الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِّل فلن تجد له وليّاً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمَن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أُذُنٌ بخبر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغُرِّ الميامين، أُمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنّا وعنهم يا ربَّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.
رحلة الحج هي عبادة العمر:
أيُّها الإخوة الكرام: لا شكَّ أنكم مُتيقنون أنَّ الموضوع عن الحج، لأننا على مشارف عرفات، فالحج كما تعلمون هو الفريضة البدنية المالية الشعائرية،

وهي في حقيقتها ظاهرها أن تسافر إلى بيت الله الحرام، وأن تطوف وتسعى، وأن تقف في عرفات، لكن حقيقتها رحلة قلوب لا رحلة أبدان، رحلة نفوس لا رحلة أشباح، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)﴾
(رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) الصلاة من أجل أن تتصل بالله، والصيام من أجل أن تتصل بالله، والزكاة من أجل أن تتصل بالله، والحج من أجل أن تتصل بالله، لكن الصلوات الخمس يومياً، وخطبة الجمعة أسبوعياً، ورمضان من عام إلى عام، أمّا عبادة العُمر هي رحلة الحج.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إني عند اللهِ في أُمِّ الكتاب لَخاتمُ النبيِّينَ، وإنَّ آدمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينتِه، وسأُخبرُكم بتأويلِ ذلك، أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبشارةُ عيسى بي، ورُؤيا أُمِّي التي رأتْ حين وَضعَت أنه خرج منها نورٌ أضاءَت له قصورُ الشَّامِ، وكذلك أمهاتُ النبيِّينَ يَرَيْنَ ))
[ أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني ]
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6)﴾
(ورُؤيا أُمِّي التي رأتْ حين وَضَعَت أنه خرج منها نورٌ أضاءَت له قصورُ الشَّامِ) .
عظمة الدين الإسلامي أنه كلما كوفح ازداد قوة:
والله أيُّها الإخوة: هناك مؤامراتٌ على هذا الدين منذ ألف وخمسمئة عام تنهدُّ لها الجبال، ومع ذلك بقيَ الدين شامخاً، وكل الفِرَق الضالة في الوحل، الفِرَق الضالة تؤلِّه الأشخاص، وتُخفِّف التكاليف، وتعتمد على نصوصٍ ضعيفةٍ أو موضوعة، ثم إنها ذات نزعةٍ عدوانية، أربع صفاتٍ تجمع كل فرقةٍ ضالةٍ ظهرت، أين القرامطة؟ آلاف الفِرَق الضالة جاءت وأرادت تحويل هذا الدين العظيم عن مساره الصحيح، تلاشت واندثرت، وبقيَ هذا الدين شامخاً، وعَظَمة هذا الدين أنه كلما كافحته يزداد قوةً، كان من الممكن أن يكون الكفار في كوكبٍ آخر، الله عزَّ وجل على كل شيءٍ قدير، وكان من الممكن أن يكونوا في قارةٍ أُخرى، أو في حِقبةٍ أُخرى، ولكن شاءت حكمة الله وهذا قراره الحكيم أن نعيش معاً، ومعنى أن نعيش معاً أي أنَّ هناك معركةً أزليةً أبديةً بين الحقِّ والباطل، لماذا؟ لأنَّ الحقّ لا يقوى إلا بالتحدي، كلما تحدَّيته ازداد قوةً، ولأنَّ الحقّ لا يستحق أهله الجنَّة إلا بالبذل والتضحية، هذا الحديث الرائع: (أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبشارةُ عيسى بي، ورُؤيا أُمِّي التي رأتْ حين وَضعَت أنه خرج منها نورٌ أضاءَت له قصورُ الشَّامِ)
مناسك الحج من شعائر الله:
مناسك الحج من شعائر الله، قال تعالى:
﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾

قال بعض العلماء: أداء الشعيرة شيء وتعظيمها شيءٌ آخر:
(وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) من تعظيمها أن يؤدّيها الحاج كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تعظيمها أن تؤدّيها على شوقٍ وطيب نفس، من تعظيمها ألّا تتأفَّف وألّا تتململ منها، من تعظيمها أن يؤدّيها الحاج ويتمنى أن يؤدّيها كل عام.
