وضع داكن
26-04-2025
Logo
الدرس : 10 - سورة المائدة - تفسير الآيات 8-10 العبادات التعاملية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس العاشر من دروس سورة المائدة، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾

[ سورة المائدة ]


مَن هو القَوّام؟


أيها الإخوة؛ كما هي الحقيقة دائماً الله -عزَّ وجلَّ- يخاطب الناس بأصول الدين، يلفت نظرهم إلى وجود الله -عزَّ وجلَّ-، وإلى وحدانيته، وإلى كماله، لكن الذين آمنوا بالله، آمنوا به موجوداً وواحداً وكاملاً لهم خطاب آخر، يخاطبهم بفروع الدين، وكأن معنى الآية: يا من آمنتم بوجودي، ووحدانيتي، وكمالي، يا من آمنتم بأسمائي الحسنى، وصفاتي الفضلى، افعلوا كذا وكذا، فالله -عزَّ وجلَّ-  يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ ، كلكم يعلم أن اسم الفاعل له صيغة، والمبالغة لها صيغة، فالذي يقف على قدميه يُقال له: قائم، والذي يعالج قطعة من الخشب مرة واحدة يقال له: ناجرٌ، والذي يصيد سمكة واحدة في حياته يُقال له: صائد، أما الذي يعتاد صيد السمك فيقال له: صيّاد، والذي يبالغ في القيام يقال له: قوّام، فالله -عزَّ وجلَّ- لا يريدنا أن نكون قائمين فحسب، بل يريدنا أن نكون قوامين فهي أعلى درجة من الاهتمام، وأعلى درجة من الإخلاص، وأعلى درجة من التطبيق ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ﴾ أي أن حركة الإنسان في الحياة يجب أن تكون سعياً حثيثاً، وجهداً كبيراً، وصبراً مبالغاً فيه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ﴾ ، لكن هذه الحركة، وهذا النشاط، وهذا الاهتمام، وهذا التصحيح، وتلك المراجعة، وهذه المتابعة، لمن؟ لله، أشخاص كثيرون يتحركون من أجل مصالحهم، يتحركون من أجل حظوظهم، من أجل شهواتهم، هناك فريق يسعى للسيطرة على الآخرين، هناك فريق آخر يسعى لجمع الدرهم والدينار، هناك فريق ثالث يسعى للانغماس في المتع الرخيصة، ولكن الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة يطلب منا أن يكون جهدنا ونشاطنا وحركتنا في الحياة بأعلى درجة من النشاط، وبأعلى درجة من الإخلاص ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ ، أحياناً الإنسان يسعى بجهد غير معقول لبلوغ هدف، هذا النموذج من الجهد والسعي والمثابرة والإلحاح والصدق والمتابعة والتصحيح، هذا الجهد يريدنا الله أن نقوم به ولكن لله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾
إخواننا الكرام؛ ما من إنسان على وجه الأرض من الستة آلاف مليون إلا ويتحرك، قال تعالى: 

﴿ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4)﴾

[ سورة الليل ]

كل إنسان في ذهنه شيء يسعى إليه، وقلّما تجد إنساناً جهده وسعيه ومثابرته وبحثه ومراجعته وأن تكون هذه الحركة المتعددة لله، يقول الله: قل يا محمد: 

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُۥ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ (163)﴾

[ سورة الأنعام  ]

فكل إنسان يتحرك، وحركته إن كانت من دون إيمان ينتفع بها، فإذا مات انتهى كل شيء، لكن المؤمن يجعل حركته لله حتى التي يألفها معظم الناس، المؤمن إذا تزوج يقصد مرضاة الله -عزَّ وجلَّ-، وإذا عمل يقصد كفاية نفسه وأهله، وخدمة المسلمين ونصحهم، وتقديم نموذج كامل للتاجر المسلم، وحينما يؤمن المؤمن تُصعّد كل أهدافه وميوله إلى الله -عزَّ وجلَّ-، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ فإنسان يطلب العلم ويأتي من مكان بعيد ليستمع إلى تفسير كتاب الله، أو يقصد إنساناً ليعلمه أحكام الله، فيقدِّم من ماله، من وقته، من جهده، من عرقه الشيء الكثير، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ هذا الذي ينبغي أن نكون عليه، أن يكون جهدنا وسعينا، بل وحركتنا ونشاطنا وأوقات فراغنا لله -عزَّ وجلَّ- ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾

عادات المؤمن عبادات وعبادات المنافق سيئات:


أيها الإخوة الكرام؛ عادات المؤمن عبادات، وعبادات المنافق سيئات، هل تستطيع أن تقصد بزواجك مرضاة الله -عزَّ وجلَّ-؟ وهل تستطيع أن تقصد بدراستك الجامعية مرضاة الله   -عزَّ وجلَّ-؟ وهل تستطيع أن تقصد بحرفتك مرضاة الله -عزَّ وجلَّ-؟ وهل تستطيع أن تقصد بمعاملتك لأسرتك مرضاة الله -عزَّ وجلَّ-؟ هذا هو المؤمن حركته نشيطة ولله، المؤمن يتحرك، والذي لا يتحرك ليس مؤمناً؛ لأنه ما إن تنطبع حقيقة الإيمان في قلب المؤمن إلا وتعبّر عن ذاتها بذاتها بحركة نحو الخلق، فالمؤمن يعين أخاه، ويرشده، ويأخذ بيده، وينصحه، ويعفو عنه يبحث عن عمل صالح يتقرّب به إلى الله -عزَّ وجلَّ-، يطعم تارة المسكين، يُؤوي الغريب، يطعم الجائع، يكسو العاري، ينصح الضال، فهو في حركة ونشاط، حركة ظاهرة بل صارخة، هذا هو المؤمن، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾  يجب أن تكون هذه الحركة في سبيل الله، لكن هذا العصر الذي نحن فيه حبطت فيه الأعمال، حتى لو رأيت عملاً إنسانياً طيباً، يُقال لك: هذا العمل من أجل أصوات الناخبين، لم يُبتغَ به وجه الله -عزَّ وجلَّ-، من أجل الانتخابات، حتى لو كنت دقيقاً في معاملتك من أجل أن تربح، هذا التسويق يكون هكذا ويحتاج إلى صدق، وإلى إتقان، وإلى أمانة، حتى القيم الأخلاقية العريقة التي هي سبب دخول الجنة فُرّغت من مضمونها وأصبحت من نوع العمل، من نوع العمل الذي يعود على صاحبه بالربح ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ 

من مقتضيات أن تكون قوّاماً:


1-أن تكون كل حركتك في الحياة لله-عزَّ وجلَّ-:

إخوننا الكرام؛ بالحقيقة حرفتك لله، شراء ملابسك لله، ينبغي أن تظهر بمظهر يليق بالمؤمن، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين مِن قِبلك، إدارة بيتك لله ووفق منهج الله، إدارة مالك لله وفق منهج الله، إدارة وقتك لله وفق منهج الله ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ﴾ ، فهناك إنسان نائم، وإنسان مستلقٍ على السرير كأنه نائم لكنه لم ينم، وهناك إنسان مضطجع، وإنسان قاعد، وإنسان قائم، وإنسان قوّام، حالات الحركة من نوم، وقبله استلقاء، وقبله اضطجاع، وقبله قعود، وقبله قيام، والمؤمن يجب أن يكون قوّاماً لله -عزَّ وجلَّ-، حركتك في الحياة -هذه أوسع كلمة، وأشمل كلمة- حركتك في الحياة؛ شراء بيت، زواج، دراسة جامعية، تأسيس شركة، علاقات اجتماعية، احتفال، تعزية، كل حركاتك، وسكناتك، ومناسباتك، وإقامتك، وسفرك، وعملك، وجدّك، ونشاطك، وقت الجد، ووقت الفراغ لله، ليس معنى هذا أن تنقطع للعبادة، ولكن حينما تنفع المسلمين فأنت في عبادة، وحينما تقري الضيف فأنت في عبادة، وحينما تطعم الطعام فأنت في عبادة، وحينما تدعو إخوانك إلى جلسة يتلى فيها القرآن، وفيها ذكر الله -عزَّ وجلَّ- عبادة، فالعبادة منوعة جداً، أي شيء يقرّبك إلى الله فهو عبادة، إنْ في التفكر، وإنْ في المطالعة، وإنْ في اللقاء، وإنْ في إلقاء المحاضرة، وإنْ في السفر، وإنْ في الحضر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ حركتك لله، والله -عزَّ وجلَّ- يرضيه أن تكون إنساناً صالحاً، إنساناً خيراً، إنساناً معطاء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ﴾ 

2- أن تقول كلمة الحق:

الآن إنْ لم يكن الإنسان قوّاماً لله، كان مقصراً، وكان منحرفاً، وكان مسيئاً، بل كان ظالماً، ما الذي يضمن أن يُصحح الخطأ؟ ما الذي يضمن أن يزول الظلم؟ ما الذي يضمن أن يُصحح المسار في المجتمع؟ أن تكون شاهداً بالعدل، لأن المنحرف إذا شهد له أناس على أنه ليس منحرفاً ضاعت معالم الحق، كما أنك مطالب أن تكون قواماً لله، مطالب أن تكون ناطقاً بالحق، وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم، ينبغي أن تقول الحق ولو كان مرّاً، ينبغي أن تنطق بالحق ولو كان على أقرب الناس إليك، ينبغي أن تكون عدلاً، الأصل أن تكون قواماً لله، لو حدث انحراف أو تقصير، أو ظلم أو تعدٍّ، الآن موقفك أن تشهد بالعدل، فلو شهد الإنسان بالعدل اتضحت معالم الحق وانحسر الباطل، أما لو تواطأ الناس على أن يدعموا المنحرف بشهادة باطلة ضاعت معالم الحق، إذاً كما أنك مطالب أن تكون قواماً لله، مطالب أن تشهد بالعدل ولو كانت الشهادة تكلفك شيئاً كبيراً؛ لأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرب أجلاً ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ﴾ ، وأحياناً أيها الأخوة، شهادة منصفة تحقّ حقاً، وتبطل باطلاً، شهادة حقٍّ تغيّر مجرى القضية بأكملها، متى ييأس الإنسان؟ إذا ضاع الحق في المجتمع، أقول لكم هذه القصة: أحد زعماء بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية جمع وزراءه وسألهم واحداً وَاحداً، سأل مثلاً وزير الصناعة: كيف المعامل عندك يا سيد فلان؟ قال: المعامل كلها محترقة، وسأل وزير الزراعة: كيف الزراعة عندك؟ قال: الحقول محترقة، سأل وزير الخزانة: كيف المال عندك؟ قال: الخزائن خاوية ليس فيها شيء، سألهم واحداً وَاحداً، فلما وصل إلى وزير العدل سأله: كيف العدل عندك؟ قال: بخير، فقال هذا الزعيم البريطاني: كلنا إذاً بخير، فحينما يُحقّ الحق ويبطل الباطل، حينما تستطيع أن تأخذ حقك من أي إنسان كائناً من كان فنحن في خير، هذا الوضع الصحي الراقي الذي يليق ببني البشر مغطًّى بهذه الكلمة ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ تشهد بالعدل ولو على نفسك.
يروي التاريخ أن قاضياً طلب شاهداً من سيدنا علي -رضي الله عنه-، فسيدنا علي لم يكن له شاهد في هذه القضية إلا ابنه، فالقاضي قال لسيدنا علي: يا أمير المؤمنين، لا تُقبل شهادة الابن لأبيه، فأتني بشاهد آخر، ليس عنده شاهد آخر، فحكَم للطرف الآخر وهو يهودي، عندئذ أسلم هذا اليهودي، أيعقل أن هذا القاضي يحكم لي على أمير المؤمنين؟! معه شهود، ولكن الشهود أولاده، وفي القضاء لا تُقبل شهادة الابن لأبيه، الشهادة الإيجابية لا تقبل، فاعتذر، بهذا قامت السماوات والأرض وبهذا انتصر المسلمون على أعدائهم، بالحق والعدل، ويروى أن قاضياً قال له غلامه: هذا الطبق من التمر من الرطب جاء به رجل، قال له: صفه لي، قال: صفته كيت وكيت، علم أنه أحد المتخاصمين عنده، قال له: ردّ الطبق، في اليوم التالي، تمنى القاضي أن يكون الحق مع الذي قدم الطبق مع أنه لم يقبله، في اليوم الثالث التقى مع أمير المؤمنين وطلب منه أن يعفيه من منصب القضاء، قال: ولمَ؟ قال: لأنني لست أهلاً لهذا المنصب، لأنني تمنيت في اليوم التالي أن يكون الحق مع الذي قدم الطبق مع أني لم آخذه، فكيف لو أخذته؟! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ إن لم نشهد شهادة عدل ضاعت الحقوق، وإذا ضاعت الحقوق يئس الناس من هذا الدين، لماذا -إن صح التعبير- يخرج الناس أحياناً من دين الله أفواجاً؟ لأن هذا الدين ما رأوا فيه إلا العبادات الشعائرية، لكن لم يروا البطولات التي تلفت الأنظار، بطولات إحقاق الحق وإبطال الباطل، نصرة المظلوم، هذا لم يُرَ، فيا أيها الإخوة الكرام؛ يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ هذا هو التوجيه الإلهي، لكن ما الذي يحصل؟ أن المؤمن له خصم تقليدي وهو الكافر: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي لا يحملنكم، ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ أي هؤلاء أعداء المؤمنين التقليديون، فينبغي أن نعامل الطرف الآخر بأعلى درجات العدل والإحسان؛ لأن أخلاق الحرب شيء وأخلاق الدعوة شيء آخر، ففي الحرب: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَٰهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ (73)﴾

[ سورة التوبة  ]


هذه أخلاق الجهاد، ولكن في السلم: 


﴿ وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ۚ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌ (34)﴾

[ سورة فصلت ]

أسباب انتشار الإسلام:

قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾ أيها المؤمنون مع من؟ مع الطرف الآخر، مع خصومكم، مع الكفار ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ ، عدلكم أقرب إلى طاعة الله، وعدلكم معهم يجعلهم أقرب إلى الله، وعدلكم معهم يجعلهم أقرب إليكم ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ ، أنا -أيها الإخوة- متأكد بفضل الله -عزَّ وجلَّ- أن الإسلام لا ينتشر بشيوع العبادات الشعائرية، ولكنه ينتشر بالعبادات التعاملية، فالصادق داعية وإن لم ينطق بكلمة حق، والأمين داعية آخر، والعفيف داعية ثالث، لأن الله -عزَّ وجلَّ- حينما بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- بعثه بمكارم الأخلاق، فقد قال عليه الصلاة والسلام:  

(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ  ))

[ أخرجه أحمد، والبيهقي عن أَبي هريرة ]

ولما سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-: حدثني عن الإسلام، فقال: ( ... أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ...) الإسلام لا ينهض ولا يجلب أنظار الناس إليه إلا حينما يتمسك المسلمون بالقيم الأخلاقية، حينما يُحدثون صدمة للطرف الآخر، ما هذا الورع؟! ما هذه الأمانة؟! ما هذا الصدق؟! ما هذا الإنصاف؟! عندها يدخل الناس في دين الله أفواجاً، والله الذي لا إله إلا هو موقف أخلاقي واحد أنفع من ألف محاضرة، موقف فيه عفة، موقف فيه صدق، موقف فيه أمانة أكبر مؤثر في جلب الناس إلى هذا الدين، ولكن مهما كنت فصيحاً ومتكلماً ولم يكن عملك كما ينبغي نفرَ الناسُ منك، دققوا في هذه الآية: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ ، إذا سافر المسلم إلى بلد بيننا وبينه تمثيل دبلوماسي عن طريق السفارات، هل يحق له أن يشتري ببطاقة الائتمان ولا يدفع الثمن؟ يكون قد أساء إلى هذا الدين إساءة كبيرة، المسلم أمين، المسلم صادق، كيف تقنعهم بدينك إن لم تكن صادقاً؟ لذلك -أيها الإخوة- تكاد تكون المشكلة على النحو التالي: حينما يرى الطرفُ الآخر مسلماً غيرَ ملتزمٍ، حينما يرى مسلماً لا يصدق، حينما يرى مسلماً لا يفي بوعده، حينما يرى مسلماً لا يحقّق عهده، حينما يرى مسلماً يحتال عليه، هذا المسلم المقصر الخاطئ المنحرف يقنع الطرف الآخر أنه على حق، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيم (5)﴾

[ الممتحنة ]

أي: يا رب لا تجعلني سبباً كي أفتن الكافر بكفره، إذا رأى الكافرُ المسلمَ الكاذبَ والمقصرَ، والذي يدلي بتصريح كاذب، والذي يخلف وعده، والذي لا ينجز عهده، ماذا يقول في نفسه؟ يقول: ليسوا على حق، أنا على حق، أنا أصدق ولا أكذب، أنا أتقن عملي، أنا عند وعدي وعند عهدي؛ فلذلك ما من شيء يقنع الكافرَ بكفره كمسلم يقصّر في تطبيق دينه، والآية دقيقة جداً ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ ، هذه الآية أيها الإخوة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ أي إذا عدلت مع الطرف الآخر كنت أقربَ إلى الله أنت، وإذا عدلتَ مع الطرف الآخر قربته إلى الله، وإذا عدلت مع الطرف الآخر قربته إليك، اقتربت أنت وقرّبته إليك إذا كنت عادلاً مع الطرف الآخر ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ هذا تهديد أيضاً أي اتقوا غضب الله، اتقوا عقابه، اتقوا نقمته، اتقوا فُجاءة حسابه ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾  

معاني (قسط):


يا أيها الإخوة، بقيت ملحوظة على كلمة القِسْط، فقسَط يقسُط قسطاً أي عدَل، وقسَط يقسِط إقساطاً أي ظلم، هذا الفعل له معنيان متعاكسان، لكن أقسط أزال الظلم. 

﴿ وَأَمَّا ٱلْقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)﴾

[ سورة الجن ]

قسط يقسِط ظلم يظلم، قسط يقسُط عدل يعدل، أقسط يقسِط أزال الظلم، فقسط عدَل ابتداءً، أقسط أزال الظلم، فكان عمله عدلاً، ومما يروى أن رجلاً دخل على بعض الأمراء فقال له: أنت قاسط عادل، قال: أتدرون ماذا قال لي؟ قال لي: أنت ظالم كافر، فقالوا: كيف؟ قال: ﴿وَأَمَّا ٱلْقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾

[ سورة الأنعام  ]

إذاً القسط العدل، الإقساط، أقسط إقساطاً إزالة الظلم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي اتقوا عقابه، واتقوا غضبه، واتقوا عذاب الدنيا، واتقوا عذاب النار ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ، بإمكانك أن تعمل عملاً في ظاهره جيد، ولكن في حقيقته ليس بجيد، مَن هو الخبير بعملك؟ الله -جل جلاله- يعلم السر وأخفى، ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ-: 

﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)﴾

[ سورة المائدة ]

الأخطاء التي تابوا منها تُمحى، وتنتظرهم سعادة أبدية لا توصف، ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ عما سلف منهم من خطأ، ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ هذا ما ينتظرهم من نعيم مقيم في جنة عرضها السماوات والأرض، وبالمقابل: 

﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ (10)﴾

[ سورة المائدة ]

هذا الذي كفر، أي لم يصدق بما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبما جاء به القرآن، وأعرض عن الله مع التكذيب ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ﴾ أصحاب الهلاك في الدنيا والآخرة، 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور