وضع داكن
19-01-2025
Logo
الدرس : 95 - سورة البقرة - تفسير الآيتان 285-286 ثمن النصر الإيمان والإعداد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

ما كُلِّفَ به النبي مكلفٌ به المؤمنون:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والتسعين والأخير من سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والثمانين بعد المئتين وهي قوله تعالى: 

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾

[ سورة البقرة ]

أو أن نقول: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ كلاهما جائز. 
أيها الإخوة؛ النبي عليه الصلاة والسلام آمن بربه الإيمان الكامل، الذي حمله على طاعته وقرَّبه من الله عزَّ وجل، وكذلك المؤمنون، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فرقٌ كبير بين النبي الكريم وبين مؤمن، ولكن ما كُلِّفَ به النبي مُكَلفٌ به المؤمن بحديثٍ صحيح: 

(( عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ:  إنَّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين ؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجلَ يُطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!  ))

[ صحيح مسلم  ]

وهناك دليلٌ قرآني هو أن الله عزَّ وجل حينما يقول: 

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾

[ سورة هود ]

وقد بيَّنت لكم من قبل أن إجراءً صحياً يجب أن يتقيَّد المُمَرِّض بشروطه كما يجب أن يتقيد أعلى طبيب بشروطه، المقامات مختلفة أما الشروط فواحدة.
 

أي إنسان لا يُطَبِّق منهج الله معنى ذلك أن في إيمانه ضعفاً:


﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ هناك ملمحٌ لطيف؛ أنت حينما يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

إن آمنت بهذا الكلام إيماناً حقيقياً لا يمكن أن تأكل الربا، ولا أن توكله، حينما يأمرك الله عزَّ وجل أن تكون صادقاً، إن آمنت بهذا الكلام لا يمكن أن تكذب، حينما أمرك الله عزَّ وجل أن تكون مخلصاً، إن آمنت بهذا الكتاب لا يمكن أن تخون، القضية ليست للتبرك، هذا الذي يقرأ القرآن تبرُّكاً، ولا يعمل بما فيه هذا كأنه ما آمن به، وقد ورد أنه مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ، فكلمة آمن بالقرآن أي آمن أنه من عند خالق الأكوان، وأن الله خالق الأكوان عليٌّ عظيم، عليمٌ خبير، قويٌّ غني، حكيمٌ عليم، فأي إنسان لا يُطَبِّق منهج الله فمعنى ذلك أن في إيمانه ضعفاً، كلمة: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ أي أنّ الحق هو ما جاء به الوحي، وأيُّ شيءٍ آخر باطل، السعادة في تطبيق شرع الله، وأيّ منهجٍ آخر لو طبَّقته تشقى، السعادة أن تذكر الله، وأيّ شيءٍ آخر إن ذكرته تشقى:

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾

سورة الرعد
 

علامة إيمانك بالقرآن تطبيق أحكامه:


يجب أن نفهم معنى كلمة: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ أي أنت حينما تؤمن على مستوى صحَّتك أن الملح يرفع الضغط، وأن الضغط إذا ارتفع فجأةً قد يُصاب الإنسان بالشلل، وقد يفقد بصره، فهذه حقيقة مُسَلَّم بها، لا يمكن إلا أن تأخذ بها، تتعامل معها تعامل المُتَأدِّب، فحينما يرقى إيماننا إلى أن الله أمر ونهى، وأحلّ وحرَّم، التقيُّد بالأمر والنهي، والأخذ بالتحليل وترك التحريم علامة الإيمان، وليس هناك من علامة أخرى إلا هذه العلامة، علامة إيمانك بالقرآن تطبيق أحكامه، فإن لم تُطبِّق أحكامه مرةً استشارني أخ خرج من دكانه في أحد أسواق دمشق، واستشارني في زواج ابنته، قال لي: شابٌ وسيم الطلعة، غني جداً، عنده معمل، بيتٌ فخم، مركبة، خطب ابنتي وفي دينه رقَّة، فماذا أفعل؟ قلت له: ألا تقرأ القرآن الكريم؟! يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾

[ سورة البقرة ]

قلت له: بعد أن تقرأ هذه الآية ماذا تقول إذا انتهيت من قراءة القرآن؟ صدق الله العظيم، الذي فعله أنه زوّج ابنته هذا الشاب، ثم لم يَدُم زواجه طويلاً حتى طلَّقها، حينما قَبِل هذا الشاب لم يؤمن بأعماقه أن: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ أي الإنسان؛ راقب نفسك، حينما تفعل خلاف القرآن في كل علاقاتك الاجتماعية، والاقتصادية، في كسب المال، وإنفاق المال، في تزويج بناتك، وفي عدم تزويجهم، حينما تتحرك بغير هدىً من الله أنت لست مؤمناً بالقرآن، مع احترامي لك أنك مسلم، لست مؤمناً به، أنت لا تستطيع أن تناقش طبيباً تعتقد علمه وإخلاصه ورفعة مكانته في أمرٍ يعطيك إياه، ما دام الطبيب قال انتهى الأمر، قد تبيع بيتك الذي جَهِدت في كسوته لكلمةٍ قالها لك طبيب القلب: هذا البيت لا يناسبك، يجب أن تبيعه وأن تشتري بيتاً أرضياً، لماذا مع الخبراء لا تناقشْهم؟!
 

علامة إيمانك انصياعك لمنهج ربك:


هذه حقيقةٌ أيها الإخوة، حينما لا تطبق هذا المنهج القويم فأنت لست مؤمناً بهذا الكتاب الإيمان الكامل، لكي أكون دقيقاً لست مؤمناً الإيمان الكامل، الإيمان المنجي هو الذي يحملك على طاعة الله، الإيمان المُنجّي حينما ترى أن هذا أمر الله، وأنَ أمر الله شيءٌ عظيم، وحينما تؤمن أن عِلَّة أي أمر أنه أمر انتهى الأمر، حينما تؤمن أن عِلَة أي أمر أنه أمر من الله عزَّ وجل.
ولا أنسى هذا الذي تحاور مع عالمٍ من علماء أمريكا حديث عهد بالإسلام، هذا العالم المسلم الشرقي حدَّثه عن لحم الخنزير، وبيَّن له في ساعات طويلة أخطار لحم الخنزير، فما كان من هذا العالم الذي آمَن بالله إيماناً عميقاً إلا أن قال له: كان يكفيك أن تقول لي: إن الله حرَّمه، أنت حينما تؤمن أن هذا الأمر من خالق الأكوان، من ربِّ الأرض والسماوات، من الواحد الديَّان، من الحكيم، من الخبير، هذا معنى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ وإلا كل إنسان يدَّعي الإيمان، ما بال ألف مليون مسلم ليست كلمتهم هي العليا؟ وليس أمرهم بيدهم؟ وللكفار عليهم ألف سبيلٍ وسبيل؟!! لأنهم آمنوا بالله الإيمان الشكلي الذي لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، أما هذا المنهج القويم هل طبَّقوه؟ ما طبَّقوا هذا المنهج.
فيا أيها الإخوة؛ معنى قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي أن هذا هو الحق، وأن الجنة حق، والنار حق، وكسب المال الحلال هو الحق، وأن غضَّ البصر حق، وأن ضبط اللسان حق، وأن الإحسان إلى الوالدين حق، كل مفردات المنهج الإلهي هو الحق، فعلامة إيمانك انصياعك لمنهج ربك.
 

الأنبياء قمم البشر وهم قدوةٌ لنا:


والعياذ بالله علامة ضعف الإيمان عدم التقيُّد بمفردات المنهج، وهذا حال معظم المسلمين؛ لا تجد الإسلام في بيوتهم، ولا في أعمالهم، ولا في أفراحهم، ولا في أحزانهم، ولا في سفرهم، ولا في إقامتهم، ولا في بيعهم، ولا في شرائهم، ولا في كسب أموالهم، لكنهم ملتزمون بالمساجد، يرفعون شعائر الله، يصلون ويصومون، مع أن الله عزَّ وجل يريدنا أن نكون في مستوى العبادات لا أن تكون هذه العبادات شكليةً كما يفعل معظم الناس، ﴿كُلٌّ﴾ هؤلاء الأنبياء، والمؤمنون، ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ خالقاً، مُربياً، مُسيراً، آمن بالله موجوداً، وواحداً، وكاملاً، آمن بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ الكُتُب المناهج التي أنزلها الله على أنبيائه، والرسل هؤلاء قمم البشرية، أعلام البشرية، هم الذين أودع الله فيهم هذا الكمال الذي ينبغي أن يتصف به الإنسان، هم دعاةٌ إلى الله بلسانهم، وسلوكهم، وأحوالهم، وإقرارهم، فالأنبياء قمم البشر وهم قدوةٌ لنا، كما قال الله عزَّ وجل: 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

ليس من الصواب أن نوازن بين نبيّ ونبي:


النقطة الدقيقة جداً: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ ليس من الصواب أن توازن بين نبيٍّ ونبي، مع أن الله عزَّ وجل قال: 

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)﴾

[ سورة البقرة ]

هم مفضَّلون بعضاً على بعض عند الله، لا عندنا، نحن عندنا ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ أي ليس من شأن طفلٍ صغير في الصف الثالث الابتدائي أن يوازن بين عالمي ذرَّة، ليس هذا من شأنه، ولا من صلاحيَّته، ولا من إمكانه، فالعلماء اتفقوا على أن الموازنة بين الأنبياء من عندنا لا تجوز، مع أن كل نبي له مقام عند الله، ومع أن الله عزَّ وجل قال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ولكن هذا عند الله لا عندنا، عندنا الأنبياء جميعاً دعوتهم واحدة ومنهجهم واحد: 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

دعوتهم واحدة، لأن الأصل واحد، أما أتباع الأنبياء يتقاتلون، ما يجري في فلسطين بين مَن ومَن؟ بين أتباع سيدنا موسى وأتباع سيدنا محمد، إذاً حينما لا يتّبِع الناس أنبياءهم اتباعاً حقيقياً يصبح التمسُّك بالدين تعصُّباً.
 

كل الأنبياء دعوتهم واحدة ومنهجهم واحد:


أيها الإخوة؛ ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ أي ليس من شأن العباد، أحياناً يخطر في بال بعضهم أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق لم يدعُ على قومه،  قال: اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون، لكن موسى عليه السلام دعا على قومه، الحقيقة أن سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام حينما أبلغه ربه: 

﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾

[ سورة هود ]

الله أبلغه، متى دعا عليهم؟ حينما أبلغه الله ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ فليس من شأن لا المؤمنين العاديين ولا العلماء العاملين أن يوازنوا بين أنبياء الله ورسله، هذا فوق مقام البشر، نحن نؤمن أنّ كل هؤلاء الأنبياء دعوتهم واحدة، ومنهجهم واحد، وهم من عند الله عزَّ وجل، وإذا اتّحد الأصلُ اتّحد الفرعُ.
 

مصير الخلائق إلى الله عزَّ وجل هو سيحاسبهم وسيجازيهم:


﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أي نسألك الغفران يا رب، والمصير إليك، أي قضية المصير إلى الله هذه ينبغي أن ترتعد منها الفرائص:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾

[ سورة فصلت ]

المصير إلى الله، يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾

[ سورة الغاشية ]

مصير الخلائق إلى الله عزَّ وجل هو سيحاسبهم وسيجزيهم إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر، ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ بعض أتباع الأنبياء قالوا: سمعنا وعصينا. 
لذلك يقول المؤمنون عَقِبَ صلاة الجمعة: سمعنا وأطعنا، والأولى أن نقول نحن دائماً: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ نسألك المغفرة يا رب لأننا لسنا معصومين، وإليك المصير تعرف كل إنسانٍ عمله وإخلاصه وتضحيته وما فعل.
 

لا يمكن للإنسان أن يحدد الوسعَ فالوسع يحدده الله عزَّ وجل:


الآية الأخيرة في سورة البقرة دقيقةٌ جداً، أول فقرة فيها يقول الله عزَّ وجل:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه الآية فوق المكان والزمان، أي في أي مكانٍ وفي أي زمانٍ منهج الله القويم، الذي أنزله الله على نبيه الكريم يمكن أن تُطبِّقه مهما اختلفت الأحوال، وكل من يقول: لا أستطيع أن أستقيم على أمر الله جاهل، لأن الله عزَّ وجل ما كان ليُكَلفنا ما لا نطيق، قال بعض العلماء: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وسْعَهَا﴾ أي أن منهج الله بـافعل ولا تفعل ضمن وسعِ الإنسان، ضمن إمكانيتك، أيّ أمرٍ أمرك به هو أمرٌ ضمن وسْعِ الإنسان.
الحقيقة الأولى والخطيرة: لا يمكن أن يحدد الوسعَ الإنسان، الوسْع يحدده الله عزَّ وجل، تقول: هذه أنا لا أطيقها، لا أستطيعها، أين أذهب ببصري؟ ماذا أفعل؟ لو كنت أكثر صدقاً وأكثر إخلاصاً لتغلبت على نفسك، لولا أن النبي عليه الصلاة والسلام بشر، تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، لماذا هو سيد البشر؟ لأنه بشر، ولأنه يحب كما نحب، ويكره كما نكره، ويشتهي كما نشتهي، ويخاف كما نخاف، ما من إنسان إلا ويحبّ الراحة ويحبّ المُتَع الحسيَّة، ويكره التعب والأشياء المؤلمة، لكن المؤمن الصادق يُؤْثِر طاعة الله عزَّ وجل، فالإنسان حينما يطيع الله ضحَّى ودفع الثمن وجاهد نفسه وهواه وانتصر على نفسه، فبنية الإنسان واحدة: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)﴾

[ سورة الأعراف ]

فأول مقولة: لا يمكن أن تقول كلاماً بمعنى أنك لا تستطيع أن تطيع الله، والله عزَّ وجل يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وهذه حُجة المقصِّرين، لا نقدر، نحن بآخر الزمان، ماذا أفعل بهذا المال؟ أين أضعه؟ لابد من أن أضعه في مصرف، أيعقل أن أدعه لهم من دون ربح؟! لا، خذ ربحاً، أودَعَه في مكان ربوي، وأكَلَ مالاً حراماً.
 

ما من شيءٍ كلَّفنا الله به إلا في وسعنا أن نفعله:


طبيعة الحياة فيها اختلاط، إذاً سهر سهراتٍ مختلطة، فأكبر حُجة يعطيها الشيطان للإنسان المقصِر: إنه زمن صعب، ماذا تفعل؟ لعل الله يغفر لك، عندك أولاد، كل هؤلاء الناس يكسبون مالاً حراماً، أنتَ أنت مثلهم، هذه بلوى عامة، هكذا، يمكن أكبر حجة يُدْلِي بها الشيطان لأوليائه أن هذا المنهج فوق طاقتنا، هذا للصحابة، لحياةٍ بسيطة في الصحراء، ليس في مدينةٍ عصرية، أين أذهب بعيوني؟ أين أذهب بلساني؟ هذا الجهاز لابد من اقتنائه وإلا نصبح نحن خارج العصر، فهذه حجة الناس، وكأنهم يردون على الله هذه الآية، كأن لسان حالهم يقول: يا رب هذا المنهج فوق طاقتنا، كلفتنا ما لا نطيق، مع أن الله عزَّ وجل يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ما من شيءٍ كلَّفنا الله به إلا في وسعنا أن نفعله، أبداً، هذه حقيقة ثابتة، لكن أخطر شيء أن تُقدِّر أنت الوسع، الوسع لا تُقَدره أنت، يقدره الخبير، الخبير قال لك: إن كنت مسافراً فأفطر، وإن كنت مريضاً فأفطر، وإن كنت متعباً فصلِّ قاعداً، الخبير قال، الخبير سمح للمرأة في دورتها ألا تصلي، لأنه خبير، الخبير سمح للمرأة النفساء ألا تصوم، الخبير سمح لك في بعض الحالات أن تأكل ما حرمه الله عليك لأنه: 

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

فتحديد الوسع ليس من قِبَلك، وهذه نقطةٌ ثانية، هو يفكر يقول لك: هذه فوق طاقتنا، لعل الله لا يحاسبني بها، من قال لك كذلك؟ فتجد أحكام الدين تَحَلل المسلمون منها، إما لأن هذه فوق طاقتهم، أو لأنهم في وضعٍ حرج، يذهبون إلى بيئات، يقول لك: من الصعب جداً أن أستقيم في بلاد الغرب، من قال لك: إن الإقامة في بلاد الغرب مسموحٌ بها؟ إقامة دائمة؟ من أقام مع المشركين برئت منه ذمة الله، طبعاً الإنسان حينما يكون في بيئة سيئة جداً، كل ما حوله معاصٍ وآثام، لعله يتأثر بهذه المعاصي والآثام، ولعله يفعلها، وهو مرتاح بعد حين، أين معصيته؟ في أنه أقام مع المشركين فبرئت منه ذمة الله.
 

الله جلَّ جلاله لا يحاسب إلا على الفعل أما الخواطر فلا يحاسب عليها:


لو عدت إلى منهج الله تجد منهجاً متكاملاً، الشيء الخطر على إيمانك حرَّمه الله عليك، والشيء الذي يُضْعِف إيمانك جعله الله مكروهاً، والشيء الذي يُضْعِف اتصالك بالله جعله الله مكروهاً كراهة تنزيه، والشيء الذي لا يُؤَثِّر في إيمانك لا إيجاباً ولا سلباً جعله مُباحاً، والشيء الذي يُقَوي إيمانك جعله الله سنةً، ومندوباً، والشيء الذي لا يقوم إيمانك إلا به جعله فرضاً، معنى فرض كأن تقول: شرب الماء فرض، لأن حياة الإنسان لا تقوم إلا به، وتناول الطعام فرض، واستنشاق الهواء فرض، لكن ليس من الفرض أن تأكل ألوان الفواكه، إذا أكلت لا مانع، هذه من تحسينات الحياة، ففي الإسلام فرض، واجب، سنة، شيء مستحسن، مُباح، مكروه تنزيهاً، مكروه تحريماً، حرام، أما الشيء الذي يدمِّر إيمانك ويوقعك في الهلاك في الدنيا والآخرة فهو حرام، هذا هو الشرع، يوجد أحكام، يوجد محرَّمات، يوجد محللات.
أول حقيقة أيها الإخوة؛ أن منهج الله من وسْعِ الإنسان أن يفعله، والوسع يحدده خالقنا وربنا، هذه واحدة، لذلك ما كلَّفك الله عزَّ وجل ما لا تطيق، ما حاسبك على خواطرك التي تأتيك، الخواطر غير محاسب عنها، ولكن يُنْصَح المؤمن ألا يسترسل في خواطر سيئة خشية أن تنقلب إلى فعل سيِّئ، أما مبدئياً مهما حدّثت نفسك بشيءٍ داخلي لا تُحَاسب عليه، لأن الله جلَّ جلاله لا يُحَاسب إلا على الفعل، هذه واحدة، هذا من معنى قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ما كلَّفك ما لا تطيق، جاءك خاطر سيئ لا تُحَاسب عليه، مهما حدَّثتك نفسك بشيءٍ لا يرضي الله لا تُحَاسب عليه، ولكن يُنْصح المؤمن ألا يسترسل في خواطره السيِّئة لئلا تنقلب إلى عملٍ، هذه واحدة، لن يُحاسَب إنسانٌ مكان إنسان: 

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)﴾

[ سورة الأنعام ]

قد يولد الابن من أبٍ شارب خمرٍ أو مقامر، لا يحاسب الابن عن خطأ أبيه أبداً: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ هذه حقيقة، لا تُحَاسب عن شيءٍ ما فعلته، من بديهيات منهج الله عزَّ وجل أن الله لا يُحَاسبك عن شيءٍ لا تستطيعه، ولا عن شيءٍ ما فعلته، وأن الله جلَّ جلاله لا يأخذك بجريرة إنسانٍ آخر، كل نفسٍ تحاسب على حدة، هذا من قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ .
 

الفعل (اكتسب) في الآية السابقة له ثلاثة معانٍ:


هناك قاعدةٌ في اللغة أن الزيادة في المبنى دليل الزيادة في المعنى، ففعل (كسب) ثلاثي، أما (اكتسب) خماسي، هناك ثلاثة معانٍ: 

1 ـ الله تعالى يحاسب على الفعل بعد أن تفعله وتصرَّ عليه ولا تتوب منه:

المعنى الأول: أن الله عزَّ وجل يُحَاسب على الفعل بعد أن تفعله، وبعد أن تُصِرَّ عليه، وبعد ألا تتوب منه، ولا تندم عليه، فعل الفعل، ثم لم يندم، ولم يتب، بل افتخر به، عندئذٍ يُسجَّل عليه، أما فعل الخير فلمجرد أن تفعله يُسَجل، كما أن الفعل الثلاثي بسيط، والخماسي مُعَقَّد كذلك الفعل الخيّر يُسجَّل فوراً، أما الفعل السيئ فلا يسجل إلا بعد الفعل، وبعد عدم الندم، وبعد عدم التوبة، وبعد الإصرار عليه عندئذٍ يسجَّل، هذا معنى من معنى قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ . 

2 ـ فعل الخير سهل وله سمعةٌ طيبة بينما فعل الشر فعلٌ مستهجن:

هناك معنى آخر؛ هو أن فعل الخير سهل جداً، لا أحد ينتقدك، ولا أحد يحقد عليك، ولا أحد يُقيم عليك الدعوى، عمل طيِّب، صليت، ابتسمت في وجه المؤمنين، أنفقت من مالك عليهم، أكرمتهم، أحسنت إلى فقير، أحسنت إلى ضعيف، عُدْت مريضاً، كل أعمال البِر سهلةٌ جداً ولا أحد يحاسبك عليها، أما لو أكلت مالاً حراماً، هناك مَن يسألك، وهناك مَن يحاسبك، وأنت إن كنت صافياً حُجبت عن الله عزَّ وجل حينما تأكل المال الحرام، حينما تخرج عن منهج الله تُحجب عن الله، ففعل الخير سهل، وله سمعةٌ طيبة، وله رائحةٌ عطرة، وله أريجٌ طيب، بينما فعل الشر فعلٌ مستهجن، وقبيح، وتُلام عليه، وتنكره أنت، وينكره غيرك، هذا المعنى الثاني.  

3 ـ الفعل من الله والإنسان له الكسب فقط:

المعنى الثالث هو أن الإنسان له الكسب فقط، بينما الفعل من الله عزَّ وجل، أنت حينما تريد أن تفعل خيراً يُقوِّيك الله عزَّ وجل، لذلك كلنا فقراء لله، كلنا ضِعاف، ولكن نتمايز عند الله بأعمالنا التي مَكَّننا الله منها بحسب صدقنا مع الله، أنت إنسان عاديٌّ، لو صدقت مع الله في خدمة الخلق لأعطاك إمكانيات عالية جداً لا تحلم بها من قبل، فأنت لك الكسب، سماه العلماء: الانبعاث، أنت أردت أن تصلي فأعانك الله على الصلاة، أردت أن تُرَبي أولادك فأعانك الله على تربيتهم، أردت أن تدعو إلى الله فأعانك الله على الدعوة إلى الله، الفعل من الله منك الكسب فقط، لك ما كسبت.
إنسان أراد أن يسرق هنا اكتسب السرقة، أي أراد فقط، الآن يُسيَّر إلى إنسان تُعَدُّ السرقة بحقه حكمةً، أنت تختار أن تسرق، وليس مسموحاً لك أن تختار مِمَّن تسرق، ممَّن؟ الله عزَّ وجل مُسَيِّر؛ يسوق هذا السارق إلى مَن يُؤدِّبه الله بفقد ماله فقط، إذاً لك الكسب فقط، وعلى الله الفعل، فالفعل فعل الله والكسب كسب الإنسان.
لذلك إذا عُزِيَ الفعل إليك في الحقيقة يُعزى سببه وهو الكسب، وإذا عُزِي الفعل إلى الله في الحقيقة يُعزى فعله والكسب منك، تماماً كما لو قال إنسان: المعلم الفلاني رسَّب الطالب، عزونا فعل الترسيب إلى المعلِّم، لأنه هو الذي وقَّع، أما سبب الترسيب كسل الطالب، وإذا قلنا: فلان رسب، أيضاً صح، ذكرنا سبب الرسوب، السبب من الطالب، وتنفيذ الفعل من المعلم، فالإنسان له الكسب فقط، وعلى الله الباقي، هذا الكلام دقيق جداً، معنى ذلك أن كل واحد منا بإمكانه إذا صدق مع الله أن يفعل فعلاً عظيماً، قد يكون فوق طاقته، وفوق إمكاناته الفكرية والعقلية لأنه طلب طلباً كبيراً، كسبه كبير، لذلك مَن هو البخيل والجبان؟ هو الذي بَخِل على نفسه بعملٍ صالح، لأن الله يخلق العمل الصالح.
واللهِ أنا أعتقد أنه ما من إنسان أراد إنفاق المال إلا رزقه الله مالاً، ما من إنسان أراد أن يعفَّ نفسه عن الحرام إلا أعفَّه الله عن الحرام، الفعل فعل الله ولك الكسب فقط. 

  الخير كسبه سهل أما الشر فكسبه يحتاج إلى مراحل:


إذاً: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ لا تملك إلا الكسب، أما الفعل فلا تملكه أنت، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ الخير كسبه سهل، والشر كسبه يحتاج إلى مراحل، ففعل شراً، لعله يندم ما ندم، لعله يتوب ما تاب، لعله يستر نفسه لم يستر نفسه، عندئذٍ يسجَّل، فعل الشر هناك من يحتقره إن فعلته، هناك من يؤاخذك، هناك قوانين تُحَاسبك، لو واحد سرق مثلاً، هناك قوانين أرضية تحاسبه، أما فعل الخير، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ .
يقول الله عزَّ وجل: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. ))

[ صحيح :ابن ماجه ]

﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ إن نسينا أن نطيعك يا رب، أو نسينا وفعلنا سوءاً عن غير قصدٍ منا، ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ اجتهدنا فأخطأنا، ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً﴾ أي حملاً لا نطيقه، ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ .
 

كل ذنب له عقاب قد يزيد عن طاقة الإنسان:


قال بعض العلماء: في شرع مَن قبلنا أن التوبة تقتضي أن يقتل الإنسان نفسه، حتى يقبله الله عزَّ وجل:

﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)﴾

[ سورة النساء ]

الله أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم حينما أرادوا أن يتوبوا، هناك أحكام كثيرة في شرع مَن قَبلنا، الله عزَّ وجل يُعلمنا أن ندعوه ونقول: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ أي شرعنا -والحمد لله-مقبول، صيام ثلاثون يوماً، خمس صلوات باليوم، أول نظرة لك، هي ثوان، والثانية عليك مثلاً، عند الضرورة يوجد أحكام: فـ: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً﴾ حملاً لا نطيقه، ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ هناك نقطة مهمة جداً، هناك وسائل تأديب لا طاقة لنا بها، لكن ما سببها؟ مثلاً: عندما يُساق الإنسان إلى الإعدام ما شعوره؟ حينما يسمع نُطق حكم الإعدام، وحينما يُودع في السجن أشهراً طويلةً، كلَّما تحرَّك مفتاح زنزانته ظنَّ أنهم جاؤوا ليعدموه، هذا حَمَل فوق طاقته لأنه هو فعل شيئاً لا يفعله الإنسان العادي، فكل ذنب له عقاب قد يزيد عن طاقة الإنسان، إنسان نصحه الطبيب ألا يدخن، نصحه بهدوء، وأعطاه أدلة، فأصرَّ على أن يبقى مُدخّناً صار بحاجة إلى عملية قلب مفتوح؛ أولاً: الثمن فوق طاقته، ثانياً: يا ترى أتخدَّر؟ يا ترى أخرج منها سالماً أم أموت؟ لا أعرف، هذا القلب خدروه، بعدما انتهت العملية يعطوه صعقة إما أن يعمل وإما ألا يعمل، إذا لم يعمل عظَّم الله أجركم، هو لما أصرَّ على الدخان، واضطر إلى عملية قلب مفتوح يمكن أن يجد هذه العملية فوق طاقته مثلاً.
 

المعاصي الكبيرة قد لا نستطيع تحمُّل نتائجها:


﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا﴾ طبعاً أنا أتيت بمثل طبي، هناك معاص كثيرة، عندما يعتدي الإنسان على أعراض الآخرين، ثم يُفاجأ أن هناك من اعتدى على عرضه، قد لا يحتمل، واحدة بواحدة، حينما يكسب مالاً حراماً، ويغش به المسلمين، ثم يُفاجئه الله أن ماله كله صودر، أو سُرق، أو نُهب، قد لا يحتمل هذا الخبر لأنك حينما فعلت المعصية لم تعبأ بما تفعل، كل معصية لها عقاب، المعاصي الكبيرة قد لا تستطيع تحمُّل نتائجها، ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أحياناً مرض عُضال، مرضان متعاكسان، أدوية المرض الأول تؤذي المرض الثاني، وأدوية المرض الثاني تؤذي المرض الأول، أحياناً مرض ولا تملك ثمن الدواء، هناك مصائب تدع الحليم حيران، لأن صاحبها فعل شيئاً مما لا يفعله عامَّة البشر، هناك مَن يُقَصِّر مع ربه قد يشرب الخمر، هناك من قتل أولاده جميعاً وهو سكران، فلما صحا من سكرته لم يتحمَّل فقتل نفسه.
 

كل معصية لها أثر سيِّئ سلبي:


يا أيها الإخوة؛ كل معصية لها أثر سيِّئ سلبي، فإذا تراكمت المعاصي، الإنسان شعر بضيق، بضيق لا يحتمل يضجر، ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا﴾ ورد في صحيح مسلم:

(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: َإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا، قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا، قَالَ، قَدْ فَعَلْتُ. ))

[ صحيح مسلم ]

﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ قال: قد فعل، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ ، قال: قد فعل، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ ، قال: قد فعل، لذلك من السنة أن نقرأ هذه الكلمات الثلاثة متفرقات،﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ صمت خفيف، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ صمت خفيف، ﴿وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ ولا مولى لنا إلا أنت.
 

الله مولى الذين آمنوا يتولاهم ويؤدبهم:


هناك آية كريمة أيها الإخوة تأخذ بمجامع القلوب: 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)﴾

[ سورة محمد ]

تصور ابناً عند أب كبير، عالم، غني، ديِّن، صالح، هيأ له أسباب التربية الصالحة، أسباب الغذاء الجيد، ربّى له عقله، ربّى له جسمه، ربّى له أخلاقه، ربَّاه اجتماعياً ونفسياً وأخلاقياً وفكرياً، وهيأ له كل وسائل الراحة، وكبر، وأخذ شهادات عليا، وزوّجه لأن وليه عظيم.
وتصور إنساناً بالطرقات؛ من ملهى إلى ملهى، من سجن إلى سجن، من حانة إلى حانة، بذيء اللسان، منحرف الأخلاق، شاذ، هذا ليس له مولى، مع أن المثلين حادان والله هكذا المؤمن، ﴿اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يتولاك، يؤدبك، يخوفك، ينبهك، يتجلى عليك، يحجبك أحياناً، يرزقك، يضيق عليك لأنه يربيك، متوليك، أما الكافر ليس له مولى، هذا الكافر ينتظر ضربة ساطور واحدة وانتهى.
 

أكبر نعمةٍ أن يتولى الله تربيتنا وأكبر عقاب للإنسان أن يخرج من عناية الله عزَّ وجل:


قال تعالى: 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام ]

فنعمةٌ وأكبر نعمةٍ أن يتولى الله تربيتنا، وأكبر عقاب للإنسان أن يخرج من عناية الله عزَّ وجل، خُذ الدنيا كما شئت، أكبر عقاب من الله أن يُخرجك من تربيته، تفعل ما تشاء، جسمه مثل البغل، دخله كبير، كل يوم بملهى، مرتاح، هذا أشقى الناس، هذا ينتظر ساعة الموت ليرى أمامه جهنَّم إلى أبد الآبدين، أما إذا خاف الإنسان، ومرض، حتى إن بعض أصحاب رسول الله سَلِم من أي مصيبة، فزوجته شَكَّت بإيمانه فذهبت لتشتكي إلى النبي، معنى ذلك أن هذا ليس مؤمناً، ولا يوجد مشكلة عنده، في الطريق تعثرت رجله فوقع، فقالت: عُد، انتهى الأمر، مشي الحال، من علامات قربك من الله أن الله يؤدبك، يعالجك، ينبِّهك، يضيق عليك، أوحى ربك إلى الدنيا أن تكدري وتشددي وتضيقي على أوليائي حتى يحبوا لقائي، وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شدّدت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه، أي أنت حالتك أفضل بمليون مرة من إنسان يعصي الله وهو قوي، عتيدٌ، غني، شحيح، فنحن في العناية المشددة إن شاء الله، ولأن نكون في عنايةٍ مشددة نعاني ما نعاني أفضل ألف مرة من أن نكون خارج العناية الإلهية، وأوضح آية: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ .
 

النصر له ثمن والثمن هو الإيمان الذي يحملنا على طاعة الله وإعداد العدة:


قد تذهب إلى بلاد الغرب أمطار لا تُحصى، كلها خضراء، أموال لا تحصى، كل المعاصي هناك، هل تظن أن الله راضٍ عنهم؟! والعياذ بالله، وقد تجد في بلاد الشرق بلاداً فقيرة لكن فيها صلاح، فيها دِين، فيها ورع، فيها خوف من الله، فيها بقية حياء، بقية وفاء، بقية مروءة، فهذا الذي أتمنى أن ننتبه إليه، لا توازن نفسك، لا توازن دنيا مع دنيا، وازن دنيا مع آخرة مع دنيا مع آخرة، اجمع الدنيا والآخرة، وازن بينهما وبين دنيا وآخرة أخرى، إذا أنت عندك مطعم فرضاً بسيط، لا تبيع الخمر، هل توازن نفسك مع مطعم يبيع خمراً؟ يربح بالملايين، انظر إلى مصير بيع الخمر بعد الموت، توازن مطعماً لا يبيع خمراً، يتقي الله في كل شيء وما ينتظره من سعادة، ومطعماً آخر يبيع خمراً، ويفعل كل المعاصي والآثام، وما ينتظره من شقاء، لا توازن بين دنيا ودنيا هذا خطأ، هذه الموازنة خطأ، وازن بين دنيا مع آخرتها، ودنيا مع آخرتها، هذه الموازنة صحيحة، ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ ليس لنا مولى إلا أنت، ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ وهذا النصر له ثمن، الثمن هو الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، والثمن أيضاً هو أن نُعدّ لأعدائنا ما هو متاحٌ لنا، وعلى الله الباقي.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور