وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 15 - 18 لا عيش إلا عيش الآخرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الخامسة عشرة، وهي بعد أن قال الله عزَّ وجل: 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ (14)﴾

[ سورة آل عمران ]

 قال الله عزَّ وجل : 

﴿  قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٍ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضۡوَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ (15)﴾

[ سورة آل عمران ]


قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ


1 ـ لا تساوي الدنيا شيئا أمام الآخرة:

 لو أن الدنيا حازها الإنسان من كل أطرافها؛ مالٌ وفير، وامرأةٌ جميلة، ومركبٌ رائع، وبستانٌ جميل، ومزرعةٌ فارهة، لو أن الإنسان حاز الدنيا بحذافيرها، ووضعها في كفة، ثم وضع الآخرة في كفةٍ ثانية، لا يمكن أن تُقابَل الدنيا مع الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: 

(( واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم يرجعُ ))

[  صحيح البخاري ]

 اذهب إلى البحر المتوسط، واركب قارباً، وأخرج إبرةً، واغمسها بماء البحر، ثم انظر بم ترجع؟ هل نقص ماء البحر؟ أثر الماء الذي علق على الإبرة كم يساوي بالنسبة إلى البحر؟ هذا ما تساويه الدنيا بالنسبة للآخرة.
لو تصورنا أن إنساناً حاز الدنيا بحذافيرها، كل شيء على أكمل وجه، ووازنّا هذا بالآخرة لم تكن بشيء، لذلك: "ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية"
﴿قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ﴾ والحديث الذي تعرفونه جميعاً، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))

[  الترمذي وابن ماجه  ]

 جناح بعوضة، وليس من مخلوقٍ أهون على البشر من بعوضة، تقف على يدك فتقتلها، هل تشعر بالذنب أنك قاتل مثلاً؟ أو ارتكبت ذنباً؟ لا، وأنت في أعلى تألُّقك تقتل البعوضة، ولا تشعر بشيء، فكيف بجناحها؟ (لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) .

2 ـ الدنيا تنتهي بالموت:

 المعنى أنه لا يليق بكرم الله أن يعطيك عطاءً محدوداً ينتهي بالموت، والدنيا مهما كانت عريضة فإنها تنتهي بالموت، لو أنك ملكت البلاد والعباد لمات الإنسان، لو كنت أغنى إنسان تموت، لو كنت أصح إنسان فالموت ينهي صحتك، والموت ينهي كل شيء، ينهي غنى الغنى، وفقر الفقير، وقوة القوي، وضعف الضعيف، وصحة الصحيح، ومرض المريض، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، فما دام هذا العطاء ينتهي بالموت فلا يليق بالله عزَّ وجل، ليس عطاء، من هنا أعطى الله عزَّ وجل الدنيا لمن لا يحب؛ أعطاها لأعدائه، ألم يعطِ قارون المال الوفير؟ 

﴿ إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُۥ قَوْمُهُۥ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ(76)﴾

[  سورة القصص  ]

 ألم يعطِ فرعون المُلك، وهو لا يحبه؟ إذاً: إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين. 

3 ـ العاقل مَن عمل للآخرة:

 ﴿قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٍ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ﴾ خير من الدنيا، مَن هم العقلاء؟ الذين عملوا للآخرة، مَن هم ضعاف العقول؟ الذين اكتفوا بالدنيا. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

[ سورة التوبة ]

أتعجبكم سنوات معدودة كلها مشكلات؟ لا يوجد إنسان لم تصبه مشكلة، أحياناً مرض، أحياناً زوجة متعبة، أحياناً ابن عاق، أحياناً بنت لم يخطبها أحد، وهذه مشكلة كبيرة، أحياناً دخل قليل، لو أن الأمور كلها جاءت كما يريد، لكن مع التقدم في العمر تأتي متاعب في الصحة، ضعف بصر، انحناء ظهر، ألم بالمفاصل، خلل بالأجهزة، فالحياة مفعمة بالمشكلات، هكذا أرادها الله عزَّ وجل. 
 طبيعة الدنيا متعبة، ومهما راقت فلا تستقيم لإنسان، وهذا الواقع أمامكم، إن كان دخله كبيراً، أولاده متعبون، أولاده أتقياء، دخله لا يكفيهم، أولاده أتقياء، ودخله جيد، ولكن زوجته ليست طيبةً، زوجته جيدة، وهو يعاني من مشكلة في عمله، لا يعاني من مشكلة في عمله، ويعاني من مشكلة في صحته، كأن الدنيا دار التواء لا دار استواء، منزل ترح لا منزل فرح، والمهم أن الله عزَّ وجل يأمرنا أو ينصحنا أن نهتم بالآخرة. 
﴿قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٍ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ﴾ أنا حَبَّبت إليكم النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسَوَّمة، والأنعام، والحرث. 

4 ـ لذة الدنيا متناقصة منقطعة:

 ﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ كلمة (متاع) يعني لذة عابرة، أكل أحدهم طعامًا نفيسًا، بعد دقائق زالت طعمته، وانتهى الأثر، ما له أثر مستقبلي أبداً، الدنيا كلها متاع، أي لذة طارئة، لذةٌ مؤقتة، لذةٌ لا تستمر، بل إن الحقيقة الصارخة أن شيئاً في الدنيا مهما عظم لا يمكن أن يقدم لك لذةً مستمرَّة، إلا متناقصة، كل شيء تقتنيه تُعجَب به أول الأمر، وبعد حين تألفه، وكأنك لم تقتنِه، شاءت حكمة الله أن يجعل لذّات الدنيا متناقصة لا متعالية أبداً.

بين اللذة والسعادة :


 إنه يمكن أن نفرق بين لذةٍ وسعادة، اللذة حسية تأتيك من الخارج؛ لذة مال، طعام، زوجة، مسكن، دفء، تبريد، أجهزة، لا تأتيك إلا من الخارج، مركبة، وهي ذات أثر حسي محض، وليس أثراً نفسياً، وهي متناقصة، وقد تعقبها كآبة، وقد تعقبها النار إلى أبد الآبدين، هذه هي اللذة.
 أما السعادة؛ فأولاً تنبع من الداخل، أنت ليس بحاجة، "ماذا يفعل أعدائي بي بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة"، تنبع من الداخل، لا تحتاج إلى مال، هي معك دائماً، بستانك في صدرك، قال تعالى: 

﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾

[  سورة الرعد  ]

 متعاظمة غير متدنية، تعقبها جنةٌ إلى أبد الآبدين، هذا فرقٌ كبير بين اللذة والسعادة، اللذة طابعها حسي، أما السعادة فطابعها نفسي، فربنا عزَّ وجل قال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ﴾ قال: ﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ الله عزَّ وجل في آية أخرى يقول : 

﴿  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[  سورة النساء ]

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ﴾ شُدِدتم إليها ﴿أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ متاع الغرور، الدنيا تغر، وتضر، وتمر. 

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ(61)﴾

[  سورة القصص  ]

 لذلك الأنبياء العظام سعادتهم بربِّهم، أما التافهون فسعادتهم بالطعام والشراب، والنساء، والبيوت، والنُزُهات، وما إلى ذلك.
 هذه الجنة ليست لكل الناس، إن الله يعطي الدنيا لمَن يحب ولمَن لا يحب، أما الجنة فمقيَّدة بالأتقياء. 

لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ 


 ﴿قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٍ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾ (اتقى) يعني اتقى أن يعصيه، اتقى أن يغضبه، اتقى أن يُسخِطه، طبَّق المنهج الإلهي، انصاع لأمر الله. 
﴿لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٌ﴾ ليست جنة بل جنات، لأنها كلها متنامية ومتنوعة، فيها حور عين، ولدان مخلَّدون، جنان تجري من تحتها الأنهار، فيها لبن لم يتغيَّر طعمه، وعسل مصفَّى، فيها ماء نقي عذب كالزلال، غير آسن، في أنهار من خمر غير خمر الدنيا. 

﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍۢ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍۢ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍۢ لَّذَّةٍۢ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍۢ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَٰلِدٌ فِى ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ(15)﴾

[  سورة محمد ]

 هذا عطاؤه، وفيها شيء آخر (وزيادة) نظرٌ إلى وجه الله الكريم، وقد يغيب المؤمن خمسين ألف سنة من نشوة النظرة، وهناك أكبر من النظر (رضوانٌ من الله أكبر) ، فهذه الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها النظر إلى وجه الله الكريم، وفيها رضوانٌ من الله أكبر. 
﴿قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٍ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضۡوَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾ لا يستطيع أن يدَّعي أحدٌ أن عمله يؤهله للجنة، فالله عزَّ وجل بصير بعمل كل إنسان، العمل الذي يؤهل للجنة لا يمكن أن يُقبَل إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتُغِي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّار


 هؤلاء أهل الجنة ما صفاتهم؟ قال: 

﴿  ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (16)﴾

[ سورة آل عمران ]


صفات أهل الجنة:


1 ـ يدعون ربهم : يَقُولُونَ رَبَّنَا 

 أول شيء أنهم يدعون الله دائماً، والدعاء هو العبادة، في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

((  الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ))

[  الترمذي وابن ماجه  ]

 وإذا قال الله عزَّ وجل : 

﴿  الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)﴾

[  سورة المعارج  ]

 دائماً يدعو الله؛ إن دخل بيته يدعو، وإن خرج يدعو، وإن جلس إلى الطعام يدعو، وإن انتهى من الطعام يدعو، وإن دخل إلى الخلاء يدعو، وإن خرج يدعو، وإن واجه عدواً يدعو، وإن خرج من البيت إلى عمله يدعو، فدعاؤه مستمر، وقد علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام من خلال أذكاره المأثورة كيف ندعو الله في كل أحوالنا. 

2 ـ يؤمنون بالله وحده :

 ﴿ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا﴾ بك يا رب، آمنا بك موجوداً، آمنا بك واحداً، آمنا بك كاملاً، آمنا أنك الخالق، آمنا أنك الرب، آمنا أنك المسيِّر، آمنا بأسمائك الحسنى، وصفاتك الفضلى، آمنا بكل ما ذكرته لنا. 

3 ـ يستغفرون ربهم : 

 ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ اغفر لنا، طلب المغفرة، المغفرة شيء دقيق جداً، الله عزَّ وجل أمر النبي أن يستغفر لذنبه، لكن ماذا فعل النبي؟ وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 

((  كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. ))

[  الترمذي، ابن ماجه، أحمد  ]

 وفي بعض أدعية النبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

(( إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا، وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا. ))

[ الترمذي ]

 فما من إنسان إلا ويأتيه خاطر يزعجه، قد يقصر قليلاً، فشأن العبد أن يخطئ، وشأن الله أن يغفر، لكنه يخطئ لا عن قصدٍ، ولا في شيءٍ صارخ، ولكن عن خطأ، عن نسيانٍ، عن تقصيرٍ، عن غلبةٍ أحياناً، فهذا الخطأ يُغفَر بالدعاء. 

﴿  فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)﴾

[  سورة نوح  ]

 إخواننا الكرام، هي بشارة، ما دمت مستقيماً على أمر الله فأنت في رعاية الله، وأنت في حفظه، وأنت في نصره، وأنت في تأييده، لكن لو زلَّت القدم، لو أخطأت، لو غلبتك نفسك في ساعة ضعف، ما دمت مستغفراً فأنت في بحبوحةٍ أخرى، أنت في بحبوحتين، أنت في أمنين، أنت في مدتين؛ بحبوحة الطاعة، وبحبوحة الاستغفار. 
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: 

(( إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. ))

[ صحيح ابن ماجه ]

 ليس معنى هذا أنه يرتكب مئة ذنب، مستحيل، لكن قد يكون ذنب النبي من نوع فوق مستوى البشر جميعاً، بعضهم قال: النبي يرى رؤيا، يرى شيئاً من عظمة الله، وفي رؤيا ثانية يرى الله أعظم مما كان يراه، فيستحيي برؤيته السابقة، أنت إنسان، أمامك غني توقعت معه مليون، وهو معه مئة مليون، توقعك، أو رؤيتك إلى حجمه المالي الذي هو أقلّ من واقعه بكثير، تشعر أنك ما أعطيته حقه، فالله عزَّ وجل قال : 

﴿ فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ(19)﴾

[  سورة غافر ]

 وقال النبي الكريم : (إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) فما دمت قد عودت نفسك أن تستغفر فأنت في بحبوحة، (وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا) (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) أما هذا الذي يدعي العصمة، وهو ليس نبياً، هذا تجاوز للحدود، وهذا خروجٌ عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فسيدنا يوسف ماذا قال، وهو نبيٌ كريم؟ قال: 

﴿ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ (33)﴾

[  سورة يوسف  ]

 وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. ))

[  مسلم، الترمذي، أحمد   ]


الشعور بالذنب دليل على صحة القلب:


 إياكم، ثم إياكم، ثم إياكم أن تفهموا هذا الحديث، أن تسرع بالذنب، هذا الحديث لا يمكن أن يكون هذا معناه، لكن معناه لو لم تشعروا بذنوبكم فأنتم هالكون عند الله.
 إنسان ارتكب خطأ، اغتاب، كذب، سخر، ابتسم ابتسامة ساخرة، دون أن يشعر بشيء؟ معنى هذا أنه ميت، لو أنه مؤمن لتألم أشد الألم، إحساسك بذنبك علامة حياة قلبك، وعدم إحساسك بذنبك علامة موت قلبك. 
(لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا) أي لو لم تشعروا بذنوبكم ، معنى ذلك أنكم أمواتٌ غير أحياء (لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ) مثلاً: أنت في سهرة أخذك الحديث، وتكلمت على إنسان، اغتبته وهو مسلم، تأتي إلى البيت لا تنام الليل، كيف اغتبته؟ هذا مسلم، هو أخطأ، الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكره، ولو كان الذي ذكرته حقيقةً، تتألم، في اليوم الثاني تأخذ له هديةً وتستسمحه، معنى هذا أن قلبك حي، ما دمت شعرت بذنبك، واستغفرت الله منه، ما دمت قد آلمك ذنبك.
 من هو المؤمن؟ هو الذي تسره حسنته، وتسوءه سيئته، يفرح لحسنةٍ أصابها، ويألم أشد الألم لذنبٍ ارتكبه، فهؤلاء الذين يستحقون الجنَّات، والنظر إلى وجه الله الكريم، ويستحقون رضوان الله عزَّ وجل، وهو أكبر ما في الجنة، قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾  

كلما علا مقامك عند الله تحاسب نفسك أشد الحساب:


للتوضيح فقط: وعاء له سطح، أو له قعر مثقَّب، لو كان قُطر الثقب فرضاً عشرة سنتيمترات، تضع فيه برتقال فينزل، أما البطيخ فلا ينزل، لأن الثقب عشرة سنتيمترات، لو كان قطره خمسة سنتيمترات، تضع جوزًا ينزل، أما البرتقال فلا ينزل، فكل واحد له مستوى في الاستقامة، الأنبياء يبدو أن القعر أصم مغلق، أما كل واحد يمكن أن يتساهل بكلمة، هذا يتساهل بنظرة، هبط مستواه، فكلما رفعت مستوى استقامتك كنت أقرب إلى الله عزَّ وجل، وكلما علا مقامك عند الله تحاسب نفسك أشد الحساب، سيدنا الصديق ماذا فعل مع إنسان اتهم ابنته بالزنا، السيدة عائشة؟ منع عنه المساعدات، فعاتبه الله فقال: 

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓاْ أُوْلِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22)﴾

[ سورة النور ]

 عاتبه الله، وبكى الصديق وقال: "بلى أحب أن يغفر الله لي" ماذا فعل؟ منع مساعدةً عن إنسانٍ اتهم ابنته ظلماً بالزنا، فكلما ارتقى مقامك عند الله تحاسب نفسك أدق الحساب، وقد وصف الله عزَّ وجل المؤمنين فقال: 

﴿  وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ(33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)﴾

[  سورة فصلت  ]

 دقق: كلما ارتقى إيمانك حاسبت نفسك أشد الحساب، حتى إنهم قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين. سيدنا إبراهيم ماذا فعل؟ قال لابنه: 

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يَٰبُنَىَّ إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ(102)﴾

[  سورة الصافات  ]

 أُمر أن يذبح ابنه، وقف الابن موقفًا لا يصدق ﴿سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ إن الله لم يكلف المؤمنين أن يذبحوا أبناءهم، فعلى كلٍ؛ قضية الاستقامة قضية دقيقة جداً، هذه ترقى حينما ترقى، وتسمو حينما تسمو. 

4 ـ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 

 ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ هؤلاء الذين آمنوا، والذين طلبوا المغفرة من الله عزَّ وجل، وطلبوا الوقاية من النار. 

﴿  ٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ (17)﴾

[ سورة آل عمران ]

5 ـ الصَّابِرِينَ 

 شأنهم الصبر في الدنيا، يصبرون على قضاء الله وقدره، ويصبرون عن الشهوة، ويصبرون على الطاعة، يعني طاعة، وشهوة ، وقضاء. 

6 ـ 7 ـ الصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ 

 ﴿وَٱلۡقَٰنِتِينَ﴾ المنقطعين لله عزَّ وجل، متفرغين له، هناك صيامٌ عن الطعام، والشراب، والنساء، هذا صيام العامَّة، وهناك صيامٌ عن المعاصي والآثام، وهذا صيام المؤمنين، وهناك صيامٌ عما سوى الله.

﴿  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

 أي ما سوى الله، هؤلاء ﴿ٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ﴾ الصادق؛ هناك صدق الأقوال، وصدق الأفعال، فصدق الأقوال أن تأتي أقوالك كما تعتقد، أنت صادق، أما صدق الأفعال فأن تأتي أفعالك كما تقول، تقول شيئاً، وتفعل شيئاً، فهذا كذب ونفاق، تعتقد شيئاً، وتقول شيئاً فهذا نفاق اعتقادي، أما الصدق القولي فأن تقول ما تعتقد، والفعلي أن تفعل ما تقول، هؤلاء صادقون، أعمالهم تأتي مصدقةٌ لأقوالهم ﴿وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ﴾ .

8 ـ الْمُنْفِقِينَ 

 ينفقون مما آتاهم الله، آتاهم مالاً ينفقون منه، آتاهم علماً ينفقون منه، آتاهم جاهاً ينفقون منه، آتاهم خبرةً ينفقون منها. 

9 ـ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ 

 ﴿وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ﴾ قال العلماء: وقت السَّحَر وقت الاستجابة، قال تعالى: 

﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّىٓ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ(98)﴾

[  سورة يوسف ]

 أيْ في الوقت المناسب، وقت السحر وقت قَبول المغفرة، لذلك ورد في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ. ))

[  البخاري ومسلم واللفظ له  ]

 نحن في هذا الوقت، وقت السحر، لنا دعوة مستجابة، وأنا والله أنصح كل إخواني: لك عند الله حاجة، تخاف من عدو، تخشى من مرضٍ عضال، عندك مشكلة في البيت، لك زوجة تنحرف عن سواء السبيل، لك أولادٌ ليسوا على ما تتمنى، صلِّ صلاة قيام الليل، واسأل الله عزَّ وجل في السجود أن يعطيك ما تسأله إيَّاه، هذا مما يقوي عقيدتك بالله.
﴿ٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ﴾ ثم يقول الله عزَّ وجل : 

﴿  شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (18)﴾

[ سورة آل عمران  ]


شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْط 


1 ـ الأسباب وحدها لا تخلق النتائج:

 الله عزَّ وجل هو وحده الفعال، كيف يشهد لنا أنه لا إله إلا هو؟ الفعل كله بيده، الله خلق أسباباً، وخلق نتائج، نحن لقصور فهمنا نظن أن الأسباب وحدها تخلق النتائج، لا، الأسباب تترافق مع النتائج، لكن الأسباب وحدها لا تكفي لخلق النتائج، العلماء قالوا: عندها لا بها.

2 ـ كيف يشهد الله أنه لا إله إلا هو؟

 كيف يشهد الله أنه لا إله إلا هو؟ يأتي إنسان، يأخذ بكل الأسباب، فيفشل، ويخفق، يأتي إنسان آخر من دون أسباب يحقق النتيجة، وأوضح مثل لذلك أنه إذا تزوج شابٌ صحيح الجسم بفتاةٍ صحيحة الجسم، لابد أن ينجبا، الأسباب كلها مُؤمَّنة، شاب صحيح الجسم، كل أجهزته سليمة، والشابة كذلك، تجد شابين صحيحين لا ينجبان، لأن الله عطَّل الأسباب، الأسباب موجودة، لكن الله عطَّلها، يشهد لنا أنه لا إله إلا هو، وقد تنجب السيدة مريم من دون زوج، ألغاها، ومِن خلال إلغاء الأسباب أو تعطيلها يشهد أنه لا إله إلا الله، لذلك قالوا: "عرفتُ الله من نقض العزائم"، قد يأخذ الإنسان بكل الأسباب ولا ينجح، وربما لا يأخذ بها وينجح.

وإذا العنـاية لاحظتك عيونُها    لا تخشَ مـــــــن بأسٍ فأنت تصـــــــــانُ

وبكلّ أرضٍ قد نزلت قفارها    نم فالمخــــــــــــــــاوف كلّهنَّ أمــــــــانُ

[ عمر اليافي ]

 طائرة في طريقها من جدة إلى باكستان، أصاب إحدى النوافذ خلل فانخلعت، الطائرة المضغوطة ثمانية أمثال، امرأةٌ باكستانية في حجرها طفلان صغيران، فخرجا من النافذة، بحكم قوة الضغط، ضغط الهواء داخل الطائرة، فوقعا في البحر، فمليون بالمئة أنهما ماتا، طفلان رضيعان صغيران، بعد خمسة أيام تأتيها رسالة من شركة الطيران أن تعالَي إلى دبي، فظنت أن تأتي لتأخذ التعويض، فإذا بها أمام ابنيها، ما الذي حدث؟ سقطا أمام صياد، فأنقذهما، ووضعهما في القارب، وأخذهما إلى أقرب مستشفى، ما معنى: لا إله إلا الله؟ وأنت بأعلى درجة من الغنى تفلس، وأنت فقير تغتني، وأنت قوي تضعف، أنت ضعيف تقوى، من إلغاء السبب أو تعطيله. 
﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ الله عزَّ وجل يشهد أنه لا إله إلا الله؛ عن طريق تعطيل الأسباب، أو إلغائها، أما المؤمن فيمشي في طريق، عن يمينه وادٍ سحيق، وعن شماله وادٍ سحيق، الوادي اليميني وادي الشرك، هناك من يأخذ بالأسباب، ويعتمد عليها، وينسى الله، وأحياناً يؤلِّهها كالأجانب، وهناك من لا يأخذ بها، فيعصي الله كأهل الشرق، في الشرق كله: سمِّ بالله وكل، لكن التفاحة غير نظيفة، ولم نغسلها، هناك توكل ساذج.

المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله


 المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، كما فعل النبي في الهجرة؛ اختار خبيرًا مشركًا، فغلَّب الخبرة على الولاء، وكلف إنسانًا يأتيه بالأخبار، وإنسانًا يمحو الآثار، وإنسانًا يأتيه بالطعام، وسار مساحلاً عكس الاتجاه المتوقع، واختبأ في غار ثور، أخذ بكل الأسباب، وكأنها كل شيء، فلما وصلوا إلى الغار توكل على الله، وكأنها ليست بشيء، هذا هو الإيمان، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، فالله يشهد لنا. 

﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)﴾

[  سورة البقرة ]

 تكون أمة قوية جداً تأخذ بكل الأسباب فتنهزم، والمؤمنون الصادقون وهم قلةٌ ضعاف ينتصرون، معنى ذلك أن الله شهد لنا أنه لا إله إلا هو، الأمر بيدي، أما الكفار فيؤلِّهون الأسباب، والمؤمنون المقصرون يلغون الأسباب، توكُّل ساذج، أما الكمال فأن تأخذ بها وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
 مثلاً: لو ترجمنا هذا الكلام إلى واقع، عندك مركبة، وعندك سفر، تُجري لها مراجعة تامة، الزيت، والوقود، والكهرباء، والتوصيلات، والأُطُر كلها كاملة، ثم تقول: يا رب احفظني، أنت الحافظ، يا رب سلمني، أنت المُسَلِّم، أخذ بالأسباب، وتوكل على الله. 
طالب يجتهد، ويقول: يا رب اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، تاجر يجتهد، ويقول: يا رب اجبر هذه البضاعة، المزارع يزرع حبةً في الأرض، ثم يتوكل على الله، هذه الترجمة. 

3 ـ أهل العلم ينبغي أن تكون فحوى دعوتهم إظهار كلام الله:

 ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ﴾ وهذه إشارة إلى أن أهل العلم ينبغي أن تكون فحوى دعوتهم إظهار كمال الله، أما أن يقول لك واحد: إن الله عزَّ وجل يفعل ما يشاء، نحن في ملكه، هذا كلام جيد، لكنه يأتي بمثل غير مقبول؛ نجار، وعنده لوحان من الخشب، جعل لوحًا بابًا لقصر، والثاني بابًا لمرحاض، ألك عنده شيء؟ إن الله ما قال هذا، بل قال: 

﴿  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

[  سورة الزلزلة  ]

 الله عزَّ وجل عنده عدل مطلق، وقد قال : 

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

 العشوائية لا تُقبل في أفعال الله، والعبثية لا تُقبل في أفعال الله، لذلك الإيمان الدقيق كما قال الله عزَّ وجل: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ﴾ قال الله عزَّ وجل: 

﴿  وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا(8)﴾

[  سورة الشمس  ]

 ليس معنى هذا أنه خلق فيها الفجور، معنى هذا أنه برمجها برمجةً، وجبلها جِبِلَّةً، وفطرها فطرةً، إذا فجرت تعلم أنها فجرت ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .

والحمد لله رب العالمين.


دعاء الختم:


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور