وضع داكن
27-12-2025
Logo
الخطبة : 1078 - الإحباط3 ، ما جاء في السنة في إحباط العمل .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه، ومن تَبعه إلى يوم الدين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.

مقدمة عن مُحبطات الأعمال:


أيُّها الإخوة الأكارم: لازلنا في موضوع مُحبطات الأعمال، وقد بيِّنت في خُطبتين سابقتين أنَّ هناك أمراضاً لا تعدُّ ولا تُحصى تطرأ على الإنسان ويُشفى منها وينتهي الأمر، إلا أنَّ بعض الأمراض تُنهي حياة الإنسان، نُسمّي هذه الأمراض أمراضٌ وبيلة، نُسمّيها عُضال الداء، أمراضٌ خطيرة، أمراضٌ مُميتة، الموضوع نفسه نسحبه على الأعمال، هناك أعمالٌ تُقبَل لا تُقبَل، لكن هناك أعمالٌ تُلغي جهادك، تُلغي صلاتك، تُلغي صيامك، تُلغي حجَّك، تُلغي زكاتك، هناك أعمالٌ تستحق النار، هناك أعمالٌ تُخرجك من الإسلام.

الأعمال التي تُحبط العمل في ضوء السُنَّة الشريفة:


1 ـ التألّي على الله:

تحدَّثنا في الخُطبة السابقة عن الأعمال في ضوء القرآن الكريم التي تُحبِط العمل، واليوم نتحدَّث عن الأعمال في ضوء السُنَّة التي تُحبِط العمل.
أيُّها الإخوة: من هذه الأعمال التألي على الله، أن تنصِب نفسك وصيَّاً على المسلمين، وأن تحكُم عليهم بالكفر تارةً والشرك تارةً، وأن تؤكِّد نجاة بعضهم، وأنَّ هؤلاء ضالون، مُضلون، مشركون، فاسدون، بشكلٍ مزاجيٍ من دون دليل، وكأنك وصيٌّ عليهم، وكأنَّ الله لك وحدك، وكأنَّ فهمك للدين خطٌّ فمن زاح عنه قيد أُنمُلة خرج عندك من الدين! هذا الموقف المُتعجّرِف، المُتغطّرِس، المُتكبِّر، المُتألي على الله يُحبِط العمل. 

من وزَّع ألقاب الكفر و الضلال إنسان غير متأدِّب مع الله تعالى:


أيُّها الإخوة:

(( أنَّ رَجُلًا قالَ: واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وإنَّ اللَّهَ تَعالَى قالَ: مَن ذا الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ))

[ صحيح مسلم  ]

يقول لك: عندي هذا العمل شِرك، من أنت؟ من أنت؟

يقولون هذا عندنا غيرُ جائزٍ           ومَن أنتم حتى يكونَ لكم عندُ؟

[ ابن دقيق العيد المالكي ]

هو محور العالم، هو الوصيُّ على المسلمين، هو الذي يوزِّع ألقاب الكُفر والشِرك والضلال، أمّا هو يتوهم نفسه في أحسن حال، هذا موقفٌ غير متأدِّب مع الله، طبعاً هناك دليلٌ قويٌ جداً، أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام دخل على أحد أصحابه أبي السائب وقد توفاه الله، وقد سمع امرأةً من وراء السِتر تقول: 

(( طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ في السُّكْنَى، حِينَ اقْتَرَعَتِ الأنْصَارُ علَى سُكْنَى المُهَاجِرِينَ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ في أثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتي عَلَيْكَ لقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ، قالَ: وما يُدْرِيكِ؟ قُلتُ: لا أدْرِي واللَّهِ، قالَ: أمَّا هو فقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، إنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، واللَّهِ ما أدْرِي وأَنَا رَسولُ اللَّهِ ما يُفْعَلُ بي ولَا بكُمْ، قالَتْ أُمُّ العَلَاءِ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّي أحَدًا بَعْدَهُ، قالَتْ: ورَأَيْتُ لِعُثْمَانَ في النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: ذَاكِ عَمَلُهُ يَجْرِي له.  ))

[ صحيح البخاري  ]

قطعاً لو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام سكت لكان كلامها صحيحاً، ولكان التألّي مُباحاً، (واللَّهِ ما أدْرِي وأَنَا رَسولُ اللَّهِ ما يُفْعَلُ بي ولَا بكُمْ) على وجه اليقين، أمّا على وجه الرجاء نحن جميعاً نرجو رحمة الله.

التألّي على الله غطرسة وكِبر واستعلاء:


قُل أرجو رحمة الله، أرجو أن يقبلني الله، أرجو أن أكون على صواب، أرجو أن يكون عملي مُتقبَّلاً، أرجو أن تكون صلاتي مُتقبَّلة، أرجو أن يكون صيامي مُتقبَّلاً، أرجو أن يكون حجّي مُتقبَّلاً، أرجو أن يكون اجتهادي صحيحاً، قُل أرجو وتأدَّب مع الله، أمّا الأحكام القطعية المستقبلية، فلان كافر.

(( أيُّما رجلٍ مسلمٍ أَكْفَرَ رجلًا مسلمًا فإن كان كافرًا وإلا كان هو الكافرَ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داوود ]

(( أَيُّما رَجُلٍ قالَ لأخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما ))

[ صحيح البخاري ]

التألّي على الله غطرسة، كِبر، استعلاء، توهُّم أنك وحدك على حقّ، الإسلام تيارٌ عريض، كل أطياف المسلمين على العين والرأس مادامت عقيدتهم سليمة، وماداموا ملتزمين بمنهج الله، كلهم على العين والرأس، والخلافات بينهم هذه نعذرهم بها، نتعاون فيما اتفقنا ويعذُر بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا، إذا كان هناك وِدٌّ بالغ نتعاون فيما اتفقنا وينصح بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا، هذا الموقف الأديب وقفه النبي الكريم، قال: (واللَّهِ ما أدْرِي وأَنَا رَسولُ اللَّهِ ما يُفْعَلُ بي ولَا بكُمْ) .
أحد التابعين التقى بأربعين صحابياً فقال: ما منهم واحدٌ إلا ويظنُّ نفسه منافقاً من شِدَّة خوفه من الله، من شِدَّة قلقه، من شِدَّة تواضعه.
سيدنا عُمر أحد المُبشَّرين بالجنَّة، جاء إلى حُذيفة بن اليمان وهو أمين سرِّ رسول الله قال له: "يا حُذيفة بربِّك اسمي مع المنافقين؟" الآن تجد مليون مخالفة، مليون تجاوز، مليون تقصير، ويقول: نحن على حقّ، تروَّى قليلاً! تأدَّب مع الله، قُل يا ربّ أرجو أن أكون على حقّ، أرجو أن أكون على صواب، أرجو أن أكون على بيِّنة، يا ربّ تقبَّل عملي. 

الإسلام تيار عريض يجمع جميع المسلمين:


أيُّها الإخوة الكرام:

(( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ ))

[   صحيح مسلم  ]

(( لو لم تُذنبوا لخشيتُ عليكم ما هو أكبرُ منه: العُجبُ ))

[ أخرجه ابن حبان ]

العُجب أن تُعجَب بنفسك، الله لك وحدك، أنت وحدك على حقّ، هذا الذي يتوهَّم أنه وحده على حقّ، يتوهَّم أنَّ الإسلام خطٌ رفيع وهذا الذي أمامه خرج ميليمتر عن هذا الخط فخرج من الدين، لا الإسلام تيارٌ عريض يجمع جميع المسلمين، لكن على اختلاف أطيافهم عقيدتهم جميعاً سليمة، أمّا في التفاصيل، في الاجتهادات، في الرؤى، في طُرق الدعوة يختلفون، هذا اختلاف غِنى لا اختلاف تضاد.
أيُّها الإخوة: السيدة عائشة زوجة رسول الله وحبيبته، قالت عن أختها صفية: إنها قصيرة

(( قلتُ للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حسبُكَ من صفيةَ كذا وكذا، قالَ غيرُ مسددٍ تعني قصيرةً فقال: لقد قلتِ كلِمةً لو مُزِجَت بماءِ البحرِ لمزجتْهُ، قالت: وحَكيتُ له إنسانًا فقال: ما أحبُّ أني حَكيتُ إنسانًا وأنَّ لي كذا وكذَا ))

[  أخرجه الترمذي وأبو داوود وأحمد ]

المجالس الآن يُشرِّحون بعضهم بعضاً، يتَّهمون بعضهم بعضاً، مجالس النساء كلها غيبةٌ ونميمة، ويتوهمون أنهم مؤمنون، صادقون، مسلمون، متفوقون أيضاً.

(( إنَّ الرجلَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفً ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد ]

((  إنَّ قَذْفَ المُحصَنَةِ يَهدِمُ عملَ مائةِ سنةٍ ))

[ أخرجه الطبراني والبزار والحاكم ]

أبلغ من ذلك أحتاج إلى مَن يُصوِّر طبعاً، إن سُئلت عن فُلانة أنت ما تكلمت ولا بكلمة لكنك هززت قميصك، تكفي هذه فُهم كل شيء أنها غير مستقيمة، إنسانٌ خطب فتاةً وأبلغ صديقه أنه خطب هذه الفتاة، صديقه ما تكلم ولا بكلمة ولا بحرف إلا أنه هزَّ قميصه، فطلَّقها في اليوم التالي، لمّا عرف صديقه أنه طلَّقها، قال: والله ما قصدت شيئاً أبداً من باب الدُعابة فقط، هناك أشياء لا مُزاح فيها أبداً.

2 ـ المن و الأذى:

أيُّها الإخوة الكرام: التألّي على الله أحد مُحبِطات الأعمال.
المُحبِط الثاني المنُّ والأذى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)﴾

[ سورة البقرة ]


المنّ بالمعروف يُبطِل الشكر ويمحو الأجر:


أنفقت على إنسان جزاك الله خيراً، أكرمته، علَّمته، كلما رأيته قلت له: لحم كتفك من خيري، كلما رأيته تقول له: كيف العمل أنا الذي أمَّنته لك؟ إن شاء الله مرتاح، وأمام الناس، هذا نوعٌ من أنواع المنّ، هذا الذي يعمل الأعمال الصالحة، ولا يرجو بها ربّه، يرجو بها سُمعته وأن يمدحه الناس، إن عمل عملاً يملأ الدنيا صَخباً وضجيجاً بهذا العمل، ويمنُّ على من أعطاهم، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( إيّاكم والمنّ بالمعروف فإنه يُبطِل الشكر ويمحو الأجر ))

[ تفسير القرطبي ]

وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا يدخلُ الجنةَ عاقّ، و لا منَّانٌ، و لا مُدمنُ خمرٍ، و لا ولدُ زنيةٍ ))

[ أخرجه النسائي وأحمد ]

كلما رأى فلاناً يقوله له: كيف البيت هل مرتاحٌ فيه؟ الله أكرمنا وأمَّناه لك.
إخوانَّا الكرام: بعض العلماء سمِع رجُلاً يقول لآخر: أحسنت إليك وفعلت وفعلت، فقال هذا العالم لهذا المنَّان: اسكت فلا خير في المعروف إذا أُحصي.
قال بعض الأُدباء: "رقصت الفضيلة تيــهاً بفضلها فانكشفت عورتها" .
إن عملت عملاً صالحاً يجب أن تنساه أنت كُليَّاً، وإن فعل معك أحدٌ معروفاً صالحاً يجب ألّا تنساه مدى العمر، لو قلت لفلان لا أنسى فضلك منتهى الأدب، منتهى الوفاء.

لا تَـحـمِلَّـنَّ لِـمَــــن يَـمَـنُّ          مِـنَ الأَنـامِ عَلَيـكَ مِـنَّــه

وَاِخـتَـر لِنَفـسِكَ حَـظَّـهــا          وَاِصبِر فَإِنَّ الصَبرَ جُنَّه

مِنَنُ الرِجالِ عَلى القُلوبِ          أَشَــدُّ مِـن وَقـعِ الأَسِنَّــه

[ الإمام الشافعي ]

وقال بعض العلماء القرطبي: "المنُّ يقع غالباً من البخيل إذا أعطى، والبخيل تُعظِّم نفسه العطية وإن كانت حقيرة، والمُعجَب بنفسه يرى عمله عظيماً فيمُنُّ به" .

3 ـ الرياء:

أيُّها الإخوة: المُحبِط الثالث هو الرياء: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)﴾

[ سورة البقرة  ]


التفلُّت الذي شاع بين الناس في هذا العصر هناك من يُفتَن به:


أيُّها الإخوة:

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)﴾

[  سورة البقرة ]

أحياناً يأتي الشيطان عن يمين الإنسان.

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)  ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾

[ سورة الأعراف ]

من أمامهم، هذه الحياة تطورت، المرأة نصف المجتمع، الحضارة تقتضي أن تُظهِر مفاتنها، أن يستمتع الناس بها جميعاً، هي حينما تستُر مفاتنها تكون أنانية مثلاً، الاختلاط، هذا التفلُّت الذي شاع بين الناس في هذا العصر هناك مَن يُفتَن به (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) نُعظِّم الفراعنة، نُعظِّم الآراميين، نُعظِّم ما قبل التاريخ وننتمي إليهم ولا ننتمي إلى هذا الدين العظيم.

من علامات المُرائي أنه يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان مع الناس:


(وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) من باب الدين، ترك العمل من أجل الناس رياءً، لا يُصلّي أمام الناس لئلّا يظنونه مُتمسِّكاً بدينه، يقول: هذه الصلاة تُعد مُراءاة، دخل الوقت الآخر تستحي أن تُصلّي! ترك العمل من أجل الناس رياءً، والعمل من أجل الناس شِرك، ترك العمل رياءً والعمل شِرك، إن صلّيت وأنت لا تُصلّي بالأصل في مكانٍ الصلاة مقدسة فيه، ولك مصلحةٌ مع صاحب هذا المكان فتقوم وتُصلّي، صلاتك أمام هذا الإنسان الذي يُعظِّم الصلاة من أجل أن تكون معه في العمل، هذا اسمه شِرك، أمّا ألّا تفعل عملاً صالحاً لئلّا تُتَّهم بالرياء فهذا هو الرياء بعينه، ترك العمل رياءً وفعله شرك.
أيُّها الإخوة: من علامات المُرائي أنه يكسَل إذا كان وحده وينشَط إذا كان مع الناس، يزيد عمله إذا أُثنيَ عليه وينقُص إذا ذمَّه الناس.

4 ـ العُجب:

أيُّها الإخوة: المُحبِط الرابع العُجب، يُعجَب بعمله، شهود العمل شرك، يُعجَب بذكاءه، يُعجَب بشهاداته، يُعجَب بأُسرته، يُعجَب بأولاده، أينما جلس يمدح أولاده، إذا كان في الحاضرين أُناسٌ أولادهم وسط يكسر قلبهم بهذا، يأتي إنسان يشكو له زوجته، يقول له: أنا عندي زوجة درجة أولى ممتازة الله يرضى عليها، هذه الكلام ما فائدته؟ إلا من أجل أن تستعلي عليه.

التوحيد أصل الدين:


لذلك العُجب مرض، أحد العلماء الكبار دخل على إخوانه وكانوا فوق العشرة آلاف بكى وقال: "يا ربّ لا تحجبني عنك بهم ولا تحجبهم عنك بي" التوحيد هو أصل الدين.

(( من كان يعبدُ محمدًا فإنَّهُ قد ماتَ، ومن كان يعبدُ الذي في السماءِ فإنَّهُ حيٌّ لا يموتُ ))

[ أخرجه البخاري وابن قدامة ]

الرسالة مستمرة، منهج النبي عليه الصلاة والسلام مستمر، تعليمات النبي بيننا.

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[ سورة الأنفال ]

سُنَّته بيننا مُدوّنة، مُثبَّتة، مُصحَّحة، القرآن الذي نزل عليه بيننا (من كان يعبدُ محمدًا فإنَّهُ قد ماتَ، ومن كان يعبدُ الذي في السماءِ فإنَّهُ حيٌّ لا يموتُ) .
سيدنا عُمر يخطُب، جاءه خاطر أنه ليس بينه وبين الله أحد، هو أمير المؤمنين قمة المجتمع الإسلامي، قمته، هو أقرب شخصٍ إلى الله لأنه أمير المؤمنين، قطع الخُطبة وقال: كنت عُميراً ترعى غنماً لبني مخزوم على قراريط، كنت راعياً، فسأله أحد الصحابة لِمَ قلت هذا؟ ما علاقة هذا الكلام بموضوع الخُطبة؟ قال: جاءتني نفسي وأنا أخطُب وقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد، أردت أن أُعرِّفها قدّرها، كنت أرعى غنماً لبني مخزوم على قراريط.
بعضهم قال يُحاسِب نفسه "متى أعِظ ولا أتَّعِظ؟ متى أزجُر ولا أنزجِر؟ متى أدل على الطريق وأبقى مُقيماً مع الحائرين؟ إن هذا لهوَ البلاء المُبين، اللهم رغّبني بما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفَّلت لي به"

من استكبر بطاعته لله عزَّ وجل حَبِط عمله:


(( إنَّ العُجبَ ليُحبطُ عمَلَ سبعينَ سنةً ))

[ أخرجه الديلمي ]

والله أيُّها الإخوة: هذا المرض بالذات أحياناً تجده واسع الانتشار بين المؤمنين، كل شخصٍ مُعتزٌّ بفهمه للدين ويحتقر من حوله، يطرح سؤالاً، الحاضر يُجيب بحسب علمه واجتهاده، فيقول له: ليس هذا هو المعنى، ما المعنى؟ يقول: فوق مستواك، كِبر! لذلك قال بعض العارفين ابن عطاء الله السكندري: "رُبّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً" .
أحياناً الإنسان يستكبِر بطاعته لله عزَّ وجل فيُحجَب عن الله، قال عليه الصلاة والسلام:

(( شِرار أمتي المُعجَب بدينه، المُرائي بعمله، المُخاصم بحجته ))

[ أبو الشيخ عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن جده   ]

مُعجَب بدينه، يُرائي بعمله، يُخاصم بحجته.

5 ـ الجُرأة على المعاصي في الخلوات:

المُحبِط الخامس: الجُرأة على المعاصي في الخلوات، بالظاهر ضابط أموره تماماً، أمّا في البيت وحده لا يوجد أحد يقترف بعض المُحرَّمات، لذلك: 

(( خشيةُ اللهِ رأسُ كلِّ حكمةٍ، والوَرَعُ سَيِّدُ العملِ، ومَن لم يكن له وَرَعٌ يَحْجِزُهُ عن معصيةِ اللهِ عز وجل إذا خَلَا بها، لم يَعْبَإِ اللهُ بسائِرِ عملِهِ شيئًا ))

[ الألباني السلسلة الضعيفة ]

(( لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ عزَّ وجلَّ هباءً منثورًا، قال ثوبانُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا أن لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ، قال: أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها ))

[  أخرجه ابن ماجه ]

الجُرأة على المعصية في الخلوة يُحبِط العمل.

6 ـ ظلم الناس والاعتداء عليهم قولاً وعملاً:

المُحبِط السادس: ظُلم الناس والاعتداء عليهم قولاً وعملاً، أنواع الظلم ظُلم الأعراض، لا تأخُذ ماله ولا تضربه ولكن تعتدي على سُمعته، يعني شابٌ مؤمنٌ التحق بجامعٍ وهو مُعجبٌ بشيخه، فيقول له أحدهم: شيخك كذاب، دجَّال، هكذا من دون دليل ولكن أريح له، يُعطيه تهمة الكذب والدجَل، لم يحضُر درساً له ولا سمِع منه ولا يعرف شيئاً عنه، فقط من أجل أن يتوازن، يقول: لا يوجد أحد جيد! هذا عدوانٌ على العِرض.
يقول عليه الصلاة والسلام:

(( مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه))

[ صحيح البخاري ]


المفلس يوم القيامة إنسان أُحبط عمله وضيّع صلاته وصيامه وحجه وزكاته:


العدوان على العِرض أي السُمعة، كلمة عِرض نظنّ أنها النساء، لا، العِرض في الإنسان موطن المدح والذم فيه، هذا عِرضه، لا تعرفه ولم تلتقِ به، تتهمه اتهاماً مُتعجِّلاً مُتسرِّعاً من دون دليل.
لذلك الحديث المشهور النبي عليه الصلاة والسلام سأل:

(( أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ ))

[  صحيح مسلم ]

الذي يشتُم، ويعترِض، ويوبِّخ، ويهمُز، ويلمُز، هذا مفلسٌ يوم القيامة، أحبط عمله وضيَّع صلاته وصيامه وحجه وزكاته، هذا ظُلم الأعراض.
قال أحدهم لآخر: لقد اغتبتني، الغيبة ظُلم العِرض، فقال له: ومن أنت حتى أغتابك؟ لو كنت مُغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي لأنهم أَولى بحسناتي منك، هو موقنٌ أنك إذا اغتبت إنساناً نُقلت حسنات الذي اغتاب إلى الذي اغتابه الإنسان. 

ظلم الأعراض و ظلم الأموال:


لذلك الغيبة والنميمة ظُلم الأعراض جمع عِرض، أمّا ظُلم الأموال:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾

[ سورة النساء ]

وقال بعض السلف:" ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةٍ بعد الإسلام" .
أيُّها الإخوة: يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ثلاثةٌ أنا خَصمُهم يومَ القيامةِ ومن كنتُ خصمَه خصمتُه يومَ القيامةِ  رجُلٌ أعطى بي ثُمَّ غدرَ، ورجُلٌ باعَ حُرًّا فأَكلَ ثمنَه، ورجُلٌ استأجرَ أجيرًا، فاستوفى منهُ ولم يوفِه أجرَهُ ))

[  أخرجه البخاري  ]

هذا ظلم الأموال.

7 ـ الركون إلى الظلمة:

بقي الشيء المُحبِط الركون إلى الظَلَمة:

(( خرَجَ إلينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ونحن تسعةٌ، خمسةٌ وأربعةٌ، أحدُ العددَيْنِ مِن العربِ، والآخرُ مِن العَجَمِ، فقال: اسمعوا هل سَمِعْتُم؟ أنه ستكون بعدي أمراءٌ مَن دخَلَ عليهم فصدَّقَهم بكَذِبِهم، وأعانَهم على ظلمِهم فليس منِّي و لستُ منه، و ليس يَرِدُ علىَّ الحوضَ، و مَن لم يَدْخُلْ عليهم، و لم يُصَدِّقْهم بكَذِبِهم، و لم يُعِنْهم على ظلمِهم فهو منِّي و أنا منه، و سيَرِدُ علىَّ الحوضَ ))

[  أخرجه النسائي ]

8 ـ الحَسَد:

آخر مُحبِط الحَسَد، الحَسَد يُحبِط العمل ولكن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( لا حسدَ إلا على اثنتينِ رجلٌ آتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُ منه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ ))

[  أخرجه البخاري ومسلم ]

الحسد هُنا الغِبطة.

9 ـ الغيبة:

والمُحبِط الأخير هو الغيبة، ذكرك أخاك بما يكره، والغيبة والنميمة من الكبائر. 

ثناء الناس على الإنسان بما هو فيه لا يُحبِط عمله:


أيُّها الإخوة: هذا الموضوع لا يقل أهميةً عن الموضوع السابق المُتعلق بالمُحبِطات من القرآن الكريم، واليوم المُحبِطات من سُنَّة النبي عليه أتمُّ الصلاة والتسليم، لكن هناك ملاحظة وهي أنَّ الناس إذا أثنوا عليك لاستقامةٍ عندك، ولورعٍ، ولتواضع، ولعِلمٍ، هذا الثناء لا يُحبِط العمل، وإذا فرحت به فلا شيء عليك، الإنسان يُحب أن يكون مستقيماً، أن يكون محموداً عند الناس، ثناء الناس عليك بما أنت فيه لا يُحبِط العمل، لئلّا يتوهَّم مُتوهمٌ أنك إذا استقمت استقامةً رائعة، وعملت عملاً طيِّباً، وفرح الناس بكَ وأثنوا عليك، هذا لا علاقة له بالإحباط إطلاقاً، والحمد لله ربِّ العالمين

* * *

الخــطــبـة الثانية :

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من عدَّ كلامه من عمله فقد نجا:


أيُّها الإخوة الكرام: مُعظم الناس يتوهمون أنَّ الكبائر كالزِنا، والخمر، والقتل، والسرقة، ويغيب عنهم أن كبائر اللسان لا تقلُّ عن هذه الكبائر، لأنه بكلمةٍ قد يُطلِّق المرء زوجته، وبكلمةٍ قد تُنهى شركة، وبكلمةٍ قد تَفسُد علاقة، وبكلمةٍ قد تَفسُد خِطبة، كلماتٌ قليلة (إنَّ الرجلَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا) معنى ذلك أنَّ الكلمة عمل، لذلك قال بعض العلماء: "من عدَّ كلامه من عمله نجا".

(( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه، ولا يدخلُ رجلٌ الجنةَ لا يأمَنُ جارُه بوائقَه))

[  أخرجه أحمد  ]

من صفات المؤمن ضبط اللسان.
يوزِّع التُهم، يوزِّع تُهَم الكفر والشرك والبُعد عن الله، والخطأ والصواب، وهو مرتاحٌ ما معه أدلة، يُفسِد على الناس دعوتهم إلى الله، يُفسِد على الناس من كانوا عند عالمٍ جليلٍ يستفيدون منه، بكلمةٍ بلا معنى، بلا دليل، بلا إثبات تُفسِد العلاقات، يجب أن نُعدَّ كلامنا من أعمالنا حتى يرحمنا الله عزَّ وجل، وحتى يتقبَّل عملنا. 

الدعاء:


اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحقِّ ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربَّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، اكرمنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضنا وارضَ عنّا.
اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تُبلغنا بها جنَّتك، ومن اليقين ما تُهوُّن به علينا مصائب الدنيا، ومَتِّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصُرنا على مَن عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مَبلَغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا ربّ العالمين.  
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

الملف مدقق

والحمد لله ربِّ العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور