- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عبده و رسوله ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
افتقاد المسلمين في هذه العصور لحقيقة الإسلام :
أيها الأخوة الكرام ؛ الناظر في أحوال المسلمين اليوم يجد بوناً شاسعاً بين حالهم في العصور الثلاثة الأولى ، وبين حالهم في العصور الأخيرة ، كانوا قلة وانتصروا ، والمسلمون اليوم يزيدون على مليار ومئتي مليون ، ولم يحققوا أهدافهم ، أين السر ؟ أين الخلل ؟ أين السبب ؟ هذا سؤال كبير جداً .
أيها الأخوة الكرام ؛ لعل أهم شيء في هذا الدين العظيم بعد سلامة العقيدة الاستقامة على أمر الله ، كل مظاهر الإسلام صارخة في هذه العصور ، ولكن حقيقة الإسلام وهي الاستسلام لله عز وجل ، الانصياع لأمره ، العمل بسنّة نبيه ، العمل بمنهج القرآن ، هذا الذي يفتقده معظم المسلمون في بلادنا .
أيها الأخوة الكرام ؛ لعل في هذه الآية الكريمة :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
هذه الآية على إيجازها فيها العقيدة والعمل ، عقيدتهم أنهم ربانيون ، ربنا الله ، ومنهجهم أنهم استقاموا على أمره .
﴿إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ كما أن الربح أهم شيء في التجارة كذلك أهم شيء في الدين الاستقامة ، والمسلمون لم يستطيعوا أن يقطفوا ثمرة واحدة من ثمار هذا الدين ، إنه انتماء شكلي، إنه انحياز لا معنى له ، إنه اعتزاز لا يثمر .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
كم من المسلمين من يعتز بإسلامه ، ولكن حياتهم في واد والإسلام في واد آخر .
تعلق إيمان المرء باستقامة قلبه و لسانه :
أيها الأخوة الكرام ؛ لعل في هذا الحديث الشريف المروي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ :
((قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ؟ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ ؟ قَالَ : قُلْ : آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ))
يريد كلاماً موجزاً ، كلاماً جامعاً مانعاً ، كلاماً مختصراً ، كلاماً بليغاً .
((قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ فقال عليه الصلاة والسلام : قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ ))
هذا الرجل أيها الأخوة لا يريد وصايا كثيرة ، يريد وصية واحدة موجزة فكأنه طلب من النبي أن يضغط الدين كله في وصية واحدة فقال عليه الصلاة والسلام :
((قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ))
أيها الأخوة الكرام ؛ في رواية أخرى قل آمنت بالله ثم استقم أيضاً وفي رواية الترمذي أنه قال :
(( حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ قَالَ : قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا ))
أي أخوف ما أخاف عليك هذا اللسان . وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. .))
الالتزام بمنهج الله يميز الإنسان عن غيره :
أيها الأخوة الكرام ؛ آيتان في القرآن الكريم الأولى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
وفي سورة أخرى :
﴿ِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ مرة بعد مرة أقول : الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، لا تطمع بشيء من الله قبل أن تستقيم ، لا ترجُ شيئاً مما وعد الله به المؤمنين قبل أن تستقيم ، لا تستطيع أن تقيم علاقة مع الله قبل أن تستقيم ، لا تستطيع أن تدعو الله قبل أن تستقيم ، لا تستطيع أن تحكم اتصالك به قبل أن تستقيم ، إنه حجر الزاوية .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
لا يميز المؤمن في الحياة عباداته الشكلية بقدر ما يميزه عن بقية الناس التزامه بمنهج الله عز وجل .
من صحت عقيدته صحّ عمله :
أيها الأخوة الكرام ؛ عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال :
(( ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره ))
لو تعمقنا في معنى استقاموا لوجدنا أنها تعني أول ما تعني استقامة العقيدة ، ومن صحت عقيدته صح عمله وقُبل عمله ، ومن فسدت عقيدته فسد عمله ولم يقبل عمله الطيب ، لأنه ذو عقيدة فاسدة ، فلعل في معنى قول الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
أي صحت عقيدتهم ، فإن صحت العقيدة صح العمل ، وفي معنى آخر : استقاموا أي وحدوا وجهتهم ، استقامة العقيدة واستقامة الوجهة ، وفي معنى ثابت استقامة الجوارح ، للعين عبادتها ، وللأذن عبادتها ، ولليد ، وللرجل ، كل جارحة ينبغي أن تضبط بمنهج الله عز وجل .
الاستقامة حديّة و ليست نسبية :
بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الاستقامة هي الطاعة ، وعدم الروغان كروغان الثعلب ، كم من المسلمين من يبحث عن فتوى ضعيفة ؟ عن رأي ضعيف ؟ عن حكم شاذ يتعلق به ليفعل ما يريد ؟ هذا نوع من الروغان ، حينما تجمع الرخص كلها في مذهب واحد ، هذا دليل رقة الدين ، هذا روغان عن منهج الله عز وجل ، لذلك عن ابن عباس :
(( ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب! فقال : شيبتني هود وأخواتها))
روي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا علي يقول :
((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله! روي عنك أنك قلت : شيبتني هود ؟ فقال : نعم ، فقلت له : ما الذي شيبك منها ؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم ؟ فقال : لا ولكن قوله : فاستقم كما أمرت))
أيها الأخوة الكرام ؛ هناك من يقول : أنا لست نبياً ، ومن قال لك إنك نبي ؟ بمعنى أنه ليس مطالباً أن يستقيم كما استقام رسول الله! الجواب هذه الآية :
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾
وفي حديث صحيح :
((وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ))
بعض الأعمال الطبية يفعلها أقل ممرض كما يفعلها أكبر طبيب ، هذا الحد الأدنى كتعقيم الإبرة مثلاً ، يفعلها أدنى ممرض كما يفعلها أعلى طبيب . فالاستقامة أيها الأخوة ليست نسبية ، ولكنها حدّية ، أما الانحراف فنسبي ، إذا قلت : هذا المستودع محكم ، للإحكام حالة واحدة ، أما إذا قلت غير محكم فعدم الإحكام نسبي ، قد يفرغ ما فيه في ساعة ، وقد يفرغ ما فيه في سنة ، وقد يفرغ ما فيه في خمس سنوات ، عدم الإحكام نسبي ، أما الإحكام فحّدي .
أيها الأخوة الكرام ؛
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾
كأن الله سبحانه وتعالى بهذا النهي الذي جاء بعد الأمر عرّف مضمون الأمر ، الاستقامة ألا تطغى ، ألا تتجاوز الحدود ، من تجاوز الحدود فهو من الحضرة مطرود ، ألا تطغى على من حولك ، ألا تطغى عليهم بلسانك ولا بفعلك ولا بمعاملتك ولا بنظراتك ولا بسوء ظنك .
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾
الاستقامة هي الثبات على الحق :
أيها الأخوة الكرام ؛ هناك معنى في الاستقامة دقيق جداً : الاستقامة أن تثبت على الحق ، هذه الثورة التي تظهر عند بعض الشباب ثم تهمد ، هذا الإقبال ثم الإدبار ، هذا الالتفات ثم التولي ، هذه الموجة الطارئة التي تصيب بعض الشباب هذه لا تعني أنهم مستقيمون على أمر الله ، الاستقامة تعني الثبات .
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
ينبغي أن تكون مستقيماً في الرخاء وفي الشدة ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، في المنشط والبركة ، حينما تكون شاباً كسيدنا أسامة ، وحينما تكون شيخاً كأبي أيوب الأنصاري ، الاستقامة تعني الثبات ، الإنسان يستقيم إذا كان فقيراً أحياناً ، ويفسق إذا اغتنى ، يستقيم إذا كان أعزبَ ، ويقصر إذا كان متزوجاً ، يستقيم إذا كانت الدنيا منصرفة عنه ، فإذا أقبلت عليه قد لا يستقيم ، من معاني الاستقامة : الثبات .
