- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر .
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المعصية أساسها نقص علم بمعرفة الله :
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا مع المنهج التعليمي القويم ، الذي انطوت عليه وصية لقمان الحكيم لابنه ، ووصلنا إلى قوله تعالى :
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
حبة الخردل صغيرة جداً ، ضائعة لا وزن لها ولا قيمة ، هذه الحبة :
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
لو أن هذه الحبة ، من الخردل ، التي لا وزن لها ، صغيرة صغيرة ضائعة لا قيمة لها ، كانت في أعماق صخرة في باطن الأرض ، يستحيل على البشر مجتمعين أن يأتوا بها ، أو أنها في السموات ، في هذه المجرات التي لا يعلم عددها إلا الله ، أو في أصقاع الأرض التي لا يحصيها إلا خالقها ، هذه الحبة يأتي بها الله ، هذا هو علم الله عز وجل .
"حينما جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد عظني ولا تطل فتلا عليه قول الله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾
قال : كُفيت ، فقال عليه الصلاة والسلام فقه الرجل " .
لو لم يكن في القرآن الكريم كله إلا قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾
لا يعصي الإنسان ربه إلا بنقص في علمه ، حينما يشعر أن الأمور هكذا ، قد لا يُحاسب ، قد لا يدفع ثمن هذه المعصية ، يعصي ، أما حينما يعلم أنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، فلا يمكن أن يعصي الله عز وجل ، المعصية أساسها نقص في العلم ، نقص في معرفة الله ، والإيمان الذي ينجي هو الإيمان الذي يحمل على طاعة الله ، فإذا كان في السلوك خلل ، إذا كان في الكسب شبهات ، إذا كان في الإنفاق مشكلات ، إذا كان البيت غير إسلامي ، إذا كان العمل غير إسلامي ، معنى ذلك أن هناك نقصاً في العلم عليك أن تستدركه ، وإلا ضاع العمر سدىً .
الله تعالى يعلم و يحاسب و يعاقب :
أيها الأخوة الكرام ، ثلاث كلمات إذا أيقنتم بهن فوالله الذي لا إله إلا هو لا يمكن لإنسان أن يعصي ربه ، إذا أيقنت أنه يعلم ، لا تخفى عليه خافية وأيقنت أنه سيحاسب ، ولن تتفلت من قبضة الله ، وأيقنت أنه سيعاقب استقمت على أمر الله .
أنت مع إنسان قوي ، حينما توقن أن مخالفة أمره تصل إليه ، وأنه لن يسامح ، بل سيعاقب ، لا يمكن أن تجرؤ على معصية إنسان أقوى منك فكيف بالواحد الدَّيان ؟ قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
من كل أسماء الله الحسنى اسمان ، أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، إذا أيقنت أن علمه يطولك ، إنها إن تك مثقال حبة من خردل ، أنت أكبر من حبة خردل ، فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله .
العلماء قدروا أن في الكون ما يقترب من مليون مليون مجرة ، وأن مجرتنا مجرة صغيرة بالنسبة إلى المجرات الكبيرة ، وأن المجموعة الشمسية كلها لا تزيد عن نقطة في مجرة درب التبابنة ، إذا كان في الكون مليون مليون مجرة ، وفي تقدير بعض العلماء أن في المجرة الواحدة مليون مليون نجم . .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
هذا هو علم الله ، لا تخفى عليه خافية ، علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون . .
يعلم السرَّ . . ما أسررت ، وأخفى ، وما خفي عنك ، يعلم خائنة الأعين ، ليس في الأرض كلها مخلوق بإمكانه أن يضبط نظرك . . طبيب يفحص مريضة ، مسموح له أن ينظر إلى مكان الألم ، مكان المرض ، فإذا نظر إلى مكان آخر ، أية جهة في الأرض تستطيع أن تضبطه إلا الله . .
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
هذا علم الله ، والله جل جلاله سيحاسب :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
وسيعاقب . . تيقن من ثلاث كلمات ، وانظر بعدها كيف أنك تتحرى الحق ، تخاف أن تأكل درهماً حراماً ، درهماً واحداً ، تخاف أن تتكلم كلمة لا ترضي الله ، تخاف أن تنظر نظرةً في سخط الله ، عندئذ تحاسب نفسك على النظرة ، وعلى الكلمة ، وعلى أية ذرة من الأعمال ، ألا يكفينا قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾
العدل أساس استقامة الحياة الإنسانيّة :
أيها الأخوة الكرام ، في أي مجتمع ، مجتمع مدرسة ، مجتمع مستشفى ، مجتمع معمل ، مؤسسة ، مسجد ، لا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بالعدل ، العدل يسع الجميع ، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الإنسانية إلا بالعدل . .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
هذا درس بليغ ، درس في العدالة بليغ . .
يُذكر أن بعض زعماء أوربا ، عقب الحرب العالمية الثانية ، التي ما أبقت شيئاً ، أكلت الأخضر واليابس ، وقف هذا الزعيم يخاطب أركان حكومته ، سأل وزراءه واحداً واحداً ، كيف الصناعة عندك يا مستر فلان ؟ قال له : المعامل كلها مدمرة . . . كيف الزراعة عندك يا سيد فلان ؟ . . الحقول كلها محروقة ، كيف المال عندك يا فلان ؟ . . الخزينة فارغة فسأل وزير العدل ، كيف العدل عندك يا فلان ؟ قال : بخير ، قال : كلنا إذاً بخير .
أيها الأخوة الكرام : اعدل بين أولادك ، اعدل بين موظفيك ، الظلم ظلمات يوم القيامة ، اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً ، بل إن الله سبحانه وتعالى يجب دعوة المظلوم لا لأنه استوفى شروط الدعاء ، لا ، يجب دعوة المظلوم لا بأهلية منه بل بعدل الله عز وجل . .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
كم من أب مسلم يعطي الذكور ولا يعطي الإناث ؟؟ هذا ظلم شديد ، كم من أب مسلم يعطي أولاده من هذه الزوجة ويحرم أولاده من تلك الزوجة ؟ كم . . ؟ كم من أب مسلم يضرُّ بالوصية فتجب له النار ؟
أيها الأخوة الكرام : هذه الآية وحدها تكفينا :
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
" يا محمد مثّل بهم كما مثلوا بأصحابك ، قال : لا أمثل بهم فيمثل الله بي ولو كنت نبياً " أحياناً الإنسان يحتاج إلى أتباع يقبل ولاءهم فقط ، وهم يفعلون ما يفعلون ، ولكن الدين شيء آخر ، لن تتقرب من الله ، لن يسمح لك أن تقف بين يديه ، وأن تشعر بنشوة الصلاة ، إلا إذا كنت مستقيماً .
(( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))
قل ما شئت لكنه يحجبك بسيئتك ، الذنوب قواطع ، والسيئات موانع . .
العدل منهج لكل مسلم :
يا أيها الأخوة الكرام : المنهج :
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
قاض في زمن المنصور ، طلب مقابلته ليرفع له استقالته ، قال : ولمَ ؟ قال : والله يا أمير المؤمنين طُرق بابي قبل يومين ، طرقه طارق وقد قدم طبقاً من رطب ، فسألت غلامي من الذي قدمه ؟ . . قال : رجل ، قلت : صفه لي ؟ قال : صفته كيت كيت ، فعلمت أنه أحد المتخاصمين عندي ، قلت : رده له ، رد الطبق ، في اليوم التالي وقف أمامه المتخاصمان وكان الحق مع الذي لم يقدم الطبق ، فحكم له على الذي قدم الطبق ورده ، قال : والله يا أمير المؤمنين ، تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم الطبق مع أني رفضته كيف لو قبلته ؟ رفض الطبق فقدم استقالته . .
لا يستقيم أمر البيت إلا بالعدل بين الأولاد ، ولا يستقيم أمر مدرسة إلا بالعدل بين الطلاب ، ولا يستقيم أمر مستشفى إلا بالعدل بين الأطباء والمرضى . .
أيها الأخوة الكرام : هذا منهج لحياتنا .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
البعوضة من آيات الله الدالة على عظمته :
هناك قاعدة : " كمال الخلق يدل على كمال التصرف" انظر إلى خلق الله عز وجل.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾
هذه البعوضة التي لا شأن لها ، التي لا قيمة لها :
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
هذه البعوضة فيها جهاز رادار ، وفيها جهاز تحليل ، وفيها جهاز تخدير ، وفيها جهاز تمييع ، تطير في الظلام الدامس ، تأتي على جبين الطفل عن طريق جهاز رادار تملكه ، وتأخذ عينة من دمه فتفحصه ، لا يناسبها ، تنتقل إلى أخيه ، تميع الدم كي يدخل في خرطومها، ثم تخدر الطفل كي لا يضربها . . بالرادار ، والتحليل ، والتمييع ، والتخدير . .
ولها ثلاثة قلوب ، قلب مركزي ، وقلب لكل جناح ، والجناح يرفُّ أربعة آلاف رفة في الثانية الواحدة ، وفي أرجلها مخالب إذا وقفت على سطح خشن ، وفي أرجلها احتياطات أخرى ، محاجم إذا وقفت على سطح أملس ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾
كمال الخلق ـ هل يمكن أن يكون هذا الخالق الحكيم ، العظيم ، العليم ظالماً ؟ ! .. كمال الخلق يدل على كمال التصرف . .
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *﴾
ورد في الأثر أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : - هكذا قرأت - قال : " يا عائشة لعلها تمرة أكلتها من تمر الصدقة "
هكذا ربنا عز وجل : " إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً "
العاقل من بنى حياته على تقوى الله :
أعلى درجة في الذكاء أن تقف عند حدودك ، ألا تأخذ ما ليس لك ، لأن الله سبحانه وتعالى سيحاسب ، قال تعالى :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
و :
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
يجب أن تبني بنيانك على تقوى من الله ، يجب أن تبني تجارتك على الاستقامة ، يجب أن تبني دخلك على المال الحلال ، وإلا هناك تدمير لا يعلمه إلا الله .
هذا منهج في التعليم . .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾
الدين اتصال بالله عز وجل :
والشيء الثاني في هذا المنهج :
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
أقم الصلاة . .الدين كله اتصال بالله ، الدين كله ملخص بكلمتين :
﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
الدين كله اتصال بالخالق وإحسان للمخلوق ، هناك حركة نحو الله ، اتصال بالله ، وهناك حركة خيرة نحو الخلق ، وبين الحركتين علاقة مستديرة ، بمعنى أنه كلما أحسنت إلى الخلق رأيت الطريق سالكاً إلى الله ، ولكما ازددت صلاةً ، ازددت كمالاً ، فانعكس هذا على خلق الله .
الصلاة تؤدي إلى مزيد من الكمال في معاملة الخلق ، والكمال في معاملة الخلق يؤدي إلى مزيد من الاتصال بالله عز وجل .
الصلاة عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومن تركها فقد هدم الدين .
الإنسان خلق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره :
إن الإنسان خُلق هلوعاً . . ما معنى هلوع ؟ فسرتها الكلمات التي أتت بعدها : إن الإنسان خُلق هلوعاً إذا مسَّه الشرُّ جزوعاً . . سرعان ما ترتعد فرائصه ، سرعان ما تنهار قواه بالخبر السيئ ، هكذا خلقه الله عز وجل ، خلقه شديد الخوف ، شديد الجزع :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
شديد الخوف لخطر أمامه ، حريص حرصاً بالغاً على ما في يديه ، أي جبن وبخل، جبلة الإنسان هكذا ، ضعف في أصل خلقه :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
لماذا ؟ . . خلقه جزوعاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره ، لو لم يخلقه جزوعاً ما تاب إلى الله ، ولا أقبل عليه ، ولا انطلق إلى بابه ، أما خوفه الشديد فيدفعه إلى باب الله ، يدفعه إلى أن يتوب ، هذا الضعف في أصل خلقه يشبه ما يسميه الكهربائيون بالفيوز في الآلة ، آلة غالية جداً فيها فيوز ؛ نقطة ضعف على ممر التيار ، فإذا جاء التيار شديداً فجأة ساح هذا الخط الضعيف ، وانقطع التيار عن الآلة ، فحُفظت الآلة ، ولو كانت هذه النقطة غير موجودة لاحترقت الآلة ، فدائماً مثل أن نقطة الضعف في أصل خلق الإنسان بمثابة هذه الفيوز في الآلة الغالية جداً .
إن الإنسان خُلق هلوعاً . . هكذا خُلق ، ضعف في أصل خلقه . . ولماذا خلقه منوعاً ؟ حتى إذا أنفق المال ارتقى به ، من منا يرقى إذا أمسك قبضة من رمل وأعطاها للفقير؟ . . لا قيمة لها . . من منا يرقى إذا أطعم الفقير طعاماً فاسداً ؟ . . من منا يرقى إذا ألبس الفقير ثوباً مهترئاً ؟ لأنه لا قيمة له عنده ، لا ترقى إلا بالشيء الطيب ، الشيء الجيد ، الشيء الجديد ، فلذلك خُلق منوعاً ؛ ليرقى إذا أنفق ، لا يرقى بإنفاقه إلا إذا كان منوعاً :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
هذا الذي اتصل بالله عز وجل نجا من هاتين الفئتين ، لأنه وثق بما عند الله ، صار كريماً ، وصار شجاعاً ، عرف بأن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، توحيده جعله كريماً ، وتوحيده جعله شجاعاً ، ولكن أيها الأخوة الكرام ذكرت هذا من قبل ، إذا قلت كلمة إنسان على من تنطبق ؟ تنطبق على خمسة آلاف مليون الآن ، لو أضفت عليها كلمة واحدة إنسان مسلم . . ضاقت الدائرة من خمسة آلاف مليون إلى مليار ومئتي مليون ، فلو قلت : إنسان مسلم عربي ، مئتا مليون ، من مليار ومئتي مليون إلى مئتي مليون ، لو قلت : إنسان مسلم عربي مثقف ، ضاقت الدائرة :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴾
طبقوا هذه القاعدة على هذه الآية . .
كلما أضيفت كلمة ضاقت الدائرة ، فهذا المصلي الذي ينجو من الهلع ، وينجو من الحرص والطمع ، وينجو من الخوف والجبن ، هذا المصلي تلك هي صفاته كلها ، فإن اختلت واحدة ضعفت هذه الثمرة التي ينالها من الصلاة .
الصلاة قرب ووعي و إدراك :
الصلاة في أدق تعاريفها القرآنية قرب من الله ، قال تعالى :
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾
والصلاة في أدق تعاريفها وعي وإدراك ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾
فهذا الذي لا يعلم ما يقول في الصلاة في حكم السكران ، هو ليس سكران ، ولكنه في حكم السكران . .
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
" الصلاة- كما ورد في مسند الإمام أحمد- ميزان فمن وفى استوفى" .
لا سمح الله ولا قدر ، الإنسان إذا زلت قدمه وقع في مخالفة ، وقام ليصلي ، يشعر أن هناك حجاباً كثيفاً بينه وبين الله ، فالصلاة ميزان فمن وفى الصلاة حقها استوفى منها ثمراتها " الصلاة ميزان فمن وفى استوفى " .
الرادع الخارجي والوازع الداخلي :
شيء آخر : مجتمع الغرب بأكمله قائم على الردع الخارجي ، وكلما وضعنا ردعاً خارجياً جاء هذا الإنسان الذكي فاخترع ما يبطله . .
نريد أن نقيد السرعات على الطرقات العامة ، نضع جهاز رادار لكشف السرعات العالية ، يأتي الإنسان فيصنع جهازاً يكشف جهاز الرادار . . كنت راكباً سيارة في أمريكا ، سمعت إشارات صوتية قلت : ما هذه ؟ قال : هذا الجهاز ينبهني أنه بعد خمسة كيلو متر جهاز رادار ، يخفض السرعة ، عطل كل هذا النظام ، هذه معركة بين عقلين قد يكون واضع النظام ذكياً ، والمواطن أذكى منه ، الآن هم يحتاجون إلى اختراع جهاز يكشف أجهزة السيارات . . والمعركة لن تنتهي .
أما النظام الإسلامي فمبني على الوازع الداخلي ، وشتان بين الرادع الخارجي والوازع الداخلي .
في ليلة واحدة في بعض مدن أمريكا انقطعت فيها الكهرباء فارتكبت فيها مئتا ألف سرقة . . مئتا ألف سرقة ارتكبت في ليلة واحدة ، لأن النظام أساسه ردع خارجي ، أما الإسلام فنظامه داخلي ، قال تعالى :
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
يا هذا بعني هذه الشاة - راعي - قال : ليست لي ، قل لصاحبها ماتت ، ليست لي ، خذ ثمنها ، قال : والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله . .
هذا هو الدين كله ، هذا الراعي ليس عنده مكتبة ضخمة ، ولا حضر مؤتمراً إسلامياً ، ولا اطلع على الفكر الآخر ، ولا ردّ على هذه النظريات ، لكنه اتصل بالله فعرف عظمته ، فوضع يده على جوهر الدين . . إذا قلت أين الله فأنت مسلم ، ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ، الإيمان عفة ، عفة عن المطامع ، عفة عن المحارم ، هذا هو الإيمان :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
المتصل لا يأكل المال الحرام .
من صحت رؤيته صحّ عمله :
دققوا في هذه الآية :
﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾
الزوجان خلطاء ، والجاران خلطاء ، والشريكان خلطاء ، قال تعالى :
﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾
استنبط علماء المسلمين من هذه الآية أن الذي يبغي على خليطه ليس مؤمناً ، الذي يأخذ ما ليس له ، عشرات ألوف الدعاوى في قصر العدل كلها افتراء وتزوير واحتيال لأخذ ما ليس لك .
سنتان بالتمام والكمال ، ولم يرفع إليه أحد قضية ، سنتان بالتمام والكمال ولم يرفع إليه أحد قضية ، هذا هو العدل . .
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
أي أكبر ما فيها أن تذكر الله ، والدليل :
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
وقال بعض العلماء في تفسير آخر : إنك في الصلاة تذكره وإذا ذكرته ذكرك ، وذكره لك أعظم من ذكرك له ، إذا ذكرك طمأنك ، وإذا ذكرك وفقك ، وإذا ذكرك حفظك ، وإذا ذكرك أيدك ، وإذا ذكرك نصرك ، ذكره لك أعظم من ذكرك له ، ولذكر الله أكبر .
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
الصلاة نور :
في الحديث الصحيح :
(( الصلاة نور))
نور يقذفه الله في قلبك ، قال تعالى :
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
نور . . إذا صحت الرؤيا صح العمل ، وإن صح العمل سلمت وسعدت ، الذي يسرق لماذا يسرق ؟ لأنه يرى خطأً أن السرقة شطارة ، والذي يزني لماذا يزني ؟ . . لأنه توهم خطأً أن الزنا مغنماً . أما حينما ترى حقائق الأمور ، حينما ترى الحقائق يصح العمل ، لذلك الصلاة نور ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
نور تمشي به . . فالصلاة نور .
الصلاة طهور :
هناك شيء آخر : " الصلاة طهور " . .
مستحيل إنسان اتصل بالله يحقد . . لا يحقد ، مستحيل إنسان اتصل بالله يحتال ، يتكبر ، يتعجرف ، يتغطرس ، يحتقر الناس ، هذه صفات المنقطع عن الله :
(( إن محاسن الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبدا منحه خلقاً حسناً ))
علامة المصلي متواضع ، علامة المصلي رحيم ، علامة المصلي حكيم ، علامة المصلي حليم ، علامة المصلي منصف ، علامة المصلي يتبع العدل ، فإذا رأيت ظلماً ، وانحرافاً ، وقسوةً ، وكبراً ، وعجرفةً ، وبذاءة ، هذا الإنسان احكم عليه قطعاً أنه لا يتصل بالله ، قد يؤدي حركات الصلاة ، لكنه لا يتصل بالله ، لو اتصل بالله لكان إنساناً آخر لذلك الصلاة طهور كما قال عليه الصلاة والسلام ، تطهر صاحبها من الدنس ، ما فيه حقد ، ولا فيه حسد ، ولا فيه كبر ، ولا فيه صفة مذمومة .
ما هذا الأدب يا رسول الله ؟ ما هذا الأدب ؟ أدب جمٌّ . . جاءه عكرمة مسلماً ، أعطى توجيهاً ، قال : جاءكم عكرمة مسلماً ، فإياكم أن تسبوا أباه . . من أبو عكرمة ؟ . . أبو جهل ، أعدى أعداء النبي ، إياكم أن تسبوا أباه فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت .
طالب علم جاء من بلد إفريقي جالس مع إخوانه ، ذكر اسم والده قال له أحدهم : أبوك مؤمن مستقيم ؟ . . فانزعج . . الأب الكافر العدو اللدود ، قال : " إياكم أن تسبوا أباه ، فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت" .
ما هذا الأدب يا رسول الله قال :
(( أدَّبني ربي فأحسن تأديبي ))
هذا أدب الصلاة ، هذا الذي يصلي هكذا يكون .
الصلاة سرور :
الصلاة نور ، والصلاة طهور ، والصلاة سرور :
(( أرحنا بها يا بلال ))
لسان حال المقصرين : أرحنا منها . . وهذا هو الفرق بين الواجب والحب ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب . . لو أن الآية تطمئن القلوب بذكر الله ، ليس هذا هو المعنى ، تطمئن بذكر الله وبغير ذكر الله ، أما حينما قدم ألا بذكر الله تطمئن القلوب فالقلوب لا تطمئن إلا بذكر الله . .
لذلك سمعت هذا من إخوة كثيرين ، إنسان حقق نجاحاً اقتصادياً صار معه ملايين مملينة ، شاعر بفراغ ، إنسان حقق نجاحاً إدارياً ، بلغ منصباً رفيعاً جداً ، شاعر بفراغ ، إنسان حقق نجاحاً علمياً نال أعلى شهادة ، شاعر بفراغ ، في النفس فراغ لا يملؤه إلا الإيمان بالله وطاعته والإقبال عليه ، هذا الفراغ قائم ، فإن لم تملأه الدنيا كلها لا تملأ هذا الفراغ ، لذلك " أرحنا بها يا بلال " . . وعن السيدة عائشة : " كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة " .
وتقول السيدة عائشة أيضاً :
(( كان عليه الصلاة والسلام يحدثنا ونحدثه ، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا نعرفه ولا يعرفنا ))
أحياناً موظف يطلبه رئيسه ، يقف على المرآة يهيئ نفسه ، نظر إلى هندامه ، إلى ثيابه ، إلى شعره ، يدخل إلى مديره العام ، فكيف إذا وقفت بين يدي الواحد الديان ؟ . .
سيدنا سعد يقول : ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ، ما صليت صلاةً فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها ، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها ، ولا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من كتاب الله تعالى .
الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها بل من فرائضها :
أيها الأخوة الكرام ، أختم هذه الخطبة بالأثر القدسي :
(( ليس كل مصلٍّ يصلي ، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكف شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي ، وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب ، كل ذلك لي ، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً ، والظلمة نوراً ، يدعوني فألبيه ، ويسألني فأعطيه ، ويقسم علي فأبره ، أكلؤه بقربي ، وأستحفظه ملائكتي ، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها ))
قال تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
من هم ؟ . . الذين هم في صلاتهم خاشعون . .قال العلماء : الخشوع في الصلاة ليس من فضائل الصلاة بل من فرائضها ، لقوله تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام : حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُقِ العظيم ، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
علاقة الغضب بالصحة :
أيها الأخوة الكرام : بحكم عملي في الإشراف على مجلة إسلامية ، اطلعت على مقالة لفتت نظري ، هذه المقالة مبنية على أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : لا تغضب " .
وكاتب المقالة صديق طبيب ، جاء بالمعلومات العلمية الدقيقة المطول جداً حول الأثر الفيزيولوجي الذي يحدثه الغضب في الجسم ، فالموحد لا يغضب ، والمتصل بالله لا يغضب ، والغضب صفة لا تليق بالمؤمن يقول عليه الصلاة والسلام " لا تغضب " . . وسأعالج هذا الموضوع إن شاء الله في درس مطول ، في درس الأحد .
على كلّ ملخص هذا الموضوع أن الانفعالات الشديدة تحرض الغدة النخامية على إفراز هرمونها المحضر لغدة الكظر ، غدة الكظر تعطي أمراً للقلب بالتسارع ، فالغاضب نبضه مئة وستون ، وتعطي أمراً للرئتين بسرعة الوجيب ، فالغاضب يلهث ، وتعطي أمراً برفع الضغط ، الضغط يرتفع فجأة ، قد يصل إلى واحد وعشرين ، ومع ارتفاع الضغط هناك خطر نزيف في الدماغ ، خثرة في الدماغ تعني شللاً ، أو جلطة في القلب ، أو عمى مفاجئاً .
قال العلماء : معظم حالات الداء السكري تأتي عقب انفعال شديد ، لأن الإنسان حينما يغضب . . الطريق نفسه ، الغدة النخامية ملكة الغدد تأمر الكظر ، فيعطي أمراً للقلب بالتسارع ، وأمراً للرئتين بسرعة الوجيب ، وأمراً للكبد بطرح كمية كبيرة من السكر ، فالسكر يزداد فجأة في الدم ، وإن السكر يعطي لزوجة في الدم ، لذلك الداء السكري عقب انفعال شديد جداً .
شيء آخر : الغضب الشديد يؤدي إلى ارتفاع شحوم الدم ، وهذه تؤدي إلى تصلب الشرايين ، وهذا يؤدي إلى أمراض في القلب .
شيء آخر : الانفعالات الشديدة تثبط حركة الأمعاء ، فالعصبي المزاج معه إمساك مزمن ، ومع الإمساك المزمن إنتانات ، وتقرحات ، وقد تؤدي إلى سرطانات في الأمعاء .
أما أخطر خطر فهو أن الانفعال الشديد يضعف جهاز المناعة في الإنسان ، ومع ضعف جهاز المناعة تقوى الجراثيم والأورام الخبيثة لذلك جهاز المناعة المكتسب مسؤول عن الأمراض الجرثومية والسرطانية . .
تسع وتسعون بالمئة من مرضى الإيدز عندهم سرطان ، لأنه لما فقد هذا الجهاز فعاليته نمت الخلايا نمواً عشوائياً .
المقال طويل جداً ، وتفصيلات مملة ، لكن ذكرت لكم رؤوس هذه التفصيلات ، هذا هو الغضب ، لذلك كان الحلم سيد الأخلاق .
التوحيد راحة و طمأنينة و ثقة بالله :
الحلم خلق عالٍ جداً ، لكن التوحيد يعينك على الحلم ، إن رأيت الأمر كله بيد الله، وأفعال الله كلها حكيمة ، وكل شيء أراده الله وقع ، وكل شيء وقع أراده الله ، وإرادته متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، انتهى الأمر ، لا شيء يزعج ، هذا الذي حصل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
هذا التوحيد هو برد وسلام ، التوحيد راحة ، التوحيد طمأنينة ، التوحيد ثقة بالله .
سراقة يلحق النبي ليقتله ، قال : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ - دققوا في هذا القول - إنسان سيقتلك ليأخذ مئة ناقة جزاء القتل النبي عليه الصلاة والسلام واثق من أن الله لن يتخلى عنه ، سيوصله إلى المدينة ، وسيؤسس دولة ، وسيحارب الفرس ، وسوف تأتيه كنوز كسرى ، وسوف يلبس سراقة سواري كسرى ، هذا المؤمن واثق من نصر الله ، واثق من أن الله لن يتخلى عن المؤمنين إطلاقاً ، هذا شعور صحي ، شعور مريح .
اسمعوا هذه الكلمة : الإيمان صحة ، صحة بالمعنى المادي ، التوحيد صحة ، أي إن أردت أن تعمل الأجهزة بانتظام ، الضغط معتدل ، والنبض معتدل ، والكولسترول معتدل ، كن مؤمناً ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾
كنت أنتظر أن يقول : والذي يمرضني ويشفيني ، وإذا مرضت فهو يشفين ، عُزي المرض إلى الإنسان ، لضعف توحيده اضطرب ، لضعف توحيده انفعل ، لشركه حقد ، الحقد والانفعال أسبابها الشرك .
الإنسان إيمانه يضفي عليه صحة ، مرةً سمعت أن مريضاً أراد أن يجري عملية في بلد غربي ، فهو نفسه حدثني ، قال : جاءتني ممرضة أدارت ظهرها لي ونسقت الأزهار ، وسألتني عن الطبيب الذي سيجري العملية ، سميت اسمه لها ، قالت : مستحيل هذا ليس عنده وقت ، قال : أنا جئت من الشام لأجري العملية على يد هذا الطبيب . . قالت : لا ، هذا ليس عنده وقت أبداً ، هذا أجرى عشرة آلاف عملية لم تفشل واحدة ، قال لي : شعرت بنشوة كبيرة جداً ، هذه الممرضة جاءت خصيصاً لرفع معنوياته كي تنجح العملية .
العلماء استنبطوا أنه كلما كانت معنويات المريض عالية جداً الشفاء صار قريباً جداً، فلذلك العضوية تضعف أمام النفس ذات الصلة بالله عز وجل ، أما النفس المشركة الضعيفة البعيدة عن الله فقلبها هواء .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك .
اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين .
اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .