لا يمكن أن تكون الدنيا مقياساً لمحبة الله عزَّ وجل:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)﴾
يتضح معنى هذه الآية من توضيح كلمة كلا، (كلَّا) لا تقابل (نعم) كما يتوهَّم بعض الناس، كلمة (كلَّا) أداة ردعٍ وزجرٍ، فقد يقول لك قائل: هل أنت جائع؟ تقول له: لا، (لا) حرف نفي، إذا قال لك: هل أنت مُذنب؟ تقول له: كلا، تردعه وتزجره عن هذا الظن، فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية قال: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ) يقول هو، هذه مقولته، هذا تفكيره وهكذا جرى في خلَده، هكذا توهَّم وتصوَّر.
(إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) أي إذا قدَّر الله سبحانه وتعالى لإنسانٍ مالاً وفيراً، أو صحةً جيدة، أو زوجةً جيدة، أو أولاداً كثيرين ذكوراً وإناثاً، أو تجارةً عريضة، أو دخلاً كبيراً، أو منصباً لائقاً، إذا أعطى الله عزَّ وجل عبده بعض ما في الدنيا من مالٍ، أو صحةٍ، أو جاهٍ، أو سلطانٍ، أو ما شابه ذلك، فهذا الإنسان قد يظن وقد يتوهم وقد يعتقد أن الله أكرمه بهذا، لا، ليس هذا إكراماً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا لمن يُحبّ ولمن لا يُحبّ، لا يمكن أن تكون الدنيا مقياساً لمحبة الله عزَّ وجل، فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمداً عليه الصلاة والسلام أم أهانه حين زوى عنه الدنيا، فإن قال: أهانه، فقد كذب، وإن قال: أكرمه، فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا، يعني إذا آتى الله الإنسان المال، وعمل سياحة حول العالم ودفع في هذه السياحة مائتي ألف، يقول لك: الله يحبني، أطلعني على ملكه، هذا كلام مرفوض ليس صحيحاً، هذا كلامٌ فيه وهمٌ كبير، ما الذي يوضح هذه الآية؟ كلمة (كلا)، الله سبحانه وتعالى يزجر قائل هذه الكلمة ويردعه، لا، أما كلمة ابتلاء: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ) .
المال الذي يعطيه الله عزَّ وجل ليس إكراماً بل هو ابتلاء:
الإنسان يُبتلى بالمال، قد يتوهم الفقير أن الله سبحانه وتعالى لو أعطاه المال لفعل الخيرات في كل اتجاه، وفي كل جانب، فإذا آتاه الله المال بخل به وحاسب على الدرهم والدينار وأصبح حريصاً، إذاً هذا المال الذي يُعطيه الله عزَّ وجل ليس إكراماً بل هو ابتلاء، ومعنى ابتلاء أي يُمتحن الإنسان بالمال، فإن كان معدنه ذهباً كان على المال متواضعاً وكريماً، وإن كان معدنه خلاف ذلك أصبح على المال بخيلاً ومُتكبراً، فالمال ليس إكراماً إنما هو ابتلاء، ولذلك جاء في بعض الأحاديث الشريفة: أنَّ الأغنياء يُحشرون يوم القيامة أربع فرق، فريقٌ جمع المال من حرامٍ وأنفقه في حرام فيقال: خذوه إلى النار حسابه يسير- لا بمعنى أن الله عزَّ وجل يسامحه، بل بمعنى أن وقت الحساب قصير جداً - خذوه إلى النار، وفريقٌ جمع المال من حلال - تجارةٍ مشروعة - وأنفقه في حرام، على المعاصي، فيقال: خذوه إلى النار، وفريقٌ جمع المال من حرام - مثلاً كان عنده ملهىً أو كان مُرابياً كبيراً - وأنفقه في حلال - تزوَّج واشترى بيتاً - فيقال خذوه إلى النار، ما دام في الكسب أو الإنفاق بندٌ هو حرام فالمصير إلى النار، وفريقٌ جمع المال من حلالٍ وأنفقه في حلال هذا الذي يحاسب، وهذا الذي يقال له: قِفوه فاسألوه، هل ضيَّع فرض صلاة؟ وهل تاه بماله على عباد الله؟ هل قال جيرانه: يا ربي قد أغنيته بين أظهرنا فقصَّر في حقنا، النبي الكريم بما أوتي من بلاغةٍ معجزة، قال: فما زال يُسأل ويُسأل، أي رأى أمامه أسئلةً طويلة جداً، تركهم وهم يسألونه وتحول عنهم.
(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ) ابتلاه بالمال، ماذا فعل بالمال؟ هل تقرَّب به إلى الله عزَّ وجل وكفى عياله؟
(( ليسَ منَّا منْ وسَّعَ اللهُ عليهِ، ثمَّ قترَ على عيالِهِ ))
[ الألباني السلسلة ضعيفة ]
أم أنفق المال بطراً وكِبراً وإسرافاً وتبذيراً ورِئاء الناس؟ هل تقرَّب إلى الله عزَّ وجل بالمال كما قال سيدنا أبو ذر رضي الله عنه: "حبَّذا المال أصون به عرضي، وأتقرَّب به إلى ربي" .
يدنا على المال هي يد الأمانة:
الكفار إن أمسكوا المال أمسكوه بُخلاً وتقتيراً، وإن أنفقوه أَنفقوه إسرافاً وتبذيراً، فالمال ليس إكراماً إنما هو ابتلاء، ويدُكَ على المال هي يد الأمانة، أعرابيٌ كان يقود قطيعاً من الإبل سُئل: لمن هذه؟ قال: لله في يدي، قالوا: هذه أوجز إجابةٍ في اللغة العربية.
إذاً الذي بيدك ليس لك.
(( كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فأرْسَلَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ، وَتُخْبِرُهُ أنَّ صَبِيًّا لَهَا، أَوِ ابْنًا لَهَا في المَوْتِ، فَقالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إلَيْهَا، فأخْبِرْهَا: أنَّ لِلَّهِ ما أَخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى، وَكُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَعَادَ الرَّسُولُ، فَقالَ: إنَّهَا قدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، قالَ: فَقَامَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَقَامَ معهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَانْطَلَقْتُ معهُمْ، فَرُفِعَ إلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأنَّهَا في شَنَّةٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقالَ له سَعْدٌ: ما هذا يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ))
هذا الابتلاء بالمال لينظر كيف تعملون؟ تُنفق المال على الملذات أم على القُربات؟ أبواب الخير المفتَّحة عن طريق المال لا تعدُّ ولا تُحصى، ما عُبد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر:
(( أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: قالَ اللَّهُ: أنْفِقْ يا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ))
(( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل على بلالٍ وعندَه صُبَرٌ مِن تمرٍ فقال ما هذا قال أدَّخِرُه قال أمَا تخشى أن ترى له بُخَارًا في نارِ جهنَّمَ أنفِقْ بلالُ ولا تَخْشَ مِن ذي العرشِ إقلالًا ))
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)﴾
في المال ابتلاء، رُبَّ درهمٍ سبق ألف درهم.
(( سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ قالوا وَكَيفَ ؟ قالَ : كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها ))
درهمٌ أُنفق في إخلاص خيرٌ من مئة ألف أُنفق في رياء، فالله عز وجل يعطيك المال فماذا تفعل؟ هل تعمل سياحة حول العالم؟! تنفق مئات الألوف ولك أقارب أيتام يحتاجون إلى الليرة! الله تعالى امتحنك بالمال ولم تنجح، يبلغ مسمعك أنَّ شخصاً ابنه يعاني من مرضٍ عضال وهو بحاجةٍ ماسةٍ إلى عمليةٍ جراحية، وأنت تملِك هذا المبلغ، هل تقول: ليس لي دخل به، كلٌ منّا له ربٌّ يعينه، أم تبادر وتنفق هذا المال ابتغاء مرضاة الله؟ ألك أختٌ لها زوجٌ فقير قد يُحَل الخلاف بينهما بمبلغٍ يسير، فتنفقه من مالك تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل؟ ألك صانعٌ تُؤلِّف قلبه بمبلغٍ في العيد تجلبه إلى الدين وتكرمه، فالله سبحانه وتعالى يقول: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ) .
الإنسان قد يبتلى بالزوجة، هذه الهدية من الله عزّ وجل كيف تعاملها؟ هل تظلمها؟ يبتلى بها، هل تكتفي أن تقدم لك كل حاجتك ولا تُعنى بأمر دينها، ولا بأمر وجهتها إلى الله عزَّ وجل؟ هل يعنيك منها أن تقوم بواجباتك؟ أم يعنيك منها أن تهديها إلى الله عزَّ وجل؟ الإنسان يُمتحن بالزوجة، والإنسان يُمتحن بالأولاد، الإنسان يُمتحن بالحواس الخمس، هذه العين ماذا فعلت بها؟ هل نظرت بها إلى عورات الناس، أم إلى مالا يرضي الله؟ أم نظرت بها إلى آلاء الله وسبَّحت الله وحده؟ يمتحن الإنسان بالأُذُن، هل استمعت بها إلى الحق أم استمعت بها إلى الغناء؟ يمتحَن الإنسان بهذا الفكر، أو هذا الذكاء الذي منحه الله إياه، هل تستخدم هذا الذكاء لمعرفة الله أم للإيقاع بين الناس؟ الفكر يُمتحَن به، والعين يُمتحَن بها، والأُذن يُمتحَن بها، واليد يُمتحَن بها، هل عاونت بهذه اليد مسكيناً أم بطشت بها؟ يُمتحَن الإنسان بهذه الرجل، هل تمشي عليها إلى طاعة، إلى مسجد، إلى مجلس عِلم، إلى عيادة مريض، أم تمشي عليها إلى معصية؟ والإنسان يُمتحَن باللسان، هل يوفق بين الناس أم يوقع بينهم العداوة والبغضاء؟ هل يستخدمه في النميمة والغيبة والفُحش والمُزاح الرخيص، أم يستخدمه في تذكير الناس بالله عزَّ وجل؟ هذا هو اللسان.
مبدئياً لا أعتقد ولا أُؤمن أنَّ عيناً غضَّت عن محارم الله، الله سبحانه وتعالى يُفجعه بها، ولساناً كان رطباً بذكر الله يفجعه الله به، وأُذُناً استمعت إلى الحق وأعرضت عن الباطل يُفجعه الله بها، من عاش تقياً عاش قوياً، حفظناها في الصِغَر فحفظها الله علينا في الكِبَر، هذه كلمة، قالها أحد العلماء القدامى وعاش سبعةً وتسعين عاماً، وهو متمتعٌ بكامل صحته ونشاطه، ظهره مستقيم، بصره حاد، وسمعه مرهف، وأسنانه في فمه، كان قوياً، فلما قال له تلامذته: يا أستاذنا وسيدنا ما هذه الصحة التي منَّ الله بها عليك؟ قال: يا بني حفظناها في الصِغَر فحفظها الله علينا في الكِبَر، من عاش تقياً عاش قوياً، والدعاء النبوي الشريف:
(( اللهمَّ اقسمْ لنا من خشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصيكَ، ومن طاعتِك ما تبلغُنا به جنتَك، ومن اليقينِ ما يهونُ علينا مصيباتِ الدنيا، ومتعنَا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا ما أحييتَنا، واجعلْه الوارثَ منا، واجعلْ ثأرنا على منْ ظلمَنا، وانصرْنا على منْ عادانا، ولا تجعلْ مصيبَتنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا تسلطْ علينا منْ لا يرحمُنا. ))
[ أخرجه الترمذي والنسائي والطبري ]
فالإنسان يُبتلى لينظر كيف تعملون:
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)﴾
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
الله سبحانه وتعالى يمتحن كل إنسان ليرى صدقه من كذبه:
إذا أحد الأشخاص عرض عليك قطعةً من الذهب، يوجد مِحك عند الصيّاغ من الماس يحكّون به هذا الذهب، فإن بدا خطٌ أبيض فهو ليس ذهباً، والله سبحانه وتعالى يحكُّ معادن الناس، إمّا أن يبدو هذا المعدن ثميناً، وإمّا أن يكون هذا المعدن رخيصاً لذلك: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) ، على زعمه هو: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، هو يقول: الله أكرمني، الله يُحبني أعطاني الدنيا، أعطاني بيتاً واسعاً، أعطاني زوجةً تروق لي، فإذا قلتَ صالحةً أصبحت نعمة، أمّا إذا أعطاه زوجةً تروق له، ولم يهدها إلى الصراط المستقيم، ولم يقوِّم سلوكها، لم تكن هذه الزوجة نِعمة بل هي نَعمة أي نقمة: (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) .
ولو التقيت بمعظم الناس، إذا شعروا أنهم يملكون شيئاً من حطام الدنيا يفوق به الآخرين، تراهم يظنون ويتوهمون ويتصورون أنهم مُكرَّمون عند الله، مع أن الله سبحانه وتعالى أعطى قارون ما لم يُعطِ أحداً.
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾
دققوا في هذه الكلمات:
(( أَيُّها الناسُ إنَّ هذه الدنيا دارُ التِوَاءٍ لا دَارُ اسْتِوَاءٍ ومَنْزِلُ تَرَحٍ لا مَنْزِلُ فَرَحٍ فَمَنْ عَرَفَهَا لمْ يَفْرَحْ لِرَجَاءٍ ولَمْ يَحْزَنْ لِشَقَاءٍ ألا وإِنَّ اللهَ تَعَالَى خلق الدنيا دارَ بَلْوَى والآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى فَجَعَلَ بَلْوَى الدنيا لِثَوَابِ الآخِرَةِ سَبَبًا وثَوَابَ الآخِرَةِ من بَلْوَى الدنيا عِوَضًا فَيَأْخُذُ لِيُعْطِيَ ويَبْتَلِي لِيَجْزِيَ وإِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ وشِيكَةُ الانْقِلابِ فَاحْذَرُوا حَلاوَةَ رَضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا واهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِهَا لِكَرِيهِ آجِلِهَا ولا تَسْعُوا في عُمْرَانِ دَارٍ وقَدْ قَضَى اللهُ خَرَابَهَا ولا تُوَاصِلُوهَا وقَدْ أَرَادَ اللهُ مِنْكُمُ اجْتِنَابَهَا فَتَكُونُوا لِسَخَطِهِ مُتَعَرِّضِينَ ولِعُقُوبَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ ))
الدنيا دار ابتلاء، ولذلك يجب أن تعتقد أن كل شيءٍ في يديك امتحانٌ وابتلاء، فالزوجة ابتلاء، والمال ابتلاء، والسمع ابتلاء، والبصر ابتلاء، والفكر ابتلاء، واليد ابتلاء، وكلُّ شيءٍ منحه الله لك إنما هو ابتلاء: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ويوجد أشخاص أسوأ من ذلك.
﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ (33) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ (34) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ (35)﴾
الله سبحانه وتعالى يحب المؤمن الذي عرفه واستقام على أمره وعمل صالحاً تقرُّباً إليه:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26)يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)﴾
لا تفرح بالمال، افرح إذا أنفقته في طاعة الله، لا تفرح بالجاه، افرح إذا سخرتّه لخدمة الضعيف، لا تفرح بالزوجة التي تروق لك، افرح بزوجةٍ مؤمنةٍ عرَّفتها إلى الله عزَّ وجل، لا تفرح بأولادٍ تعتز بهم افرح بأولادٍ ينفعون الناس من بعدك، هؤلاء الأولاد صدقةٌ جارية لا ينقطع خيرها.
إذاً ليس عطائي إكراماً، إنما هو ابتلاء، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: يا عبادي عطائي لكم في الدنيا ليس إكراماً إنما هو ابتلاء، السبب: لأن هذا العطاء سوف ينتهي بالموت، إذاً ليس عطاءً، كل عطاءٍ ينقطع لا يُسمّى عند الله عطاءً، أمّا عند البشر قد يُسمّى عطاءً، لكن ما دام هذا العطاء ينتهي بالموت، فالصحة تنتهي بالموت، ونعمة الزوجة تنتهي بالموت، والمال الوفير، أحد أكبر أغنياء العالم كان يُقرِض الحكومة البريطانية، له مستودعاتٌ للذهب، وكان كثير الترحال والتنقل والأسفار، دخل إلى بعض مستودعاته أُغلق الباب عليه خطأً، صاح، علا صوته، استنجد، استغاث، من غير جدوى، إلى أن مات جوعاً، وهو بين سبائك الذهب، فجرح يده وكتب على الحائط (أغنى رجُلٍ في العالم يموت جوعاً) المال ليس إكراماً، أعطاه لقارون، فهل يحبه؟ والجاه ليس إكراماً، أعطاه لفرعون فهل يحبه؟ ولكن الله سبحانه وتعالى يُحبّ المؤمن الذي عرفه واستقام على أمره وعمل صالحاً تقرُّباً إليه.
من ظنَّ أنه مهانٌ عند الله فهذا من وسوسة الشيطان:
الصنف الثاني: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) كان دخله محدود، هذا الدخل المحدود لم يتح له أن يأكل ما يريد، ولا أن يلبس ما يريد، ولا أن يسكن حيث يريد، ولا أن ينفق على عياله ما يشاء، دخله محدود، في ساعة الغفلة يظن أن هذا تقتيرٌ من الله عزَّ وجل، بسبب أنه مهانٌ عند الله، هذا من وسوسة الشيطان.
إذا كان طبيب جاءه مريضان، الأول ميؤوسٌ منه مرضه عضال لا شفاء له، والثاني معه التهاب حاد في المعدة، ربما شدَّد تشديداً كبيراً على المريض الثاني، وأعطاه قائمة بالممنوعات، وقال للأول: كُل ما شئت، فظنَّ هذا الثاني أنَّ الطبيب لا يُحبه، إنما قتَّر عليه لهوانٍ له عنده، ولأنه أباح للأول أن يأكل ما يشاء فهو مكرَّمٌ عنده، مسكين، الثاني أمله بالشفاء كبير، ومرضه ليس خطيراً، وشفاؤه وشيك، ولذلك شدَّد عليه، العبد إذا ضايقه الله عزَّ وجل بماله، وبدخله، وبصحته، وأولاده، وزوجته، وظنَّ أنَّه مهانٌ عند الله فقد وقع في خطأٍ كبير: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) هكذا تقولون؟ إذا أردت أن أعالجه، وأن أرفعه، وأن أُطهِّره، وأن أُقرِّبه، وأن أُعطيه الآخرة المديدة الأبدية، يقول هذا الإنسان إنني أُهينه! متى كان الدواء فيه إهانةٌ للإنسان؟ متى كان مكبح السيارة إهانةٌ لمحركها؟ من أجل سلامتها، مكبح السيارة لا بُدَّ منه لضمان سلامتها، وكذلك الأمراض والآلام والمتاعب والأحزان والهموم.
(( ما مِن عَثرةٍ، وَلا اختِلاجِ عِرقٍ، وَلا خَدشِ عودٍ، إلَّا بِما قَدَّمَت أَيديكُم، وَما يَعفو اللهُ أكثرُ. ))
المؤمن حينما يعالجه الله عزَّ وجل يتلقى المعالجة بتفهم وصبر:
الله سبحانه وتعالى غنيٌ عن تعذيبنا، وإذا عذبنا لمصلحتنا، ليُردنا إليه، وليحملنا على طريق الحق، والدنيا لا قيمة لها عند الله عزَّ وجل، إذا قيست الدنيا بالآخرة لا قيمة لها، إن رأى الأبُ بيد ابنه لعبةً تُلهيه عن الامتحان، ووضع هذه اللعبة وكسَّرها تحت قدمه، وقد يكون ثمنها عشر ليرات، لكن الأب يرى أنَّ نجاحه في هذه الشهادة وتدرُّجه في مراقي العِلم، والمستقبل الذي ينتظره أغلى بكثيرٍ من ثمن هذه اللعبة، ولذلك يحطمها ليُريح ابنه منها ويزيحها من طريقه، حتى تصفو وجهته إلى الدراسة، هذا يفعله الأب أحياناً، وهكذا يفعل الله عزَّ وجل ولله المثل الأعلى، حينما يرى أن العبد قد تعلَّق بهذا الشيء، قد انصرف إليه، وقد التفت إليه، قد آثره على صلاةٍ أو على طاعةٍ، عندئذٍ ينزعه منه لا لهونٍ له عليه ولكن معالجةً له.
(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ) فيقول هو، هذه مقولته، هذا توهمه، هذا خطؤه، هذا تصوّره، (رَبِّي أَهَانَنِ) .
يعني إذا كان أحدهم في دمشق بمركز المدينة، ولم يكن في جيبه نقوداً إطلاقاً، وفي البيت عنده آلاف مؤلفة، وذهب إلى بيته مشياً على قدميه، هل يحس بالإهانة؟ لا، عنده مال، لأسبابٍ خاصة نسيَ أن يُحضِر المال معه، فذهب إلى البيت سيراً على قدميه ليس إهانةً، وإذا منع الطبيب مريضه عن نوعٍ من الطعام، هل يرى نفسه مُهاناً عند الطبيب؟ لا، لذلك الذي أرجوه أن يكون هذا المعنى واضحاً في أذهانكم، ليس عطائي إكراماً، وليس منعي إهانةً، عطائي ابتلاء، ومنعي اجتباء أي تقريب ومعالجة، إن الله ليحمي صفيه من الدنيا، كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام
(( إذا أحبَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عبدًا حماه الدُّنيا كما يَظلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماءَ ))
[ أخرجه الترمذي والطبراني ]
(( إنَّ اللهَ يَحمي عبدَه الدنيا ، كما يَحمي الرَّاعي الشفيقُ غنمَهُ عن مراتعِ الهَلَكَةِ ))
ما أصاب عبدٌ مصيبةٌ إلا بإحدى خُلتين، بذنبٍ لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة، أو بدرجةٍ لم يكن الله ليبلِّغه إياها إلا بتلك المصيبة، أي لا بُدَّ منها، فكلما ازداد عقلك فهمت على ربك، الآن طبيب الأسنان إذا كان عنده طفل يعالجه، يبكي ويصيح، ويحرك يديه ورجليه، وقد يشتم الطبيب، أمّا الراشد فيجلس بهدوء، ولو كان في الوخز ألماً، يتجشم الألم وفي نهاية الجلسة يصافح الطبيب ويشكره ويعطيه أجره، لماذا فعل الراشد هذا؟ وفعل الصغير هذا؟ الراشد لأنه راشد، والصغير لأنه جاهل، فالمؤمن حينما يعالجه الله عزَّ وجل يتلقى المعالجة بتفهم وصبر ورضا.
الإيمان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ:
وهذه الآية، استنبط منها العلماء شيئاً آخر، أنَّ الإيمان كله نصفان، نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ، فإذا ابتلاك الله بالنِعم فعليك أن تشكره، وإذا ابتلى الله الإنسان بالنقم عليه أن يصبر، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
النبي الكريم عليه الصلاة والسلام كان إذا جاءت الأمور على ما يُحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا جاءت على غير ذلك قال: الحمد لله على كلِّ حال.