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
ماذا قال بعضهم في غزوة الخندق ؟ أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾
لذلك لا بد من امتحانات ، من أجل فرز المؤمنين .
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
لابد من فرز ، وأحياناً بعض الشدائد هي التي تفرز .
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾
أما الذين في قلوبهم مرض فقالوا :
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
معاني الاستقامة :
أول معنى من معاني الاستقامة : الثبات في المنشط وفي المكره ، في العسر واليسر ، في الشباب والشيخوخة ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، قبل الزواج وبعد الزواج ، قبل التجارة وبعد التجارة .
ومن معاني الاستقامة أن تقف عند حدود الله لأن تجاوز الحدود طغيان ، وهذا يتناقض مع الاستقامة .
ومن معاني الاستقامة : السير ، من لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، المغبون من تساوى يوماه ، لابد من أن تسير في طريق الإيمان .
أيها الأخوة الكرام ؛ من معاني الاستقامة أن ترتقي من حال إلى حال ، ومن منزلة إلى منزلة ، ومن مقام إلى مقام ، لئلا تكون مغبوناً ، فالمغبون من تساوى يوماه .
ومن معاني الاستقامة : ألا تنحرف يميناً أو شمالاً ، أن تبقى على طريق مستقيم ثابتاً ماشياً متقدماً مرتقياً . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :
((خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ سُبُلٌ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))
من شأن الانحراف أن يكون متعدداً ، ومن شأن الحق أن يكون واحداً ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ، ينبغي أن تكون ثابتاً على الصراط المستقيم لا تنحرف لا يمنة ولا يسرة وتتقدم نحو الأمام ، هذه بعض معاني الاستقامة الفرعية .
﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾
الانحراف متعدد ، يؤكد هذا المعنى قول الله عز وجل :
﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾
الظلمات جمع ، إلى النور مفرد ، الحق واحد .
أيها الأخوة الكرام ؛ مرة ثانية : أهم شيء في الاستقامة استقامة العقيدة ، أهم شيء في العقيدة أن توحد الله ، وألا ترى مع الله أحداً ، أن ترى رؤية عميقة ثابتة واضحة صارخة أن الأمر بيد الله وحده :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً ﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
هذا أهم شيء في الاستقامة العقدية ، أو الاستقامة الاعتقادية ، أن تعتقد أن الله واحد ، وأنه وحده المتصرف .
اتجاه المؤمن إلى الله حينما يوقن بأن الأمر كله بيده :
أيها الأخوة الكرام ؛ ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، وأن نهاية العلم التوحيد ، نهاية العلم أن توحد الله ، وأن توحيد الله مضمون رسالات السماء كلها .
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
الإنسان متى يعصي ؟ حينما يرى جهة غير الله تنفع وتضر ، تعطي وتمنع ، ترفع وتخفض ، تعز وتذل ، إذاً يرضيها بمعصية الله ، أما حينما لا يرى مع الله أحداً يرى يد الله وحدها تعمل ، يرى الله في السماء إلهًا ، وفي الأرض إلهًا ، يرى الله خلّاقاً وفعّالاً ، حينما يوقن المرء أن الأمر كله بيد الله ، لابد من أن يتجه إليه وحده .
فالمؤمن الموحد لا يرجو غير الله ، ولا يتوكل إلا على الله ، ولا يعقد الأمل إلا على الله ، ولا يخاف إلا الله ، ولا يحب إلا الله ، فإذا أحب المؤمنين فمن حبه لله ، إن أحب أنبيائه المرسلين فمن حبه لله ، إن أحب الأعمال الصالحة فمن حبه لله ، هذا حب في الله وقد فرق بعض العلماء الكبار الحب في الله عن الحب مع الله ، شتان بين الحب في الله وبين الحب مع الله ، الحب في الله عين التوحيد ، والحب مع الله عين الشرك . فلا تتخذ غير الله رباً ولا ولياً ولا حكماً هذا توحيد الألوهية ، أن تكون مستقيماً على أمر الله ، قانعاً بما أتاك الله ، راضياً بما قسمه الله لك ، لا تعتمد إلا على الله ، لا ترجو إلا الله ، لا تفرح إلا بما عند الله ، لا تخاف إلا من الله ، لا ترى في الأرض جهة تعمل إلا الله .
أنواع النفاق :
أيها الأخوة الكرام ؛ لذلك هناك نفاق يخرج من الملة أي من الدين ، النفاق الاعتقادي ، هو عكس الاستقامة الاعتقادية ، أن تقول ما لا تعتقد ، أن تجامل الناس فيما يعتقدون وأنت لا تعتقد ذلك ، هذا هو النفاق الاعتقادي الذي يخرج من الملة وهذا الذي قال الله عنه :
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ ﴾
وما من مؤمن ورع إلا ويخشى على نفسه من النفاق ، وهذا التابعي الجليل الذي التقى بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً من شدة خوفه من الله وورعه .
أيها الأخوة الكرام ؛ هناك نفاق عملي ، أن تأتي أفعالك على غير أقوالك ، أن تأتي أقوالك على غير معتقداتك ، هذا نفاق اعتقادي يخرج من الملة أشدّ من الكفر ، أما أن تأتي أفعالك خلاف كلامك فهذا نفاق عملي ، هذا صاحبه وقع في معصية كبيرة لكن يرجى له التوبة، ثم إن هناك معاصي اللسان .
استقامة القلب و اللسان دليل إيمان العبد :
أيها الأخوة : أعيد عليكم الحديث مرة ثانية ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. .))
المعاصي التي يجترحها اللسان لا تعد ولا تحصى ، بعض الأئمة الكبار أحصى منها عدداً كبيراً ، هناك الغيبة والنميمة والهمز واللمز والاحتقار والسخرية والمحاكاة وما إلى ذلك، فحينما يستقيم لسان الإنسان يستقيم قلبه ، لذلك من الذي ينجو من عذاب الله ؟ من عدّ كلامه من عمله ، أما المقصرون ، بعض المنافقين فيقول باللغة الدارجة : كله كلام بكلام ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ))
ورد أن قذف محصنة يعدل أي يستحق صاحبه العذاب مئة سنة ، قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة ، وهذا باللسان فقط ، وحينما يتوهم المسلمون أن معاصيهم فقط أن يشربوا الخمر ، وأن يزنوا ، وأن يسرقوا ، وأن يقتلوا ، وما سوى ذلك من اللمم ، هذا الذي ضيعهم ، وهذا الذي مزقهم ، وهذا الذي أفسد حياتهم ، وهذا الذي حجبهم عن الله عز وجل :
((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. .))
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
فلابد من أن يكون قلبك مستقيماً .
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
من أجمل ما قاله العلماء عن القلب السليم : هو قلب لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ، هو قلب لا يقبل خبراً يتناقض مع وحي الله ، هو قلب لا يحكم غير شرع الله ، ولا يعبد غير الله .
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
بطولة الإنسان أن تكون مقاييسه قرآنية وفق منهج الله :
ما معنى قول النبي الكريم في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))
أي لا يرى إلا بنور الله ، ضبط عينه عن أي نظرة لا ترضي الله ، وإن قلنا : العين بداية البصيرة أي لا يعتقد ولا يرى حقيقة إلا وفق ما جاء به الوحيان ، الكتاب والسنّة ، وأما سمعه لا ينظر إلى باطل ، ولا إلى كذب ، ولا إلى بهتان ، ولا إلى غيبة ، ولا إلى نميمة ، ولا إلى كلام يتناقض مع كلام الله ، ولا يصغي إلى اقتراحات تتناقض مع أصل الدين ، يسمع بنور الله .
((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ))
و لا يفعل شيئاً لا يرضي الله بيده ، وَيَدهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، ولا يتجه إلى مكان لا يرضي الله يتجه نحو مساجد الله ، نحو حفل يرضي الله ، نحو إصلاح بين زوجين ، نحو دعوة إلى الله ، حركته في سبيل الله ، وأعماله مضبوطة بمنهج الله ، ورؤيته وسمعه وفق وحي الله .
استقرار حقيقة الإيمان في القلب تعبر عن ذاتها بحركة نحو الخلق :
أيها الأخوة الكرام ؛ وقف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
(( يا أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده))
لماذا أهلك الله بني إسرائيل ؟ قال : لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كم منا يصادق أخاه وقد ظلم زوجته ؟ كم منا يصادق صديقاً وقد أكل المال الحرام ؟ هذا الذي لا ينهى أخاه عن منكر فعله ، هذا لم يفهم معنى قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾
لذلك حينما أراد الله إهلاك بلدة ، وأرسل ملائكة ليهلكوها قالوا : يا رب إن فيها صالحاً ؟ قال : به فابدؤوا ، قالوا : ولم يا رب ؟ قال : لأنه كان وجهه لا يتمعر إذا رأى منكرًا.
هذا الذي يقول : أنا عليّ من نفسي ، ما لي ولمن حولي من الناس ؟ هذا الذي لا يحمل هموم المسلمين ولا يتحرك حركة مهما تكن ضئيلة لحل مشكلتهم هذا إنسان يفتقد الإيمان الصحيح .
إن استقرت حقيقة الإيمان في قلبك ، لابد أن تعبر عن ذاتها بحركة نحو الخلق ، أما أن تقول : ما شأني وشأن الناس فهذا كلام لا يقوله مؤمن ، لابد من أن تسهم في حل مشكلات المسلمين ، ولو أن تنهى عن المنكر قال :
((يا رسول الله ماذا ينجي العبد يوم القيامة ؟ قال : إيمان بالله ، قال : مع الإيمان عمل ؟ قال : أن تعطي مما أعطاك الله ، قال : فإن كان لا يجد ما يعطي ؟ قال : أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال : فإن كان لا يستطيع ؟ قال : فليعن الأخرق ، قال : فإن كان لا يحسن ؟ قال : أما تريد أن تدع لصاحبك من خير ؟ فليكف أذاه عن الناس ، فقال : أو إن فعل هذا دخل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ما من عبد مسلم يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة ))
لابد من حركة ، لابد من عمل ، لابد من إسداء نصيحة ، لابد من أمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، لابد من حركة ، وإلا السكون علامة الموت ، إن كان القلب ميتاً فالإنسان سكوني ، وإن كان القلب حياً فالإنسان حركي ، لذلك : وتواصوا بالحق هي أحد أركان النجاة .
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الباطل ينمو ، الحق إن لم ينمُ ضيّق عليه الباطل ، وحجمه ، وقيده ، فأحد أركان النجاة أن ينطلق لسانك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الاستقامة على أمر الله أهم شيء في الدين بعد سلامة العقيدة :
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي لتقييم تمر خيبر ، فاليهود أغروه بحلي بعض نسائهم ليخفض التقييم ، فقال : "والله جئتكم من عند أحبّ الخلق إليّ ، ولأنتم عندي أبغض من القردة والخنازير ، ومع ذلك لن أحيف عليكم ، فقال اليهود : بهذا قامت السموات والأرض ، وبهذا غلبتمونا "
ونحن الآن لا نستطيع أن ننتصر على أعدائنا وما أكثرهم إلا باستقامتنا على منهج الله .
أيها الأخوة الكرام ؛ أهم شيء في الدين بعد سلامة العقيدة الاستقامة على أمر الله ، استقامة العقيدة واستقامة الوجهة واستقامة العمل ، والآيات التي تتحدث عن الاستقامة كثيرة جداً من أبرزها :
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
أيها الأخوة ، أشرح لكم معنى هذه الآية : لو أنك بحاجة ماسة لأشعة الشمس من أجل مرض جلدي لا سمح الله ، وقلت : إن الشمس ساطعة ، وهي فعلاً ساطعة ، ما أعظم ضياء الشمس! نور الشمس جميل ، تحدّث عن الشمس ما شئت ، وآمن بوجودها ما شئت ، وأثني على أشعتها ما شئت ، إن لم تتعرض لأشعة الشمس هذا الكلام لا يفيد إطلاقاً ، أي لو تحدثت عن الإسلام وعن عظمة الإسلام وعن عمق الإسلام وعن منهجية الإسلام وعن وعن وعن . . . . . إن لم تلتزم بقواعد الإسلام لن تنتفع من كل هذا الدين ، مشكلة المسلمين يعتزون بإسلامهم ولا يطبقونه في حياتهم ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
إذا كانت سنّتك يا محمد مطبقة فيهم هم في مأمن من عذاب الله ، أما إن لم تكن مطبقة لا في أفراحهم ، ولا في أتراحهم ، ولا في تجارتهم ، ولا في سفرهم ، ولا في زواجهم ، ولا في تطبيقهم ، ولا في توزيع إرثهم ، كم من المسلمين يحرمون البنات بحجة أن هذا المال سيذهب إلى الصهر ؟ كم من المسلمات يحتكمن إلى قاض أمريكي من أجل أن تأخذ نصف ثروة زوجها ولا تحتكم إلى قاض مسلم لأن القاضي المسلم يعطيها مهرها ؟ كم من انحراف في حياة المسلمين ؟ مع أن مساجدهم شامخة ومزخرفة ومزينة ومؤتمراتهم رائعة وكتبهم جميلة ، هناك مظاهر إسلامية صارخة جداً ، ولكن المضمون هزيل جداً ، لذلك لم تحقق وعود الله لنا .
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾
كل هذه الآيات لم تحقق ، لأننا فهمنا الدين اعتزازاً بالإسلام ، وبعداً عن تطبيقه ، فهمنا الدين شيئاً نزين به صدورنا ، فهمنا الدين افتخاراً ولم نفهمه منهجاً تطبيقياً .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللبن آية من آيات الله الدالة على عظمته :
أيها الأخوة الكرام ؛ في القرآن آيتان تتحدثان عن اللبن ، الآية الأولى :
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾
بآية من آيات الله الدالة على عظمته هذا اللبن الذي نشربه ، وفي الآية الثانية :
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل اللبن لأنه يجزئ مكان الطعام و الشراب، من أطعمه الله طعاماً فليقل :
((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَ اللَّبَنِ ))
هذا كلام الله ، وهذا كلام رسول الله ، وهناك بحث طويل في موقع معلوماتي سأختار منه بعض الفقرات قال : تمكن الباحثون حديثاً من معرفة سبعة مضادات حيوية من اللبن الرائب ، وبعض هذه المضادات أقوى من (التكراسكلين ) وهو من أقوى المضادات في الحيوية ، سبعة مضادات حيوية في اللبن ، وفي دراسة أخرى : أن اللبن الرائب يفيد في القضاء على الجراثيم المسببة للتسمم الغذائي ، وفي دراسة ثالثة : أنه بإمكان اللبن الرائب منع حدوث الديزانتريا الزحار ، وفي دراسة رابعة أن إعطاء اللبن للأطفال المصابين بالإسهالات نوع من أنواع الأدوية ، قال : ولا يقوم اللبن بفعل مضاد للجراثيم فحسب ، بل إن الأبحاث الحديثة تؤكد أن اللبن يقوي الوظيفة المناعية في خلايا الجسم ، وأخطر جهاز بالإنسان جهازه المناعي ، لأن هذا الجهاز هو الذي يقاوم الأمراض ، اللبن يقوي الجهاز المناعي ، بل هناك دراسة أخرى تشير إلى أن اللبن الرائب يفيد في الوقاية من سرطان القولون ، وفي دراسة من فرنسا تبين أن أكثر النساء اللواتي يتناولن اللبن كن أقلهن عرضة للإصابة بسرطان الثدي .
أيها الأخوة الكرام ؛ اللبن غذاء ذو سعرات حرارية قليلة ، فمئة غرام من اللبن الرائب يساوي خمساً وعشرين سعرة حرارية فقط ، يفيد طعاماً للرضع حين البدء بإدخال الطعام لمعدتهم، يستعمل عند المرضى في فترات النقاهة ، أما علاقته بالشيخوخة فشيء لا يصدق قال: إن الذين يعيشون فوق المئة عام هم من آكلي اللبن لأنه يحتوي على بكتريا تصل إلى الأمعاء ، وتكون بيئة تمنع دخول الجراثيم غير المرغوب فيها ، وقد أُطلق عليه في البلقان اسم (غذاء العمر المديد) اللبن ، لاحتوائه على مواد بروتينية ذات قيمة حيوية عالية ، وعلى أغلب المواد المعدنية اللازمة ، عند بعض الشعوب لا تخلو مائدة من اللبن . لذلك المعمرون يتمتعون بصحة جيدة بسبب هذا ، هؤلاء الذين يعانون من هشاشة العظام دواؤهم اللبن ، والذين يعانون من تفاقم نخر الأسنان دواؤهم في اللبن .
أيها الأخوة ، فيه ماء ستة وثمانون بالمئة ، وبروتين ، ودهون ، وسكر أنواع عديدة، وصودوم ، وبوتاسيوم ، ومغنيزيوم ، وفوسفور ، و كلور ، و أربعة أنواع فيتامينات ، و حمض النيكوتين ، هذا كله في اللبن ، لذلك اللهم زدنا منه . كان عليه الصلاة والسلام إذا أكل طعاماً يقول :
((اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ))
أما إذا شرب اللبن فقال :
((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ ))
وهناك آيتان قرآنيتان أشير فيهما إلى اللبن .
والحديث أعيده مرة ثانية فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود :
((فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَ اللَّبَنِ ))
هناك شراب يأتينا من بلاد بعيدة ليس فيه مادة طبيعية إطلاقاً بل كله مواد كيماوية، فهذا الذي جعله الله لنا ، وفي متناول أيدينا ، ولا يعلو سعره عن الحد المعقول .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، و عافنا فيمن عافيت ، و تولنا فيمن توليت ، و بارك اللهم لنا فيما أعطيت ، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق و لا يقضى عليك ، و إنه لا يذل من واليت و لا يعز من عاديت ، تباركت ربنا و تعاليت ، و لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أعطنا و لا تحرمنا ، أكرمنا و لا تهنا ، آثرنا و لا تؤثر علينا ، أرضنا و ارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا و بين معصيتك ، و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، و متعنا اللهم بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا ، و اجعله الوارث منا ، و اجعل ثأرنا على من ظلمنا ، و انصرنا على من عادانا ، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، و لا مبلغ علمنا ، و لا تسلط علينا من لا يخافك و لا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، و ذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين ، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، و ما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، و من الخوف إلا منك ، و من الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، و من شماتة الأعداء ، و من السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك و رحمتك أعل كلمة الحق و الدين ، و انصر الإسلام و أعز المسلمين ، و خذ بيد ولاتهم إلى ما تحب و ترضى ، إنك على ما تشاء قدير و بالإجابة جدير .