الغاية الكُبرى من الحج أن يعود الإنسان نقي القلب صافي النفس:
أيُّها الإخوة الكرام: الشيء المؤسف أشدَّ الأسف، أنَّ الحاج يأتي من الحج تُقام له الزينات، يُحدِّثك عن كل شيءٍ إلا الحج، إلا عن هذه المشاعر، هي مشاعرٌ مقدَّسة، معنى مقدَّسة أنها بوتقةٌ ينصهر بها قلب المؤمن حتى يتخلص من أدرانه ويعود طاهراً كيوم ولدته أمه، يعود نقي القلب صافي النفس، تلك هي الغاية الكُبرى من الحج، أرقى عبادة كأنها مستوى جامعي كبير.
الحج يُقوِّم حياة المسلم و قيَمه و مبادئه:
أيُّها الإخوة الكرام: يقول ربنا جلَّ جلاله:
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)﴾
تقوم حياتهم، يقوم إيمانهم، تقوم مبادئهم، تقوم قيَمهم (قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) .
معرفة الله عزَّ وجل عِلَّة خلق السماوات و الأرض:
دقق الآن:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾
عِلَّة خلق السماوات والأرض أن تعلم، أي أن تعرف الله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) .
من عَلِمَ أنَّ الله يعلم و سيُحاسِب و سيُعاقِب استقام على أمره:
أنت حينما تعلم أنَّ الله يعلم وسيُحاسِب وسيُعاقِب تستقيم على أمره بالضبط، حينما توقن أنَّ الله يعلم، وسيُحاسِب وسيُعاقِب، لا يمكن أن تعصيه، أنت لا تعصِ إنساناً من بني جلدتك هو أقوى منك، وعلمه يطولك، وقدرته تطولك، مستحيل.
أبسط مَثلٍ: تقف على الإشارة الحمراء والشرطي واقف، شرطيٌ آخر على دراجة، ضابط مرور في السيارة، وأنت مواطنٌ عادي، هل يمكن أن تتجاوز؟ لأنك موقنٌ أشدَّ اليقين أنَّ علم واضع القانون يطولك من خلال هذا الشرطي، وأنَّ قدرته على سحب الإجازة وإيقاع أشدّ العقوبات تطولك، بحسب فطرتك، أنت حينما توقن أنَّ علم الله يطولك، وأنَّ قدرته تطولك، تستقيم على أمره، وهذا الحج: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) من أجل ألّا تتحرك بعد أن تأتي من الحج، إلا وأنت موقنٌ أنَّ هذه الحركة يعلمها الله، هل عندك جوابٌ لله لِمَ غضبت؟ لِمَ رضيت؟ لِمَ وصلت؟ لِمَ قطعت؟ لِمَ سالمت؟ لِمَ عاديت؟ لِمَ طلَّقت؟ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) .
﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)﴾
تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف و تكريم:
أيُّها الإخوة الكرام: من أدق ما قاله المُفسِّرون: إنّ المسلم بحجِ بيت الله الحرام، وتعظيم شعائر الله، وعقدِ العزم على طاعة الله، واتباعِ سُنَّة رسول الله، تقوم وتتحقَّق مصالحه في الدنيا والآخرة، وعندئذٍ تتوقف المُعالجة الإلهية لقوله تعالى:
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
هذا الكون سخَّره الله لنا تسخير تعريفٍ وتكريم، تعريفٍ:
(( كان إذا رأى الهلالَ قال: هلالُ خيرٍ ورُشدٍ هلالُ خيرٍ ورُشدٍ هلالُ خيرٍ ورُشدٍ آمنتُ بالذي خلقك ثلاثَ مرَّاتٍ ثم يقول: الحمدُ للهِ الذي ذهب بشهرِ كذا وجاء بشهرِ كذا ))
أي شيءٍ أمامك له وظيفتان:
وظيفةٌ نفعيَّة أتقنها الغرب.
ووظيفةٌ إرشادية أتقنها المسلمون الأوائل.
وينبغي أن تجمع بين الوظيفتين، أن تنتفع بما خلق الله عزَّ وجل، وأن تكون هذه الأشياء دليلاً إلى عظمة الله والإيمان به.
من آمن بالله و شَكَره حقَّق الهدف من وجوده:
يقول الله عزَّ وجل: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) لأنَّ هذا الكون مسخَّرٌ لك تسخيرين، تسخير تعريف وتسخير تكريم، ردُّ فعل التعريف أن تؤمن، وردُّ فعل التكريم أن تشكُر، فإذا آمنت وشكرت حقَّقت الهدف من وجودك.
يخلع الحاج ملابسة المَخيطة والمُحيطة، ولا يعرف الإنسان قيمة هذه الثياب المَخيطة والمُحيطة، إلا إذا ارتدى ثياب الإحرام، والتي تُعبِّر بشكلٍ أو بآخر عن دنياه، عن حجمه المالي، عن مرتبته الاجتماعية، عن مرتبته الوظيفية، بل عن درجته العلمية، والدينية، جزء من دنيا الإنسان ثيابه، إن كان بالسلك العسكري يضع النياشين، إن كان مدني يلبس ثياب من أغلى الأنواع، الثياب تُعبِّر عن مالك، وعن مرتبتك، وعن عِلمك أحياناً، هناك ثيابٌ خاصة لمُدرّسي الجامعات، للقُضاة، هذه الثياب تُعبِّر عن دُنياك، عن مكاسبك، عن مرتبتك، عن حجمك المالي، أمرَكَ الله أن تخلعها وكأنك بهذا خلعت الدنيا كلها، فيستوي في الطواف، وفي السعي، وفي عرفات، أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء، يستوي أقوى الأقوياء وأضعف الضعفاء.
توحيد الثياب في الحج لإذابة الفروق بين البشر و العودة إلى الفطرة السليمة:
أيُّها الإخوة: هذه الملابس المَخيطة والمُحيطة، تُعِّبر عن انتمائه إلى أمةٍ، هناك ثياب للهنود، ثياب للباكستانيين، تُعبِّر عن انتمائه إلى أمةٍ، إلى شعبٍ، إلى قبيلةٍ، إلى عشيرةٍ، فلو بقيَ المسلم بلباسه لبقيَ مُلتصقاً بدُنياه، أو بقبيلته، أو بطبقته، أو بمَنْ على شاكلته،

لكن الإسلام لحكمةٍ كبيرةٍ شرَعَ اللون الواحد، ثياب ليست مَخيطة ولا مُحيطة والتصميم واحد، حتى تختفي الهوية الشخصية، ويبدو البشر كياناً واحداً، ومن ثم تتعامل معهم بدافعٍ إنسانيٍ خالص، بعدما ذابت الفروق الطبقية، والهويات الإقليمية، والانتماءات المُتعددة، ليُبرِز هذا اللباس لوناً واحداً هو الإنسان على فطرته السليمة في مواجهة خالقه الواحد الديان.
وبعد أن يخلع الحاج ثيابه المَخيطة والمُحيطة، ويرتدي الإحرام الموحد، يدخُل في أُفق الممنوعات، ففي باطنه ممنوعٌ أن يُفكِّر في شيءٍ يؤذي الحرم، تفكير، من الآيات النادرة، ممنوعٌ أن يُفكِّر في شيءٍ يؤذي الحرم، ومع الناس:
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾
ومع الحيوان، فلا يُصطاد ولا يُقتل، ومع النبات فلا يُقطع ولا يشوَّه، ومع الحجر فلا يُكسر ولا يُقتلع، هذه الممنوعات التي هي من لوازم الإحرام، ليكون الحج سلاماً دائماً إلى كل الخلائق، لذلك:
(( أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ. ))
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)﴾
هؤلاء الطُغاة الذين يقصفون، ويُدمِّرون، ويحتلَّون، وينهبون، إذا مات أو انتهت ولايته كلاهما سيان (يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ) جماد نبات حيوان إنسان، هذه التقسيمات الأصلية.
ما يُحظَر على الحاج المُحرِم في الحج:
أيُّها الإخوة: الحاج المُحرِم يُحظَر عليه لبسُ المَخيط من الثياب، ويُحظَر عليه التطيُّب بكل أنواع الطيب، ويُحظَر عليه الحلقُ والتقصير، ويُحظَر عليه مقاربةُ المُتَعِ التي أُبيحت له خارج الحج، كلُّ ذلك ليُحْكِمَ اتصالَه بالله عزَّ وجل.
أحياناً بالفيزياء حتى نعلَم أثر عاملٍ واحدٍ نُجمِّد بقية العوامل، نُسكِّنُها، لو أنَّ الحج في مكانٍ في سويسرا فرضاً، يختلط الحاج مع السائح، لو كان على مدار العام ليس هناك ازدحام، في بلادٍ جميلة، هواءٌ لطيف، مناظرٌ خلابة، وديانٌ خضراء، بحيراتٌ رائعة، الله عزَّ وجل جعل الحج في وادٍ غير ذي زرع، لا يوجد منظرٌ ممتعٌ في الحج لكن هناك صِلةٌ بالله، جمَّدَ لك كل عوامل اللذة والسعادة في الدنيا، وحرَّك عاملاً واحداً هو الاتصال بالله عزَّ وجل.
حكمة الحج:
لذلك حكمة الحج: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) بعيداً عن كل مُداخلةٍ من مُتع الأرض، ليتحقَّق الحاجُّ أنه إذا وصل إلى الله وصل إلى كلِّ شيء، هذه السكينة التي يقذفها الله في قلب المؤمن، يَسعد بها ولو فَقَدَ كل شيء، سَعِد بها إبراهيم وهو في النار، وسَعِد بها يونس وهو في بطن الحوت، وسَعِد بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الغار، وسَعِد بها أصحاب الكهف وهم في الكهف، تسعد بها ولو فقدتَ كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، الإنسان إذا وصل إلى الله وصل إلى كل شيء.
وقد ذكر ابن القيِّم في طريق الهجرتين هذا الأثر: "ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كل شيء، والله أحب إليك من كل شيء" .
لذلك الحاج وقد امتلأ قلبه سعادةً ورضاً وصِلةً بالله عزَّ وجل، لسان حاله يقول: يا ربّ ماذا فَقَدَ مَن وجدك؟ وماذا وَجَدَ مَن فَقَدَكَ؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
أيُّها الإخوة: الحج بهذه الممنوعات، وبهذه المناسك التي لا تظهر حكمتها للوهلة الأولى، لا يُلبّي هذه الحاجة الفطرية إلى الطيب، إلى قص الشعر، إلى الاستمتاع بما أباحه الله له خارج الحج، من أجل أن يُجمِّد الله كل المُتع الحسية، ويُحرِّك سعادة الاتصال به، لذلك سيدنا عمر يقول: "تفقَّهوا قبل أن تحجّوا" .
فالعبادة تعني خروج العبد عن مراده إلى مراد ربه.
أيُّها الإخوة: أمّا عرفة، يوم عرفة من الأيام الفُضلى، تُجاب فيه الدعوات، وتُقال فيه العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يومٌ عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وهو يومٌ فيه إكمال الدين، وإتمام النعمة، وفيه مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النار، إنه يوم اللقاء الأكبر بين العبد المُنيب المشتاق وبين ربّه الرحيم التواب،

بين هذا الإنسان الحادث الفاني المحدود الصغير، وبين الخالق المُطلَق الأزلي الباقي الكبير، وعندها ينطلق الإنسان من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير، من حدود قوته الهزيلة إلى الطاقات الكونية العظيمة، من حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله.
فيوم عرفة يوم المعرفة، يوم عرفة يوم المغفرة، يوم عرفة يومٌ تتنزل فيه الرحمات على العباد، من خالق الأرض والسماوات، وقد قيل: "مَن وقف في عرفات ولم يغلِب عـلى ظنِّه أنَّ الله غفر له فلا حج له" .
من كمال العطاء أن يغفر الله لك، وأن يلقي في روعك أنه قبِلَك، أظن جازماً أنه من وقف في عرفات مُخلِصاً، ألقى الله في روعه أنه قد غفر له وعاد كيوم ولدته أمه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( ما من أيَّامٍ عند اللهِ أفضلُ من عشرِ ذي الحجَّةِ قال فقال رجلٌ يا رسولَ اللهِ هنَّ أفضلُ أم عِدَّتُهنَّ جهادًا في سبيلِ اللهِ قال هنَّ أفضلُ من عِدَّتِهنَّ جهادًا في سبيلِ اللهِ وما من يومٍ أفضلُ عند اللهِ من يومِ عرفةَ ينزِلُ اللهُ تباركَ وتعالَى إلى السَّماءِ الدُّنيا فيُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السَّماءِ فيقولُ انظروا إلى عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا ضاحِين جاءوا من كلِّ فجٍّ عميقٍ يرجون رحمتي ولم يرُوا عذابي فلم يُرَ يومٌ أكثرَ عتيقًا من النَّارِ من يومِ عرفةَ ))
إكرام الله عزَّ وجل الحاج بمغفرة ذنوبه:
أيُّها الإخوة: النبي عليه الصلاة والسلام في يوم عرفة قبل أن تغيب الشمس قال:
(( وقَفَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَرَفاتٍ وكادَتِ الشمسُ أنْ تَؤوبَ، فقال: يا بلالُ أنصِتْ لي الناسَ، فقال: معاشرَ الناس، أَتاني جِبْريلُ آنِفًا، فأَقْرَأَني من ربِّي السلامَ، وقال: إنَّ اللهَ غفَرَ لأهلِ عَرَفاتٍ، وأهلِ المَشعَرِ، وضَمِنَ عنهمُ التبِعاتِ، فقام عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال : يا رسولَ اللهِ، هذا لنا خاصَّةً؟ قال: هذا لكم ولمَن أتى من بعدِكم إلى يومِ القيامةِ، فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: كَثُرَ خيرُ اللهِ وطابَ. ))
[ أخرجه شُعيب الأرناؤوط ]
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ ))
(( إنَّ اللهَ تعالَى يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السَّماءِ، يقولُ :انظروا إلى عبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم ))
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الله يغفر للحاج، ومبالغةً في إكرام الحاج، لمن يستغفر له الحاج، يعني أي خدمةٍ تُقدِّمها للحاج قبل سفره أو بعد مجيئه، أي خدمةٍ تقدِّمها له والحاج امتلأ قلبه امتناناً منك واستغفر لك، هذه عند الله ثابتة.
التوحيد أفضل شيء يصل إليه الإنسان في الحج:
أيُّها الإخوة كما قال النبي الكريم:
(( ما رُؤيَ الشيطانُ يومًا هو فيه أصغرُ ولا أدحرُ ولا أحقرُ ولا أغيظُ منه يومَ عرفةَ وما ذاك إلَّا لما يرَى من تنزُّلِ الرحمةِ وتجاوُزِ اللهِ عن الذنوبِ العظامِ، إلَّا ما كان من يومِ بدرٍ فقيل : وما رأَى يومَ بدرٍ ؟ قال : أما إنَّه قد رأَى جبريلَ عليه السلامُ وهو يَزَعُ الملائكةَ ))
والإمام أحمد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفَةَ وخيرُ ما قلْتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ ))
أفضل شيءٍ تصل إليه في الحج هو التوحيد، ألّا ترى مع الله أحداً، ألّا ترى زيداً أو عُبيداً، القوة الكبيرة، الأُمة الطاغية، الجهة المتغطرسة، ألّا ترى مع الله أحداً.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
(وخيرُ ما قلْتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ) .
الحج هو الرحلة قبل الأخيرة استعداداً للرحلة الأخيرة:
أيُّها الإخوة: عرفات موقفٌ عجيب، يُغطّيه نباتٌ بشري، مختلفٌ ألوانه، أغصانه تلك الأيدي المرفوعة بالدعاء إلى ربِّ الأرض والسماء، يرى الحاج بين يديه، صورةً مصغَّرةً للمحشر العظيم يوم القيامة، وعليه أن يستعدَّ له منذ الآن، لأنَّ رحلة الحج يعود منها الإنسان إلى وطنه، ولكن المحشر العظيم يوم القيامة لا يعود منها إلى وطنه، إذاً الحج رحلةٌ قبل الأخيرة، محشر لا يوجد به أي تمايُز، بَشرٌ من كل المِلل، والنِحَل، والشعوب، والأقطار، والأمصار، أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، علماء وجهلاء، كلهم في مكانٍ واحد يرفعون أيديهم إلى الله عزَّ وجل.
إذاً هو رحلةٌ قبل الأخيرة من أجل أن نستعد للرحلة الأخيرة، الناس جميعاً بلباسٍ واحد، بدعاءٍ واحد، بابتهالٍ واحد، كلهم ضعاف، كلهم فُرادى، نموذجٌ مصغَّر للرحلة الأخيرة، إذاً هو الرحلة قبل الأخيرة استعداداً للرحلة الأخيرة.
بعض الأسرار من رمي الجمرات:
أيُّها الإخوة الكرام: وفي رمي الجمرات بعض الأسرار، فلنبدأ بالجمرة الكبرى قال بعض العلماء: هذا تكثيفٌ وحشدٌ في لغة العسكريين، ابدأ بمواجهة الأكبر،

وكان عليه الصلاة والسلام يخص الجمرتين الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندها للدعاء، إنها ثلاث جمرات، وبينهما مسافة، ليظل المؤمن واعياً تماماً، لا ينام حتى لا يسقط سلاحه، بينما العدو منه على مرمى حجر، وعليه أن يعلم أنَّ المعركة مع الشيطان متعددة المواقع، ومستمرةٌ، وممتدةٌ مع عمره، لذلك ينبغي أن تُرمى ثلاث جمراتٍ في ثلاثة أيامٍ.
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)﴾
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وهذه أخطر كلمة: "لا يحصل إرغام أنف الشيطان في أثناء رجمه إلا بطاعتك للرحمن" ، فإذا عاد الإنسان وعصى ربَّه، هل تُصدِّقون مَن الذي رجم الآخر؟ إبليس هو الذي رجم هذا الإنسان! لا يُرغَم أنفه إلا بطاعة الرحمن، ومن عاد من الحج إلى ما كان عليه من المعاصي والآثام، فليعلم عِلم اليقين أنَّ الشيطان هو الذي رَجَمه.
أنت في كل طوافٍ تقف عند الحجر الأسود والأسعد وتشير إليه وتقول: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، واتِّباعاً لسُنَّتك، وعهداً على طاعتك.
الحج عبادةٌ زُيِّنت بمحاسن وآداب:
أيُّها الإخوة: لقد استقطب البيت الحرام المؤمنين من قارات الدنيا الخمس، فجاؤوا نوعيات مختلفة، تحمل كل جماعةٍ هموم مجتمعها، جاؤوا ليعبدوا ربهم في هذا المكان، جاؤوا ليعودوا في البُعد الزماني إلى ماضي هذه الأمة، وفي البُعد المكاني إلى الأرض التي نزل فيها الوحي، جاؤوا ليعودوا إلى المكان الذي ضمَّ هذه الرسالة الخالدة، للتزوُّد بالدروس المُفيدة التي تُعينهم على صلاح دنياهم وفق منهج ربهم، وصلاح دينهم الذي هو عصمة أمرهم.
الحج أيُّها الإخوة: عبادةٌ زُيِّنت بمحاسنٍ وآداب، وإذا كان الحج ارتفاعاً عن شهوات الحياة الدنيا، وتدريباً للعبد على التخفُّف منها، والاكتفاء باليسير، فلا يليق بالمتلبِّس بهذه العبادة، أن ينشغل عنها بما نهى الله تعالى عنه، إنه لا يكفي منك أن تُعرِض عن هذه المنهيات فحسب، بل عليك أن تكون آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، إن حُسن الخُلق، وطيب الكلام، وإطعام الطعام، من أعظم القُربات إلى الله عزَّ وجل في الحج.
أيُّها الإخوة: حقائقٌ في جُمل:
لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يعود الحاج من أداء هذه الفريضة كما ذهب.
لا يُعقَل ولا يقبَل أن يُوجد الحاج في المشاعر المُقدَّسة، دون أن يشعُر بأيةِ مشاعرٍ مُقدَّسة، أنت في المشاعر المُقدَّسة ولا تشعُر بشيءٍ من المشاعر المُقدَّسة؟!
لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يتحرَّى الحاج سُنَّةً أو مُستحبَّاً، ويرتكب من أجلها معصيةً، أو يتجاوز فريضةً، تقبيل الحجر سُنَّة، أيُعقل أن تدفع إخوانك وأن تؤذيهم من أجل سُنَّة، وصيانتهم فرض؟!
لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يُحدِّثك الحاج عن كل شيءٍ إلا الحج.
لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يرمي الحاج الجمرات تعبيراً عن معاداته للشيطان، ويعود إلى بلده ليكون أُلعوبةً بيدي الشيطان.
أعرف صاحب مطعم يبيع الخمر، فذهب إلى الحج وتاب إلى الله وعاد، بعد ذلك الغلة هبطت إلى العُشر فعاد إلى بيع الخمر، وبعد عشرة أيامٍ توفاه الله، هذا الحج من أعظم العبادات.
لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يقتصر أمر الله في هذه الفريضة، على أن يأتي الحاج من بلادٍ بعيدة، ليجلس في المشاعر المُقدَّسة، يأكل، وينام، ويتكلم في شؤون الدنيا.
والله هناك بعض الحُجَّاج بعرفات حديثهم دنيوي، جئت من أقصى البلاد ودفعت مئات الألوف من أجل أن تجلس وتتحدَّث!
إن أمر الله في هذه العبادة ليس كذلك، هو أعظم وأجلّ من أن يكون كذلك، أن تأتي من بلادٍ بعيدة، لتُحقِّق وجودك المادي في مكان، تُمضي هذا الوقت في غير ما أُمرت به، وليس هذا المستوى من الحج، هو الذي تقوم به مصالح المسلمين في دُنياهم وأُخراهم.
حقوق العباد مبنيةٌ على المُشاححة و حقوق الله مبنيةٌ على المسامحة:
أيُّها الإخوة: يجب أن نعلم العلم اليقيني، بأنَّ الحج وهمٌ كبيرٌ شاع بين معظم الناس، أنك إذا عُدت من الحج عُدت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، هذا صحيح ولكن فيما بينك وبين الله، أمّا فيما بينك وبين العباد لا بُدَّ من أن تؤدّى الحقوق، هذا وهمٌ كبير، الحج لا يُكفِّر الذنوب التي لم يتُب منها صاحبها، فالمُقيم على ذنبٍ ولم يتُب منه، وهو مستمرٌ فيـه، فإن الحج لا يُكفِّر هذا الذنب، إنما الحج كفَّارةٌ وأجرٌ للعبد التائب منه، الراجع إلى الله، الراجي رحمته وعفوه، والذي أقلع عن ذنوبه إقلاعاً لا رجعة بعدها، والدليـل على ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام بعد أن سأله أُناس:
(( قالَ أُناسٌ لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ، أنُؤاخَذُ بما عَمِلْنا في الجاهِلِيَّةِ؟ قالَ: أمَّا مَن أحْسَنَ مِنكُم في الإسْلامِ، فلا يُؤاخَذُ بها، ومَن أساءَ، أُخِذَ بعَمَلِهِ في الجاهِلِيَّةِ والإِسْلامِ. ))
إنسانٌ له جاهلية ذهب إلى الحج، إذا تاب توبةً نصوحةً غفر الله له هذه الجاهلية، فإذا عاد لما كان عليه، حاسبه الله على ما كان منه قبل الحج وبعد الحج، يُغفَر للحاج كل ذنبٍ ما كان بينك وبين الله، أمّا ما كان بينك وبين العباد لا يُغفَر إلا بالأداء أو المسامحة، وهناك دليلٌ قويٌ جداً:
(( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ ))
الشهيد ضحى بحياته، قدَّم أثمن ما يملِك، الدَّين لا يُغفَر.
أحد الصحابة توفاه الله، وخاض مع النبي عليه الصلاة والسلام الغزوات كلها، فقال عليه الصلاة و السلام:
(( أُتي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجنازةٍ ليُصلِّي عليها فقال: أعليه دَينٌ؟ قالوا: نَعم دينارَيْنِ قال: ترَك لهما وفاءً؟ قالوا: لا قال: فصَلُّوا على صاحبِكم، قال أبو قتادةَ: هما إليَّ يا رسولَ اللهِ فصلَّى عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ))
فهذا الوهم، يرتكب من المعاصي ما شاء ويقول بعد ذلك: أذهب إلى الحج ويتوب الله عليّ، حقوق العباد مبنيةٌ على المُشاححة، بينما حقوق الله مبنيةٌ على المسامحة.
أحاديث في أهمية الحج:
أيُّها الإخوة: يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( تعجَّلوا إلى الحجِّ يعني الفريضةَ فإنَّ أحدَكُم لا يَدري ما يعرِضُ لَهُ ))
(( تابِعوا بيْنَ الحجِّ والعُمْرةِ، فإنَّهما يَنْفِيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما يَنْفي الكِيرُ خبَثَ الحديدِ والذَّهبِ والفِضَّةِ، وليس لحَجَّةٍ مَبرورَةٍ جزاءٌ إلَّا الجَنَّةُ ))
[ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد ]
(( الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ إن دعَوْه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم ))
[ أخرجه ابن ماجه والطبراني ]
(( جهادُ الكبيرِ والصغيرِ والضعيفِ والمرأة، الحجُّ والعمرةُ ))
(( الحجُّ جِهادُ كلِّ ضعيفٍ ))
(( قلتُ يا رسولَ اللَّهِ على النَّساءِ جهادٌ؟ قال نعم جهادٌ لا قتالَ فيهِ الحَجُّ والعمرةُ ))
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله ربّ العالمين.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيُّها الإخوة: الأُضحية واجبةٌ مرةً في كل عامٍ على المسلم الحُر، البالغ، العاقل، المُقيم، الموسر، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ما عَمِلَ آدَمِيٌّ من عملٍ يومَ النَّحْرِ أَحَبَّ إلى اللهِ من إهراقِ الدَّمِ إنه لَيَأْتِي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأشعارِها وأظلافِها وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ من اللهِ بمكانٍ قبلَ أن يقعَ من الأرضِ فطِيبُوا بها نَفْسًا ))
[ أخرجه الترمذي وابن ماجه ]
وحكمتها أنَّ المسلم الموسر، يُعبِّر بها عن شكره لله تعالى على نعمه المُتعددة، ومنها نِعمة الهُدى، ومنها نِعمة البقاء على قيد الحياة من عامٍ إلى عام:
(( خيرُ الناسِ من طال عمرُه وحسُن عملُه وشرُّ الناسِ من طال عمرُه وساء عملُه. ))

ومنها نِعمة السلامة والصحة، ومنها نِعمة التوسعة في الرزق، فضلاً عن ذلك تُكفِّر الذنوب التي وقعت من الإنسان في هذا العام، وتوسِّع على العيال، وعلى أقربائه وأصدقائه وجيرانه وفقراء المسلمين.
من شروط وجوبها اليسار، الموسر هو من مَلَك نصاب الزكاة زائداً عن حاجاته الأساسية، أو هو الذي لا يحتاج إلى ثمن الأُضحية أيام العيد فقط، أو هو الذي لا يحتاج إلى ثمن الأُضحية خلال العام كله، على اختلافٍ بين المذاهب في تحديد معنى الموسر.
وينبغي أن يكون الحيوان المُضَّحى به، سليماً من العيوب الفاحشة، التي تؤدّي إلى نقصٍ في لحم الذبيحة، أو تضر بآكلها، فلا يجوز أن يُضَّحي بالدابة البيِّن مرضها، ولا العوراء، ولا العرجاء، ولا العجفاء، ولا الجرباء، ويُستحَب في الأُضحية أسمنُها وأحسنُها، وكان صلى الله عليه وسلم يُضَّحي بالكبش الأبيض الأقرن.
وقت نحر الأُضحية بعد صلاة عيد الأضحى، وحتى قُبيل غروب شمس اليوم الثالث من أيام العيد، على أنَّ أفضل الأوقات هو اليوم الأول، ما بعد صلاة عيد الأضحى وقبل زوال الشمس.
5 – أنواع الأُضحية التي تصح للذبح في العيد:
يُكرَه تنزيهاً الذبح ليلاً، ولا تصحّ الأُضحية إلا من النَعَم من الإبل والبقر والغنم، من ضأنٍ ومعز، بشرط أن يتم الضأن ستة أشهر، وأن تتم المعزُ سنةً كاملةً عند بعض الأئمة.
6 – كم أُضحية يذبح المسلم؟
ويُجزئ المسلم أن يُضَّحي بشاةٍ عنه، وعن أهل بيته المُقيمين معه، أُضحية واحدة عن جميع أفراد الأُسرة، والذين ينفق عليهم هُم جميعاً مشتركون في الأجر.
ومن مندوبات الأُضحية: أن يتوجه المُضَّحي نحو القِبلة، وأن يُباشر الذبح بنفسه إن قدر عليه، وأن يقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك، اللهم تقبَّل منّي ومن أهل بيتي، وله أن يوكِّل غيره، وعندها يُستحَب أن يحضر أُضحيته لقول النبي عليه الصلاة والسلام لفاطمة:
(( يا فاطمةُ قومي إلى أُضحِيَتِك فاشهدِيها فإنَّ لك بأوَّلِ قطرةٍ تقطُرُ من دمِها أن يُغفرَ لك ما سلف من ذنوبِك قالت يا رسولَ اللهِ ألنا خاصَّةً أهلَ البيتِ أو لنا وللمسلمين قال بل لنا وللمسلمين ))
[ أخرجه المنذري والحاكم ]
8 – ماذا يفعل المسلم بلحم الأُضحية؟
ويُستحَب أن يوزعها أثلاثاً، فيأكل هو وأهل بيته الثُلث، ويُهدي لأقربائه غير الفقراء الثُلث تمكيناً للعلاقات الاجتماعية وأصدقائه وجيرانه، ويتصدَّق بالثُلث الأخير على الفقراء والمسلمين، لقوله تعالى:
﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)﴾
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولَّنا فيمَن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحقِّ ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربَّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضِنا وارضَ عنّا، أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا ربّ العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهم لا تؤمنّا مكرك، ولا تهتك عنّا سترك، ولا تُنسنا ذكرك يا ربّ العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
الملف مدقق