وضع داكن
21-11-2024
Logo
الندوة : 1 - آيات الله في الآفاق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

 الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، أمّا بعد أيها الأخوة المشاهدون فإنَّ الله سبحانه وتعالى أكرمنا بهذا القرآن العظيم ، ففتحَ بهذا القرآن الكريم آذاناً صُمّاً وأعيناً عُمياً وقلوباً غُلفاً ، فمن لم يقرأ القرآن الكريم بتدبّر لم يتعرّف إلى القرآن الكريم كما تعرّف إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا بهم يُترجمون هذا القرآن الكريم ترجمةً عمليّةً حركيّةً في الحياة ، لم يقفوا عِندَ هذا القرآن الكريم جدلاً بل استسلموا وسلّموا أمورهم للهِ سبحانهُ وتعالى متمثلين قوله سبحانه :

﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾

[سورة النساء: 65]

 فجعلوا في فهمهم لهذهِ الآيات الكريمة في القرآن الكريم جسراً يعبرون به وذلك للتعرّف إلى اللهِ سبحانه وتعالى ، وضيفُنا حولَ هذا الموضوع للوقوف على آيات الله في هذا الكون العظيم محمّد راتب النابلسي الأستاذ المُحاضر في كليّة التربية في جامعة دمشق ، أهلاً وسهلاً بضيفنا الكريم .
المذيع :
 لعلنا نتساءل كثيراً عن تلكَ الآيات التي وردت في القرآن الكريم وكأنها لآلئ منثورة ، بل القرآن كلهُ لآلئ منثورة جمعها الله سبحانه وتعالى بقدرٍ من عِنده بين دفتي هذا القرآن الكريم حِفظاً لَهُ من أن يعبثَ بهِ العابثون ، والآيات التي قصدنا هي تلكَ الآيات التي تتحدثُ عن هذا الكون الذي لا يعلمُ أبعادهُ إلا الله ، تلكَ الآيات التي تتحدث عن الشمس والقمر، عن السماء والكواكب والنجوم ، تتحدثُ كذلك عن الإنسان ، عن الكائنات الأخرى وما أكثرها في هذا القرآن الكريم ، والتساؤل يا تُرى : هل أُنزلَ القرآن الكريم ليكونَ كتاباً علميّاً أو ليكونَ كتاباً فلكيّاً أو ليكون كتاب كيمياء ما إلى ذلك ، أم يا تُرى وراء تلكَ الآيات التي لفتَ سبحانه وتعالى النظرَ إليها ليتدبّرَ الإنسان في تلكَ الآيات وخالق هذا الكون ، هل يا تُرى كان ذلك من أجل هذا الغرض أم لهدفٍ آخر ؟ المقصودُ من هذا أن نقرأ على صفحات هذا الكون وما أكثرها بأنَّ الله سبحانهُ وتعالى هوَ الخالق المُدبّر ، ففضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي يُشاركُنا إن شاء الله سبحانه وتعالى في عرضِ هذا الموضوع بالقدر الذي نستطيع أن نعرِضه ، وذلك لأن آيات الله في هذا الكون وفي الآفاق كثيرة ولعلنا نذكر بأنَّ الله سبحانهُ وتعالى قال :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾

[سورة البقرة: 164]

 وما أكثرَ هذهِ الآيات ، نقفُ إن شاء الله تعالى عِندَ بعض هذهِ الآيات الكريمة مع أستاذنا وضيفنا الكريم الأستاذ محمد راتب النابلسي ، فلعلنا إن شاء الله نستفتح بموضوعٍ وهوَ نقطةٌ هامة أقصدتُها : الهدف ، فما الهدف يا تُرى من طرحِ هذهِ النُقاط في القرآن الكريم وما أكثرها كما قُلنا فلو تفضلتم إن شاء الله بالنسبة لهذه النقطة أن تُعرّفوا المشاهدين بِها ؟

القرآن كتاب هدايةٍ إلى الله عزّ وجل :

الدكتور راتب :
 إن شاء الله ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعدِ الأمين ، الحقيقة كما تفضلّتم قبلَ قليل أنَّ القرآنَ الكريم ليسَ كِتابَ عِلمٍ ولا كِتابَ فلكٍ إنما هوَ كتابُ هِدايةٍ وإرشاد لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[سورة الذاريات: 56]

 فالعبادة عِلّةُ وجودنا على وجه الأرض ، إنها طاعة الله ، لكنَّ هذه الطاعة لا تكون إلا إذا بُنيت على معرفته فإذا بُنيت على معرفته أفضت بِنا إلى سعادةٍ في الدُنيا والآخرة ، إذاً : القرآن كتاب هدايةٍ إلى الله عزّ وجل والذي يدلُنا على الله آياته ، فالكون خلقُهُ والقرآن كلامُهُ وأفعالُهُ تدُلُنا عليه ، لهذا قالوا : هناك آيات كونية وآيات تكوينية وآيات قرآنية ، وكُلُ هذهِ الآيات إذا نظرنا فيها وتأملنا بها أوصلتنا إلى الله عزّ وجل ، من هنا كانت آيات الكون في القرآن الكريم دلائل تُشير إلى عظمة الله عزّ وجل ، من الثابت أن الله عزّ وجل كما قال في كتابه العزيز :

﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾

[سورة الأنعام: 103]

 ولكن العقلَ إذا أعملهُ صاحبهُ في الكون يصل بعقلهِ إلى الله ولا يحيط بهِ وفرقٌ كبير بين أن تصل بعقلكَ إلى الله موجوداً وواحداً وكاملاً خالقاً ورباً ومُسيّراً ، فالله سبحانه وتعالى جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاتِهِ الفُضلى ، فكلما نظرنا في الكون وصلنا إلى الله ، يمكن أن نقول إنَّ الكون أوسع بابٍ للدخول منه على الله ، بل هوَ أقصرُ طريقٍ إلى الله ، إنكَ حينما تتأمل في آيات الكون تقف وجهاً لوجهٍ أمام آيات الله عزّ وجل من هنا قال الله عزّ وجل :

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾

[سورة فاطر: 28]

 لو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أنَّ المرحلة المكية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابهِ الكِرام في مكة المُكرّمة كانت مرحلة تعريفٍ بالله ، بينما المرحلة المدنيّة كانت مرحلة تشريع ، وأيّة دعوةٍ إلى الله لابُدَّ من أن تمُرَ بمرحلةٍ مكيّة هي التعريفُ بالله ومرحلةٍ تشريعية هي التعريفُ بمنهجهِ ، فنحنُ بالكونِ نعرِفهُ وبالشرعِ نعبدهُ .
 المرحلة المكيّة لا بُدَّ منها وإلا عرجت الدعوة ، لو أننا عرفنا الآمر ثمَّ عرفنا الأمر لتفانينا في طاعة الآمر ، أما إذا عرفنا الأمر ولم نعرف الآمر لتفننا في التفلتِ من هذا الأمر ، لذلك قد تجد أحياناً أنَّ العلم منتشر أمّا الالتزام ضعيف ، معنى ذلك أنَّ العلمَ الشرعي منتشرٌ بينما معرفة الإنسان بالله ضعيفة .

العِلمُ بِاللهِ يحتاجُ إلى مجاهدة والعِلمُ بأمرهِ وبخلقهِ يحتاج إلى مُدارسة :

 بعض الأئمة الكِرام قال : " هناك علمٌ بأمرهِ وهُناكَ عِلمٌ بخلقهِ وهُناكَ عِلمٌ بِهِ "، فالعِلمُ بأمرهِ أن نعرِفَ الأحكام الشرعية من مظانها وكُتبِها ومُعلمها ، والعلمُ بخلقِهِ هذهِ الجامعات التي انتشرت في العالم كُلُه تُعلّم الطُلاب المظاهر الكونية ، الظاهرة الفلكية والظاهرة الجغرافية والتاريخية والفيزيائية والكيميائية ، لكنَّ النقطة الدقيقة هيَ العِلمُ بهِ ، العِلمُ بِهِ شيء مهمٌ جداً ، لعلَّ بعضَ الأئمة كالإمام الغزالي رحِمَهُ الله تعالى يقول : " إنَّ كُلّ كلمةِ عِلمٍ في القرآن الكريم إنما تعني العِلمَ بالله " ، فالعِلمُ بِهِ يحتاجُ إلى مجاهدة ، بينما العِلمُ بأمرهِ وبخلقهِ يحتاجُ إلى مُدارسة ، المُدارسة : أن نقرأ الكتاب ، وأن نحفظ الأفكار ، وأن نُدونها ، وأن نستذكرها ، وأن نُلقيها في الامتحان ، وأن نأخذَ الشهادات ، هذا عِلم المُدارسة ، أمّا إذا تأملّنا في خلق السموات والأرض وعرفنا عظمة الله عزّ وجل هذا عِلم المُجاهدة ، لذلك قالوا : جاهد تُشاهد ، يؤكد هذا أنَّ آيات قرآنية كثيرة جداً نراها في القرآن الكريم ما دورُها ؟ إنَّ دورها أن نصِلَ من خِلالها إلى الله عزّ وجل ، أن نُفكّرَ في خلق السماوات والأرض ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[سورة آل عمران: 190-191]

 لعلَّ أعرابيّاً بشكلٍ مُبسّطٍ جداً قال : الأقدام تدُل على المسير ، والماءُ يدُلُ على الغدير ، والبعرةُ تدلُ على البعير ، أفسماءٌ ذاتُ أبراج وأرضٌ ذات فِجاج ألا تدلانِ على الحكيم الخبير؟
المذيع :
 أستاذ محمد طرحتم بأنَّ الهدف من هذه الآيات الكونية والتي كما قُلنا كثيرةٌ في القرآن الكريم تقرأُها أكثر ما تقرأ في الآيات التي جاءت في الآيات المكية والسور المكية لأنها مرحلة بناء الإنسان ، بناء العقيدة ، فبناء العقيدة لا يكون بالتقليد ، فلهذا جاء الإسلام فحوّلَ العالم ولفتَ النظر إلى أنَّ العقيدة التي توارثتها الأجيال عن آبائها وأسلافِها كما كانوا يقولون :

﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[سورة الزُخرف: 22]

 فجاء القرآن ليقول لهم هذا انتهى دوره ، بل ينبغي أن يعودَ العقل كما كان في عهد الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام ، فيكونَ الإيمان مبنياً على أساسٍ متين لا تُزعزعهُ الأحداث والخطوب مهما كانت هذهِ الأحداث ، إذاً هُنا السؤال .
 الحقيقة : هل نقفُ عِندَ آراءِ المُفسرين القُدامى حولَ الآيات الكونية في هذا الكون أم يا تُرى أننا ننطلقُ ولو خالف العصر الحديث في معطياتهِ اليقينية آراء المُفسرين السابقين ؟

القرآن الكريم معجزةٌ مستمرةٌ بينَ أيدينا :

الدكتور راتب :
 سيدي النبي عليه الصلاة والسلام لم يُفصّل كثيراً في آيات الكون التي وردت في القرآن الكريم ، وهذه حِكمةٌ بالغةٌ ، لأنهُ لو فسّرَ هذهِ الآيات تفسيراً مبسطاً يتناسب مع المعطيات العلمية التي كانت في عصره لأنكرَ عليهِ من جاء بعدهُ ، ولو فسّرَ هذهِ الآيات تفسيراً يتناسب مع ألف عامٍ قادمة لأنكرَ عليهِ من حولَهُ ، لحكمةٍ بالغةٍ بالغة لم يُسهم النبي عليه الصلاة والسلام في شرح هذه الآيات ، وقد قيل إنَّ معجزات الأنبياء السابقين كعود الثِقاب تألّقت مرةً واحدة وانطفأت وبقيت خبراً يصدقهُ من يُصدقهُ ويُكذبهُ من يُكذبُهُ ، لكنَّ معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام هي هذا القرآن ، هي معجزة مستمرة إلى آخر الدوران ، فكُلما تقدّمَ العِلمُ كشفَ جانباً من عظمة هذهِ الآية ، فمثلاً : المفسرون وقفوا وقفةً حائرة عِندَ قولِهِ تعالى :

﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾

[سورة الرحمن: 19-21]

 أين هو هذا البرزخُ بين البحرين ! حارَ العلماء في تفسير هذه الآية ، إلى أن ظهرت المركبات الفضائية ، فعندمّا صوّرت البحار بحارَ الأرض وجدوا خطاً بينَ كُلِّ بحرين ، هذا الخط هو خط تباين لونين ، ثمَّ اكتشف علماء البحار أنَّ لِكُلِّ بحرٍ مكوناتِهِ من درجةِ ملوحتهِ، إلى درجةِ كثافتهِ ، إلى بعضِ ما يشتملُ عليه ، وأنَّ مياهَ أي بحرٍ لن تطغى على بحرٍ آخر :

﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾

[سورة الرحمن: 20]

 فحينما تقدّمَ العِلمُ واكتشف هذهِ الحقيقة فُسّرت هذهِ الآية ، هذا يُذكرُنا بقول الإمام عليٍ كرّمَ الله وجهه : " في القرآن آياتٌ لمّا تُفسّر بعد " ، فالقرآن الكريم معجزةٌ مستمرةٌ بينَ أيدينا، وكُلما تقدّمَ العِلمُ كشفَ جانباً من جوانب عظمةِ هذهِ الآيات :

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾

[سورة الطارق: 11]

 أي يصعد بخار الماء إلى السماء ويعود مطراً هذا معناها ، الأمواجُ التي نُرسُلها إلى الفضاء اكتشفَ العُلماء أنَّ هُناكَ طبقة أثيرٍ ترُدها إلينا ولولا هذه الطبقة لما كانت هناك إذاعةٌ ولا كان رائي ، ثمَّ اكتشفَ العُلماء أنَّ الصفة التي تستقبل الكون كلهُ أنَّ كُلَّ كوكبٍ في السماء يسير في مسارٍ مغلقٍ حولَ كوكبٍ آخر ، إذاً يرجِعُ إلى مكانِ انطلاقه ، فكُلما تقدّمَ العِلمُ كشفَ جانباً من جوانب عظمة هذه الآيات الكونية .

القرآن ليسَ مِلك أحد وكُلما تقدّمَ العِلم كشفَ جانباً من جوانب عظمةِ هذا القرآن :

 إذاً : لو أننا قرأنا في تفسيرٍ تفسيرَ آيةٍ كونية يمكن ألا نقفَ عِندها ، يُمكن أن ننتظرَ من العِلمِ أن يُعطيَ توضيحاً أعمقَ وأشمل من هذا الذي قرأناه لأنَّ اللهَ جلَّ جلالُهُ يقول :

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾

[سورة الإسراء: 85]

﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة يوسف: 76]

 والقرآن ليسَ مِلكَ أحد وكُلما تقدّمَ العِلم كشفَ جانباً من جوانب عظمةِ هذا القرآن الكريم .
المذيع :
 الأستاذ محمد راتب بعدَ هذا العرض نقفُ هُنا في الواقع أمام اتجاهين ، اتجاه قديم: هذا الاتجاه القديم الذي نقرؤهُ مثلاً على صفحات تفاسير المفسرين القُدامى رحمهم الله تعالى فيما اجتهدوا فيه ، اجتهدوا إلى أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه في فهم لهذه الآيات الكريمة ليستدلوا بها على وجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ، وإن كان الإنسان يعرِف ربهُ بالفِطرة ولكن لا يمنع أن ننظر في هذه الآيات الكونية وربُنا أمرنا سبحانهُ وتعالى أن ننظر ونتدبر :

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾

[سورة محمد: 24]

 ولكن هناك اتجاه آخر حاول أن يفُسّرَ هذهِ الآيات تماشياً مع معطيات الاكتشافات الحديثة ، وقد يأتي أحدهم ويُبالغ في هذا الأمر ويُحمّلُ النصوص مالا تحتمل ، هب أننا وقفنا في يومٍ من الأيام عِندَ هذا التفسير ولكن جاء العِلمُ ليكشفَ بعد ذلك عن مفهومٍ آخر ، هذا المفهوم الآخر يُخالف ما توصّلَ إليهِ ما نحنُ فيهِ في عصرِنا ، فيا تُرى ما هو الموقف السليم من هذهِ الآيات الكونية حتى لا نكونَ بينَ الإفراط و التفريط ؟

كتاب اللهِ عزّ وجل معجزةٌ مستمرةٌ متجددة :

الدكتور راتب :
 الحقُ وسطٌ بينَ طرفين ، فحينما يكتشفُ العِلمُ حقيقةً وتأتي مطابِقة تطابقاً عفويّاً من دون تكلّف مع آيةٍ قرآنيةٍ في معناها الظاهر فهذا شيء جيد ، ونعُدُ هذا توافقٌ بل نعُدُ هذا وسامَ شرفٍ للعلمِ لأنهُ وافقَ القرآن ، القرآن في الأصل هوَ كلام ربُّ العالمين ، أمّا حينما نأتي بنظريةٍ لم تثبت بعدُ ونُحاوِلُ أن نُفسّرَ من خلالِها آيةً قرآنية نكونُ قد جانبنا طريقَ الصواب ، لا بُدَّ من أن نعتمد حقيقةَ العِلم لا نظريات العِلم ، ومعلومٌ هُناكَ فرقٌ كبير بين حقائق العِلم القطعية الثابتة وبينَ النظريات التي لم تثبت بعد .
 شيء آخر : لو أردنا أن نُفسّرَ آيةً قرآنية في ضوء حقيقةً علمية لا ينبغي أن نُفسّرها إلا وفقَ عِلمِ الأصول لا وفقَ تأويلاتٍ ما أنزلَ اللهُ بِها من سلطان ، هذا يُسمى عِندَ عُلماء الأصول : لَيَّ عُنُقِ النص ، وقد شبههُ بعض علماء الأزهر وقد أعجبني هذا التشبيه : كأنكَ تجّرُ شاةً إلى شيء لا تُريدُهُ ، هي تتمنع وأنتَ تجُرُها ، لا نقبلُ أن تُفسّرَ آيات القرآن الكريم الكونية في ضوء الحقائق العلمية إلا إذا كانت الحقائق حقائقَ بالمعنى العلمي الدقيق ، وإلا إذا كانَ التفسيرُ تفسيراً يتوافقُ مع عِلمِ الأصول ، دونَ حاجةٍ إلى تكلّفٍ أو أن نُحمّلَ النصَ ما لا يحتمل ، هذا شيء دقيقٌ جداً ، وقد قُلتُ قبلَ قليل أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام تركَ لِكُلِّ عصرٍ كي يكشِفَ حقيقةَ هذه الآيات الكونية ، إذاً كتاب اللهِ عزّ وجل هو معجزةٌ مستمرةٌ متجددة.
المذيع :
 أحببتُ أن أُثير هذه النقطة بالذات لأنَّ محاولاتٍ كثيرة تجري الآن وذلك للوقوف على فهمِ هذه الآيات الكونية فهماً حديثاً وكما قُلنا بينَ المُعارض وبينَ المُوافق ، فمثلاً من التفاسير التي ظهرت حديثاً تفسير آيات الكون للدكتور حنفي أحمد ، قرأت هذا في مجلّدهِ الأول صدر ثمَّ ظهر أيضاً تكملة له ، على كُلِ حال هناك محاولات تقف أيضاً عِندَ موضوع الأعداد الرقمية الموجودة في القرآن الكريم ، والكمبيوتر طبعاً استخدموه من أجل هذا فوجدوا هذا التوافق توافقَ بينَ أرقام ، وهذا لم يأت طبعاً عشوائياً ، لكن سؤالي هُنا لعلَّ فضيلة الأستاذ محمد راتب هل هذه المحاولات يا تُرى قطعية أم ظنيّة ؟ هذا شيء ، هب أنهُ في يوم من الأيام حدثَ خطأٌ في هذه النِسب فما موقف الإنسان يا تُرى والناس حيالَ هذه عندما يقول أحدهم : نعم هذهِ حقائقُ قطعية ، فلعلّكم أيضاً تُفيدون المشاهدين بالنسبة لهذه المحاولات ؟

لكُلّ دراسةٍ استثناءات بسيطة :

الدكتور راتب :
 سيدي أنا يغلِبُ على ظني أنَّ هذهِ الدِراسات ، وقد اطلعت على بعضِها ، لم أجدها قطعيةً لكنني وجدتُها ظنيّةً ، دليلي أنَّ كُلَّ دراسةٍ فيها استثناءات بسيطة ولستُ من أنصار أن نُسميها إعجازاً رقمياً أو إعجازاً رياضياً ، كنتُ أميلُ إلى أن أُسميها إحكاماً ، إحكاماً حسابيّاً أو إحكاماً رياضياً ، لأننا لو اطلعنا على دراسةٍ أوسع لكانت هذه الدراسة في المستوى الذي لا يُقبلُ عِندنا ، فالأولى أن نلتفتَ إلى مضمونِ هذا الكتاب وإلى منهجهِ وإلى الأهداف الكبيرة التي دعانا إليها ، أمّا هذهِ الدراسات نعتني بِها دون أن نأخذها على أنها حقيقة إلى أن تظهرَ دراسةٌ قطعيةٌ في دلالتِها ، عندئذٍ نرى ما سيكونُ بعدَ حين .
المذيع :
 مع آيات الكون لو أننا تركنا هذا الإجمال ودخلنا بشيء من التفصيل فكُنا مثلاً قبلَ أن تظهرَ هذهِ الاكتشافات الحديثة وقبلَ أن يتعرّفَ الإنسان إلى هذهِ المظاهر الكونية وذلك عن طريق الأجهزة الحديثة التي باتت تُعطينا مفاهيم جديدة تُخالف ما كانَ عليهِ السابقون من قبل ، فمثلاً أحدثت ضجة قضية دوران الأرض ، قضية كروية الأرض ، قضية وصول الإنسان إلى القمر ، أنا لا أُريد أن أُثيرها لأنها انتهت منذُ فترة ، وننتظرُ أن يكون هُناكَ عطاءٌ جديد ، وكم كُنا نتمنى ونتمنى أن تكونَ تِلكَ الاكتشافات وأن يكونَ سبب هذا الكون بأيدي علماءٍ مسلمين لا أن يأتينا من هُنا من الغرب ، لأنَّ أسلافنا ولأنَّ علماءنا قدموا لنا في زمانِهم عندما كانت الحضارة الإسلامية تعجُّ بمثلِ هذهِ المعطيات ، كم كُنا نتمنى ونتمنى وما ذلكَ على اللهِ بعزيز أن تتحول مجريات الأحداث وأن يحتلَّ المسلمون موقع الحضارة من العالم ليقودوا العالم قيادةً حضارية كما كانوا يقودون العالم قيادةً حضارية .
 إذاً أنا الحقيقة أُريد أن أقف عِندَ هذهِ النقطة ، فمثلاً لو أخذت الجزئية قضية دوران الأرض ، قضية كروية الأرض ، قضية إمكانية الوصول إلى الكواكب ، طبعاً بعضهم يُنكرها ويستدلّ بأقوال بعض المُفسرين ، ويقف عندَ بعض الآيات بظاهِرها دون أن يذكر هذه الآية ، فما موقف الإسلام يا تُرى بالنسبة لمثل هذه المفاهيم ومعطيات العصر الحديث ؟

الإسلام لا يقفُ أمام المعطيات الجديدة التي كشفت عظمة الكون وعظمة خالق الكون :

الدكتور راتب :
 أعتقدُ أنَّ الإسلام لا يقفُ أمام هذهِ المعطيات الجديدة التي كشفت عظمة الكون وبالتالي كشفت عظمة خالق الكون ، أضعُ بينَ أيديكم بعض الأمثلة : العلماء قالوا " الأرض حجمُها يُقدّر بمليون مليون كيلو متر مكعب بينما الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة" ، هذهِ حقائق مُسلّم بِها ، " وبينَ الأرض والشمس مسافةٌ تقدّر بمئةٍ وستةٍ وخمسين مليون كيلو متر " ، وكما تعلمون الأرض تدور حول الشمس وتمرُ في طريق دورتها بأبراج قالَ تعالى :

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾

[سورة البروج: 1]

 أحدُ هذهِ الأبراج برجُ العقرب ، في هذا البُرج كوكب صغيرٌ أحمرُ اللون اسمهُ قلبُ العقرب ، هذا النجم الصغير الأحمر اللون الذي اسمه قلب العقرب يتسعُ للأرض والشمسِ مع المسافةِ بينهما ، يتسعُ للأرضِ مليونَ مِليون كيلو متر مكعب والشمس تكبُر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، أي أنَّ جوفَ الشمس يتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض وبينهما مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ، وهذا النجم الصغير في برج العقرب يتسعُ للأرضِ والشمسِ مع المسافةِ بينهُما :

﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

[سورة غافر: 64]

 بيننا وبين القمر ثانيةٌ ضوئيةٌ واحدة ، بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ، المجموعة الشمسية بأكملِها قطرُها ثلاثَ عشرةَ ساعة ضوئية ، طبعاً الضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر ، كم يقطع في الدقيقة ؟ نضربها بستين ، كم يقطع في الساعة ؟ كم يقطع في اليوم ؟ كم يقطع في السنة ؟ أقربُ نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض يبعُدُ عنّا أربع سنوات ضوئية ، من أجلِ أن يعرِفَ الأخوة المشاهدون ما معنى أربع سنوات ضوئية أي أنكَ إذا أردتَ أن تصلَ إلى هذا النجم الذي يبعدُ عنا أربع سنوات ضوئية بمركبة أرضية تحتاج إلى خمسين مليون عام ، خمسين مليون عام بمركبةٍ أرضية من أجلِ أن تصلَ إلى أقربِ نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض ، هُناكَ المرأةُ المُسلسلة تبعدُ عنا مليون سنة ضوئية ، هُناكَ مجرّةٌ تبعدُ عنا أربعة وعشرين ألف سنة ضوئية ، قبلَ عامٍ ونِصف أُرسِلَ إلى كوكب المُشتري مركبةٌ فضائية عليها مرصدٌ عِملاق ، بقيت هذه المركبة تسير ستة سنوات بأعلى سرعةٍ وصلها الإنسان وهي قُربَ المُشتري ، رصدت أبعدَ مجرّةٍ اكتُشِفت حتى الآن إنها تبعُدُ عنا ، دققوا في الرقم ، ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية ، أذاعت هذا الخبر قبلَ عامٍ ونيّف محطة الـ CNN .

عظمة الله تعالى في خلق السماوات والأرض :

 أيها الأخوة ربُنا عزّ وجل يقول :

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[سورة الواقعة: 76]

 لذلك حينما قال الله عزّ وجل :

﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾

[ سورة فاطر : 28 ]

 إنما أداة قصر أي العلماء وحدهم وليسَ أحدٌ سِواهُهم هم الذين يخشونَ اللهَ عزّ وجل، شيء آخر : الأرض تدور حول الشمس في مسار إهليلجي والمسار الإهليلجي يعني شكلٌ بيضوي لَهُ قطرٌ صغير وقطرٌ كبير ، الأرض حينما تصل إلى القُطر الأصغر تزيدُ من سُرعتِها لماذا ؟ لو لم تَزِد من سُرعتِها لجذبتها الشمس وانتهت الحياة من على سطح الأرض ، والأرض إذا أُلقيت في جوف الشمس قرأتُ بعض المقالات العلمية تتبخرُ في ثانيةٍ واحدة ، حرارة مركزِها عشرون مليون درجة ، لو أنَّ الأرض بقيت على سرعتها السابقة وهيَ في سيرها حولَ الشمس فلمّا اقتربت من الشمس ، قانون الجاذبية متعلّق بالمسافة والكُتلة ، فإذا جذبت الشمس الأرض ودخلت إلى جوفِها احترقت وتبخرّت ، ماذا تفعل الأرض وهذا من فِعل الله عزّ وجل تزيدُ من سرعتِها زيادةً ينشأُ عنها قوةٌ نابذةٌ تُكافِئُ القوة الجاذبة من أجلِ أن تبقى في مسارِها :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾

[سورة فاطر: 41]

 الزوال هوَ الانحراف ، أمّا حينما تصلُ هذهِ الأرض إلى القَطرِ الأبعد تُبطّئُ من سُرعتِها ، لو أنها حافظت على سرعتها العالية لتفلّتت من جاذبية الشمس فإذا تفلّتت من جاذبية الشمس تجمدت الأرض وأصبحت حرارتها مئتان وسبعون درجة تحت الصفر وهوَ الصِفرُ المُطلق وانتهت الحياة من على سطح الأرض ، إذاً :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾

[سورة فاطر: 41]

 فالأرض في سيرها حولَ الشمس تتسارع وتتباطأ ، تسارع الأرض بطيء وتباطؤها بطيء ، لماذا ؟ لو كان تسارع الأرض سريعاً لانهدم كُلُ ما عليها بِفعلِ قانون العطالة ، ولو كانَ تباطؤها سريعاً لانهدم كُلُ ما عليها وهذا يؤكدُ لُطفَ الله عزّ وجل :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾

[سورة فاطر: 41]

تطابق الحقائق العلمية مع القرآن تزيدُ فهمنا عُمقاً وتأثُّراً بالآيات الكونية :

 شيء آخر : لو أنَّ هذه الأرض فرضاً تفلّتت من جاذبية الشمس وانطلقت في الفضاء الخارجي وأردنا أن نُعيدها إلى الأرض قالَ عُلماء الفلك : " نحتاج إلى مليون مليون حبل فولاذي " ، والحبل الفولاذي هو أمتن عنصر على وجه الأرض ، هذا الحبل يجب أن يكونَ قطرهُ خمسة أمتار ، نحتاج إلى مليون مليون حبل فولاذي مضفور قُطرُ كُلِّ حبلٍ خمسةُ أمتار ، كُلِّ حبلٍ يُقاوِمُ من قِوى الشد مليوني طَن ، الحقيقة أنَّ الأرض مرتبطة بالشمس بقوةٍ تُعادلُ مليونين مضروبة بمليون مليون من الأطنان ، كُلُ هذهِ القوة الجاذبة ، دققوا أيها الأخوة ، من أجلِ أن تحرِفَ الأرض ثلاث ميليمترات كُل ثانية ، إذا انحرفت في سيرها ثلاثة مليمترات كُل ثانية تبقى في مسارٍ مغلقٍ حولَ الشمس :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾

[سورة فاطر: 41]

 فلو أردنا أن نُعيدَ الأرضَ إلى جاذبية الشمس لاحتجنا إلى مليون مليون حبل فولاذي، كُلُ حبلٍ يتحمل من قِوى الشد ما يزيد عن مليوني طَن ، هذهِ الحِبال إن أردنا أن نزرعها على سطح الأرض المُقابل للشمس نُفاجئ أنَّ بينَ كُلَ حبلين نجدُ مسافة حبلٍ واحد ، إذاً نحنُ أمام غابةٍ من الحِبال تحجبُ عنا أشعة الشمس تُعيق الحركة وتُعيقُ كُلَّ إنشاء وكُلَّ عملٍ وكُلَّ نشاطٍ بشري ، ربُنا عزّ وجل يقول :

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾

[سورة الرعد: 2]

 قالَ بعض المُفسرون : بعمدٍ لا ترونها هيَ قِوى التجاذب ، فحينما تأتي الحقائق العلمية متطابقةً مع القرآن الكريم تطابقاً عفويّاً من دونِ تكلّف نَعُدُّ هذهِ الآيات تزيدُ فهمنا عُمقاً وتأثُّراً بالآيات الكونية .

طبيعة الإنسان لا تحتمل أن نُحيطَ بالله عزّ وجل :

 في مطلع هذا اللقاء ذُكر أنَّ هذهِ الآيات الكونية وحدها التي تصِلُ بِنا إلى الله ، قالَ العُلماء : " الآيات الكونية والآيات التكوينية والآيات القرآنية كُلُّ هذهِ الآيات على اختلاف أنواعِها تصِلُ بِنا إلى الله " ، لو نظرنا في أفعال الله أيضاً نَصِلُ من خلالِ أفعاله إلى الله ، لو نظرنا في خلقهِ نصِلُ من خِلالِ خلقِهِ إلى الله ، لو نظرنا في كلامِه ، لكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :" تفكّروا في المخلوقات ولا تفكّروا في الخالق فتهلكوا " .
 لأنَّ طبيعةَ الإنسان لا تحتمل أن تُحيطَ بالله عزّ وجل وهذا شيء مستحيل ، نحنُ نصِلُ إليه ولا نُحيطُ بِهِ :

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾

[سورة البقرة: 255]

 إلا أنَّ هذه الآيات كلما فكرنا فيها وصلنا إلى عظمة الله عزّ وجل ، والآيات الكونية كما قُلت قبلَ قليل أوسعُ بابٍ للدخول منه إلى الله ، وأقربُ طريقٍ نصِلُ من خلالِها إلى الله عزّ وجل .
المذيع :
 شَكَرَ اللهُ ضيفنا الكريم ، لكن الأستاذ محمد راتب الذي يقرأ في الآيات هذهِ وما أكثرها في القرآن الكريم منها ما خَطَبَ العالم كُلَه ومنها ما خصَّ العربَّ في تِلكَ الحُقبة الزمنية عندما نقرأ قول الله تعالى :

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾

[سورة الغاشية: 17-20]

 إلى آخر السورة الكريمة ، بدأَ بالإبل ، يا تُرى لِمَ خصَّ الإبل أولاً ؟ ومن ثَمَّ لِمَ لم يُقدّم السماء مع أنَّ السماءَ أعظمُ خلقاً من الإبل ؟ ومن ثمَّ لِمَ وقفَ عِندَ الإبل مع أنَّ هُناكَ كائناتٌ أخرى قد تكونُ أعظمَ في خلقِها مثلاً وفيما خصّها الله من خصائص ولم يذكُرها القرآن الكريم ؟ فكثيراً ما يتساءل بعضهم إلى حد أنَّ أحدهم وهو الجاهلُ في هذا الأمر يتطاول فيقول : خاطبهم لأنَّ القرآن خاصٌ بالعرب والجزيرة العربية ولِذا خاطبهم بالإبل التي كانوا يُعايشونَها ، فهلا تفضلّتم أن نلفِتَ النظرَ لهذهِ النقطة بالذات .

الشيء الذي نعيشُهُ ونُعاينُهُ وهو ضمن دائرةِ مشاعِرنا وإدراكاتنا أشارَ اللهُ إليه :

الدكتور راتب :
 الحقيقة أنَهُ في كُلِّ شيء لَهُ آيةٌ تدلُ على أنَهُ واحدٌ ، في كُلِّ شيء ، ولكنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى ذكرَ في القرآن الكريم عدداً غيرَ قليل من الآيات الكونية لِحكمةٍ بالغةٍ بالغة ، أنا أرى أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى اختار موضوعات قريبةً مِنّا ، قريبةً من حياتِنا ، قريبةً من إدراكِنا ، كُلُّ شيء خَلَقَهُ اللهُ يَدُلُ عليه ، ولكننا نعيشُ في بيئةٍ محددة ، ومظاهر مُحددة ، وفي معطيات مُحددة ، فالماءُ مثلاً جزءٌ أساسيٌ من حياتِنا ذكرهُ اللهُ عزّ وجل ، ذَكَرَ أيضاً الطعامَ والشراب ، ذَكَرَ خلقَ الإنسان ، فالشيء الذي نعيشُهُ ونُعاينُهُ وضمنَ دائرةِ مشاعِرنا وإدراكاتِنا وحواسِنا أشارَ اللهُ إليه ، ليسَ معنى ذلك أنَّ الذي لم يُشِر إليه ليسَ آيةً تَدُلُ على عظمتِهِ ، لكنَّ الطريقةَ التربوية المُثلى أن تُذكّرَ المُتعلّم بشيء أمامَهُ ، بشيء يعيشُهُ ، بشيء بينَ يديه ، بشيء يُعاينُهُ كُلَّ يوم ، والعلماء لهم قول لطيف حينما قالَ النبي عليه الصلاة والسلام :

(( تجِبُ الزكاةُ في القمح والشعير والتمر والزبيب ))

 هل يُعقل أنَّ المحاصيل الزراعية الأخرى التي نزرعُها الآن لا تَجِبُ فيه الزكاة ؟ العلماء أجابوا إجابةً رائعة قالوا : " هيَ تَجِبُ في عِلّتِها لا في عينِها " ، أيُّ محصولٍ أساسي في حياتِنا كالأرز مثلاً ، تَجِبُ في عِلتِها لا في عينِها ، حينما قالَ النبي عليه الصلاة والسلام :

(( عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ قَالَ هِشَامٌ فِي حَدِيثِهِ لا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ ))

 العُلماء حَمَلوا على هذا الحديث ثلاثاً وثلاثين حالةً يجبُ ألا يقضي القاضي فيها وهوَ متلبسٌ فيها ، فنحنُ حينما يذكرُ الله عزّ وجل آيةً ليسَ المقصود هذهِ الآية بالذات المقصود هذهِ الآية ومثيلاتُها ، إنسان يعيش على ساحل البحر والأسماك إحدى أكبر الآيات التي يُعاينُها هل يُعقل أن نُخاطِبَ الذي يسكن على ساحل البحر بآياتٍ متعلقّةٍ بالصحراء ؟ الإبل :

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

[سورة الغاشية: 17]

 الإنسان يعيشُ مع هذا الكائن الذي جعلهُ اللهُ مُسخرّاً ومُذللاً للإنسان ، فالنقطة الدقيقة جداً الذي أُريد أن أصل إليها ، يعني كأنَّ الآيات الكونية جسر تعبُرهُ لتصل بهِ إلى الله فإذا وصلتَ منهُ إلى الله انتهت مهِمَتُكَ ، فلو أنني أقصد مدينة لي فيها حاجة كبيرة فأيّةُ مركبةٍ تُقلُّني إليها حققت الهدف .

الكون جِسرٌ نعبرُ عليه لنصل إلى الله :

 قد أركب مركبة صغيرة ، كبيرة ، خاصة ، عامة ، بطائرة مثلاً ، بدراجة نارية ، العِبرة أن أصِلَ إلى هذهِ المدينة كي أسعَدَ بالدخولِ فيها فأيّةُ مركبةٍ تُقلّنُي إليها تُحققُ الهدف ، فالكون جِسرٌ نعبرُ عليه لنصل إلى الله لا ينبغي أن نقِفَ عِندَهُ إلى ما شاء الله ينبغي أن ننتقِلَ منهُ إلى الله ، فإذا انتقلنا منهُ إلى الله وصلنا إلى كُلِّ شيء ، فالأصحابُ الكِرام الذينَ عاشوا مع النبي عليه الصلاة والسلام وصلَوا إلى الله وسَعِدوا بِقُربِهِ ولو لم يطلّعوا على هذهِ المعطيات الحديثة جداً التي جاءَ بِها العِلم ، ونحنُ في زمنٍ فيهِ معطيات حديثة جداً فإذا استخدمناها ووصلنا من خِلالِها إلى الله فقد حققنا الهدفَ من وجودِنا .
المذيع :
 هذهِ اللفّتة الطيّبة من فضيلة ضيفنا الكريم وهيَ الحقيقة نقطة هامة جداً جداً القرآن الكريم لم يأتي على سبيل الحصر لِكُلِّ مظاهِرِ هذا الكون وما في هذا الكون ، لو أرادَ أن يكونَ الحصرُ لِما في هذا الكون من آيات أعتقد يحتاجُ إلى مصنفاتٍ ومُجلّداتٍ كثيرةٍ وكثيرة ، ولكن القرآن الكريم جاءَ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، على سبيل المِثال لمّا ذكرَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يذكر الأنبياء كُلَهم إنما ذَكَرَ :

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾

[سورة غافر: 78]

 صلى الله عليه وسلم فإذا الذي أشارَ إليه فضيلة الأستاذ محمد راتب وهذهِ نقطة جداً أعود وأُوكّد أهميتها حتى لا يدورَ في خَلَدِ أيِّ إنسان شك ، فيقول : لِمَ ولِمَ ؟ بلَ إنما هيَ كما تفضّل جِسرٌ يعبُرهُ هذا الإنسان كالذي يُريد أن يَصِلَ إلى هدف ، إذا انتهى الجسر ووصلَ إلى هدفِهِ انتهت الوسيلةُ بعدَ ذلك ، ونحنُ عِندما نصِلُ إلى الله كما وصل أسلافنا الصالحون رضيَ اللهُ عنهم والذين قرأوا القرآن قِراءةَ تدبّرٍ وتفكّر فأولئكَ وصلوا إلى الله سبحانَهُ وتعالى ولم تكن كما تفضلّت المعطيات التي نقرأها اليوم على صفحة الواقع ومع ذلك وصلوا إلى الله ، فنحنُ ينبغي أن نضع في اعتبارِنا هذا الأمر وهوَ : الوصولُ إلى اللهِ سبحانَهُ وتعالى من خلالِ هذهِ اللَفتات الطيّبة التي أكرمنا اللهُ بِها في كتابِهِ الكريم وما أكثرَها في القرآن الكريم .
 فضيلة الأستاذ محمد طبعاً أنا مع آيات الكون لمّا ذكرَ السماء وأنتم أشرتم في أثناءِ حديثكم أنَّ السماء رَفَعَها الله سبحانهُ وتعالى دونَ عَمد . . الذي رَفَع السماوات سبحانَهُ وتعالى كثيراً ما نسمع من الناس من يقول : رفعَ السماوات بِلا عَمد يعني ليسَ لها عَمد ، فيا تُرى والآية هذهِ التي جاءت في سورة لقمان عليهِ السلام ، هذهِ الآية التي جاءت في أوائل سورة لقمان :

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾

[سورة لقمان: 10]

 فإذاً كلمة " بغيرِ عمدٍ ترونها " توحي هذهِ بأنَّ هُناك عمدٍ لا تَرونَها ، يوجد عمد لا ترونَها ، فهل يا تُرى هُناك عمد حقيقةً للسماء مثلاً غير مرئية أم يا تُرى لها دلائل أخرى لو تكرّمتم بالإشارة إليها ؟

معجزة الكون :

الدكتور راتب :
 الحقيقة قانون الجاذبية يُوضّح هذهِ الحقيقة ، لو أتينا بكلتين مغناطيسيتين ووضعناهُما على سطّحٍ أملس وجِئنا بكرةٍ معدنيةٍ وأردنا أن نضعَ هذهِ الكرة بينهُما بحيثُ لا تنجذِبُ لا إلى هذهِ الكُتلة ولا إلى هذهِ الكُتلة لوجدنا ذلكَ مستحيلاً لأنَّ مِعشار الميكرون يغلِبُ على بُعدِ المسافةِ بينهُما فتنجذب إلى إحدى الكُتلتين ، أمّا أن تستقرَّ هذهِ الكُرةُ المعدنية بينَ كُتلتين متساويتين متكافئتين على سطحٍ أملس هذا شيء فوقَ طاقة الإنسان ، لو أنَّ هاتين الكُتلتين ليستا متساويتين لكانت المهمة أصعب بكثير ، لو كان هُناك ثلاث كُتل غير متساوية تحتاج إلى دراسات طويلة جداً ، لو أنَّ هُناك كُتل تُشكّل فراغاً لا سطحاً ، كُتل في فراغ متفاوتة في حجمِها وفي مسافاتِها البينيّة لوجدنا أنَّ هذا من سابع المستحيلات ، فكيفَ إذا كانت هذهِ الكُتل متحرّكةً ، متفاوتةً في حجومِها وفي أبعادِها وفي حركاتِها والمُحصلّة هذا التوازن الحركي الذي سمّاهُ العُلماء بمعجزة الكون ، التوازن الحركي ، لو أنَّ هذهِ الكواكب توقفت عن الحركة ماذا يحدث ؟ لأصبَحَ الكونُ كُلُهُ كُتلةً واحدة ، لأنَّ قِوى التجاذب تعملُ عملَها ، أمّا هذهِ الحركة ينشأُ عنها قِوى النبذ ، قِوى النبذ دائماً تتكافأ مع قِوى الجذب ، فهذا الوضع المُعجز هي قوى التجاذب التي هيَ رفعُ السماء بغيرِ عمدٍ نراها هيَ بأعمدةٍ لا نراها ، لكن شتّانَ بينَ من يحمِلُ عدةَ قِطعٍ من الحديد بيمينهِ وبينَ من يجعلُها تتحرك في فراغٍ ، حركات متباينة وهيَ بحجوم مختلفة وأبعاد مختلفة والمُحصّلة توازن حركي ، هذا من أعظم الآيات الدالةِ على عظمة الله سبحانَهُ وتعالى .
 الحقيقة هُناك إشارات في القرآن الكريم أنَّ الأرضَ كُرة لكنَّ عظمة المُربّي أنَّ اللهَ جعلَ شرحَ هذهِ الفِكرة على شكلٍ إشاري لا على شكلٍ واضحٍ جليّ ، لماذا ؟ لأنَّ الإنسان في عصرِ نزول القرآن يعيشُ في صحراء ممتدة تبدو لهُ مُسطحة ، هيَ في الحقيقة مساحةٌ ضيّقة إذا قيست بمساحة الأرض الكُبرى فكأنَّ اللهَ عزّ وجل راعى فهمَ هؤلاء وراعى فهمَ الذين سيأتون بعدهم فقد جعلَ في القرآنِ إشاراتٍ إلى أنها كُرة مثلاً :

﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾

[سورة الحِجر: 19]

الحكمة من استخدام الله الطريقة الإشارية دون الطريقة التفصيلية :

 ليسَ هُناكَ من شكلٍ هندسيّ تمتدُّ فيهِ الخطوط إلى ما لا نهاية إلا الكُرة :

﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾

[سورة الحِجر: 19]

 شيء آخر :

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾

[سورة الحج: 61]

 أيُّ شكلٍ هندسي لو أنَهُ مُكعّبٌ أو هرمي الشكلِ أو مخروطي الشكلِ إذا دارَ أمام منبع ضوئي لابُدَ أن يأتي الضوءُ فجأةً عِندَ حروفِهِ ، أمّا الشكل الهندسي الوحيد الذي إذا دارَ أمام منبعٍ ضوئي تداخلَ الضوءُ مع الظلام فهوَ الكُرة :

﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾

[سورة الحج: 61]

 والدُحيّةُ هيَ الكُرة :

﴿ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ﴾

[سورة الشمس: 6]

 إذاً الأرضُ كُرة لكن تبدو للإنسان الذي يعيش عليها مسطحة ، والتسطيح تذليل ، لذلك يوجد آيات قرآنية دقيقة جداً قالَ تعالى :

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾

[سورة الحج: 27]

 ولم يَقُل بعيد ، المعنى المُتبادل بعيد لكن الله يقول :

﴿ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾

[سورة الحج: 27]

 معنى هذهِ المسافة إذا امتدت على كُرةٍ تأخذُ بُعداً ثانياً وهو العُمق ، فالخطوط إذا امتدت على سطح الكُرة تأخذُ شكلَ الانحناء ، فهذهِ إشارةٌ أيضاً دقيقةٌ جداً إلى أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى أشارَ بطريقةٍ إشارية دون أن تكون الطريقة تفصيلية مراعاةً لمن نزلَ عليهم القرآن ولمن سيأتون بعدَ من نزلَ عليهم القرآن وهذا من تربية الله لنا واللهُ أعلم .
المذيع :
 الحقيقة الآيات الكونية كثيرةٌ وكثيرة في هذا الكون ، ونحنُ لم نعرض هذا الموضوع لنستقصي إنما لِنَذكّر ، ونُقاطٌ أثرناها مع ضيفنا الكريم حتى نلفِتَ نظرَ الأخوة المشاهدين إلى ما توصّلَ إليهِ المفسّرون القُدامى وما نقرأهُ في بطونِ تِلكَ التفاسير جزى اللهُ تعالى أولئك المُفسّرين عنّا خيرَ الجزاء فيما اجتهدوا فيهِ وتوصلّوا إليه من تفسير ، ولكن نُحبُ أن نقولَ لهم : عندما مثلاً يأتي رأيُ مُفسرٍ مهما بَلَغَ مثلاً كشيخ المُفسّرين ابن جرير الطبري رَحِمَهُم الله جميعاً ، اجتهدَ الرجل رَحِمَهُ الله ورضيَ الله عنه ولكن قد يكون في اجتهادهِ هذا فيما توصّلَ إليه بأداةٍ كانت لديهِ موجودة ولكن ليسَ على سبيل القطع ، فإذا جاءَ الآن ما يؤكدُ تفسيراً آخر وفهماً آخر لا يتعارض مع القرآن لكنهُ قد يتعارض مع رأي مُفسّرٍ من المُفسّرين فنحنُ لا نجزمُ بأنَّ ما توصّلَ إليهِ ذلكَ المُفسّر هوَ حق يقيني قطعي ، إنما هوَ ظنيّ ، اجتهدَ في هذا فقد يُصيب وقد يُخطئ ، أمّا القرآن الكريم فيبقى وسيبقى وعلى مرِّ الزمان إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها يبقى هوَ الحق وما سِواهُ تَبَعٌ لَه ، فإذا جاءَ حقٌ توافقَ مع القرآن فعِندَ ذلك يكون الحق هو القرآن أولاً وآخراً ، وإذا جاءَ ما يتعارض مع القرآن فإنَّ القرآن الكريم لا يُعارَضُ حقاً أبداً ولا يُعارِضهُ حق ، ولكن نقول لإخواننا دائماً طلبة العِلم ونقول للمسلمين المُشاهدين هذا القرآن الكريم فيهِ الجديدُ والجديد ، وصدقَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ وغيرُه عندما قالَ عن القرآن : " لا تبلى جِلدتُه ولا يخلقُ على كثرةِ الردّ ولا تنتهي عجائبُه ولا يشبعُ مِنهُ العُلماء ".
 أيها الأخوة المشاهدون ؛ ليسَ لنا في خِتامِ هذا اللقاء اليوم إلاّ أن نتقدّمَ بشُكرِنا الجزيل لضيفنا الكريم الأستاذ محمد راتب النابلسي على ما تفضّلَ به وإلى أن نلتقي معكم إن شاء الله تعالى أستودع الله دينكم وأماناتِكم وخواتيمَ أعمالِكُم . والسلامُ عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور