يهمس في أذن صديق شيئاً، نقول: هذا سرٌ بينهما، هذا سر، ربُّنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
ما هو الأخفى؟ إذا إنسان همس في أذن صديقه شيئاً، ما هو الذي أخفى من السر؟ هو نية القائل، فقد يكونَ كلامه غير صحيح، وقد يكون فيه كذب، وقالوا: السر ما يسرُّه الإنسان في نفسه دون أن ينطقَ به، لم يحكْه لأحد فهذا سر، فما الذي هو أخفى؟ ﴿يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى﴾
المعنى الأول: السر ما تسرُّ به لإنسان وليس شخصٌ ثالث يعلم ذلك، المعنى الآخر للسر: ما بقي في سريرتك، وما بقي في نفسك يعلمه الله فإذا في نفسك خداع فتعهّد قلبك.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ(9) فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٍۢ وَلَا نَاصِرٍ (10)﴾
الإنسان في الدنيا يوكِّل محامياً ويدفع سند كفالة فيخرج من الحبس، فكيف أخرجوه وقد دهس شخصاً؟ خرج بسند كفالة، توجد وسائط وأساليب، ولكن الله -عزَّ وجلَّ- يوم القيامة: ﴿فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٍۢ وَلَا نَاصِرٍۢ﴾ ، توجد أشياء تُحلّ بالمال، ولكن في الآخرة لو أنَّك تملك ملء الأرض ذهباً لا تستطيع أن تفتدي نفسك من عذاب الله، لا تنحل بالمال، فالآن يقول لك: الدراهم مراهم، هذا كلام وليس هو بآية أو حديث، ولكن الناس عندهم كلَّ شيء ينحل بالنقود، فهناك بعض الحكم غير صحيحة كقولهم: اتق شرَّ من أحسنت إليه، فيقول: لا أريد أن أفعل خيراً أبداً، اتق شرَّ من أحسنت إليه، هذا الكلام باطل.
(( افعلُوا المعروفَ إلى مَنْ هوَ أهلُهُ، وإلى مَنْ ليس هوَ من أهلِهِ، فإنْ أصبْتُمْ أهلَهُ فقدْ أصبتُمْ أهلَهُ، وإنْ لمْ تُصِيبوا أهلَهُ فأنتُمْ أهلُهُ )) ورد في الأثر
﴿يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ* فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٍۢ وَلَا نَاصِرٍ﴾ لا يوجد إنسان يخلِّص إنساناً، لا يوجد وجاهة، لا يوجد واسطة، ولا توجد معاملة خاصة، ولا يوجد استثناء، أو يقول أحد: أنا معي استثناء، ولا فلان بن فلان.
﴿ فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٍۢ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ (11)﴾
الله -عزَّ وجلَّ- أمرنا قبل قليل أن ننظرّ ممَّ خُلقنا، أن ننظرَ إلى قِوامنا الحالي ثم ممَّ خلقنا، بعد قليل قال: ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ﴾ هل فكَّرت في السماء؟ يصعد بخار الماء إليها فترجعه ماءً نقياً زلالاً مقطراً عذباً فراتاً، لو ركب إنسان في البحر وأصابه العطش لمات من عطشه، وهناك قصص كثيرة؛ باخرة غرقت نجا ستة منها على قارب للنجاة، ماتوا عطشاً وهم على سطح البحر، إذاً لولا أن الله -سبحانه وتعالى- رتَّب آليّة المطر، شمسٌ تبخِّر البحر فيصعد بخار الماء إلى السحاب، فينتقل من مكان دافئ إلى مكان بارد وتحدث شرارة كهربائية عن طريق البرق فتنعقد حبَّات المطر على ذرَّات من الكبريت ناعمة جداً، تهطل أمطار عذبة حلوة طيِّبة المذاق﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ﴾ هذه آية.
وبعضهم قال: في السماء طبقة تعيد الأمواج اللاسلكية ولولاها لما أمكن حدوث اتصال لاسلكي في العالم، ولا أمواجٌ إذاعية، وقد عرفوها الآن ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ﴾ .
بعضهم قال: إنَّ الصفة الوحيدة في السماء، التي تنطبق على كلِّ نجم أنَّ هذه النجوم ذات رجع؛ أي تتحرَّك في مسارات دائرية أو بيضاوية، فالأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، والشمس تدور حول مركزٍ لها في المجرة، والمجرة تدور، وكلَّ ما في الكون يدور ويعود إلى ما كان، نجم القطب هو نجم الشمال الآن، لكن في عهد الإغريق كان نجم الشمال هو نجم النسر الواقع، وسوف يكون هذا بعد آلاف السنين؛ لأن محور الأرض المائل يدور حول نفسه كلَّ 25 ألف سنة دورة، فكلُّ 25 ألف سنة يتبدَّل نجم الشمال من نجم القطب إلى نجم النسر الواقع، لو سألتني عن صفة واحدة أصف لك السماء كلَّها أقول لك: ﴿ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ﴾ كلُّ شيء يرجع إلى ما كان.
بعضهم قال: لا، الغبار في المجرّات والذرّات العالقة تدخلُ في مناطق سوداء ذات ضغط مرتفع جداً فتنكمش وتغدو أجراماً سماوية، ثمَّ تتفلَّت من هذا الثقب وتدور بعد مئات آلاف الملايين تنفجر وتعود رماداً أو تراباً أو ذرّاتٍ صغيرة، إله يصف لك السماء فيقول لك: ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ﴾ ، تفهمها دورة المجرَّات من الوضع السائل إلى الوضع الصُلب، أو تفهمها كل شيء يدور حول مدار بيضوي، أو دائري ويعود إلى ما كان عليه، ويرجع إلى ما كان عليه، أو تفهمها أن السماء تعيد لك الأمواج اللاسلكية، أو تفهمها بشكلٍ مبسَّط أن السماء تعيد لك الأمطار، ولكن المعنى الأول البسيط هو الأقرب للسياق: ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ﴾ الأمطار ملموسة، خيراتها ملموسة:
﴿ وَفِى ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)﴾
﴿ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ (11) وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ (12)﴾
صفةٌ واحدة وصف الله لك بها الأرض؛ تنشقُّ الأرض فيخرج القمح تأكله خبزاً شهياً، تنشقُّ الأرض فيخرج الشعير يأكله الدواب طعاماً شهياً، تنشقُّ الأرض فيخرج الحمّص فتأكله طعاماً شهياً، تنشقُّ الأرض فيخرج العدس، تنشقُّ الأرض فتخرج شجرة التفّاح، والكمثرى، والدرَّاق، والعنب، والبلح، والتمر، وكلُّ ما تأكله إنَّما هو من قوله تعالى: ﴿وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ﴾ ، ولو أن الأرض لا تنشق، والنبات لا ينبت لما كنا أحياء أساساً، ولولا أن: ﴿ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ* وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ﴾ لما كنّا على قيد الحياة لمتنا، يموت النبات، يموت الحيوان، يموت الإنسان، فبموت النبات يموت الحيوان، وبموت الحيوان والنبات يموت الإنسان: ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ* وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ﴾ ، (إنَّه) هذا اليوم، أو هذا القرآن:
﴿ إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)﴾
ما معنى (فصل)؟ قد سمعت في الأخبار أنه في الكويت ظهرت صحون طائرة هبطت وعطَّلت مراكز الكهرباء، وبين مصدّقٍ ومكذِّب، فهناك مقالات تثبت وجود كائنات من كواكب أُخرى تركب صحوناً طائرة سريعة الحركة ولها إشعاعات عطَّلت كلَّ شيء، وبعضهم يقول إنّها أقمار صناعية تجسسية من معسكر كبير لمعسكر آخر، فأنت احسب الآن الجواب الشافي لا تعرفونه لكي تفهموا قوله تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ، فهل يا ترى وجه المرأة عورة؟ أو الربا بنسب قليلة مسموح به أم محرَّم؟ فهناك خلافات بين المسلمين، وبين المسلمين وغير المسلمين، فسيدنا عيسى ابن الله أم رسول الله؟ ويوجد خلافات بين الأديان السماوية وغير السماوية.
توجد خلافات عقائدية بين البشر، في هذا اليوم ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ* وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ* إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ أي أن ما جاء به القرآن الكريم قولٌ فصل، مثلاً:
﴿ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰۖ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾
هذا كلام الخبير، فإذا أردتم أن تخالفوه فخالفوه، فإذا خالفتموه ستشقون.
﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
هذا قول فصل، فإذا أردت المخالفة فخالف فتفلِّس في آخرتك.
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْۗ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾
قول فصل فانظر إذا أردت ليصبح بيتك كجهنَّم، انظر فهذا قول فصل؛ كلام خبير، كلام عليم خبير، الذي خلق النفس الإنسانية يعرف ﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ في كلِّ الموضوعات الخلافية بين بني البشر، جميع الموضوعات الخلافية بين الأديان السماوية والأديان غير السماوية، الهنود يعتقدون أن البقرة مقدَّسة، الكلام الفصل في كتاب الله، الخلافيات بين الأديان السماوية القرآن يحسمها:
﴿ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ ۚ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلْقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ ۚ ٱنتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ سُبْحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌ ۘ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا(171)﴾
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ ۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(30)﴾
﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ، الخلافيات بين بني البشر، الخلافيات بين الأديان السماوية وغير السماوية، الخلافيات بين الأديان السماوية، والخلافيات في الديانة الواحدة ﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ، بعضهم قال: الله -عزَّ وجلَّ- لم يحرِّم الربا، قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةًۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾
حرَّم الأضعاف المضاعفة، أما ضعف واحد فلا مانع أن يأخذَ في المئة 5، 6،7.. للعشرة، هذا يزعم هكذا ولكن يوم القيامة ﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ، يقول له الله -عزَّ وجلَّ-: كذبت، هل فهمت من كلامي هذا؟ إنَّك فهمت هذا الفهم لمرضٍ فيك، ولو قلت لأحدهم: أخي لمَ لا تصلي؟ فيقول لك: لم يأذن لي بعد.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَأٓتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
والله لم يشأ، يفهم الآية فهماً مريضاً.
﴿ إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِٱلْهَزْلِ (14)﴾
ففي كلِّ موضوع فيه خلاف الله -عزَّ وجلَّ- في هذا الكتاب حسْمٌ للخلاف، يقول: أخي إطلاق البصر يربّي الذوق الجمالي، فقل له: كذبت ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ﴾ ، الاختلاط يهذِّب المشاعر، فقل له: كذبت، الله -سبحانه وتعالى- يقول غير ذلك:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا (36)﴾
إذا الله -عزَّ وجلَّ- فصل في موضوع، فما معنى فصل؟ هذا تعبير قضائي كأن تقول: القاضي فصل في هذه القضية؛ أعطى حكماً وانتهى الأمر، وحكمه غير قابل للنقض، حكم نقض في محكمة النقض فحكمه غير قابل للطعن أبداً ﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِٱلْهَزْلِ﴾ ، فإذا كنت مؤمناً بعظمة هذا القرآن، وعظمته من عظمة الله -عزَّ وجلَّ-، فالذي قاله الله -عزَّ وجلَّ- يجب أن تتمسَّكَ به تمسُّكاً عظيماً.
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ، هذا هو الفائز:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا (16) وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰٓ (17)﴾
﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ، جاءك خطيبان؛ خطيب غني فاسق، وخطيب لا يملك شيئاً ولكنّه مستقيم:
﴿ وَلَا تَنكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْۗ أُوْلَٰٓئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدْعُوٓاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾
هذا هو الفصل، وإن أردت أن تجرِّب جرِّب الآخر وسترى، سترى أخلاقه الشرسة لبنتك وغناه له وحده، ﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ فكلُّ قضية ربنا -عزَّ وجلَّ- عالجها وأعطى فيها حكماً، فهذا الحكم هو الحق وما هو بالهزل.
الفرق بين كيد الله-عزَّ وجلَّ- وكيد البشر:
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)﴾
الكيد هو التدبير، الكيد هو التدبير بالخفاء وهو سلاح الضعفاء، القوي لا يكيد يبطش، أما الضعيف يكيد، وهذا الكيد تدبير خطة في الخفاء، ما الذي يفسدها؟ أن تُكشفَ، إذا أُناس دبَّروا خطة في الخفاء وكشفت انتهت الخطة، ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ لا يعرفون أنَّ الله متطَّلعٌ عليهم.
قال له: والله لولا ديونٌ ركبتني، وأولادٌ صغار لذهبت إلى محمدٍ وقتلته -عمير بن وهب يكلم أمية بن خلف- أين؟ في ظاهر مكة، في مكانٍ ليس فيه أحد، أمية بن خلف قال له: أما ديونك فعليَّ كائنة ما كانت - مهما بلغت - وأما أولادك فهم أولادي، فامض لما أردت - اذهب-، أمر أن تعدَّ راحلته وأن يُسمَّ سيفه، وانطلق عمير بن وهب إلى المدينة، الظاهر ليفتدي ابنه الذي قد وقع أسيراً في بدر: ﴿يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ﴾ ، ووصل إلى المدينة رآه سيدنا عمر، قال: "هذا عدوّ الله عمير بن وهب جاء يريد شراً" ، اتقوا فراسة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله، لكن لا يعلم، ولكن شكله لم يعجبه، أخذه للنبي -عليه الصلاة والسلام- أخذه مقيّداً، قيّده بحمَّالة سيفه وقاده إلى النبي، وقال له: يا رسول الله هذا عدو الله عمير، قال له: أطلقه يا عمر ، فأطلقه، قال له: ابتعد عنه، فابتعد، فقال له: أُدنُ مني يا عمير، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فقال له: جئت أفتدي ابني، قال له: ولم هذا السيف؟ ! قال له: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟! - لم نستفد منها - قال له: ألم تقل لأميّة بن خلف: لولا ديونٌ ركبتني، ولولا صغارٌ أخاف عليهم لمضيت وقتلت محمداً، فقال لك: أما ديونك فعليّ بلغت ما بلغت وأما أولادك فهم أولادي، فانطلق لما أردت ، فصُعق وقال له:"والله هذا الذي دار بيننا لا يعلمه أحدٌ إلّا الله وأنت رسول الله" ؛ لأنه غير معقول.
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
وأسلم - فاسمعوا ماذا قال سيدنا عمر- قال:" دخل عمير بن وهبٍ على رسول الله والخنزيرُ أحبُّ إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي" ، الصلحة بلمحة، الصلح مع الله سهل جداً، يحتاج لساعة صدق، ساعة صفاء: يا رب تبت إليك، فيقول لك: وأنا قد قبلت.
﴿يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ* فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٍۢ وَلَا نَاصِرٍۢ* وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ* وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ* إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِٱلْهَزْلِ* إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ كيدهم منتهٍ لأن الله يعلمه، الكيد ما الذي يفسده؟ الحليب ما الذي يفسده؟ الحمض، فلو وضعنا قليلاً من الحمض فيفرط الحليب ولا تجد لبناً أو جبناً، والكيد ماذا يفسده؟ أن يُكشفَ، وعند الله مكشوف، إذاً أي كيدٍ لأهل الحق فاشل.
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)﴾
كيد الله لا ككيد البشر، كيد الله تدبيرٌ مضاد ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ من نوع المشاكلة، مثلاً ربُّنا -عزَّ وجلَّ-، قال:
﴿ وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَاۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (40)﴾
الرد على السيئة بالعقاب يسمّى سيئة؟ لا بل يسمى حسنة لكنّها مشاكلة، مثلاً:
﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَٰتُ قِصَاصٌۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ (194)﴾
هل يسمى هذا عدواناً؟ لا، لكن مشاكلة، هل يقال: الله ماكر؟ لا -حاشا لله-، وهناك مكر وكذلك كيد، فهل يقال: الله -عزَّ وجلَّ- ماكر، أو كائد؟ لا، لا يشتقُّ اسم من هذا الحدث، ولكن هذا الكيد الذي قاله الله عن نفسه ردٌ على كيدهم، كيده محكم لأنّهم لا يعلمونه، وكيدهم مخفِق لأنّه مكشوفٌ عند الله -عزَّ وجلَّ-،عندما تبع كفار قريش محمداً -عليه الصلاة والسلام- إلى غار ثور، بين أن يروه وعدم رؤيتهم له حركة، قال سيدنا الصديق: لو نظر أحدهم إلى موطن قدمه لرآنا، وقفوا أمام رؤوسهم ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، وعندما تبع سيدنا سراقة محمداً ليقتله غاصت قدما فرسه في الرمل، أول مرة والثانية والثالثة ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، عندما تبعوا رسول الله ليقتلوه بغار ثور، رأوا الحمام فقالوا: هذا هنا قبل أن يولد محمد، فعشش الحمام والعنكبوت، ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، الله -سبحانه وتعالى- لا يُسمَّى كائداً، ولا يسمَّى ماكراً، ولا يُشتقُّ من هذين الحدثَين اسمان لله -عزَّ وجلَّ- فلله الأسماء الحسنى، ولكن مثل قاضٍ رفعت له قضية قتل والقاتل ظالم، فأمر بقتل القاتل، فهل يسمَّى القاضي قاتلاً؟ لا، أما حكمه فعادل، ردَّ على هذه الجريمة بجزاءٍ عادل، فلا يسمَّى القاضي قاتلاً لأنَّه حكم بالعدل، كذلك عندما يكيد إنسان لأهل الحق فالله -عزَّ وجلَّ- يدافع عن الذين آمنوا، كيدُ الكفار مكشوفٌ عند الله، أما كيد الله التدبير المضاد لهؤلاء الكفار ناجحٌ مئة في المئة؛ لذلك قالوا: لا تجوز على الله حيلة، فأنت تعامل إلهاً سميعاً بصيراً، لا تجوز على الله حيلة، سيدنا عمر قال: "لست بالخب، ولا الخبُّ يخدعني" ، انظر لهذا الموقف الرائع منه، فلا هو من البساطة والسذاجة بحيث يُخدع، ولا هو من الخبث بحيث يَخدع، لا يَخدع ولا يُخدع، فإذا كان سيدنا عمر لا يُخدع، فالله -سبحانه وتعالى- الذي يعلم السرّ وأخفى لا تجوز عليه حيلة، فإذا كاد إنسانٌ لأهل الحق كان كيده ضعيفاً مكشوفاً فاسداً، أما تدبير الله له تدبيرٌ متين محكم ناجح، ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ لو قال ربنا: إنَّهم يكيدون كيداً وأنا أدبِّر لأوليائي خطةً تحميهم من هذا الكيد، فليس فيها بلاغة، هذه اسمها مشاكلة، مثلاً قال الشاعر عندما اقترحت جماعة على الشاعر طبخة ليطبخوها له:
قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصا
هو ينقصه الجبة والقميص، فهذه مشاكلة.
﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ ، فبدلاً من أن يقولَ: وأنا يا عبادي أدبِّر لهؤلاء الذين يكيدون لأوليائي خططاً دقيقةً تحميهم من عدوانهم، لا، ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ من باب المشاكلة، ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ ، ﴿فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ﴾ فيها بلاغة أكثر، فلا تقل: الله كائد، ولا الله ماكر، فلا يشتقُ اسمان من الكيد والمكر، كيد الله ردٌ على كيد البشر.
الكفار ممهلون إلى أن يحين الوقت لغلبتهم:
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا(16) فَمَهِّلِ ٱلْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًۢا(17)﴾
فمهل يا محمد، النبي لا يمهل، الله الذي يمهل، الفعل بيده، هذا إكرامٌ له؛ أي أنا يا محمد - اللهمّ صلّ عليه- لا أسوق لك الشدائد لضعفي، لا، ولا لهوانٍ لك عندي، لا، أنت حبيبي كما يقولون، ولكن أسوق هذه الشدائد لأمتحن أتباعك، فإذا كانوا صادقين كانوا مؤهَّلين للنصر، فالأمر بيدك أنت مهّلهم، وليس أنا سأمهلهم: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلِ ٱلْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًۢا﴾ أي إلى أن ينضج الذين معك، وإلى أن يمتحن صدقهم، وإلى أن تظهر همَّتهم، وإلى أن يظهر ثباتهم، فالكفار ممهلون إلى أن يحين الوقت لغلبتهم ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، في الخندق الكفار قاموا بترتيب خطة جهنمية، فجمعوا عشرة آلاف مقاتل للقضاء نهائياً على محمد وأصحابه في حرب إبادة، واليهود نقضوا عهدهم مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبقي للإسلام قضية ساعات وينتهي، إلى أن قال أحدهم: أيعدُنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ كيد عظيم.
﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ (46)﴾
ربُّنا -عزَّ وجلَّ- عن طريق صحابي جليل أسلم وقتها وهو نعيم بن مسعود، قال للرسول -عليه الصلاة والسلام-: أنا أسلمت يا رسول الله، ماذا أفعل؟ مُرْني، فقال له: خذِّل عنا ما استطعت، فتكلم بكلام لقريش، وبكلام لليهود فأوقع بينهم العداوة، وهبَّت رياحٌ قلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وقلبت قدورهم، وكفى الله المؤمنين القتال؛ هذا كيد الله -عزَّ وجلَّ-، اجتمعوا ليجتثوا الإسلام لآخر لحظة، حتى بدا لبعض المسلمين أن الإسلام انتهى، فأي إسلام هذا، وأي نبي ورسول؟! فقال: هذا صاحبكم، ولم يعد رسول الله، ولكن في آخر لحظة جاء نصر الله -عزَّ وجلَّ- وكاد الله للكفّار وعادوا مخفقين، حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فرعون كاد لسيدنا موسى فتبعه إلى البحر ليقضي عليه، فتح البحر فعبر سيدنا موسى وأصحابه وتبعهم فرعون، وخرج سيدنا موسى من البحر من الطرف الآخر ثمَّ عاد البحر بحراً ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، خطّتهم أعرفها أما خطتي لا يعرفونها؛ لذلك كن مع الله تر الله معك ، ولذلك إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان الله عليك فمن معك؟ وقد ورد في بعض الكتب السماوية السابقة: (ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيَّته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلّا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته إلّا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه.)
إِذا كنت في كلِّ حال مَعي فعن حمل زادي أنا في غِنى
فهذه آية عظيمة كثيراً ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ كيدهم مكشوف، وكيدهم فاسد ومخفق، ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ كيدي هو المتين.
﴿ وَأُمْلِى لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ (45)﴾
لأنَّه إله، ما يُعدُّه لهم لا يعرفونه ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلِ ٱلْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًۢا﴾ ، أمهلهم فالأمر بيدك يا محمد، هو الأمر لك إلى أن ترى أن أصحابك صاروا صادقين مخلصين ينتهي أمرهم، وهذا الذي حصل، فلمن كانت الغلبة؟! آية واحدة إن صدَّقت بها حُلَّت كل مشكلاتك.
﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوٓاْ ۖ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
فجرِّب، إن المتقي هو الفائز وهو الرابح والناجح، والسعيد في الدنيا والآخرة، المتقي لا ينتظر من الله إلّا كلُّ خير.
﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ (18)﴾
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ (61)﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
﴿ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ (22)﴾
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ ٱلْءَاخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ (9)﴾
هذا الذي يستقيم على أمر الله ويخشى الله.
(( وعِزَّتِي لا أجمعُ على عَبدي خَوفيْنِ وأَمنيْنِ، إذا خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ، وإذا أمِنَني في الدُّنيا أَخَفْتُه في الآخِرةِ ))
[ أخرجه ابن المبارك، وابن حبان، والبيهقي عن أبو هريرة (حسن صحيح) ]
﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾
﴿ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾
إذا كنت مع الباطل فأنت زاهق مع الباطل، وإذا كنت مع الحق فأنت باقٍ؛ لذلك:
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ* يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ* إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجْعِهِۦ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ* فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٍۢ وَلَا نَاصِرٍۢ*وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ* وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ* إِنَّهُۥ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِٱلْهَزْلِ* إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، كلمة (فلينظر) هذه اللام لام الأمرٌ، وينظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، الأمر إلهي والفعل المضارع إذا سُبق بلام الأمر يساوي فعل الأمر، فكلمة (فلينظر) أمرٌ إلهي، وكل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب.
إعجاز الله في خلق الإنسان :
الذي يظن أن الأوامر محدودة؛ الصوم والصلاة والحج والزكاة وانتهى الأمر، هو لا يعرف كتاب الله، (فلينظر) أمر إلهي، من الذي عليه أن ينظر؟ ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، الإنسان معرَّف بأل، هذا الإنسان المعهود الكامل يقف على قدمين، فيه جهازٌ عصبي وفيه عظام، وعضلات، ودماغ، ونخاع شوكي، وعمود فقري، وقلب، ورئتان، وكبد، وكُليتان، ومثانة، وأمعاء دقيقة وغليظة، وفيه شرايين، وأوردة، وخلايا سمعية، وسمع، وبصر، وشم، وذوق، ونطق، وشعر، ورأس، ومفاصل، هذا الإنسان: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ما أصله؟ هذا الماء الذي نعرفه جميعاً هو أصل الإنسان، كيف انقسم بعضه فصار عظاماً، وبعضه صار عضلاتٍ، وبعضه صار أوردةً، وبعضه صار أعصاباً، فكيف تخلَّق القلب؟ كيف تخلَّقت أغشيته الثلاثة وكيف انقسم إلى أُذينين وبطينين؟ وكيف اتصل بالرئتين وكيف خرجت منه شبكةٌ متناهيةٌ في الدقة هي الشرايين والأوردة؟ وكيف غطَّت مساحة الجسم كلَّها شبكة أعصاب؟ كيف من هذا الماء المهين؟! كأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: أيها الإنسان انظر إلى دقة تكوينك ثم انظر إلى أصلك، هل يُعقل أن هذا الماء المهين هو وحده أصبح إنساناً سوياً ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، من منا ليس له أعصاب إذا أمسك دبوساً فبأي مكان غرسه لا على التعيين يحس بالألم، فماذا يستنتج؟ يستنتج أن هناك شبكةً عصبيةً متناهيةً في الدقة تغطي كلَّ ذرةٍ في سطح الجلد، فلو غُرس الدبوس نفسه في مكانٍ آخر لخرج الدم، فما معنى ذلك؟ أن هناك شبكة من الشرايين والأوردة متناهية في الدقة موزّعة على سطح الجلد، كيف الإنسان يتثاءب؟ وكيف يسعل؟ وكيف يعطش؟ هذه آليات بيولوجية، من صممها؟ يتعذَّر الآن زرع الرئة لاستحالة السعال، فلولا السعال لمات الإنسان، من جعل زغابات تتحرك نحو الأعلى باستمرار وتدفع كل شيء في الرئة نحو الأعلى، من جعلها كذلك؟ من جعل هذه الأسناخ الرئوية لو نشرت لأصبحت مساحتها مئتي متر مربع؟ من جعل هذا الشعر الذي على رؤوسنا، ربع مليون شعرة لكلِّ شعرة وريد وشريان وعصب وغدة دهنية وغدة صبغية من جعل كلَّ هذا؟ من جعل المفاصل؟ مفصل الرأس دائري، مفصل اليد أنسي، ومفصل الرجل وحشي، من جعل العظام بعضها مجوفاً وبعضها مستقيماً؟ ومن جعل عظم الفخذ له عنق، هذا العنق يتحمل مئتين وخمسين كيلو ضغط؟ لو الإنسان حمل خمسمئة كيلو فعنقا عظمي الفخذ يحتملان ذلك فمن صمم هذا التصميم؟ من جعل في العظم عصباً حسياً، من؟ حتى إذا صار للإنسان كسر لألمه الشديد يبقي رجله كما هي، وهذا ثلثا العلاج؟ من جعل الطحال مقبرة لكريات الدم؟ ومن جعل في كلِّ ثانية يموت مئتان وخمسون مليون كرية حمراء، تذهب إلى الطحال ويتحللون إلى عواملها الأولية ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾، الإنسان كيف يفكر وكيف يتذكر؟ فيه ذاكرة شمية، وذاكرة ألوان، وذاكرة سمعية، وذاكرة أرقام، كيف يتصور؟ وكيف يتخيل؟ كيف يحاكم؟ وكيف يفكر بالأساس؟ وكيف يطرح الفرضيات؟ وكيف ينتقل من المحسوس إلى المجرد؟ وكيف يستنتج القوانين والمفاهيم؟ ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، هذا الإنسان السوي، ممَّ خلق؟ كيف اكتسب علمه؟ وكيف الإنسان عرف أن في قلبه ثقباً مفتوحاً (ثقب بوتال) هذا الثقب من فتحه في القلب؟ الطفل بالرحم، في الرحم لا يوجد هواء، ولا هناك رئتان، ولا نَفَس، من فتح ثقباً مؤقتاً بين الأذينين؟ لأنّه لا يوجد رئتان، فلما تمَّت الولادة هكذا قال الأطباء- قال: تأتي جلطة فتغلق هذا الثقب في الوقت المناسب، ربَّنا -عزَّ وجلَّ- حتى يعلمَنا بكلِّ مليون طفل يجعل واحداً منهم ثقب قلبه مفتوح يعيش عشر سنوات وعمليته الجراحية تكلف سبعين ألف ليرة سورية، واحتمال نجاحها في المئة ثلاثون لإغلاق هذا الثقب، يد من تدخلت وأغلقت هذا الثقب ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ .
الحكمة من خلق الحركات اللاإرادية:
انظر إلى الطفل يغريه عصا يركبها، والبنت تغريها لعبة تحتضنها من الذي خلق هذه النوازع الأنثوية في البنات، ونوازع الرجال في الذكور، من؟ كيف علامات الذكورة تظهر ولماذا يخشن الصوت؟ ولماذا ينمو شعر اللحية عند الرجل ولا ينمو في المرأة؟ إذاً معنى ذلك يوجد مخطط، لماذا لا تفقد المرأة شعرها كلياً؟ من الذي يتحمل أن تصبح زوجته بدون شعر نهائياً؟ يخف شعرها، لكنها لا تفقد شعرها كلياً، يوجد مخطط ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، الإنسان كيف ينام؟ ما هو النوم؟ لماذا القلب لا إرادي؟ والرئتان لا إراديتان؟ فلو أن ربَّنا -عزَّ وجلَّ- كلفنا بالتنفس فقط لم يعد نوم إطلاقاً، يصبح في حاجة ماسة للنوم، وإذا نام الإنسان يموت، فكيف ربُّنا جعل حركة الرئتين حركة نوبية تتم بتنبيه نوبي من غاز الفحم في البصلة السيسائية، كيف؟ مرة خطر في بالي خاطر لو أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- عطَّل هذا المكان مكان التنبُّه اللاإرادي للتنفس، تصورت حياة الإنسان مستحيلة، لا يوجد حل وسط، ينام فيموت، يصحو فيموت، إذ يموت تعباً، وإذا نام يموت اختناقاً، بعدما خرجت من الدرس قال لي شخص وهو طبيب: إن هذا مرض وموجود، فسألته: ما علاجه؟ قال لي: لا علاج له، ولكن الآن توجد حبوب تأتي من دولة أجنبية ثمنه غالٍ كثيراً، تأخذ كلَّ ساعة ستة، سبعة، ثمانية، إلى السابعة من الحب وسمّى لي طبيباً مشهوراً أصيب بهذا المرض استعمله شهرين، فيقوم بضبط أربع منبِّهات يقوم بضبطها في الساعة التاسعة؛ لأنَّه إذا لم يصح من نومه يموت، أخذ الحبة فيعيد ربط المنبه للساعة العاشرة، وأخذ حبة الساعة العاشرة فيعيد ربطه للساعة الحادية عشرة، والساعة الثانية عشرة، والساعة الواحدة كذلك، حضر ابنه وهو طبيب من دولة أجنبية فسهروا فرحين بقدومه، وسهروا وتعشّوا، وناموا وقد ضبطوا المنبهات فلم يستيقظوا عليها، وعندما صحوا صباحاً وجدوا الأب قد مات، من الذي أراحك من التنفُّس؟!!
السمع والبصر وغيرها من آيات الله الدالة على عظمته:
من الذي أراحك من خفقات القلب؟ من أراحك من آلية الهضم، من؟ إذا كان الواحد هو الذي يضبط طعامه بنفسه، على أن يتركوه خمس ساعات لهضم الطعام، ويتتبع سير الطعام من المعدة للبنكرياس ثمَّ بعد ذلك إلى المرارة، ثمَّ العصارة والإنزيم الفلاني، ويصيح قائلاً: توقّف توقف لقد جعلتني أغلط، فمن يتحمل أن يهضمَ طعامه فقط، فأنت ما عليك إلّا أن تأكل وتمشي، وتأكل وتنام، كُلْ واضحك، أما الطعام على الله هضمه، آلية معقَّدة جداً، ساعة إفرازات من الفم وإفرازات من المعدة وإفرازات من الإثني عشر وإفرازات المرارة، والبنكرياس، والحركات اللولبية، مواد تحرِّك الأمعاء، ومواد محولة من شيء إلى شيء والامتصاص، من؟ ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، هذا الإنسان السوي الذي هو ملء السمع والبصر، الذكي، الذي يتحرّك ويفكّر ويحاكم ويتصوَّر ويسمع، وإذا تكلم أحد معه من الهاتف يقول له: فلان، لقد عرفتك، كيف عرفته على الهاتف؟ عندك ذاكرة للأصوات، فعندما سمعت صوته وازنت بين صوته وكلَّ الأرشيف الموجود في دماغك وقلت: فلان، وإذا أعطاك أحد عطراً تقول: هذه الرائحة الفلانية فلديك ذاكرة للمشمومات، كذلك وعندك مركز قيادة آلي، تذهب من الدكان إلى البيت من دون تفكير، تمشي مع شخص وتتكلَّم معه تسليه ويسلّيك وأنت ماشٍ على الطريق، قيادة آلية وأنت مستريح، حتى أعمالك اليومية، فإذا إنسان له مصلحة بعد فترة تنقلب أعماله إلى أعمال آلية، إذا أراد أحد أن يحلقَ ذقنه في الصباح هل يفكِّر؟ من دون تفكير، يستطيع أن يحكيَ مع إنسان وأن يفكِّرَ بموضوع آخر وهو يقوم بالعملية بمنتهى البساطة، انتقلت من مركز التفكير الإرادي إلى مركز التسيير الذاتي، حلاقة الذقن، تناول الطعام، ارتداء اللباس عملية معقَّدة، لكن تقوم بها بشكل لا إرادي، ربُّنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، الإنسان ينظر، من جعل بالعين مادة مضادة للتجمُّد؟ الإنسان الذي يعيش بفلندا في أيام الشتاء قد تهبط الحرارة لأربعين تحت الصفر، أعلى درجة وصلت في فلندا 58 تحت الصفر، في الصنبور يتجمَّد الماء، من وضع في ماء العين مادة مضادة للتجمُّد؟ لو الله نسي هذه فقط، وجاءت موجة من الصقيع فاستيقظ الناس صباحاً والكلُّ عميٌ ليلاً ذهبت أبصارهم كلَّهم، لو الله نسي هذه فقط، ولكن لا ينسى شيئاً؟
الأذن والجلد والشعر من آيات الله الدالة على عظمته أيضاً:
من جعل ثقباً بين الأذن وبين تجويف الفم (نفير أُوستاج)، إذا سمع أحدنا صوتاً قوياً يفتح فمه فلا يحدث شيء لتوازن الضغط بين فمه وبين أذنيه، فمن جعل هذه الفتحة؟ فإن لم تكنْ هناك فتحة فأدنى صوت يحدث نصاب بالصمم، من جعل هذا الثقب؟ من جعل غشاء الطبل بهذه الحساسية البالغة؟ عشرون هزة بالثانية الواحدة أنت تسمعها، فمعنى ذلك جزء بالعشرين تحسُّ بها ثمَّ يعود الغشاء إلى وضعه الصحيح ثمَّ يهتزُّ مرة ثانية، كلُّ حرف تنطق به تسهم في صنعه سبع عشرة عضلة، فلو الكلمة من خمسة أحرف في سبع عشرة فتتحرَّك تسعين حركة عضلة، فإذا كان الدرس ساعة من الزمن فكم كلمة في هذا الدرس قلتها؟ قمْ بعدِّهم، فهل كنت تعلم أن كل حرف يسهم في صنعه سبع عشرة عضلة؟ ربَّنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، من جعل الجلد له مسامات؟ من جعل أن لكلِّ شعرة عضلة؟ من جعل شعر الرأس يطول وشعر الحاجبين لا يطول؟ من الذي جعل في الأنف شعراً وفي الفم لا يوجد شعر، من الذي جعل شعراً في ظاهر اليد وفي بطنها لا يوجد شعر؟ من جعل الأظافر؟ لماذا لم يضع الله للشعر أعصاباً للحس؟ فتقولَ: والله ذاهب إلى المشفى، لماذا؟ سوف أقوم بإجراء عملية حلاقة، يحتاج لتخدير كامل أو يصيح مولولاً، من أعفاك من أعصاب الحس في الشعر؟ وعملية تقليم الأظافر، وإلّا أصبح كلِّ واحد منا كالوحش، لماذا ألغى ربُّنا أعصاب الحس من الشعر، وألغى أعصاب الحس من الأظافر؟ من وضع العين في هذا المكان بالذات؟ لماذا الحاجبان؟ لماذا الجفنان؟ لماذا الغدة الدمعية؟ لماذا الأهداب؟ لماذا؟؟ لماذا القرنية والملتحمة والقزحية والشبكية؟ لماذا هذه المطابقة المعقَّدة جداً؟
الأسنان والعظام وآيات أخرى من آيات الله الدالة على عظمته:
قال تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، إذا كان الشخص جائعاً وعلى وشك الموت من الجوع، ورأى خطراً ينسى جوعه، فمعنى ذلك أن الوجود لم ينته بعد، فإذا كانت السيارة ليس فيها وقود تتوقَّف عن السير، أما الإنسان الجائع فلا يقف، فبإمكانه أن يعمل عشرين ساعة، فما هو الجوع إذاً؟ قيل: هو نقص بعض المواد للمخزون في الكبد لا في الدم، فلو فحصنا دم جائع تجد أن النسب كاملة، الجوع إشعار للإنسان بأن المخزون نقص قليلاً بالمستودعات، أما بالشرايين نسب الغذاء ثابتة ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، انظر إلى الإنسان وأصله.. قليل من ماء مهين، مئتان وخمسون مليون حيوان منوي، يطلع منه الأسنان أقسى من الماس فميناء الأسنان أقسى من الماس، حتى العظام يتحمّل العظم مئتين وخمسين كيلو من ماء مهين، فربنا يقول لك: انظر لوضعك الحالي، واُنظر إلى أصلك: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ .
أصلك ماء، فهل الماء يصنع عظماً، أو يصنع في العين أربعمئة ألف عصب ضمن زمرة واحدة، أحياناً تجد في الجمجمة محجر العين فيه ثقب، من هنا يخرج العصب البصري أربعمئة ألف عصب ضمن عصب واحد قطره مليمتر واحد، من جعل في الشبكية مئة وثلاثين مليون عصيّة؟ ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، العين الصحيحة تشاهد ثمانمئة ألف لون، فإذا أخذنا اللون الأخضر فقط ودرجناه ثمانمئة ألف درجة العين تفرِّق بين درجتين.
قال لي شخص: الكلب يملك حاسة للشم مليون ضعف من حاسة الإنسان، والفأر يملك حاسة سمع ستة عشر ضعفاً من حاسة الإنسان، والصقر يملك حاسة بصر ثمانية أضعاف من حاسة الإنسان فعلى رأي داروين أن الفأرة كانت إنساناً، فبحسب تصوّره المريض أن المخلوقات تطوّرت من الأبسط للأعقد، فعين الإنسان أبسط من عين الصقر بكثير، وأذن الإنسان أبسط من أذن الفأر، وشم الإنسان أقلَّ بمليون مرة من شمِّ الكلب، فهذه نظرية باطلة.
قال تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، ممَّ خلق؟ خلق من ماءٍ، الله -عزَّ وجلَّ- قادر أن يخلقَ البشر كلَّهم دفعةً واحدة، ويموتون دفعةً واحدة، لكن جعل لك ابناً من صلبك لترى كيف تمَّ الخلق تحت سمعك وبصرك، فلا تحتاج لمعلِّم، ماءٌ مهين، بعد تسعة أشهر جاءها المخاض للزوجة ولدت طفلاً له عيون، وله آثار حواجب، وله أهداب وأجفان، ووجه مستدير وعظام وآثار شعر ورقبة وحركة بسيطة ويتثاءب، يسعل، يعطس، أليس كذلك؟ يمص، يخرج إذاً الطريق مفتوح، وليس مغلقاً، يتحرَّك، يبكي، يضحك، إذا حرَّكت يدك ينظر إليها، إذا أشعلت له ضوءًا ينظر، كائن تعرفه جيداً كان ماء مهيناً نزل من بطن أمه، لا تعلمون شيئاً، يعلم شيئاً واحداً وهو منعكس المص، فالمص عملية معقَّدة، يضع فمه على حلمة الثدي ويحكم الإغلاق ثم يشفط، من علّمه ذلك؟ لا تعلمون، هذه يعلمها الإنسان من دون معلِّم حفاظاً على حياته، وبعد السنة يمشي ويتوازن، قبل ثلاثة أشهر ضعه في أحضانك واجعله يميل فإنَّه يميل معك، ولكن بعد ثلاثة أشهر إذا أملته عشر درجات يرجع كما كان فجهاز التوازن اشتغل عنده، إذا نام يحس على نفسه أنَّه نام يخاف، اشتغل جهاز التوازن، وبعد ذلك إذا رأى صورة رجل في المجلة يقول بابا، ليس عنده إلّا بابا، ولكن بعد فترة يقول: هذا عمّ، أصبح هناك شخص آخر غير أبيه وبعد كذا سنة يقول: هذا رجل، فأول شيء كلّ إنسان أبوه، بعد ذلك هناك أبوه وعمه، وبعد ذلك هناك رجل، مفهوم الرجل، هكذا مفاهيمه، أنت لو راقبت كيف ينشأ عنده التفكير، إذا كان يمشي الطفل مستنداً على أريكة وتوجد في الطرف الثاني لعبة وهو يزحف زحفاً قبل أن يمشي، ثم إذا أراد أن يمشي للعبة لا يستطيع أن يمشي مباشرة فتجده يرسم خطة مطوَّلة، يمشي على أطراف الحوائط إلى الطرف الثاني، فهذه المرحلة أعقد المراحل، توضع عنده الهدف والوسيلة، له هدف هو اللعبة ومشى بعكس هدفه على الحوائط حتى وصل إليها، أنت فكّر في الطفل وكيف ينمو تفكيره وكيف تنمو حواسه ومداركه، يقول لك: بابا أح؛ أي أن يده قد احترقت، لكن بعد ذلك يقول: احترقت يدي، صار عنده فعل، وفاعل، ومفعول به، وضمائر، تنمو، قال: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾، هذا الإنسان مغرور بنفسه يدَّعي تكبراً أن معه دكتوراة؛ طبيب، أو مهندس، أو محام لامع، أو تاجر كبير ولا يرى أن ربَّه قد خلقه من ماء مهين، الله سمّاه مهيناً لأنَّه خرج من عورة، ودخل في عورة، وخرج من عورة، ثلاث محلات، وسماه مهيناً فالإنسان يستحي به، ومنه خُلق الإنسان، من جعل لهذه الغدة البروستات وهي المذهلة بعظمتها، وهي واقفة على مفترق للطرق، طريق الحالب، وطريق الخصيتين، إذا أراد البول أن يمر تغلق طريق الخصيتين وتفتح طريق المثانة، هذا البول حامضي فتفرز مادة قلوية من أجل أن تتعادلَ مع المادة الحامضية حتى لا يؤثِّر البول بالمجرى، والآن الماء الثاني يريد المرور، فتغلق طريق المثانة لأن ماء المثانة نجس، فترسل مادة مطهِّرة، ثمَّ مادة معطِّرة، وبعد ذلك مادة سكريّة حتى تسبحَ فيها الحيوانات المنوية، فهذا الذي معه تضخُّم في البروستات، الغدة قاعدة على مفترق الطرق تفتح هذا الطريق وتغلق هذا الطريق، فإذا فتحت طريق البول تفرز مادة قلوية، وإذا فتحت طريق الخصيتين تفرز مادة معقِّمة، ومادة مطهِّرة معطَّرة، ومادة سكرية، تشتغل ثمانين سنة من دون أن تكلَ ولا تملَ: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ .
الشرايين والمفاصل من آيات الله الدالة على عظمته أيضاً:
من جعل للشريان الأبهر دسّاماً لو تعطَّل يموت على الفور؟ هذا الدسام يسمح للدم بالمرور إلى الأعلى ثمَّ يغلق، ثمَّ يعاود الفتح والإغلاق، طبيب جرّاح فتح فلم يجدْ سوى كرية من اللحم صغيرة، خاف فلم يستطع أن يعرفَ ما هي حكمتها، ففتح قلب الحيوان فوجد شيئاً مشابهاً لها، قصّها فلم يجد فيها حياة، فقال: هذه الوريقة عندما تفتح مع الشريان وحتى لا تشكِّل مع جدار الشريان سطحاً تلتصق به فيوجد كرة بظهرها تشكّل نقطة تماس فترجع ولا تلتصق، كرية بين العشر ملم تشكل بين الوريقة وبين جدار الشريان نقطتي تماس لا سطحي تماس ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ، من جعل للإنسان إكسسوارًا، كلُّ إنسان يقوم بإجراء عملية بقلبه يأخذون من رجله شرياناً كبيراً وفرعياً، من خلق هذا الشريان؟ فأول شيء يقومون بإجرائه فتح رجله ويأخذون هذا الشريان الاحتياطي من رجله، ويربطونه بقلبه، من جعل هذا؟ من جعل إذا شريان بالدماغ سُدّ يفتح آخر بدلاً منه؟ الله -سبحانه وتعالى-، من جعل الجمجمة لها مفاصل ثابتة؟ لولا هذه المفاصل لكسرت بأتفه ضربة؟ انظر إلى جمجمة الخروف تجد فيها خطوطاً منكسرة وكالزجاج، هذه مفصل ثابت فعندما يتلقى الإنسان صدمة تتداخل بين بعضها وتمتص الصدمة بذلك، من جعل بين الدماغ والجمجمة سائلاً مثل أجهزة مص الصدمات بالسيارة الزيتية، فإذا وقع الإنسان يأتي السائل ويأخذ الصدمة من جهة ويقوم بتوزيعها على كامل السطح، تكون من جهة سنتيمتراً فيوزعها فتصبح ربع المليمتر، من جعل الرحم بقرار مكين بالوسط الهندسي تماماً بالمرأة؟ من؟﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ﴾
هذا أكبر درس لنا، ربُّنا -عزَّ وجلَّ- يأمرنا ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ﴾ ، هذا الماء الدافق ألّا يخرج بضغط؟ هل يوجد شيء يخرج باندفاع من دون ضغط؟ من خلق العضلات للانقباض وضغط السائل؟ من؟ دافق لا مدفوق، دافق رغم أنفك، لا رأي لك بتدفقه ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ* يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ﴾ ، هذا الآن كشفوا أن المركز العصبي الآمر لهذه العملية في الظهر، والترائب أعلى الرجلين، أصول الرجلين يقال لها ترائب، فيُخرج أمراً من الصلب، وتنفيذاً من الترائب ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ* يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ﴾، خلقه من ماء دافق، ﴿إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجْعِهِۦ لَقَادِرٌ﴾ ، أين الدنيا؟ لا قيمة لها، مركز الثقل الآخرة ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ* يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ﴾ ، خلقه حتى لا يظن أن الماء هو الذي يخلقه، الماء سبب أما الخالق فهو الله -عزَّ وجلَّ-، والدليل إذا كان ذكر وأنثى قد لا ينجبان وهما موجودان، وهناك حيوانات منوية ومبايض، ويجعل من يشاء عقيماً، فسيدنا آدم بلا ذكر وبلا أنثى ولا حيوان منوي ولا بويضة ولا شيء، والسيدة حواء من رجل، وسيدنا عيسى من أنثى، هذه كلُّ الأحوال إما من رجل وامرأة، أو من غير رجل وامرأة، أو من رجل، أو من امرأة، فالخالق هو الله -عزَّ وجلَّ-، هذا الماء سبب لكن المسبب هو الله، اللَّهم يا مسبب الأسباب.
الملف مدقق