(( كانَ إذا أتاهُ الأمرُ يَسُرُّه قال: الحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تتمُ الصالحاتِ، وإذا أتاهُ الأمرُ يكرهُهُ قالَ: الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ ))
[ أخرجه الطبراني وابن ماجه ]
(( عجبًا لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شكَر وإنْ أصابَتْه ضرَّاءُ صبَر وكان خيرًا له وليس ذلك لأحدٍ إلَّا للمؤمنِ ))
في الطائف، لمّا ردّه أهل الطائف شرَّ رد، توجه إلى الله عزَّ وجل وقال:
(( اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ، أرحمُ الراحمينَ أنتَ ؛ ارحمْني، إلى منْ تكلُني؟ إلى عدوٍ يتجَهَّمُني، أمْ إلى قريبٍ ملَّكتَهُ أمري؟ إن لمْ تكنْ غضبانًا عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لهُ الظُّلُماتُ وصلُحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ أن تُنزلَ بيَ غضبَكَ أو تُحلَّ عليَّ سخطَكَ، لكَ العُتْبى حتى تَرضَى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بكِ. ))
[ أخرجه الطبراني وابن عدي ]
أي إذا الإنسان فهم على الله تصرفاته فقد أحرز معظم الإيمان، دققوا في هذه الكلمة: من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة، فمصيبته في نفسه أكبر، نفسه هي المصيبة، أي إن لم تحدث المصيبة في نفس الإنسان موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر.
الإيمان نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، وإذا ذهب الشكر ذهب الإيمان، وربنا عزَّ وجل قال: (كلَّا) زاجراً ورادعاً، هؤلاء الذين يدَّعون أن العطاء إكرام والمنع إهانة، لا، لا هذا ولا ذاك، رفض الله عزَّ وجل مقولتهم، وتفكيرهم، وتوهمهم، واعتقادهم، قال: لا.
(كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أنتم إذا كنتم أصحاب أموالٍ طائلة تحبسونها عن الناس (لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) ، إذاً هذا المال الذي بين أيديكم ليس إكراماً لكم، إنما هو امتحانٌ كشفكم على حقيقتكم، النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا بامرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي، قلت: من هذه يا جبريل؟ قال: هي امرأةٌ مات زوجها، وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلها) .
(( أنا أولُ من يفتح بابَ الجنةِ، إلا أني تأتي امرأةٌ تبادرني، فأقول لها: ما لكِ، ومن أنتِ؟! فتقول: أنا امرأةٌ قعدتُ على أيتامٍ لي . ))
[ الألباني السلسلة الضعيفة ]
هذه المرأة تنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الجنَّة، تريد أن تدخل الجنَّة قبله.
الفقهاء في موضوع مال اليتيم لهم بحوث رائعة جداً، فمن كان وصياً على مال أيتام، لا ينبغي له أن يأكل من هذا المال شيئاً إذا كان غنياً، ومن كان غنياً فليستعف، ولا ينبغي له أن ينفق على الأيتام من صُلب المال.
﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (5)﴾
ولم يقل الله عزَّ وجل وارزقوهم منه، يجب أن ترزقهم من ريع المال لا من صُلب المال، ويجب أن تستثمره لئلا تأكله الزكاة، وهذا المعنى ورد فيه بعض الأحاديث، فإذا كان الوصيُ فقيراً عليه أن يأكل بالمعروف، كيف فهم الفقهاء كلمة المعروف؟ قال: على الوصيّ أن يأكل من مال اليتيم أجراً يماثل أجر المثل أو حاجته أيهما أقل، قام بعمل، أجر المثل أربعة آلاف، حاجته في الشهر ألفان، يجب أن يأخذ حاجته لا أن يأخذ أجر المثل، قام بعمل آخر بمال اليتيم فربح ألفاً، وأجر المثل ألف، حاجته ألفان، يجب أن يأخذ هنا أجر المثل، لذلك: (بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) النبي صلى الله عليه وسلم حضّنا كثيراً على رعاية اليتيم، رأى مرَّةً في بعض الأعياد صبياً ينزوي في جانب الطريق حزيناً كئيباً، فقال له: مالك يا غلام؟ فقال له: دعني يا رجُل لقد مات أبي وليس عندي شيءٌ أرتديه في العيد، فقال له: أتحبُّ أن يكون محمدٌ أباك، وفاطمة أختك وعليٌ؟ فانتبه هذا الصبي إلى أن هذا رسول الله، وأكرمه حتى قبضه الله عزَّ وجل.
وجاء سيدنا الصديق وأكرمه من بعده حتى قبضه الله عزَّ وجل، فإكرام اليتيم شيءٌ لا يعلم أجره إلا الله، فهذا ردٌ على قول هؤلاء أنَّ الله الذي أعطانا المال يحبّنا فقال لهم: (كلَّا) إنني أُعطيكم المال ولا تفعلون به خيراً، إذاً ليس هذا بدافع الحب ولكن ابتلاءٌ لكم وامتحان.
كلمة التحاض على طعام المسكين فيها معنى التكافل الاجتماعي:
﴿ كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)﴾
لمَ لم يقل الله عزَّ وجل: ولا تطعمون المسكين؟ قال: لأنّ كلمة التحاض على طعام المسكين فيها معنى التكافل الاجتماعي، أي إذا كان أُناسٌ ماتوا جوعاً فكل المسلمين آثمون، هناك أقطار عربية غنية جداً، أربعة أضعاف الطعام يُلقى في القمامة في الولائم، وأناسٌ يموتون الآن جوعاً في إفريقياً، طبعاً هذا إثمٌ كبير يقع به المسلمون: (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ) أي إذا مات إنسانٌ جوعاً قال الفقهاء: أثم أهل البلدة كلهم، والله ما آمن والله ما آمن والله ما آمن من بات شبعان وجاره إلى جانبه جائعٌ وهو يعلم.
(( ما آمَن بي مَن بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلَمُ به ))
[ أخرجه الطبراني والبزار والهيثمي ]
(( إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي. ))
النبي الكريم قال:
(( شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الأغْنِيَاءُ ويُتْرَكُ الفُقَرَاءُ، ومَن تَرَكَ الدَّعْوَةَ فقَدْ عَصَى اللَّهَ ورَسولَه، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ))
يقول لك: والله عملنا خميساً على روح والدنا ودعونا الأقرباء والأهل المترفين، هذا ليس على روحه إنه مباهاة، إن كنت تنوي أن تطعم الناس على روحه أطعم الفقراء، كان هناك رجُلٌ في هذا البلد من علماء الشام الأفاضل، فكان إذا دعا عليَّة القوم يُطعمهم طعاماً خشناً ويقول: والله إن هذا الطعام يحبونه ويشتهونه لأنهم لا يأكلونه أبداً، وإذا دعا الفقراء يُطعمهم أطيب الطعام ويقول: هؤلاء يحبون هذا الطعام لأنهم لا يأكلونه، (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ) .
النبي الكريم حثَّنا على إكرام الضيف قال:
(( الضيفُ يأتي برزقِه ، ويَرْتَحِلُ بذنوبِ القومِ ، يُمَحِّصُ عنهم ذنوبَهم ))
فكلمة: تحاضون، يُفهَم منها التضامن الاجتماعي، يعني قريةٌ فيها أسرةٌ فقيرة، لو أصابها ضرٌ بسبب الفقر فإنَّ أهل البلدة كلُّهم يأثمون، إطعام هذه الأسرة من فروض الكفاية، فإذا قام بها البعض سقط عن الكل، وإن لم يقم بها أحد أثِم الجميع، فكأنَّ الله سبحانه وتعالى يردُّ على هؤلاء، أنتم تعدّون المال إكراماً، وتفعلون هكذا بالأيتام والمساكين!!
﴿ كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا(19)﴾
أي أكلاً تامّاً لا تدَعون شيئاً لغيركم.
﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾
(( تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ، والدِّرْهَمِ، والقَطِيفَةِ، والخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ))
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ) أي الإرث، فالمنازعات الآن بين الأُسر، والعداوات، والمحاكمات، والقضاء مُثقل بمشكلات الإرث، كلُّ طرفٍ يُحبُّ أن يأخذ كل الإرث له وحده وأن يحرم الباقين، ولا يرضى المرء أن يأخذ ماله، يريد أن يأخذ ما له وما ليس له، علامة المؤمن أنه يكتفي بما له، وكلُّ شيءٍ يؤخذ من الإرث قبل توزيعه فهو غلول.
الغلول نوعان: ما يؤخذ من غنائم الحرب قبل توزيعها، وما يؤخذ من الإرث قبل توزيعه، تأخذ ساعة وتقول: هذه من رائحة أبي، غلول، سجّادة، غلول، شيءٌ ثمين، قطعة أثرية، قطعة جميلة، فأي شيءٍ تأخذه قبل توزيع التركة فهذا غلول ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أنتم مكرَّمون بالمال؟! هذا ادعاؤكم، (كلَّا) زجرٌ وردع.
﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)﴾
دكّت بمعنى دُقَّت وتهدمت، (دَكًّا دَكًّا) ليس هذا توكيد بل هو استغراق كأن تقول: قرأت الكتاب باباً باباً، أي إنّك تريد أن تقول إنّني قرأته بشكلٍ دقيق باباً باباً، استغرقت كلَّ أبوابه قراءةً.
إذا وقفت بين يدي الواحد الديَّان لا تستطيع أن تلفِّق الحقائق:
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا جاء يوم القيامة.
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)﴾
هذا بحث طويل بين العلماء قديماً وحديثاً، كيف يجيء الله عزَّ وجل؟ فبعضهم قال: هذا مجاز، إذا قلت:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾
يد الله فوق أيديهم أي يد القوة، وإنَّ الله يستمع إلى دعائهم، هذا استماع العِلم لا استماع كالاستماع البشري، على كلٍ مجيء الله عزَّ وجل في هذه الآية، كأن يأتي أعلى إنسان في بلد ليشهد محاكمةً، عندئذٍ يسود الصمت وتضطرب القلوب ويرهب الحاضرون، هذا الذي بيده مقاليد الأمور حضر بنفسه ليشهد المحاكمة: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) .
البطولة الآن، قد يكون لك في الدنيا ألف لسانٍ ولسان، تكلَّم في الدنيا ما تشاء، قد يكذب الإنسان، وقد يدجِّل، قد يزوِّر الحقائق، قد يقول ما ليس واقعاً، قد يأكل مال أخيه ويقول: أنا أحبُّه وهذا حرصٌ مني على ماله، أنا سأستثمره له، قد يقول هذا، هذا كلام، ولكنَّك إذا وقفت بين يدي الواحد الديَّان لا تستطيع أن تلفِّق الحقائق، (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) هذه نصيحةٌ لوجه الله، أيُّ عملٍ تعمله في الدنيا تصوَّر أنَّك واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل يوم القيامة وسائلُك عن هذا العمل لمَ فعلته؟ فهل تستطيع أن تكذب هناك؟ وهل تستطيع أن تُدجِّل، أو تُلفِّق، أو تتكلَّم بكلام غير صحيح؟!!
الكافر يأخذ آيات الله لعباً وهزواً :
﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23)﴾
ما قولك أن يُنصب حبل المِشنقة في قاعة المحكمة كي يرى المجرم مصيره، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ) ، كان في الدنيا يأخذ آيات الله لعباً وهزواً، وكان يسخر منها أحياناً، وكان يقول: هذا القرآن ليس لهذا الزمان، بل هذا لأهل الصحراء، والآن عصر عِلم، وعصر التكنولوجيا، عصر الفضاء، عصر الإلكترون، وكان يعيش على أهوائه ويعطي نفسه هواها، ويتمنّى على الله الأماني، أمّا يوم القيامة حينما يجيء ربك والملك صفاً صَفاً: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ) والله كان قد حضر مجلساً للعِلم فيما مضى والأستاذ تكلَّم عن جهنَّم، هذه هي، فهذا الكلام صدق، فقد كنا لا نعتقد فيها، من الآن الذي يهتم ويعتقد بجهنم؟ يعتقدون بأسعار العملات، والتجارة، والبضاعة الأجنبية النفيسة، والبيوت الفاخرة، والديكور، والأثاث المريح، يعتقدون بالأجهزة الصوتية من نوع كذا، جهاز حديث وهذا له بعد ثالث، وهذا هاتف تلفزيوني، وهذا فيه محطة تليستار، يعتقدون بمنجزات العِلم التي تدغدغ أحلام الناس، من يعتقد ويؤمن بجهنَّم الآن؟ من يُصدِّق أنَّ بعد الموت عذاباً أبدياً لا نهاية له.
باب التوبة مفتوح وكلُّ شيءٍ يصلَّح مادام في الحياة بقيّة:
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) كلمة (وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) أي لا تنفعه الذكرى، تذكَّر أو لم يتذكَّر، اتعَظ أو لم يتَّعِظ، مضى وقت الاتعاظ، عندما يرتكب الإنسان جريمة شنعاء ويُحاكم محاكمةً عادلة، ويُساق إلى حبل المشنقة، والناس مجتمعـون ليشاهدوا شنقه، فلو أحبَّ أن يبكي يبكي، أو يضحك فليضحك، أو يحب أن يصبر فليصبر، وإذا أحب أن لا يصبر فلا يصبر، يحب أن يرفع صوته فليرفع صوته، يحب أن يتوسَّل فليتوسَّل، يحب أن يسكت فليسكت فسيَّان الأمر، لا بُدَّ من تنفيذ الحكم فيه، فالآن الباب مفتوح، والآن في الأمور يسر، باب التوبة مفتوح، كلُّ شيءٍ يُصلَّح مادام في الحياة بقيّة، مادام هذا القلب ينبض كلُّ شيءٍ له حل، فإذا توقَّفت دقَّات القلب خُتم العمل ورفعت الأقلام وجفَّت الصُحف، وإذا تذكَّر الإنسان، يقال له: (وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) .
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾
الغنى والفقر بعد العرض على الله:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
[ سورة الفجر ]
لا تنفع ليت، يا ليتني حرفٌ لا يعني شيئاً، يعني الحسرة، والألم، والحزن، فهذه نصيحة لوجه الله، قبل أن تقدم على عمل في الدنيا، علاقة مالية فيها شُبهة الرِبا، توقَّف هل ترضي الله؟ ماذا أقول لله عزَّ وجل إذا سألني لمَ فعلت هذا؟ يا ربِّ مُضطّر، فأنا بحاجةٍ إلى غرفة الضيوف ذات الموديل الحديث فلا أملِك مثلها، أي شيء مُضطّر؟! فكلمة مُضطَّر تعني فقد الحياة، الخوف من فقد الحياة أو فقد أحد الأعضاء، قبل أن تعتدي على الآخرين، وقبل أن تعتدي على أعراضهم، قبل أن تأخذ من أموالهم، قبل أن توقع بينهم العداوة والبغضاء، وأن تغتاب، قبل أن تنقل حديثاً سيّئاً فتوقع بين أسرتين، وقبل أن تفعل هذا كلَّه تذكَّر الواحد الديّان الذي يسألُك عن كلِّ أعمالك.
(( البِرُّ لا يَبلى والذَّنبُ لا يُنسَى، والدَّيَّانُ لا يَموتُ، فَكُن كما شئتَ فَكَما تدينُ تدانُ ))
[ أخرجه الديلمي وابن عدي ]
(( كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ ))
[ أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه ]
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) .
سيدنا علي رضي الله عنه يقول: "الغنى والفقر بعد العرض على الله" ، فلا تُسمِّ نفسك الآن غنياً، ولا تُسمِّ نفسك فقيراً، فقد يكون الفقير أغنى الأغنياء يوم القيامة، وقد يكون أغنى إنسان في العالم الآن، أفقر الفقراء يوم القيامة، الغنى والفقر بعد العرض على الله، بعد أن تنجو من هول هذا الموقف،إذا نجوت من هول هذا الموقف فأنت الغني حقَّاً، أمّا إذا لم تنجُ من هول هذا الموقف، فما قيمة المال اليوم؟ لن تأخذ منه شيئاً.
الحياة الأبدية لا فناء فيها ولا موت ولا شيخوخة ولا مرض ولا هم ولا حزن:
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) هذه هي الحياة الأبدية التي لا فناء فيها ولا موت ولا شيخوخة ولا مرض ولا همّ ولا حَزَن.
﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)﴾
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) هذه هي الحياة، لذلك العاقل دائماً الحياة الأُخروية ملء سمعه وبصره، داخلةٌ في كل حساباته، وأي علاقةٍ في هذه الحياة الدنيا تبعده عن الدار الأبدية يبتعد عنها، وأي عمل يقرِّبه من الآخرة ومن رضوان الله يفعله.
آيات قرآنية تُبيِّن حال أهل الجنة:
(ُيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) أتمنّى على الله عزَّ وجل ألا يقول أحدنا هذه الكلمة، أن يقول:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
هذا موقف، هذا مُشرِّف، أتمنى لكلٌ مِنّا يوم القيامة أن تنطبق عليه هذه الآية:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)﴾
أتمنى أن يكون كلٌ مِنّا ممن تنطبق عليه هذه الآية:
﴿ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)﴾
الإنسان حينما يكون عمله صالحاً في الدنيا تنتظره سعادةٌ لا يعلمها إلا الله:
الإنسان حينما يكون عمله صالحاً في الدنيا تنتظره سعادةٌ لا يعلمها إلا الله:
(( قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)﴾
أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنـــــــا فإنّا منحنا بالرضا من أحبنـــــــــا
ولذ بحــمانــا واحـتمِ بجنــابنــــــــا لنحـميك مـما فيه أشـرار خلقنـــــا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــــــــلٌ وأخلِص لنا تلقى المسرة والهنـــــا
فلو شاهدت عيناك من حــــســــننا الذي رأوه لمـا وليـت عنا لــــغيرنا
ولو ســمعت أذنـاك حُسـن خطابنـا خلـعت عـنك ثـياب العجـب و جئتنا
ولـو نســـمت من قربـنا لـك نسـمةٌ لمـُت غريــبـاً واشــتياقاً لـــــقربــنا
ولـو ذقــت من طعـم المـحـبَّة ذرةً عـذرت الذي أضـحى قتـيلاً بـحبنـــا
البطولة أن تأخذ كتابك بيمينك والخزي والعار لغير ذلك:
البطولة أن تقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) ، والخزي والعار لهذا الذي يقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) ، لم أعرف، شُغِلنا بجمع الدرهم والدينار، شُغِلنا بحطام الدنيا، ظننا أن كل شيء في المرأة، فظهر أنه ليس فيها شيء، طبعاً بعض الناس همّهم شهوتهم، وقِبلتهم نساؤهم، الهانم لا تريد ذلك فستغضب، ولو عصيت الله فلا شيء، أمّا الهانم فهو يمشي خلفها، ولذلك فالله عزَّ وجل يقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) .
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)﴾
لهذه الآية معنيان:
المعنى الأول: أنَّ عذاباً كعذاب الله لن يكون في الدنيا، يعني أشدُّ أنواع العذابات عذاب الله، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) ومهما سمعت عن ألوان تعذيب الإنسان للإنسان فإنَّ عذاب الله أشدّ.
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾
مهما قيل لك إنه لا يمكن لهذا السجين أن يهرب، وثاق شديد (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) .
المعنى الآخر: إن هذا العذاب لا يعذِّبه أحدٌ، إنما يعذِّب نفسه ندماً.
(( إنَّ العارَ لَيَلْزَمُ المرءَ يومَ القيامةِ حتى يقولَ يا ربِّ لَإِرْسالُكَ بي إلى النارِ أَيْسَرُ عَلَيَّ مما أَلْقَى ، وأنه لَيَعْلَمُ ما فيها من شِدَّةِ العذابِ ))
[ السيوطي الجامع الصغير ]
إمّا أن تفهم هذه الآية على أن العذاب الذي يُعذِّبه الله عزَّ وجل، ليس في الأرض عذابٌ مثله، وأنَّ الوثاق الذي يوثقه الله عزَّ وجل ليس في الأرض وثاقٌ مثله، والمعنى الآخر أن هذا العذاب، إذا شخص بلغه نبأٌ في منتهى الألم، ودعوناه بعد دقيقة للخروج إلى نزهةٍ في بلدة بلودان، يقول لك: اتركني بهمّي، لم يحبسه أحدٌ في البيت هو الذي حبس نفسه، من شدّة الألم والهم قبع في البيت، من قيَّد وثاقه؟ لا أحد هو قيَّد نفسه، ألمه قيَّده، فيوم القيامة، من معاني هذه الآية أنَّ شدّة الندم وشدّة الألم وشدّة الحُرقة، تجعل صاحبها يتعذَّب عذاباً ذاتياً فضلاً عن عذاب الله المادّي، ولا يُنكر عذاب الله المادي إلا كافر، ولا بُدَّ من عذاب جهنَّم، ولكنَّ عذاب النفس قد يفوق عذاب جهنَّم.
إذا أخذ أحد الطلاب قلماً ليس له، وادَّعى الذي فقد القلم أنَّه قد فُقد له قلم، وهذا مثل من واقع الطلاَّب، وأُغلق الباب وفُتِّش الطلاَّب طالباً طالباً، وهذا الذي أخذ القلم سرقةً له مكانته في الصف، مرموقٌ من قبل رفاقه، أُخرج القلم من جيبه، قبل أن نضربه، بماذا يُحسُّ هذا الطالب؟ يحسُّ أن الأرض ليتها تنشقُّ وتبلعه، ويحسّ بقشعريرة وبعرق، ويُصبغ وجهه بالحُمرة والخجل، هذا هو العذاب النفسي، قبل أن نعذِّبه، وقبل أن نضربه، وقبل أن نفصله، فَقَد اعتباره، وكذلك يوم القيامة عذاب جهنَّم حق، ولا بُدَّ من عذاب النار، ولكن قد يكون عذاب النفس أشدّ من عذاب النار، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) .
وصف النفس التي عرفت ربّها واستقامت على أمره في الدنيا وأعدَّت لهذا اليوم عُدَّتها:
أمّا هذه النفس التي عرفت ربّها والتي استقامت على أمره في الدنيا، والتي حسبت لهذا اليوم حسابها، والتي أعدَّت لهذا اليوم عُدَّتها.
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)﴾
الله راضٍ عنكِ وأنتِ راضيةٌ عن ربّكِ، أعطاك فأجزل وأكرمك وبالغ في إكرامك.
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾
يعني معظم الشواهد الموجودة على القبور في مقبرة الباب الصغير عليها هذه الآية، لكن البطولة أن يكون هذا الذي في القبر تنطبق عليه هذه الآية تماماً، فالآن كل القبور تقريباً مكتوب على الشواهد هذه الآية: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) .
إذا كان آكل رِبا فلا علاقة له بهذه الآية، وإذا كان شارب خمر فلا علاقة له بهذه الآية، إذا كان آكلاً مالاً حراماً لا علاقة له بهذه الآية، إذا لم يكن له عملٌ صالح فلا علاقة له بهذه الآية.
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾
الملف مدقق