- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون:
(( عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))
(( عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الأَسَدِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ, فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ, وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلاثًا، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، والإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ))
هذان الحديثان علامَ يدلان؟.
على كلمة واحدة: البر، الفطرة.
أيها الإنسان فُطِرت فطرة عالية، بحيث لو فعلت شيئاً سيئاً, شعرت بالضيق، ترددت، حاك هذا في صدرك، كرهت أن يطّلع عليه الناس، من دون علم ومعلومات، من دون تدريس وتوجيه، من دون قراءة, من دون خطابة، الله سبحانه وتعالى تفضّل على الإنسان ففطره فطرة عالية، بحيث إذا أساء, عذبته فطرته.
أن الفتوى وحدها من دون أن تطمئن وترتاح لها, لا تنجيك من عذاب الله، وأكبر دليل:
(( عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا يَقُولُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِقَوْلِهِ, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا ))
إذاً: هل من فتوى أعظم من أن يفتي النبي عليه الصلاة والسلام, وهو المعصوم, وهو المشرّع, وهو سيد الخلق؟.
لو انتزعت من فم النبي فتوى ولست محقاً، وحاك في صدرك، وتردد في صدرك، وشعرت بالحرج والضيق، وضاقت نفسك، ووخزك ضميرك، وانقبض قلبك، فالفتوى لا قيمة لها.
لذلك قالوا:
وقالوا: هناك فتوى، وهناك تقوى.
فالتقوى أن تراقب الله عز وجل، وأن تجعل من اطمئنان قلبك ونفسك مقياساً صحيحاً لهذا الذي تقبله من الفتاوى أو تفتيه من الفتاوى.
بالمناسبة: كلما كنت جباناً في الفتوى, كانت هذه صفة عالية فيك، وكلما كنت جريئاً في الفتوى, كانت هذه الجرأة جسراً إلى النار.
قبل أن تفتي للناس، والحقيقة: المشكلة: الفتوى اختصاص، فالإنسان يدرس الأحكام الشرعية بعمق بالغ، بتوسع كبير، باطلاع واسع، بدراسة المذاهب كلها، فإذا سئل ربما أجاب ، أما الناس فقد ألفوا أن أي إنسان له مسحة دينية أصبح مفتيًا.
يقول: سألت إمام الجامع، هل الإمام مفتٍ؟ الإمام يقرأ القرآن، يوجد إمام, وخطيب, وعالم, وداعية, وقاض, ومجتهد, الفتوى شيء والاجتهاد شيء, والقضاء شيء والفتوى شيء, والدعوة شيء، الداعية غير العالم, والعالم شيء والخطيب شيء, والمدرس الديني شيء، والإمام شيء, والقارئ شيء، كلٌّ اختصاصه.
أي إنسان له مسحة دينية رقيقة, يسأله الناس دائماً, أكثر الأسئلة في الطلاق, والإجهاض, والمواريث, وتوزيع الإرث، يسأل عنها أناسًا لا يعلمون شيئاً، لذلك ليس العلم الديني كلأً يرعاه كل الناس، اختصاص، قد تكون ديّنًا، وقد تكون عابدًا، وقد تكون ورعًا، وقد تكون مؤمنًا، وقد تكون ناجيًا، ولكن أن تفتي, فهذا شيء كبير جداً.
قصة تلوتها عليكم عشرات المرات، أعلم علماء العصر: الإمام أحمد بن حنبل, جاءه وفد من المغرب العربي، أعتقد الطريق, يحتاج إلى ثلاثة أشهر، ومعهم ثلاثون سؤالاً، وعرضوا هذه الأسئلة على الإمام أحمد, فعرف منها سبعة عشر سؤالاً، فلما سألوه عن الأسئلة الباقية, قال:
لا أعلم.
فقالوا: جئناك من أقصى الدنيا، وأنت الإمام أحمد، إمام العصر ولا تعلم.
فقال: قولوا لهم الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم.
وطّن نفسك أن تقول: لا أعلم، مهما كنت كبيرًا جداً، وعظيما جداً، إذا قلت: لا أعلم، اسأل غيري، وهذا الذي يسرع بالإجابة: لا يعلم حقيقة لا يعلم.
أحاديث تتعلق بالورع وترك الشبهات - ما يوافق الفطرة وما خالفها.
هذا الحديث متواتر تواترًا معنوياً، ورد بصيغ عديدة، فإذا تواتر الحديث تواتراً معنوياً, فالموضوع مهم جداً.
الحديث الأول:
(( عَنْ وَابِصَةَ الأَسَدِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ، فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ, قَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ, فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ, قَالَ: دَعُوا وَابِصَةَ, ادْنُ يَا وَابِصَةُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ, فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَوْ تَسْأَلُنِي, قُلْتُ: لا, بَلْ أَخْبِرْنِي، فَقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ, فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ, فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي, وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ))
أخ كريم, وجد محضرًا في بعض أحياء دمشق الحساسة، استطاع بذكاء بارع أن ينزل بالمزاد بشكل تمثيلي، فالمحضر مثلاً -هذه قصة من اثنتي عشرة سنة- سعره سبعمائة وخمسون ألفًا، تمكن من إنهائه بأربعمائة وخمسين ألفًا, المزايدات قليلة جداً، ثم جاء يسألني قال: تمكنت أن أشتري هذا المحضر بمبلغ أقل من ثمنه الحقيقي بالثلث تقريباً, فما الحكم الشرعي؟ طبعاً بهذا المحضر، من أصحاب المحضر أيتام، قلت: لماذا جئت تسألني؟ قال: لأنني متضايق، قلت له: هذا هو الجواب.
الإنسان عندما يسأل, يكون منزعجًا وقلقًا.
لو فرضنا أنك عطشان، وبرّاد الماء جاهز، والكأس جاهزة، والماء بارد، وترغب بماء بارد، وجسمك يحتمل الماء البارد، شربت كأس ماء بارد، ممكن أن تسأل عنها مفتيًا, أنك فعلت شيئا خطأ، هل لها مشكلة؟ ما الحكم الشرعي؟ هنا لا يهمك لأنها بديهية، الحلال ليس له مشكلة، لا أحد يختلف عليه، لا أحد يسأل عنه، أولادك يطلبون الفاصولياء، أحضرت الفاصولياء واللحمة، وطهيتهم، وأكلتم فاصولياء ورز، هل يلزم هذه سؤال مفتٍ؟ بديهي، فعندما تسأل, يعني هذا: أنك قلق، لماذا؟ لأنه أصبح هناك تردد، بمجرد أن تسأل, أنت قلق، لذلك قالوا:
هناك رواية ثانية:
قال: سمعت وابصة، وذكر الحديث مختصراً، ولفظ الحديث المختصر:
البر ما انشرح له الصدر، والإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتاك عنه الناس
لذلك لي كلمة شهيرة: كل إنسان سألني سؤال, أقول له: الفتوى موجودة، تريد الفتوى أم التقوى؟ فإن كنت تبحث عن الفتوى, فليس هناك مشكلة، إنك تجد لكل معصية فتوى، وعوام الناس يقولون لك: ضعها برقبتي، من أنت؟ ومن أنت حتى أدعها في رقبتك؟ صدق القائل:
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند
من أنتم؟ أنتم فقهاء؟ هل أنتم مرجع في الدين؟ مجتهدون؟ علماء؟.
وفي رواية ثالثة: ما الإيمان؟.
(( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ، وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ، فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَمَا الإِثْمُ؟ قَالَ: إِذَا حَاكَ فِي صدرك شَيْءٌ فَدَعْهُ ))
الشيء الذي له إشكال ضيق؛ تردد, خوف, قلق, خجل, دعه، وأدق ما في هذا المعنى قول حَسَّان بْن أَبِي سِنَانٍ:
وفي رواية أخرى.
(( عَنْ الْخُشَنِيِّ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي وَيُحَرَّمُ عَلَيَّ, قَالَ: فَصَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَصَوَّبَ فِيَّ النَّظَرَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ ))
أحياناً: الإنسان يستفتي إنسان يتلقى الفتوى لصالحه، وتجده يبحث عن إنسان آخر يسأله، وتأتي الفتوى الثانية لصالحه، يبحث عن إنسان صالح، هذا البحث والتجول بين المفتين دليل قلق.
رواية سادسة:
عن وائل بن الأتقع رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أفتن عن أمر لا أسأل عنه أحداً بعدك، فقال عليه الصلاة والسلام: استفتِ نفسك، قلت: كيف لي بذلك؟ قال: تدع ما يريبك إلى مالا يريبك، وإن أفتاك المفتون، قلت: كيف بذلك؟ قال: تضع يدك على قلبك, فإن الفؤاد ليسكن للحلال، ولا يسكن للحرام
الفؤاد يسكن ويرتاح للحلال، ولا يسكن ولا يرتاح للحرام.
ورواية سابعة:
عن عبد الله بن معاوية بن حديج, أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما يحل لي مما يحرم علي, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردد عليه ثلاثا، كل ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أين السائل؟ ثم قال: أنا ذا يا رسول الله، قال ونقر بأصبعه: ما أنكر قلبك فدعه
وفي حديث مختصر مفيد:
عن ابن مسعود، ولعله رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إذا أحضر الإنسان شفرة، وشد عضلاته، وحركها على جلده, يشعر بوخز الجرح، شعر بألم الجرح، فقال: الإثم حزاز القلوب، تشعر بأن قلبك جرح، تشعر بحجاب نشأ بينك وبين الله، تشعر أن القضية غير صحيحة, غير مقبولة, غير مريحة.
الهدف من هذا الدرس:
أن ينمو أيها الإخوة عندكم حس فطري، يدلكم على الحلال وعلى الحرام، وفي رواية أخرى لهذا الحديث المقطوع أو المرفوع: قال عبد الله:
بالمناسبة أحياناً: يكون ميزان الإنسان دقيقًا جداً، أحياناً: يكون في الميزان خطأ، مثل القبّان، ضع عليه ورقة هل تتحرك؟ مجموعة لا تتحرك، كتاب لا يتحرك, ابدأ بالكيلو، هناك ميزان يتحرك بكتاب، وميزان يتحرك بورقة، تضع الورقة، وتزنها, تكتب كلمة: محمد, ترجح كفة.
فكلما كان إيمان المؤمن عاليًا, يكون ميزانه حساسًا، يحاسب نفسه على النظرة، على الكلمة، على الالتفاتة، على الابتسامة، على حركة الرأس، إذا قال أحدهم له: أفعلها، فيها ظلم, إذا هزّ برأسه بالموافقة, فأصبح شريكه بالإثم.
من أعان ظالماً -ولو بشطر كلمة، وليس كلمة بكاملها- جاء يوم القيامة مكتوب على جبينه: آيس من رحمة الله
وفي قول:
قال عبد الله:
وقال أبو الدرداء:
وروى ابن مسعود من وجه منقطع, أنه قيل له:
أنا أعرف رجلا, لديه مركبة فيها عطل كبير في المحرك، فقال لي: في مساء اليوم الذي باعها: الحمد لله بعتها، وألبستها لرجل آخر، وقال هذا مفتخراً، وكأنه عدّ نفسه ذكياً، واشترى سيارة من طرطوس جاهزة، وأخذها أفخر نوع، وبلونٍ كحلي العروس، أحضرها في اليوم الخامس, أصيبت بحادث, جعلتها مسطحة.
فجاءني وقد علاه الضجر، فقلت له: ألم تقل لي قبل خمسة أيام: ألبستها لرجل؟.
معاني البر الدقيقة:
النبي عليه الصلاة والسلام فسّر البر بحسن الخلق، وفسره بما اطمأنت إليه النفس.
فمرة ثانية تعقيباً على الدرس السابق: الإنسان الذكي العاقل, يعرف نمط جسمه مبدئياً، هذه الأكلة لا تناسبني، هذه الأكلة تسبب لي إعياء، هذه الأكلة هضمها صعب، أحياناً يتحسس حساسية دقيقة جداً، ليت هذا الإنسان الحريص على جسمه, وعلى أجهزته, وأعضائه, يتحسس الحساسية نفسها بقلبه، هذا العمل أظلم له قلبه، هذا العمل حجبه عن الله، هذا العمل أساء له، هذا العمل أربكه، هذا العمل أشعره بالقلق، فكلما أصبح لدى الإنسان القدرة على الاستبطان الداخلي كما يسمى, أو تأمل الذات، أو التضفر بالذات، ويتابع أحوال قلبه، من انطلاق إلى خمود, إلى قلق, إلى تراجع, إلى خجل, إلى إقدام, إلى فخر, إلى حياء، الإنسان الذي يتتبع أحوال قلبه تتبع دقيق, هذه علامة إيمانه.
وهذا ما أكده سيدنا عمر قال:
البر هو الإحسان، وهو معاملة الخلق بالإحسان إليهم، الإحسان كلمة مطلقة, لن تكون مؤمناً إلا إذا أحسنت للآخرين إحساناً مطلقاً في كل الأحوال. بعضهم قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ))
وقد قيل:
أخي البر شيء هين وجه طلق وكلام لين
(( عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ؟ قَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ ))
عندما قال ربنا عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
بعضهم قال:
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾
فالبر جماع كل خير، العقيدة الصحيحة مع العبادات، مع المعاملات, مع الأخلاق، مع الصبر، هذا كله جاء في الآية براً، وكل هذا تطمئن إليه النفس، عندما قال عليه الصلاة والسلام:
مثال :
تخيل ميزانًا, وضع في كفته خمسة وعشرون كيلو، لو أمسكت ليرة سورية, ووضعتها فيه, هل تحرك الليرة الكفة؟ مستحيل، إذا الخلُق خمسة وعشرون كيلو، والاستفزاز ليرة سورية لا تؤثر، لكن إذا كان الخلق كله ليرتين، ووضعت ليرة ونصفًا مع نسمة هزة بسيطة, تجد أن الكفة اهتزت.
فهناك إنسان على الحرف دائماً، ينتكس، وينهار، وينفجر، وينكث عهده، وينتقم، ويغضب بسرعة، وهناك إنسان عميق, كلما ارتقى إيمانه, تغلغل الخلق في أعماقه، وفي كيانه كله, حيث لا تبدو عليه نكسات مفاجئة، لأن النكسات المفاجئة لا تعرف طريقا إليه.
الحديث الثاني:
أيها الإخوة؛ أدق حديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام متعلق بالفطرة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عياض بن حمار:
الحديث:
(( عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يوم في خطبته : أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أن أُعَلِّمَكمْ مَا جَهِلْتُمْ مما عَلَّمني يومي هذا . كُلّ مال نَحَلْتُه عبدا حلال ، وإني خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كلّهم، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي, مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ))
معنى حنفاء: أي ميالين للحق، أنت مفطور على ميل الحق، مسلمين, مستسلمين لأمر الله، لأن أمرَ الله عز وجل وفق الفطرة، فإذا رأيت أمر الله, وكانت الفطرة سليمة, أسلمت إليه, وملت إليه، الميل قلبي والاستسلام سلوكي،
الحديث الثالث:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ, أَوْ يُنَصِّرَانِهِ, أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ, هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟ ))
لمَ لمْ يقل النبي الكريم: أو يسلمانه؟ لأن الإسلام بالفطرة، لذلك قال تعالى:
﴿
فإقامة وجهك للدين حنيفاً, هو عين فطرتك، وعين جبلتك، وهو عين طبيعتك، قال تعالى:
﴿
العدل, والإحسان, وإيتاء ذي القربى، هذا فطرة، والفحشاء, والمنكر, والبغي, هذا عكس الفطرة، وقال تعالى في آية أخرى:
﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
قال الله عز وجل:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ
كلام رب العالمين، هذا القلب؛ قلق, خائف, وجل, منقبض, يائس، إذا ذكر الله عز وجل اطمأن، وارتاحت النفس, قال تعالى:
الحديث الرابع:
(( عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ, وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))
وهذه إشارة إلى أن الإثم, ما أثر في الصدر, حرجاً, وضيقاً, وقلقاً, واضطراباً، فلم ينشرح له الصدر.
تنبيه هام:
بالمناسبة: هناك من يظن أن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، تتمة الحديث:
لا يعلمها كثير من الناس
ما معنى هذا الكلام؟.
معنى هذا الكلام: أن قليلاً من الناس يعلمون حقيقة هذه المشتبهات.
إذاً: اسأل عنها، إذا وقع الإنسان بتردد: يا ترى هذا حلال أم حرام؟ فقال: هذه إذاً شبهة، ما دام لها وجه حلال ووجه حرام, معنى هذا أنها شبهة، هذه الشبهة من يعلمها؟ يعلمها العلماء, لكن عامة الناس لا يعلمونها.
مثلاً رجل قال لك: أنا سأدينك مال لتشتري البيت، لكن هذا المبلغ, يعادل ربع ثمن البيت، تعطيني أجرة, ما دام هذا المبلغ معك، فإن وفيّتني إياه, تنتهي الأجرة، فظاهر الكلام أجرة، دين وأجرة، لكن ما دام المبلغ لا يزيد ولا ينقص، ويضمنه صاحب البيت الذي اشتراه يضمنه، لو احترق البيت يكون المبلغ دينًا، وأما الذي أخذه كل شهر فهذا ربا، أما لو اتفق الطرفان على أن هذا البيت ربعه لفلان, فهلك البيت، كإصدار قرار مصادرة، أو قرار استملاك، أو تهدم، أو احترق، هذا على من؟ الذي أعطاك المبلغ من أجل أن يعينك على شرائه، يقول لك: أنا لا دخل لي، أنا أقرضتك أربعمئة ألف، أريدها كاملة، فكل شيء قبضته أجرة فهي ربا، أما إذا كنت مسؤولا عن البيت, لو هدم, أو لو احترق, أو لو استملك, فأنت مسؤول، وتقيِّم البيت تقييمًا جديدًا, حينما وفيت الدين، فالأجرة حلال.
اشترى فلان قطعة, فأعطيت الصانع مبلغًا، حرام وحلال، إذا اقتطعت هذا المبلغ من ربحك الخاص فهو حلال، ليس فيه إشكال، أما إذا أضفته على المشتري دون أن يعلم، وأكرمت الصانع, أصبح هذا حرامًا، فحتى الشبهات يعلمها الخاصة من الناس، المتبحرون في الفقه يعلمونها، إذا وقع الإنسان في شبهة ليسأل عنها.
المؤمن ليس له خيار بعد استقامته.
الحقيقة: المؤمن كما قال الله عز وجل:
﴿
أنت في الأساس مخير، لكن بعد أن عرفت الله عز وجل، وعرفت أمره ونهيه، كأن اختيارك قد انتهى، أصبح اختيارك وفق الشرع، إذا أنت مؤمن.
الطبيب مثلاً: بعد أن عرف الجراثيم, والأوبئة, والعدوى, ودقائق الأمور، لم يعد مخيرًا، كل شيء يعقمه، كأنه سلك طريقًا إجباريًا، علمه بالعدوى, والجراثيم, والأوبئة, والمضاعفات، علمه العالي, جعله يسلك طريقاً إجبارياً، كأن اختياره ألغي.
هناك حالات خاصة بالصناعة, لو أخطأت فيها, لما نجح العمل، فالقواعد الخاصة تجعل كل من يعمل في هذه المصلحة, يتحرك وفق هذا المنهج، وهذا البرنامج، هذا البرنامج أصبح إجباري، لأن كل أصحاب الصنعة, يبتغون الكمال لصنعتهم، ما دام يبتغي الكمال.
سألت مرة جراح قلب, قال لي: كل مراكز الجراحة في العالم متشابهة، لأن القلب قوانينه واحدة، ما دامت القوانين واحدة, إذاً: فالإجراءات متشابهة، معنى هذا: كل مراكز جراحة القلب بالعالم, تسلك ممرًا إجباريًا، فأنت مخير، لكن بعد أن عرفت الحق، وعرفت طريق الجنة، وعرفت ما يرضي الله، وما يغضب الله، بعد أن عرفت منهج الله، عرفت ما يقرب وما يبعد، فأنت بشكل أو بآخر ملزم، لا بد من أن تسلك هذا السبيل, لتصل إلى الله عز وجل، هذا معنى قوله تعالى:
الخلاصة:
أيها الإخوة؛ الموضوع الذي أركز عليه في هذا الدرس: أن تمتلك هذه الحساسية القلبية للحق والباطل، للحلال والحرام، للمعروف والمنكر، أن يشعر قلبك أن هذا منكر، أن تشعر نفسك أن هذا حرام، أن تشعر أحاسيسك وفطرتك, أن هذا لا يرضي الله، وأعظم شيء أن تنتقل الأمور من الإدراك إلى الشعور.
أحياناً: الأقوياء في اللغة العربية, يتكلم بطلاقة من دون أن يعرب، لكن يأتي لسانه وفق قواعد الإعراب، سمّاها العلماء: سليقة، لكن الإنسان في بدايته يتكلم ويعرب، كلما وصل إلى كلمة: يا ترى منصوبة أم مرفوعة؟ مفعول به، إذاً ينصبها، خبر كان ينصبها، اسم كان يرفعها، قبلها حرف جر يجرها، دائماً يعرب مع كلامه، هذا ما ارتقى إلى مستوى السليقة، لكن عندما ينطلق لسان الإنسان وفق قواعد اللغة, من دون وعي منه, فهذا دليل كبير على قوته في اللغة.
عادة عندما يرتقي الإنسان, ويتحرك حركة عفوية وفق الشرع, معنى هذا: أن نفسه ارتقت ارتقاءً كبيرًا جداً، إلا في حالة واحدة: إذا الإنسان انطمست بصيرته بالشهوات, هذا لم يعد قلبه مفتيًا له، هذا إذا قلت له: استفتِ قلبك، يقول لك: جاء الحل، هكذا يحدثني قلبي, هذا أصبح دجالا، إذا انطمس قلب الإنسان بالشهوات, هذه الأحاديث كلها تنطبق عليه، لأن النبي قال:
لذلك أيها الإخوة؛ قبل أن تفعل, قبل أن تقدم على شيء، إذا كان لديك صفاء, اسأل نفسك، انقباض, حرج, حز قلبك، حزاز القلب، شعرت بضيق، لست مرتاحًا، شعرت بحجاب بينك وبين الله دعه، وانتهى الأمر، شعرت بقلق دفعك للسؤال، لمجرد أنك تنطلق سائلاً, فأنت في شك من أمرك، حاك في صدرك.
فهذا مقياس أضعه بين أيديكم للحلال والحرام: يخبرني أخوان كثيرون بأنه غير مرتاح، وزعت هذه القسمة، ولست مرتاحًا، هذا عذاب الفطرة، وعذاب الفطرة صعب جداً ومستمر، لا يتوقف، فدائماً أرح نفسك.
ذات مرة, سألوا مئة زوج سؤالا علميًا: لماذا لا تخون زوجتك؟ فجاءت ثلاثة أجوبة ، طبعاً جاءت أجوبة كثيرة, صنفوها في ثلاثة مستويات أخلاقية؛ أول قسم لا يستطيعون، لأن زوجاتهم معهم في العمل، القسم الثاني لا يتحملون عبء الذنب، القسم الأرقى لا يحبون الخيانة.
عندما يصل الإنسان إلى درجة, لا يستطيع أن يعمل إثما, لأنه ضُغِط عليه, فهذه درجة جيدة، وإذا كان في الأساس تعاف نفسه المعصية, هذه أرقى.
و الحمد لله رب العالمين