- ندوات إذاعية
- /
- ٠19ندوة العناية بالأسرة - إذاعة أبو ظبي
مقدمة :
المذيع :
إذاعة القرآن الكريم من أبو ظبي تقدم:
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾
لا يزال التصور الإسلامي يُهدي للإنسانية الرؤية الفكرية في إشكالياتٍ وقضايا تستجد على أجيال البشرية، ومنطق الفكر الإسلامي يمتلك العدل، والعدل قوة يسترسل في حسنه من الباطن إلى الظاهر، لتبقى القيم والمثل مطلباً حقيقياً لبناة الحياة، آفاق فكرية.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمداً يليق بجلاله وكماله، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الأبرار الأطهار، ومن تبعهم بإحسان، وسلك طريقهم إلى يوم الدين، ونستفتح بالذي هو خير، ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
يسعدنا سعادة إضافية أن نرحب بضيف هذه الحلقة، فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي الأستاذ المشارك المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الأستاذ.
الدكتور راتب :
بكم يا سيدي.
المذيع :
بارك الله بكم يا سيدي.
أيها المستمعون الأكارم؛ موضوع حلقة اليوم حول الأسرة المسلمة في الإسلام.
الأسرة في الإسلام لها مكانتها، ولها مزيتها، فهذه الأسرة المكونة من رجل وزوجة تقوم على المحبة والمودة، فالزواج في الإسلام سكن للنفس، وراحة للقلب، واستقرار للضمير، وتعايش بين الرجل والمرأة على المودة، والرحمة، والانسجام، والتعاون، والتناصح، والتسامح، وقد صور القرآن الكريم هذه العلاقة الفطرية الأبدية بين الرجل والمرأة تصويراً رقيقاً شائقاً، تشيع فيه أنداء السكينة والأمن والطمأنينة، ويفوح منه عبير المحبة والتفاهم والرحمة، قال تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
وفي البداية نود أن نتعرف من فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي عن محور ورقة العمل التي ألقيت في مؤتمر الأسرة الخليجية، ولاسيما أنتم مشاركون في هذا المؤتمر.
القرآن الكريم منهج الله و للأسرة فيه توجيهات وقائية وأدوية علاجية :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، أيها الأخ الكريم؛ جزاك الله خيراً.
ورقة العمل التي قدمتها في هذا المؤتمر والتي ألقيتها اليوم في الجلسة الثالثة محورها يقوم على أننا أمة شرفها الله بالإسلام، وأعزَّها به، ولهذه الأمة كتابٌ هو وحي السماء إلى الأرض، هو كلام الله، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، وفيه للأسرة توجيهات وقائية، وأدوية علاجية، وإذا صح أن يكون الإنسان أعقد آلة في الكون، فإنه يصح أيضاً أن تكون هذه التوجيهات القرآنية، وتلك الأدوية تعليمات الصانع لهذه الآلة، من قبل الجهة الصانعة، والجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها، ذلك أن الحق لابس خلق السموات والأرض، خلق السموات والأرض بالحق، والحق من خلال القرآن الكريم نقيض الباطل، قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾
أي ما خلقناهما إلا بالحق، والباطل هو الشيء الزائل.
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
فالحق هو نقيض الزائل، إذاً هو الشيء الثابت، والحق أيضاً في القرآن الكريم نقيض العبث.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾
إذاً هو الشيء الهادف، فتعريف الحق من خلال القرآن الكريم هو الشيء الثابت والشيء الهادف.
الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط؛ خط النقل الصحيح، القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، لأن القرآن الكريم قطعي الثبوت، بينما السنة ظنية الثبوت، فإذا قلنا النقل الصحيح أي القرآن الكريم وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تؤَّول هذه النصوص وفق علم الأصول لا تأويلاً مزاجياً، فهذا هو النقل.
وأما العقل الصريح فهو العقل البعيد عن التبرير، الإنسان أحياناً يقوده عقله، وفي حالات كثيرة يقود عقله إلى تبرير أخطائه، فإذا قلنا العقل الصريح هو العقل الذي لا تبرير فيه.
فلا بدَّ أن تتقاطع في هذه الدائرة خطوط كثيرة، أولها: خط النقل الصحيح، بما فيه من كتاب و سنة، والخط الثاني هو العقل الصريح الموضوعي البعيد عن التبرير، والخط الثالث هو خط الفطرة، والفطرة جبلة جبلنا عليها، من خلال الفطرة تكشف حقيقة الإنسان، ويكشفُ أخطاءَهُ، والخط الرابع هو خط الواقع الموضوعي، فالقرآن كلامه، والعقل مقياس أودعه الله فينا، والفطرة مقياس عاطفي أودع فينا أيضاً، والكون خلقه، ولابد من أن تتقاطع خطوط النقل، مع خطوط العقل، مع خطوط الفطرة، مع خطوط الواقع، تقاطع هذه الخطوط أي أننا في بؤرة الحق، وفي الحق الصُّراح، فالشيء الدقيق الأن هو أن العقل والنقل والفطرة والواقع، مادامت هذه العناصر من مصدر علوي واحد، لا يمكن أن تتعارض، وإذا تعارضت فيتعارض النقل الصحيح مع نظرية لم يَثبِت صحتها، أو يتعارض العلم الدقيق مع نص غير صحيح، أي مع نص صحيح أوّل تأويلاً غير صحيح، أما إذا تحرينا الحقيقة العلمية، وتحرينا صحة النقل فلابد من توافق النقل والعقل، وأكبر العلماء المسلمين ألّف كتاباً حول حتمية توافق النقل مع العقل.
هذا الكلام مهدّت به لأصل إلى أن القرآن والسنة منهج الله، وهو الخبير، قال تعالى:
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
موضوع الأسرة أخطر موضوع في الإسلام :
إذا أردنا أن نبحث نجد أن أخطر موضوع في الإسلام موضوع الأسرة، هذا الموضوع يشكل لبنة أساسية في المنهج الإلهي، فهل يعقل أن نبحث هذا الموضوع بعيداً عن الإسلام؟ أو بعيداً عن الكتاب والسنة؟ أو بعيداً عن كلام الخبير الصانع؟ وكما تعلمون يعد الإنسان أعقد آلة في الكون، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع هو الله عز وجل، وتعليمات الصانع هي التعليمات الوحيدة التي ينبغي أن تتبع، لأن الصانع هو الخبير، لو أن أحدنا اقتنى جهاز كومبيوتر وأصابه خلل، هل يعقل أن يتوجه إلى بائع الخضار - مع أنه يحترمه جداً ويحبه جداً- لإصلاح هذا الجهاز؟ لا يعقل، بل يأخذ الجهاز إلى الجهة الصانعة، إلى فرع الشركة الصانعة في مكان إقامته، فنحن في حياتنا الدنيا نريد الخبرة الدقيقة، نريد الخبرة العميقة، لذلك لماذا من أجل آلة نحرص على سلامتها وحسن مردودها نبحث عن الخبير ومن أجل حياةٍ أبديةٍ لا تنتهي لا نبحث عن الخبير؟ هل يعقل أن نستورد حلولاً من شعوب تائهة شاردة عن الله عز وجل؟ هل يعقل أن نعُدّ الانحراف والتحلل هو الأصل فنأخذ من هذه الشعوب حلاً لمشكلاتنا؟ ليس معقولاً إطلاقاً، بل لابد من أن نعود إلى منهج ربنا، لأنه ما من مشكلة على وجه الأرض إلا بسبب خروج عن منهج الله، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب جهل كبير، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، ويمكن أن نقول: إن أعدى أعداء الأمة هو الجهل، ومن هذا المنطلق كان انعقاد هذا المؤتمر المبارك، وأنا أشكر القائمين عليه، وأتمنى أن تتكرر هذه المؤتمرات، وأن تعمم في البلاد العربية والإسلامية.
المذيع :
أحسن الله إليك، وبارك الله فيك فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي، ونفهم من كلامك هذا أن الأسرة إذا عادت إلى الله تبارك وتعالى عودة صادقة، وأدركت الدور الذي من أجله خلقها الله تبارك وتعالى تسير في مأمن وفي طريق آمن، لعل سؤالاً نفهمه من خلال الأسرة: لماذا وجّه الإسلام عنايته لتربية الأبناء أو تربية الأطفال؟ الغاية من الزواج كما نفهم المحافظة على النوع الإنساني، وتأجج عاطفة الأبوة والأمومة، ولذلك الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن يكون التناسل والتكاثر من ذكر وأنثى، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
فما الحكمة من عناية الإسلام بتربية الأبناء والأطفال؟
الإنسان هو المخلوق الأول المكلف و المكرم :
الدكتور راتب :
إن شاء الله سآتي على هذا السؤال اللطيف والدقيق ولكن لابد من تنبيه ، الإنسان هو المخلوق الأول لقوله تعالى:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾
والإنسان هو المخلوق المكرم، لقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
والإنسان هو المخلوق المكلف لقوله تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
والعبادة في تعريفها الدقيق طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية.
المذيع :
كمال الحب مع كمال الخضوع.
الدكتور راتب :
نعم، أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، من خلال هذا التعريف يتضح أن في العبادة جانباً معرفياً، وجانباً سلوكياً، وجانباً جمالياً، الجانب السلوكي هو الأصل، ولن يكون إلا بعد المعرفة، والجانب السلوكي هو الأصل، ومن إفرازاته السعادة الأبدية، السلوك تسبقه معرفة تفضي إلى سعادة أبدية، الإنسان لأنه مخلوق مكرم كلفه الله بحمل الأمانة، ومن أدق تعريفات حمل الأمانة أنها نفسه التي بين جنبيه، لقوله تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
فأكبر أمانة تحملها أن تعرِّف نفسك بالله عز وجل - وأنا أخاطب المسلم المؤمن - وأن تحملها على طاعته، وأن تتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، إن فعل المسلم هكذا حقق الهدف من وجوده، لقوله تعالى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
الشهوة حيادية :
بقي أن هذا الإنسان أودعت فيه الشهوات، من أجل أن يرقى بها مرتين، مرةً صابراً، ومرةً شاكراً إلى ربِّ الأرض والسموات، هذه الشهوات حيادية، يمكن أن تفرغ في قنوات كثيرة، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، فنحن مثلاً في علاقة الرجل بالمرأة، المرأة محببةٌ إلى الرجل، قال تعالى:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾
فالشهوة محببةٌ إلى الإنسان، لكنها حيادية، يمكن أن تكون سلماً نرقى به، أو دركات نهوي بها، ولأن الإنسان مخير شهواته وحظوظه كلها حيادية، فعلاقة الرجل بالمرأة بحسب القناة النظيفة التي صممها الله لنا هي قناة الزواج، يمكن أن تُفَرَّغَ هذه الشهوة بقنوات كثيرة، ولكن القناة النظيفة التي صممها ربنا وجعلها منهجاً لنا هي قناة الزواج، فلذلك ينبغي أن تهتم المجتمعات الإسلامية بالزواج أبلغ الاهتمام، وينبغي أن تعنى بالأسرة أبلغ العناية، فما من منهج إصلاحي أو اجتماعي إلا ويقوم على أساس العناية بالأسرة.
المذيع :
هذه الأسرة التي أراد الله لها الوجود في هذا المجتمع لها رسالة، فمعلوم أن للأم رسالة، وللوالد رسالة، والحكمة من هذه الأسرة أو من وجود هذه الأسرة أن تتعايش مع هذه الرسالة، فليس المخلوق مهمته أن يأكل ويشرب ويلهو فقط، إنما هذه الأسرة لها رسالة، ونحن كرمنا الله تبارك وتعالى بهذا الدين الإسلام، الذي أعزّنا الله تبارك وتعالى به، فهل ورد في القرآن الكريم ما يؤكد هذه الثمرة التي هي من وراء هذا الزواج التي تسمى بالأبناء؟ أي لقد ورد الأطفال في القرآن الكريم، فهل لك أن تذكر لنا ذلك؟
العناية بالأطفال لأنهم غراس الحياة وقطوف الأمل :
الدكتور راتب :
أخي الكريم؛ الأطفال غراس الحياة، وقطوف الأمل، وقرة عين الإنسان، وزهور الأمة المتألقة والمتفتحة، هم الجيل الصاعد الذي تعلق عليه الأمة أملين كبيرين، وهما من أخص واجباتهم الحفاظ على مكاسب الأمة في شتى الميادين، وتحقيق مكاسب جديدة، أي تحقق الأمة العربية والإسلامية الرسالة التي شرفها الله بها، قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾
ولكن هذه الواجبات التي تلقيها الأمة على عاتق أجيالها، هذه الواجبات لن تتحقق إلا إذا بذلت الأمة لأبنائها كل عناية واهتمام، وكل غالٍ ورخيص، وكل نفسٍ ونفيس، ولعله من هذا المنطلق عقد هذا المؤتمر المبارك، ومن أجل أن تحمل الأمة أبناءها على الحفاظ على مكاسبها والنهوض بها، لا بد من أن تدفع الثمن مقدماً، وهذا الثمن عناية بالغة بالطفولة، وجّه الإسلام عنايته الفائقة إلى تربية الأطفال حتى يسعد بهم المجتمع، ويَسعدوا هم بالمجتمع، ولكن الشيء الذي يلفت النظر والذي لا يصدق من دقته وعمقه هو أن الإسلام لا يعتني بالطفل من يوم مولده فحسب، بل يرعاه فكرة، ويحضنه غيباً، ويخطط لمستقبله مسبقاً، ولم يزل أمنيةً هائمةً في ضمير الغيب، لأن الأسرة في الإسلام لها مكانتها وخطورتها، لهذا لابد للإسلام من أن يصحح أول لبنة من لبناتها وهي الطفل، يحضرني الآن أن امرأةً فرنسيةً تعمل في الفن في المسرح، سئلت مرةً عن شعورها وهي على خشبة المسرح، الشيء الذي لفت نظري أنها تكلمت بلسان الفطرة، قالت: شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور، إن الحب يجب أن يبقى بين الزوجين وفي غرف مغلقة.
هذه هي الفطرة، فلأن الفطرة تقتضي أن نتزوج، وأن ننجب، وهذه هي القناة النظيفة التي شرعت لنا من خلال علاقتنا بالمرأة، ومن خلال هذه العلاقة يتم إنجاب الأولاد، سيدنا عمر عملاق الإسلام سئل: ما حق الولد على أبيه؟ فأجاب إجابةً مذهلة، قال: أن يحسن انتقاء أمه -وهذا قبل الزواج- وأن يحسن اسمه، وأن يعلمه القرآن.
كيف لا والطفل هو العنصر الأول في بناء الأسرة، وهو الذي يسعد أهله أو يشقيهم، لو بلغ الإنسان أعلى منصباً في العالم، أو حصّل أكبر ثروة في العالم، أو وصل إلى أعلى درجةٍ علميةٍ في العالم، ولم يكن ابنه كما يتمنى فهو أشقى الناس.
المذيع :
لكن هذا يجرنا إلى سؤال كيفية النهوض بالأسرة فكرياً حتى توصل الأبناء إلى فكر صحيح؟
كيفية النهوض بالأسرة فكرياً :
الدكتور راتب :
الحقيقة التي لا ريب فيها أن المسلَّمات نبدأ بها دائماً، الأسرة هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، فإذا تماسكت تماسك المجتمع، وإذا تفتتْ تفتتَ المجتمع، أول شيء في هذا الموضوع هو أن بعض المفسرين جزاه الله خيراً أشار إلى حقيقةٍ مذهلة، قال: الأطفال هم المودة والرحمة من خلال قوله تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
لابد من وقفةٍ متأنيةٍ حول هذه الآية، يقول الله عز وجل:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾
ومن آياته الشمس والقمر، ومن آياته الليل والنهار، دققوا.
المذيع :
دلائل قدرته.
الدكتور راتب :
ومن آياته الدالة على عظمته. فكما أن الكون آيةٌ تدل على عظمته، وكما أن الشمس والقمر آيةٌ تدل على عظمته، وكما أن الليل والنهار آيةٌ تدل على عظمته، أيضاً من الآيات أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، السكنى هي أن الرجل يكمل نقصه بزوجته، عنده نقص عاطفي، وعنده تفوق فكري، وأن المرأة تكمل نقصها بزوجها، عندها نقص فكري، وعندها فيضان عاطفي، فجُعِلَ كل من الطرفين سكناً للآخر، من أجل أن يلتقيا، وأن يتحاببا، وأن يتعاونا، لِتسكنوا إليها، لو كانا متماثلين لما سكنا إلى بعضهما، وجعل بينكم مودة ورحمة، الشيء اللطيف في هذه الآية أن المودة شيء والرحمة شيء آخر، المودة هي السلوك النابع من شعور هو الحب، السلوك الابتسامة، الكلمة اللطيفة، الرفق، الهدية، الرحمة...نحن أحياناً لسبب قاهر يفتقر الزوج، أو يمرض، ولسبب آخر تمرض الزوجة، تنقطع المصلحة بينهما، فإذا انقطعت المصلحة بينهما، حلت الرحمة محل المودة، لذلك في الإسلام الزواج يؤسس ليبقى، بينما في العالم الغربي لمجرد أن تنقطع المصلحة بين الزوجين ينقطع هذا الزواج، أروع ما في الزواج الإسلامي أن الله بين الزوجين، بمعنى أن كل طرفٍ يخاف الله في الطرف الآخر، ويتقرب إلى الله بخدمة الطرف الآخر، فإذا كان الزواجٌ مبنياً على أن يكون الله بينهما، وأن كل طرف يسعى لخدمة الطرف الآخر، تقرباً إلى الله تعالى، ويخشى أن يظلم الطرف الآخر خوفاً من الله، فهذا الزواج وجد ليستمر، لذلك يوجد مئة حالة زواج في أمريكا، خمسة وستون بالمئة تنتهي إلى الطلاق، طبعاً هذا الإحصاء دقيق، إلا أن عند الباحثين الاجتماعيين إحصاء آخر، يأخذون مجموع سكان البلاد، ويأخذون مجموع حالات الطلاق، يقسمون مجموع حالات الطلاق على مجموع السكان، ويضربون بألف، الآن إحصاء آخر أن كل مئة حالة زواج خمسة وستون بالمئة تنتهي إلى الطلاق، في البلاد الإسلامية سابقاً قبل هذا التواصل الثقافي، والتواصل غير المقبول شرعاً أحياناً، كانت نسب الطلاق واحد بالألف، هذه علامة طيبة جداً لأن الحالة البنيوية للأسرة ثابتة ومتينة وأصلها ثابت، لذلك الطفل هو الثمرة التي ينبغي أن تكون، هو المودة والرحمة بين الزوجين.
المذيع :
هل الطفل هو الذي يديم المودة والرحمة بين الزوجين؟
الطفل هو الذي يديم المودة والرحمة بين الزوجين :
الدكتور راتب :
هذا ما قاله بعض المفسرين، الطفل هو الذي يقوي العلاقة بين الزوجين، طبعاً القرآن حمَّال أوجه، فإذا أخذنا معنى الطفولة بالمعنى الثاني، فالطفل هو ثمرة هذه العلاقة، وهو الذي يقويها ويمتنها، وأحد الأخوة الكرام في المؤتمر قال: كلما كثر الأطفال تمتنت علاقة الزوجين، فالزواج الذي ليس فيه أولاد فيه احتمال أن ينتهي إلى الطلاق، طفل واحد غير الطفلين، غير الثلاثة، غير الأربعة. هذا الذي قيل في المؤتمر.
المذيع :
كون الأسرة المسلمة تظل قائمة على الابتكار، والتدبر في كتاب الله تبارك وتعالى، أي إذا كانت الأسرة وفق الضوابط الشرعية، تقوم على أسس سليمة، مما لاشك ينشأ الأبناء على أطر سليمة، وضوابط شرعية، الأم لها دور، والأب له دور، كيف ترتقي الأم بأبنائها؟ لقد سمعنا الشاعر يقول:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
* * *
كيف تعد الأم في العصر الحاضر وهي تواجه التحديات؟ وكيف يعد الأب إعداداً جيداً، حتى يحس بثقل المسؤولية، وحتى يكون على مستوى المسؤولية؟ لأن الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع كله، هي نواة أو كما تفضلتم خلية.
دور الأم في الارتقاء بأبنائها :
الدكتور راتب :
الذي أراه أن الزواج إذا بني على منهج الله يقول تعالى:
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ﴾
إذا بني الزواج على طاعة الله، ووفق منهج الله، تولى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين، ولو افتقر إلى معظم مقومات نجاحه، أما إذا بني الزواج على معصية الله، ولو توافرت له كل أسباب النجاح، يتولى الشيطان التفريق بينهما هذه واحدة، أما الشيء الثاني فهو أنه لابد من حسن اختيار الزوجة، لابد من أن تكون من بيت علم، من بيت أخلاق، من بيت قيم، لها تربية عالية، تخشى الله، فيها حياء، تريد زوجاً مؤمناً يحفظ لها دينها، أما هذا التفلت وهذا الانحراف فهذا انعكاسه على الأسرة خطير، أما أولياء الفتيات أحياناً يأتيهم خاطب يرغبون بماله فيضحون بابنتهم، يقول عليه الصلاة والسلام:
((عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ،ثَلاثَ مَرَّاتٍ ))
قيل: زوِّج ابنتك للمؤمن، إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها.
مرة امرأة متعلمة علماً فقهياً خطبها خاطب، أراد هذا الخاطب أن يمتحنها، قال: إن في خلقي سوءاً فهل تتحملين؟ فقالت له: إن أسوأ خلقاً منك من حاجك إلى سوء الخلق.
المرأة الفقيهة التي تعرف أحكام دينها، هذه المرأة كالمجاهدة في سبيل الله، النبي عليه الصلاة والسلام جاءته امرأة تسأله، قال: " اعْلَمِي أَيَتُهَا المَرْأَة، وأَعْلِمِي مَنْ دُونَكِ مِنَ النِسَاء، أنَّ حُسْنَ تَبَعُلِ المَرْأَةِ زَوُجُهَا يَعْدِلُ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّه ".
أنا مؤمن بالتربية، لابد من أن نبدأ بتربية الصغار، ذكوراً وإناثاً، فإذا ربينا الفتاة، وغذيناها بالقيم الإسلامية الأصيلة، غذيناها بتاريخ الصحابيات الجليلات، هذه المرأة الصحابية الجليلة التي تقف أمام زوجها وتقول: يا فلان اتق الله نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام.
كم من امرأة الآن تحمل زوجها على أن يأكل مالاً حراماً؟ كم من امرأة تضغط على زوجها ليكسب كسباً غير مشروع ليحقق لها رغباتها على حساب دَيْنِهِ؟ هذا الشيء ثابت.
إذاً نحن يجب أن نبدأ بتربية الصغار، فإذا ربيناهم تربية إسلامية كانوا كباراً، فحينما تخطب امرأة صالحةً إن نَظَرْتَ إليها سَرَّتكَ، وإن غِبْتَ عنها حفظتك، وتطيعك إن أمرتها، ودود ولود ستِّيرة عزيزة، هذه الصفات التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام في المرأة، وهذه لابد من أن تبدأ بسلسلة مبكرة في التربية، فالإنسان كالوعاء ما يوضع فيه من فوهته العليا تأخذه من صنبوره الأسفل، كوعاء الماء، له فتحة في الأعلى وله صنبور في الأسفل، الذي تضعه في فتحته العليا تأخذه من صنبوره الأسفل، فإذا غذيت الفتيات والشباب تغذيةً غير إسلامية، كالإباحية، والتفلت، والحرية غير المنضبطة، غذيت على طلب الشهوة والإلحاح عليها ولم تعبأ لا بزوج ولا بأولاد، هذه لن تكون امرأة صالحة، الدنيا كلها متاع، وخيرُ متاعها المرأة الصالحة التي إذا- كما قلت قبل قليل- نَظَرْتَ إليها سرَّتْكَ، وإذا غِبْتَ عنها حفظتك، وإذا أمرتها أطاعتك.
المذيع :
لكن كيف نقي الأسرة المسلمة من التحديات في هذا العصر الذي وصل إلى القمر وإلى التقنية الحديثة في المجتمع؟ فأصبح العالم كله متواصلاً أشبه بقرية صغيرة، أو غرفة، فالأسرة المسلمة كيف تقي هذه التحديات التي تواجهها من كل جانب وبما يسمى الغزو الثقافي؟
كيفية حماية الأسرة المسلمة من التحديات التي تواجهها من كل جانب :
الدكتور راتب :
أنا في اعتقادي أن الحرب العسكرية انتهت في العالم، بقيت حرباً اقتصادية، وغزواً ثقافياً، لو تصورنا مدينة تشرب ماءً ملوثاً، والأمراض انتشرت فيها وتفاقمت، القائمون على هذه المدينة أمام خيارين، أن يرسلوا شبابهم ليدرسوا الطب، وأن يأتوا بالمستشفيات والأجهزة الطبية، وأجهزة التحليل والأدوية، أما كان عليهم أن يمنعوا التلوث وهذا شيء سهل جداً، الآن في أميركا يصاب كل عشر ثواني إنسان بالإيدز، والعدد المتوقع في عام ألفين سبعة وثلاثون مليون مصاب، ما سمعت في تاريخ هذا المرض جهة تقول: أوقفوا هذه الإباحيات، أو هذا الفساد، يبحثون عن مصل مضاد للإيدز، وينسون أن هذا المرض كما أنه مرض خطير يقف العالم كله أمام معالجته مكتوف اليدين، وينفق آلاف الملايين والمليارات، الوقاية منه سهلة جداً، يكفي أن تستقيم حتى تكون ناجياً من هذا المرض، فتأكيداً لكلامكم جزاكم الله خيراً بدل أن نستقدم النظريات، وأن نعالج بعض الأمراض الاجتماعية، يجب أن نوقف الغزو الثقافي، أن نصون أبناءنا من كل شيء يفسد أخلاقهم، فأنا أرى لابد من أن يوجه الإعلام توجيهاً سليماً، لابد من أن تضبط المناهج، والأخلاق، وإلا يدفع الآباء ثمناً باهظاً حينما يرون أولادهم قد انحرفوا، هذا الذي نظرتم به حقيقي.
المذيع :
بارك الله فيكم وجزاكم خيراً.
أيها المستمعون الأكارم؛ لا زلنا مع حضراتكم في برنامجكم الأسبوعي:" آفاق فكرية " نستقبل مساهماتكم واتصالاتكم على هواتف البرنامج [455561-8002999-4062277-4062233]ورقم فاكس البرنامج [455635] وأهلاً وسهلاً بكم في هذه الحلقة الطيبة.
فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي توصلنا إلى أن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأولى في المجتمع الإسلامي، نأتي إلى الأطفال في السنة القولية، والأطفال في السنة العملية، هذه الأسرة المسلمة ستنتج بإذن الله تبارك وتعالى فلذات الأكباد، فلو تفضلتم إلقاء الضوء على الأطفال في السنة القولية، والأطفال في السنة العملية.
الأطفال في السنة القولية :
الدكتور راتب :
إن شاء الله، ورد في الأدب المفرد للإمام البخاري حديث يلفت النظر يقول عليه الصلاة والسلام:
((أَوَلُ مَنْ يُمْسِكُ بِحَلَقِ الجَنَةِ أنَا فَإِذَا امْرَأَةٌ تُنَازِعَنِي تُرِيْدُ أَنْ تَدْخُلَ الجَنَةَ قَبْلِي قُلْتُ:مَنْ هَذِهِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هِيَ امْرَأَةٌ مَاتَ زَوْجُهُا وَلَهَا أَوْلاد فَأَبَتِ الزَوَاجَ مِنْ أَجْلِهِمُ))
أنا لا أقول إن الحكم الشرعي يمنع امرأة مات زوجها أن تتزوج، هذا موقف شخصي، يجب أن نفرق دائماً بين الحكم الشرعي الذي يسع الناس جميعاً، وبين الموقف الشخصي الذي يعطي عليه ربه أجراً كبيراً، إلا أنه يؤاخذ الذين لم يفعلوا، فالمرأة حينما تؤثر تربية أولادها على حظوظها من الحياة الدنيا هذه كالمجاهدة في سبيل الله، أريد أن أستنبط من هذا النص شيئين فقط؛ الشيء الأول: كم هو عمل عظيم عند الله أن تربي أولادك، والشيء الثاني: كم يحتاج الأولاد إلى تضحيات جسام؟! إلى أن تبذل لهم الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، على كلّ هذه القصة تشير إلى أن من الأشياء التي يجزي الله عليها أكبر الجزاء أن تربي أولادك، وفي الحديث الصحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَمَاتَ ابْنٌ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ خَلِيلِكَ شَيْئًا نُطَيِّبُ بِأَنْفُسِنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ قَالَ: صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ ))
والدعاميص هم الفراشات الجميلة، وهناك قول:
ولا ننسى أن القرآن الكريم جعل الأطفال بشرى.
﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾
وجعل الأطفال قرة عين.
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾
وجعل الأطفال زينة الحياة الدنيا.
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
المذيع :
لكن نود أن نتوقف عند هذا السؤال: هل فعلاً الأطفال يحملون الصفات الوراثية من الأب والأم إذا كانوا وفق أطر سليمة، أي الأم والأب فكرهما مستنير، فهذه الثمرة تحمل هذا الفكر، فإذا نمَّاهُ الإنسان يوماً بعد يوم أنتجنا مجتمعاً نظيفاً قائماً على الفكر المستنير، والفكر الصحيح، والفهم الصحيح؟
أقوى مرحلة في تربية الأولاد أن يكون الأب والأم مثلين كاملين لهما :
الدكتور راتب :
في الحقيقة الطفل في بداياته لابد من المتابعة، ففي البدايات يرى الطفل أمه وأباه مثلين كبيرين.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟ قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ ))
فيكفي أن يكون الأب والأم مثلين كاملين، هذه أول مرحلة، وأقوى مرحلة في تربية الأولاد، فالأب الذي يقول لابنه: قل لهذا الفلان الذي يطرق الباب ويسأل عني إنني لست في البيت، هذا كذب، المرأة التي تأخذ ابنتها لبيت الجيران وتقول لزوجها حينما يعود: لم أغادر البيت، هذه المرأة السيئة علمت ابنتها الكذب، وهذا الأب الذي يقول لابنه: قل لطارق الباب إني لست هنا، هذا علمه الكذب، يكفي أن تكون مستقيماً.
المذيع :
قالوا: النقش في الصغر كالنقش على الحجر.
الدكتور راتب :
والعلم في الكبر كالكتابة على الماء لا يتأثر. فأولاً لابد من أن يكون الأب والأم مثلين لأولادهما، فكل مولود يولد على الفطرة.
المذيع :
سمعنا من علماء النفس أن الطفل في الصغر ليس عنده القدرة على المحاكاة، ولكن يخزن ما يرى وما يسمع، لكن ليس عنده قدرة على التعبير، ونرى أثر ذلك في المستقبل، ومن هنا كانت التربية الأساسية للأبناء وفق الأسرة المسلمة، وهذا هو السر في قوله عز وجل:
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
الدكتور راتب :
أنا حينما ألمح في بعض البلاد الإسلامية أن يُعَلَّمَ الطلاب في سن مبكرة القرآن الكريم أفرح جداً.
المذيع :
أيها المستمعون الأكارم: مازلنا نتواصل مع برنامجنا الأسبوعي:" آفاق فكرية " نرحب باتصالاتكم واستفساراتكم حول موضوع الأسرة المسلمة في الإسلام، ومع مواجهة التحديات المستقبلية، كيف نقي هذه الأسرة المسلمة من هذه التحديات؟ ضيف هذه الحلقة هو فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي، أستاذ محاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، وهواتف البرنامج [455561-8002999-4062277-4062233]
وفاكس البرنامج [455635].
فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي وصل بنا الحديث عند الأطفال في السنة القولية، وبقي الأطفال في السنة العملية، فهل ورد في السنة العملية ما يدل على ذلك؟
فهم النبي للقرآن الكريم يتوضح أكثر ما يتوضح في سلوكه :
الدكتور راتب :
بادئ ذي بدء السنة هي أقوال النبي، وأفعاله، وإقراره، وصفاته، ويرى بعض العلماء أن فهم النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن الكريم يتوضح أكثر ما يتوضح في سلوكه، لأن السلوك لا يحتمل تأويلاً، فلذلك ورد في السنة العملية مواقف رائعة جداً للنبي الكريم تتعلق بتربية الأطفال.
مستمع:
السلام عليكم ورحمة الله، عندي سؤال كالآتي: أنا عندي ولد أريد أن أقول لابني ابْعِدْ عن فلان وفلان، فكيف أحمي ابني من حوالي ثلاثين أو خمسين قناة فضائية؟ كيف أحميه في زمن قل فيه الحماية والحصانة؟ كيف أشرح له ما هي رسالة المنزل والمدرسة؟ رسالة أخواننا الوعاظ في المساجد؟ ما هو الوعي الذي أقوله لابني لأحميه من حوالي خمسين أو ستين محطة سواء أنا رضيت أم لم أرض؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع :
بارك الله فيكم، وفي الحقيقة سؤال وجيه طيب من أخٍ فاضل يشارك معنا دائماً في هذه اللقاءات الطيبة، وهذه البرامج، كيف يقي ولده من المحطات الفضائية؟ يقول مثلاً: إذا كنت أقول لولدي: ابتعد عن فلان، فهل أقدر أن أقول له: ابتعد عن هذه المحطات وكيف أقيه من هذه المحطات؟
كيفية حماية الأطفال من المحطات الفضائية :
الدكتور راتب :
قرأت مقالة قبل أيام أعجبتني: أن إنساناً استقبل ضيفاً فوضعه في صدر البيت، وأصغى له إصغاءً بالغاً، وعرض هذا الضيف عليه المناظر الحسنة والقبيحة، تابع الإصغاء والأدب، وبدأ يصغي إليه ساعات وساعات، ثم اكتشف صاحب البيت فجأة أن هذا الضيف ذكي جداً، أقام علاقة حميمة فكرية وعاطفية ومزاجية مع أفراد أسرته واحداً واحداً، ثم اكتشف صاحب البيت فجأة أنه لم يبقَ له من أسرته إلا الجسم، وعليه أن يطعمهم فقط، وعليهم أن يأكلوا بصحبة هذا الضيف، وأن هؤلاء الأطفال عظموا شخصيات بعيدة عن منهجنا.
المذيع :
عفواً سنستقبل هذه المكالمة، ومن ثم نعاود الحديث.
مستمع :
السلام عليكم ورحمة الله، أريد أن أطرح على فضيلة الشيخ سؤالاً وهو يشابه السؤال الذي سأله الأخ من قبل، وهو أنه عنده طفل يخاف عليه ويريد أن يقيه من الخطر الخارجي، وأنا لم يأتني طفل، الآن أنا أريد أن أسمع نصائح لابني الذي لم يأتِ حتى الآن، وإن شاء الله تعالى سوف يرزقني الله إياه.
المذيع :
بارك الله فيك أخي الفاضل، الأخ السائل على أعتاب أن يرزق بمولود.
الدكتور راتب :
صاحب البيت اكتشف فجأة بالنسبة للسؤال الأول أن هذا الضيف الذكي أقام علاقة طيبة مزاجية عاطفية نفسية مع أفراد الأسرة واحداً واحداً، وأن هؤلاء الأفراد بدؤوا يعظمون شخصيات بعيدة عن تاريخنا وقيمنا ومبادئنا، وأن هؤلاء الأفراد تطبعوا بطباع الأنانية، واللامبالاة، والاستهتار بكل شيء مقدس، اكتشف صاحب البيت فجأة أنه ما لم يخرج هذا الضيف الوحش من بيته فلن يقر له قرار، ولن يبقَى له أولاد، الحقيقة القضية كبيرة جداً، فأنا أذكر قديماً كانت حدائق الحيوان الوحوش في أقفاص، والزوار طلقاء، الآن الوحوش طلقاء يقتحمون بيوتنا اقتحاماً، ويعرضون المفاسد التي يندى لها الجبين، ويعلمون أبناءَنا أشياء هم بعيدون عنها، وفي وقت مبكر جداً، فإذا ساحة نفس هؤلاء ليس فيها إلا الجنس، وبين الطفل وبين زواجه سنوات وسنوات، ماذا يفعل بهذه السنوات؟ أنا قلت لكم في بداية هذه الحلقة: لم يعد هناك حروب عسكرية بل حروب اقتصادية وثقافية، فإذا الوحوش طلقاء فماذا عن الزائرين؟ أن يدخلوا في سيارات مصفحة، فما لم يتابع الأب ابنه في الخامسة، ما لم يضبط هذه المحطات، ما لم يبرمجها، أنا كنت في أميركا لفت نظري أن هذه المحطات لا يمكن أن يراها الطفل لوجود رقم سري لكل محطة، فما لم يأخذ الرقم من أبيه لن يستطيع أن يرى المحطة، فلذلك إذا كان الأب هو من يراها فهذه مشكلة، لأن الأب هو القدوة، فهذه المحطات الفضائية مشكلة كبيرة جداً، بل هي مشكلة المشاكل، فهي اقتحمت بيوتنا وجعلتها نواد ليلية، فهي قضية خطيرة، اتسع الخرق على الراقع، خرق كبير، ورقعة صغيرة، أينما وضعتها تفلت الطرف الآخر.
المذيع :
وكما قال العلماء عن هذه الأجهزة وغيرها: سلاح ذو حدين، والخطأ يأتي من الإنسان بنفسه.
الدكتور راتب :
إذاً لابد من تحصين الصغار في وقت مبكر.
المذيع :
والنقطة الثانية أستاذ إذا سمحت أكثر الآباء ينتبهون لتفلت أبنائهم في سن متأخرة وبعد فوات الآوان، الشاب لا يربى، الطفل الصغير يربى.
عذراً نستقبل المكالمة ثم نتابع الحديث.
مستمعة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جزاكم الله خيراً على هذا البرنامج، ولن أطيل عليكم، عندي سؤال لا أدري إن كان من مضمون الحلقة أم لا ولكن أتمنى أن تجيبوني عليه، زوجي يطالب بالإنجاب، وعندي طفلان بنت وولد، وضعنا المالي متوسط، لا أقول معاملته سيئة، لكن عندما ولدت صدفت أن توفي والدي قبل الولادة بأسبوع، ونقلت من بيتي قبل الولادة بيوم، ولم أجد عوناً منه، أو حتى من أهله، فوجدت أن هذه هي أصعب الظروف وأقواها وأكثرها إيلاماً وأنا في غربة، ولم أجد إعانة، فبقيت أنقل بيتي، وأرتب أثاثه وحدي، وهو وأهله ينظرون إليّ بدون أدنى تفاعل، فماذا تقول في هذا يا سيدي؟ فهل هذا الزوج يستحق أن أنجب له أطفالاً؟ ومن يحمل عني أو معي إذا حصل لي مكروه؟ وشكراً.
المذيع :
بارك الله فيكِ، فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي بالنسبة لسؤال الأخ الثاني الذي سأل، يقول: أنا على أعتاب هذه الثمرات، كيف أقيها أيضاً؟ إذا كان الأخ الأول يقول: كيف أقي ولدي من هذه المحطات؟ وقد قلنا إن هذه الأجهزة سلاح ذو حدين، باستطاعتك أن تفتح على البرنامج الهادف الذي يعود على أسرتك بالنفع، وباستطاعتك أن تغلق هذا الشيء إغلاقاً، كما باستطاعتك أن تنبه أولادك إلى الخطر.
التربية المثلى هي الإقناع لا التلقين :
الدكتور راتب :
أنا سمعت ولا أدري مبلغ هذا من الصحة أن هناك برامج تقنن هذه المحطات، تقنن محطة تلغيها، وبرامج تقنن وقت إرسالها، فإذا استعنا بهذا البرنامج فهو حل جزئي، أما حينما أنا أهتم بابني في وقت مبكر، وآخذه معي إلى المسجد، وأعلمه القرآن، وأغذيه تغذية راقية، ذكرت قبل قليل أن الطفل كوعاء الماء، له فتحة علوية وصنبور سفلي، فإذا غذيته بالقيم والخلق وكنت أنا المثلَ الأعلى له، وكان هذا في وقت مبكر جداً، أي في سن الخامسة و الرابعة، ورد في الأثر: أن لاعب ولدك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً، ثم اترك حبله على غاربه، فإذا أحسنت تأديبه في السبع السنوات الأولى ثم تربيته ثم مصاحبته ومراقبته قطفت ثماره يانعة.
الآن هذه مشكلة عامة، فالوحوش طليقة، علينا أن نحصن أنفسنا وأولادنا بالعلم والمراقبة والبدائل كالكمبيوتر حيث يوجد فيه برامج رائعة جداً، وألعاب مسلية، أو ألعاب إسلامية، فأنا مؤمن بالبديل، فإذا منعت ابنك عن هذه المحطات الفضائية...
المذيع :
يمكن أن نقول: كل ممنوع مرغوب، ومن ثم علينا بالتحذيرات.
الدكتور راتب :
لابد من إقناعه، علموا ولا تعنفوا، التربية المثلى هي الإقناع لا التلقين، عليّ أن أقنعه، ألم يقل النبي الكريم:
(( أدِّبُوا أَوْلادَكُم عَلَى ثَلاثِ خصال: عَلَى حُبِ نَبِيِكُمُ، وَحُبِ آلِ بَيْتِهِ، وَتِلاوَةَ القُرْآنَ))
ما معنى حبّ آل بيته وحب النبي؟ أن أقرئه سيرة النبي، أما حينما أدعه - وأنا مشغول - لهذه المحطات يعظم من؟ يعظم هؤلاء الذين يسقطون في الوحول، يراهم كبراء، أشخاص عظماء، يقتدي بهم، وهذه مشكلة المشاكل، فالطفل يحتاج إلى وقت.
المذيع :
بالنسبة للأخت السائلة رأت السلبية بأم عينها، ترى الزوج سلبياً جداً معها، وأهله كذلك، وهي تقول: زوجي يريد أولاداً وهي لا تملك من أمرها شيئاً، فماذا نقول لهذا الزوج ولغيره؟
الصبر مفتاح الفرج :
الدكتور راتب :
والله أنا أقول لها: اصبري لعلك إن أنجبت منه أولاداً، وهؤلاء الأولاد ثمرة هذا اللقاء، وحينما ينجب الزوج والزوجة أولاداً ينبغي أن يضعوا حظوظهم تحت أقدمهم رعايةً لهؤلاء الأولاد، لعل الله يصلح هذا الزوج، كم من زوج كان سيئاً منحرفاً فظاً غليظاً بخيلاً تبدل تبدلاً جذرياً إذا عرف الله، فلو أن الزوجة حرصت على حض زوجها على الصلاة، وعلى ذكر الله، وتلاوة القرآن، وحضور مجالس العلم، فإذا تفتح قلبه للدين أصبح ملاكاً، وأنا مؤمن أن الإنسان حينما يصطلح مع الله تتبدل شخصيته مئة بالمئة، ويبدل الله سيئاته حسنات، والصبر مطلوب، امرأة فرعون زوجها أكبر كفار الأرض قالت:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
فهل وصل زوج الأخت المستمعة إلى مرتبة فرعون؟ لا، لكنه سيئ نوعاً ما، فلذلك لاب