت المقاييس عن بني البشر تقيسُهم بالمال والقوَّة، فأنت إذا عرفت أَحَديَّته تَلَقَّيْت عنه كُلَّ شيء، وقبلْتَ شَرْعه، ووسِعَتْك السنَّة، ولم تسْتَهْوِكَ البِدْعة، وإذا عرفْتَ أَحَدِيَّتَهُ تَحَرَّكْت في الحياة لِتَتَقَرَّب منه فقط، إذا عرفت أحديّته عبدْتَهُ وحْدَهُ، واتَّجَهْتَ إليه وحْده، وتلَقَّيْت عنه الشرائع والمقاييس والقيم والنظم، وما يجوز وما لا يجوز، وإذا عرفت أحديته تَحَرَّكْتَ لِتَعْمَلَ تقَرُّباً منه فحسب لا لِسِواه، وإذا عرفت أحديّته أحْسَنْتَ إلى الخلْق تعْبيراً عن حُبِّك له، فهذه هي نتائِج الأَحَدِيَّة، ونتائِج قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ .

في نفْس المؤمن عِزَّة لا يعْلَمُها إلا الله وهذه العِزَّة أتَتْهُ من التوحيد:


 ليس معه شريك ولا نظير، وبالمعنى الدقيق لا رحيم سِواه، سيِّدنا يعقوب لم يبث حزنه لأحد، قال تعالى:

﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(86)﴾

[ سورة يوسف ]

 فإذا جلس الإنسان إلى غَنِيٍّ يشْكوهُ ألَمَهُ وضيق ذات يدِهِ، فإنه ورد:

(( ومن تضعضع لغني لينال من دنياه أحبط الله ثلثي عمله. ))

[ أخرجه البيهقي في الشعب بسند ضعيف ]

 لو رأيْتَ أَحَدِيَّتَهُ لم تُذِلَّ نفْسَكَ لِسِواه، إلى الله أشْكو بثِّي وحُزْني.

ويُعابُ من يشْكو الرحيم      إلى الذي لا يـــرْحمُ

* * *

 فالعِبْرة أنْ ترى أَحَدِيَّتَهُ وألا ترى سِواه، أما بالنظْرة القاصِرة فَهُناك آلاف مُؤلَّفة من الشركاء، عندها كُلُّ إنسانٍ إنْ تكلَّم معك كلمتين خفتَ منه، أمَّا إذا رأيْتَ أَحَدِيَّتَهُ اِعْتَزَزْتَ بِعَظيم، في نفْس المؤمن عِزَّة لا يعْلَمُها إلا الله، وهذه العِزَّة أتَتْهُ من التوحيد، وما تعلَّمَت العبيد أفضل من التوحيد، لذلك الخلاص ليس أن تذهب إلى صَوْمَعَةٍ وتعبد الله هناك، هذا لا يريدهُ الله سبحانه وتعالى، هذا اسمه اِنْعِزال وانهزام وانْسِحاب وهُروب من الحياة، أما إذا خُضْت غِمار الحياة، وكنت خليفة الله في الأرض، وطَبَّقْتَ شرْع الله، وامْتَثَلْتَ أمْرَهُ، وانْتَهَيْتَ عما عنه نهى، وسِرْتَ بِنُوره، وأَقَمْتَ ميزانه، فقد حقَّقْتَ إنْسانِيَّتَك في الأرض، كنت خليفته في الأرض، قال تعالى:

﴿  وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)﴾

[ سورة البقرة ]

 الإنسان يخلفه، يُقيمُ الحق، ويعْدِل بين الخلق، يرْحم الضعيف ويُوَقِّرُ الكبير، هذا هو الإنسان.

من لم يتَّصِف بالكمال والأحَدِيَّة والصَّمَدِيَّة لا يكون إلهاً:


 قال بعضُهم في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ ما معنى الصَّمَد؟ قال: إنَّهُ المُسْتَغْني عن كُلِّ أحد، والمُحْتاجُ إليه كُلُّ أحد، والصَّمَد المقْصود في الرغائِب، والمُسْتعان عند المصائِب، والصمد يفْعل ما يشاء ويحْكم ما يريد، والصمد الكامل الذي لا عَيْب فيه، والصمد الذي لا أحد فوقهُ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ﴾
فالله سبحانه وتعالى أحَدِيٌّ في أسْمائِهِ، صَمَدِيٌّ فيها، فينفرد في أسمائه، ولا أحَدَ يُشارِكُهُ فيها، وأسْماؤُه نابِعَةٌ من ذاته، وليْسَت من جِهَةٍ أُخْرى، هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ تسعَةٌ وتِسْعون اسماً، واحِدٌ فيها صمَدِيٌّ فيها. 
بعضهم قال: من لم يتَّصِف بالكمال والأحَدِيَّة والصَّمَدِيَّة لا يكون إلهاً، فالأصْنامُ التي عبدها الجاهِلِيُّون من دون الله، أو الأصْنامُ البَشَرِيَّة التي يعْبُدها الناس من دون الله، هذه الأصْنام ليْسَتْ كاملة، وليْسَت أحَدِيَّة، ولَيْسَتْ صَمَدِيَّة، فلا يجوز أنْ تُتَّخَذَ آلهة! لكن الله سبحانه وتعالى هو الإله، لأنَّهُ كاملٌ في أسْمائِهِ، وَحْدانِيٌّ فيها، وصَمَدِيّ، فأَحَدِيَّتُهُ الموجِبَة للتنزُّه عن شائِبة التَّعَدُّد والتركيب، فالسيارة مثلاً مؤلَّفة من أجْزاء، فما دامت مكوّنة من أجْزاء فهي ليْسَت صَمَدِيَّة، بمعنى: إذا حَذَفْتَ المُحَرِّك وقَفت، أو نفد البنْزين وقفت! لأنَّها مُرَكَّبَة، فلا يجوز على الصَّمد الترْكيب ولا التجْزيء، والصمدِيَّة اسْتِغْناؤُه الذاتِيّ عمَّن سِواه وافْتِقار جميعُ المخْلوقات إليه في وُجودِها وبقائها وسائِر أحْوالِها.

عِلَّةُ الوِلادة لا تجوز على الله سبحانه وتعالى:


  قال تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ إنّ الله سبحانه وتعالى قديم ولا شيءَ قبلهُ، فلو أنَّهُ وُلِد لكان هناك شيءٌ قبله، ولكنه لم يَلِد ولم يُولَد، فالإنسانُ يلِدُ غُلاماً ليُعينَهُ إذا كبر، ولِيَكُون اسْتِمراراً بعد موتِه، أمّا الله تعالى فهو حَيٌّ باقٍ على الدوام، فَعِلَّةُ الوِلادة لا تجوز على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ لا شيء قبله ولا شيء بعده، لا شيء كان قبله، ولا شيء سيكون بعده، قال تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (كُفُواً) أي الزَّوْجة، فلا جِهة تُماثِلُه، ولا جِهة أكبر منه كان منها، ولا جهة أصغر منه هو قبْلها ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ طبْعاً هذا تفْسيرٌ للصَّمَد، ربنا عز وجل قال:

﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)﴾

[ سورة مريم ]

 أي غريباً، وقال تعالى:

﴿ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَٰنَهُۥ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ(26) لَا يَسْبِقُونَهُۥ بِٱلْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِۦ يَعْمَلُونَ(27)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 وقال تعالى:

﴿  بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(101)﴾

[ سورة الأنعام ]


أيُّ تفْسير للقرآن يجْعل أسْماء الله ليْسَت حُسْنى تفسير مرْفوض:


 وفي الحديث الشريف الصحيح:

((  لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ. ))

[ مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى ]

 فمعنى ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ أي لا شيء بعده، ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ أيْ لا شيء قبله، وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ أيْ لا شيء كان قبله، ولا شيء سَيَكون بعده، ولا شيء سَيَكون مُمَاثِلاً له، بِأيِّ نوع من أنواع المُماثَلة، فهذه سورة الإخْلاص، وهي سورة التجْريد، وسورة التوحيد، من قرأها وعرف أبْعادها، وعرف معنى كلمة (الله) الاسم الجامع للأسْماء الحُسْنى، وعرف طرَفاً من أسْماء الله الحُسْنى، وفَكَّر فيها، وبحث عن شواهِد لها في الكون، (مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، ومن عرف ذلك اسْتَحَقّ دُخول الجنَّة، وعرف أنَّ هذه الأسْماء كُلُّها حُسْنى، فأيُّ تفْسير للقرآن يجْعل هذه الأسْماء ليْسَت حُسْنى فَهُوَ مرْفوض، قال تعالى: 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾

[ سورة الأعراف ]


الله سبحانه أحد في أسْمائِهِ وصَمَديٌّ في أسْمائِه ولا شيء قبله ولا شيء بعده:


(( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ وَقَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي وَقَبَضَ قَبْضَةً أُخْرَى بِيَدِهِ الْأُخْرَى جَلَّ وَعَلَا فَقَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ. ))

[ أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ]

 هذا الحديث تفْسيرُهُ الظاهِرِيّ لا يليق بِحَضْرة الله سبحانه وتعالى، إنما له تفْسيرٌ آخر، أما ظاهِرِه قال (هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي) بلا سبب،﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ قبل أنْ يُخْلق خلقهُ شَقِياً، وقَدَّر عليه المَعْصِيَة، فلما عصى حاسَبَهُ وأدْخَلَهُ جهَنَّم خالِداً مخلداً! ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ هذا التفسير لا يليق بالله عز وجل.
 إذاً يجب أنْ تعرف أنَّ أسماء الله تعالى حُسْنى، وأنَّه أحد في أسْمائِهِ، وأنَّهُ صَمَديٌّ في أسْمائِه، وأنَّهُ لا شيء قبله ولا شيء بعده، فإذا تيْقَّنْتَ من هذا انْقَطَع رجاؤُك عمن سِواه، واتَّجَهْتَ إليه، وعَبَدْتَهُ وحْدَهُ، وأحببته وحده، وأخْلَصْتَ له وحْده، وتقربت إليه وحده فَسَعِدْتَ بِقُرْبِهِ، وقد خُلِقْتَ لِيُسْعِدك، وهذا هو الهدف من خلْقِك.
كلمة كفوُاً: تُقرأ كفؤاً: الكفؤ المماثل، والهمزة تُسهّل أو تُحَقَّق، فتقول: بئر وبير، ملائكة وملايكة، مؤمن ومومن، العرب كانت تحقق الهمزة أو تُسهّلها، كفؤاً أحد أو كفواً أحد، الكفؤ: المثيل والمشابه.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور