- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به و كفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته و من والاه و من تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، احعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المؤمن واضح سريرته كعلانيته و خلوته كجلوته :
أيها الأخوة المؤمنون، أحد التابعين رضوان الله تعالى عليه قال: التقيت بأربعين صحابياً، ما منهم واحد إلا و يظن نفسه منافقاً، لشدة خوفه من الله، و لشدة حرصه على مرضاة الله، و لشدة حرصه على دخول الجنة، و لشدة خوفه من النار.
أيها الأخوة الكرام، المؤمن واضح وضوح الشمس، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ:
(( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ ))
المؤمن واضح، سريرته كعلانيته، و خلوته كجلوته، و ما في باطنه على لسانه، مواقفه واحدة، يعمل تحت ضوء الشمس، لأنه مع الحق، و الحق لا يخشى أحداً، الحق لا يخشى البحث، والحق لا يُستحيا به، و الحق لا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا أن تبالغ في حجمه و لا أن تقلل من خصومه، الحق هو الله عز وجل.
الإنسان الخطير هو المنافق له علانية تناقض سريرته وجلوة تناقض خلوته :
أيها الأخوة الكرام: و الكافر واضح أيضاً، أعرض عن الدين، أعرض عن منهج الله وأراد الحياة الدنيا، وهذا مبلغه من العلم، إنك لن تتأثر بالكافر لأنه يعلن كفره، لن تتأثر بالكافر لأنه صريح في سيره، و لكن الإنسان الخطير هو المنافق:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
***
له موقف معلَن وله موقف مبطَّن، له علانية تناقض سريرته، له جلوة تناقض خلوته، قال تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾
أيها الأخوة الكرام، هذا النموذج الضبابي، هذا النموذج غير الواضح هو الذي يؤذي المسلمين، واللهُ جل جلاله في آية من آيات كتابه الكريم، ضرب مثلاً لهذا المنافق فقال:
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾
و ضرب مثلاً آخر قال تعالى:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
أيها الأخوة الكرام، ضرب الله جلّ جلاله للمنافقين مثلين، مثلاً النار، و مثلاً الماء، لأن الماء رمز الحياة، و الماء مادة الحياة، قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾
والنار مادة النور.
الله تعالى خلق الكون و نوّره بالوحي :
أيها الأخوة، الله جلّ جلاله جعل الوحي بمثابة النور، قال تعالى:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾
وقال تعالى:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾
فكأن الكون كله في كفة، والكتاب في كفة، خلق الكون و نوَّره بالوحي، و حينما قال الله:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
أي أن الهدى هدى الله، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾
وقال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾
وفي الحديث القدسي عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
(( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
((ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام......))
علاقة المنافق بالوحي :
أيها الأخوة الكرام، علاقة المنافق بالوحي أنه دخل في الإسلام، فاستضاء بنوره و انتفع به، وخالط المسلمين و انتفع من أخوَّتهم، وأخذ ميزاتهم، و لكنه لم يطبق أحكام الدين، فأطفئ نوره، و النار أيها الأخوة فيها مادة مضيئة و مادة محرقة، خسر نور النار وبقي حق النار، و المنافق خسر الإضاءة التي تأتي من النار، و بقي له من النار أنها تحرقه، علاقته بالوحي أنه استفاد من ميزات المؤمنين، وثق الناس به، وهو محسوب عليهم، عاملوه كما يعاملون أنفسهم، أخذ كل ميزات المؤمنين و لم يطبق منهج الله عز وجل، فأُطفئ نوره و انطفأ مصباحه، و أظلم قلبه، وبقي له من النار إحراقه.
أيها الأخوة الكرام المنافق في مثل آخر، قال تعالى:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
المطر أيها الأخوة رمز الحياة، و مادة الحياة، و الصيِّب هو السحاب و المطر الذي يصوب من السماء، أي ينزل من السماء، و هذا الوحي المنزَّل من عند الله كما أن الماء فيه حياة كل شيء، كذلك الوحي فيه حياة النفوس.
يا أيها الأخوة الكرام، أنت كإنسان لك جانب مادي غذاؤه الطعام و الشراب، ولك جانب نفسي غذاؤه الاتصال بالله عز وجل، قال تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
هذه القلوب لا يمكن أن تطمئن، و لا أن تستقر، و لا أن ترتاح، ولا أن تتوازن، و لا أن تشعر بالأمن إلا بذكر الله، قال تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
فكما أن الجسم يحتاج إلى غذاء كذلك هذا القلب يحتاج إلى ذكر، و يحتاج إلى اتصال، و يحتاج إلى حب، و يحتاج إلى أن يكون في كنف الله، مطمئناً لوعد الله، و في الإنسان جانب ثالث هو جانب العقل، و العقل غذاؤه العلم، و ما لم يتناول الإنسان الأغذية الثلاثة فهناك عرج في حركته، و هناك خلل في سيره، لا بد من غذاء للعقل ألا وهو العلم، ولابد من غذاء للنفس ألا وهو الذكر والحب والاتصال، ولا بد من غذاء للجسم ألا وهو الطعام و الشراب، فالله عز وجل شبه الوحي وحي السماء بالماء لأن فيه الحياة، حياة القلب أن يعرف الله، حياة القلب أن يعرف منهجه، أن يتحرك وفق منهجه، الإنسان المؤمن في حياته منظومة من القيم، في حركته اليومية شيء مباح، و شيء واجب، و شيء محرّم، و شيء مكروه، يتحرك بعلم، يسير بهدى، فالمنافق علاقته بالوحي أنه استضاء به إلى حين، أما الأوامر و النواهي فكانت كالصواعق، المنافق يريد من الدين مغانمه، ولا يتحمل مغارمه، مع أن حقيقة الإيمان أنه تكليف، و التكليف يحتاج إلى جهد، التكليف من الكُلفة، هناك جهد لا بد من أن تبذله، ففي كل المغانم تجد المنافق في كل صف، و في المغارم لا تجده، قال تعالى:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
لا يطيق الوعيد، ولا يطيق أن ينفذ أمر الله عز وجل، قال تعالى:
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾
يريد من الدين ولائمه و مغانمه وأعطياته و سمعته و ميزاته، ولا يريد من الدين تطبيق منهجه و لا حمل نفسه على طاعة الله عز وجل.
أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾
هذا المنافق يتمنى أن يكون من أهل الجنة حينما يقرأ أوصاف أهل الجنة يتمنى أن يكون مثلهم، قال تعالى:
﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾
فإذا جاء التكليف، وإذا جاء النهي، و إذا جاء الوعيد ابتعد عن هذا، و سلك طريقاً آخر و التقى بمن يحب و ترك المؤمنين.
النفاق نفاقان :
أيها الأخوة الكرام ؛ لعل النفاق نفاقان، نفاق كفر وهو المثل الأول، لقوله تعالى:
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾
هذا النوع الأول وهو نفاق الكفر، المنافق كافر و لكنه أبطن كفره و أعلن إيمانه، هؤلاء لا يرجعون، صم بكم عمي، و لعل النوع الثاني نفاق الشبهات و الشهوات، اختلطت عليه الشبهات فتاه وضغطت عليه الشهوات واتبعها، لا تسخو نفسُه أن يدع المؤمنين و لا أن يطبِّق منهجهم، وهو مائل مع الكفار و المنافقين.
أيها الأخوة الكرام، ليحذر كلّ منا أن تزل قدمُه إلى هذا النموذج فهو نموذج خطير، والإنسان إذا عرف نفسه عرف ربَّه.
على كلّ إنسان أن يكون جريئاً في تقييم نفسه :
أيها الأخوة الكرام: لا بد من أن يكون الإنسان جريئاً في تقييم نفسه، لابد من أن يعرف الحقيقة المرة و لا يرضى بالوهم المريح، لا بد من أن يقيِّم إيمانه تقييماً صحيحاً، وكلما قرأ المؤمن الآيات التي تعرِّف الإيمان يجب أن يقف عندها وقفة متأنية، هل أنا كذلك؟ قال تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾
عنده يقين قطعي أم هناك تردد و شك؟ قال تعالى:
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾
صفات المؤمنين إذا قرأها ينبغي أن يقف عندها وقفة متأنية، أين أنا منها؟ ألم يقل الله عز وجل عن القرآن الكريم إن فيه ذكرنا؟ قال تعالى:
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾
تقرأ الآيات أين أنا من هذه الآيات؟ هل تنطبق علينا صفات المؤمنين أم تنطبق علينا - والعياذ بالله و لا سمح الله ولا قدَّر - صفات المنافقين؟
أيها الأخوة الكرام، لا بد من راحة للنفس، و لا بد من حساب دقيق، و من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً.
حرص المنافق على الدنيا و السعي من أجلها :
قال تعالى:
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾
و قد استنبط العلماء معنى ثالثاً أن المنافق يريد الدنيا و يحرص عليها، و هي عنده كل شيء، الدنيا نهاية مطمحهم، ومحط رحالهم يسعى من أجلها ومن أجل أن يستمتع بها، فإذا وصل إلى بعض مكاسبه منها عاجله الموت و ذهب الله بنورهم.
أيها الأخوة الكرام، الدنيا التي يحصِّلها الإنسان لبنة لبنة يخسرها عند الموت في ثانية واحدة، و لكن المؤمن حينما يرجو الله واليوم الآخر يمشي في طريق آمن و طريق سالك، والمنافق يمشي في طريق مسدود، هذا المعنى الثالث، قال تعالى:
﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾
وصف دقيق للنفاق والمنافقين :
المعنى الأول أـن هذه النار فيها الإضاءة، والإضاءة رمز المعرفة، هو دخل في الإسلام ولما لم يطبِّق تعاليم الإسلام و بقي انتماؤه شكلياً انطفأ نوره، و بقي له من النار إحراقها، خسر نور النار و بقي له إحراقه، هذا هو المعنى الآخر، والمعنى الذي يأتي في الآية الثانية وهي قوله تعالى:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾
هذا الوحي فيه حياة النفوس، قال تعالى:
﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾
الوحي منهج، فيه أمر و فيه نهي، كل شيء له ثمن، ثمن السعادة العظمى التي يقطفها الإنسان من اتباع منهج الله تطبيق أمر الله عز وجل، هل يُعقل أن يرجو الإنسان عطاءً كبيراً بلا سبب؟ أن يرجو تجارة واسعة بلا رأس مال؟ أن يرجو منصباً علمياً بلا شهادة؟ المنافق يرجو هذه الميزات دون أن يدفع الثمن، قال تعالى:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾
حينما تلوح له أوصاف أهل الجنة يتمنى أن يكون مثلهم، قال تعالى:
﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
أيها الأخوة الكرام، هذه أمثال القرآن الكريم، وصف دقيق للنفاق والمنافقين.
تشبيه وحي السماء بالماء لأنه حياة القلوب و الأسماع :
هناك مثل آخر يقول الله جل جلاله:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾
مثل آخر يشبه وحي السماء بالماء، وهذا الماء ملأ الأودية، وكل وادٍ أخذ من السيل بقدر اتساعه، قال تعالى:
﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾
أيها الأخوة، الوحي في المثل الثاني هو الماء، و الماء هو حياة القلوب، حياة الأسماع، حياة الأبصار، ماء أنزل لحياة النبات و القلب كذلك، نزل عليه الوحي من أجل حياته، قلب كبير يسع علماً كبيراً، وقلب صغير يسع علماً قليلاً، و القلب يكبر و لا نرى كِبره، يتضاءل أمامه كل كبر، و يصغر و لا نرى صغره، فيتعاظم عليه كلُّ حقير، القلب الكبير يأخذ من الوحي الشيء الكثير، والقلب الصغير يأخذ على قدره، قال تعالى:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾
و لكن هذا الماء الذي هو الهدى والعلم، حينما يختلط مع حياة الناس لا بد من زبد ولا بد من غثاء يعلوه، وهذه طبيعة الحياة، وقد جاءت في نص هذه الآية، قال تعالى :
﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً﴾
الحق حينما يتفاعل لا بد أن يبرز الخبث، و يظهر الغثاء، و ضرب الله مثلاً آخر أننا إذا أردنا أن نستخلص المعادن الثمينة لا بد أن نعالجها بالنار، و لا بد من أن تفرز النار خبثاً من هذه المعادن، ماذا يفعل الحقُّ أيها الأخوة؟ العادات التي لا ترضي الله، التقاليد التي ورثناها عن الآباء، السلوك غير القويم، الانحرافات الخطيرة، هذه كلها يستأصلها الحق، و تستأصلها الهدى، و يجعلها كالزبد يذهب جفاء:
﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾
أيها الأخوة الكرام، السيل إذا خالط الأرض و مرَّ عليها احتمل منها غثاء و زبداً، و كذلك الهدى و العلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من شهوات وشبهات كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدَّر بها شاربه، وشيء طبيعي جداً أنّ الحق لا يجتمع مع الباطل، فلا بد من أن يستأصل كل الزبد وكل الغثاء، وهذه طبيعة الحياة.
أيها الأخوة تمام نفع الدواء أنه يفرز أخلاط البدن التي تضره، و المثل الثاني أن المعادن النفيسة من أجل أن تستخلصها من فلزاتها لا بد من أن تفرز الخبث الذي لا ينفع الناس.
القلوب أوعية أجلُّها أوعاها :
أيها الأخوة، قال تعالى:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾
القلوب أوعية، أجلُّها أوعاها، قال تعالى :
﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾
فكلما تعلق الإنسان بالإيمان، و كلما ارتقى مقامه عند الواحد الديّان، وكلما كان إخلاصه شديداً، و كلما كانت استقامته تامة، وكلما كان عمله عظيماً، كلما اتسع قلبه للحق، فهو كأمة، قال تعالى:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾
هذا معنى قوله تعالى:
﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾
و لكن تفاعل الوحي مع الحياة اليومية لا بد من أن يفرز ما تناقض معه، وكل شيء يخالف الوحي يجب أن ننبذه، وهو الزبد يجب أن يذهب جفاء، و أما الوحي فهو الماء الصافي يستقر في الوادي، وهو الذي ينفع الناس و يمكث في الأرض.
أيها الأخوة، قلب المؤمن مثل الوادي يستقر فيه الماء الصافي، وأما الزبد فيذهب عنه جفاء، و كل ما توارثه عن آبائه وأجداده من العادات و التقاليد التي لا ترضي الله عزوجل، و كل النماذج الإنسانية المنحرفة هذه يجفوها عن نفسه.
اغترار الإنسان بالحياة الدنيا و الإعجاب بها :
أيها الأخوة، مثل ثالث متعلق بالماء، يقول الله عزوجل:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
شبَّه الله سبحانه وتعالى الحياة الدنيا أنها تتزيّن في أعين الناس فتروقهم بزينتها و تعجبهم فيميلون إليها، و يهوونها اغتراراً منهم، حتى إذا ظنوا أنهم ملكوها و قدروا عليها سُلبت منهم وهم أحوج شيء إليها، هذا يقترب من المعنى الأول في قوله تعالى:
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾
أيها الأخوة: الحياة تغرُّ وتضر وتمر، والإنسان قد يغتر بالحياة الدنيا، فيراها بحجم أكبر من حجمها، ويسعى من أجل نيلها، و قد يسعى إليها على حساب دينه، وعلى حساب مبادئه، و على حساب قيمه، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ﴾
ماء من السماء أصبح جنات و بساتين وحدائق و رياحين و أشجار، و صاحب هذا البستان ظن أنه ملك كل شيء، و أنه في سعادة ما بعدها سعادة، فجأة جاءته ريح عاصف فجعلته يبساً.
الإشراك بالله و تأليه الإنسان :
أيها الأخوة الكرام، وهناك معنى آخر لهذه الآية، قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾
و لا شك أننا في هذا الوقت أخذت الأرض زخرفها، كل شيء فيها مزيَّن، وكل شيء فيها جميل، و ازيّنت، لكن مع هذا الزخرف و مع هذا الرفاه و مع هذا الانغماس في الملذات و مع هذه الأناقة التي ما بعدها أناقة، قال تعالى:
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾
أشركوا بالله عز وجل، و ألَّهوا الإنسان، و ظنوا أن هذا الإنسان ملك كل شيء، و أن كل قوى الطبيعة بيده، و أنه يفعل ما يريد، قال تعالى:
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾
و في بعض التفاسير ظن بعض أهلها أنهم قادرون على استطلاع كل شبر منها، و على تدمير كل شبر منها، قال تعالى:
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾
أيها الأخوة الكرام، ترون و تسمعون كيف أن الزلازل تدمر كل شيء، و أن الفيضانات تدمر كل شيء، و أن الجفاف يدمر كل شيء، و أن كوارث الطبيعة لا تعدّ و لا تُحصى، وهذا كلُّه من كفر البشر، و من انحرافهم، قال تعالى
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾
هذه الحياة الدنيا تغر و تضر وتمر، لذلك قال تعالى بعدها:
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾
إنك إن سعيت إلى الجنة فليس في الجنة كوارث، و ليس في الجنة إحباطات، و ليس في الجنة منغَّصات، و ليس في الجنة مرض و لا هرم ولا عدوّ متسلِّط و لا قهر، و كل أمراض الدنيا من أجل أن نسعى إلى الجنة، قال تعالى:
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
أمثلة ضربها الله في كتابه عن نماذج بشرية لم تنتفع بالوحي :
أيها الأخوة الكرام، آيات ثلاث، الآية الأولى قال تعالى:
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
و الآية الثانية قوله تعالى:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾
والآية الثالثة قال تعالى:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
أيها الأخوة الكرام، هذه الأمثلة، التي ضربها الله في الكتاب الكريم لهذه النماذج البشرية التي لم تنتفع بالوحي بل انتفعت بالدنيا فكان الإحباطُ مصيرها، وكان الخسران نهايتها.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، و سيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت، و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني، و الحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
علاقة الماء بألوان الصخور :
يا أيها الأخوة الكرام، من آيات الإعجاز العلمي المتعلقة بالماء أيضا, أن الله جل جلاله يقول:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾
اختلاف الألوان ورد في ثلاث فقرات في هذه الآية، وقد وجدت بحثا علميا مطوَّلا لا يمكن أن يُلقى من على هذا المنبر، لتعقيده، لكن ملخَّصه: أن ألوان الصخور هي نتاج ألوان المعادن المركونة لها،وألوان المعادن نتاج تركيبها العنصري وبيئتها وتفاعلها مع الماء، فالماء هو العامل الحاسم في تلوين صخور الجبال، لذلك قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾
قد يعجب الإنسان عن علاقة إنزال الماء من السماء واختلاف ألوان الجبال،في بحث مطوَّل جدا, ومعقَّد جدا, وجدتُ من المناسب ألاَّ أقول تفاصيله، ولكن ملخَّصه: أن الماء هذا العنصر الحيوي، والذي يعدّ من أعلى العناصر المذيبة و الفعَّالة، هو العامل الحاسم في تلوين الجبال، فالجبال تأخذ ألوانها من ألوان معادنها التي تشترك في بنيتها، والمعادن تتلوَّن بقدر أكسدتها، والماء له علاقة بهذه الأكسدة،لذلك تجد أن ألوان الجبال أحد عوامل تلوينها, و اختلاف ألوانها من جبال كالغرابيب السود, وجبال جدد بيض و حمر مختلف ألوانها, يعود إلى الماء.أيها الأخوة الكرام، كلما تقدّم العلمُ كشف عن جانب من إعجاز القرآن الكريم العلمي، من أجل أن نعلم علم اليقين أن الذي أنزل هذا القرآن, هو الذي خلق الأكوان، وهذا التوافق بين معطيات العلم, وبين معطيات الوحي هو منطقي إلى درجة قطعية، لأن الوحي كلام الله، فلا بد من تطابق العلم الحقيقي مع النقل الصحيح، لذلك كنتُ أقول دائما: إن الحق دائرة لا بد من أن تتقاطع فيها خطوط النقل الصحيح مع التأويل الصحيح، وخطوط العقل الصريح غير التبريري وخطوط الفطرة السليمة غير المشوهة, وخطوط الواقع الموضوعي غير المزوَّر، فلا بد من أن نعلم علم اليقين أن الذي خلق الأكوان, هو الذي أنزل هذا القرآن.
ما الغاية من طلب العلم ؟
أيها الأخوة, فقد تعجب! قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ﴾
هنا عطف، قال تعالى:
﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
إنما: تفيد القصر والحصر، يعني ما لم تطلب العلم فلا سبيل إلى أن تخشى الله، إن أردت أن تخشى الله الخشية الحقيقية فلا بد من طلب العلم، لأن الله عزوجل, يقول:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
أي العلماء وحدهم, ولا أحد سواهم, هم الذين يخشون الله.
الدعاء :
اللهم أعطنا و لا تحرمنا، أكرمنا و لا تهنا، آثرنا و لا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق و لا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت و لا يعز من عاديت، تباركت ربنا و تعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا و بين معصيتك، و من طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، و متعنا اللهم بأسماعنا و أبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، و انصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، و لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا، مولانا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.