- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الأعمال الصالحة هي في حقيقتها أسباب النصر :
أيها الأخوة المؤمنون : في خطب سابقة بينت أن من تلبيس إبليس على المؤمنين أنه يزهدهم فيما هم قادرون عليه ، ويدفعهم إلى ما لا يستطيعونه ، هذا من تلبيس إبليس ، ذلك لأن أسباب النصر أن نغير ما بأنفسنا ، فالله عز وجل يقول :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
هناك أعمال صالحة لا تعد ولا تحصى ، هي في حقيقتها أسباب النصر ، ومتاحة لكل مسلم ، وبإمكانه أن يفعلها دون أن يسأل ، ودون أن يحاسب ، ألا تستطيع أن تكون صادقاً ؟ ألا تستطيع أن تكون أميناً ؟ ألا تستطيع أن تكون عفيفاً ؟ ألا تستطيع أن تربي أولادك؟
نظام الأبوة دليل ملموس على رحمة الله وعنايته بعباده :
أيها الأخوة الكرام : أولادنا كما يقال الورقة الرابحة الوحيدة التي بين أيدينا ، وموضوع هذه الخطبة عن تربية الأولاد في الإسلام ، ولاسيما وقد جاء فصل الصيف وهناك وقت كبير ، ووقت مديد ، فهذا الطفل إن لم تشغله بما هو خير انحرف وخسرته .
ولكن لابد من مقدمة ، حينما قال الله عز وجل :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ *وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾
ماذا تعني كلمة ؟
﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾
أي نظام الأبوة يدل على الله ، كيف أن الله سبحانه وتعالى أودع في قلب الأبوين رحمة ، فالناس يتراحمون بشكل مستمر ، بشكل طبيعي بدافع من جبلتهم ، فلذلك لا تجد في القرآن الكريم آية تحض على العناية بالأولاد إلا في موضوع المواريث فقط ، لأن العناية بالابن مركوز في أصل الفطرة ، كما أنه لا يعقل أن يستصدر قرار بإلزام المواطنين بتناول طعام الإفطار ، لأن الجوع مركوز في فطرة الإنسان .
أيها الأخوة الكرام :
((عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي ، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا : لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أرحم بعباده من هذه بولدها))
من رحمة الأم يمكن أن تتعرف إلى رحمة الله عز وجل ، ومن عناية الأب يمكن أن تتعرف إلى عناية الله عز وجل بعباده ، فنظام الأبوة يدل على الله ، الرحمة التي أودعت في قلب الأمهات تدل على رحمة الله ، أن يتمنى الأب أن يكون ابنه سعيداً دون أن يكون محتاجاً له ، هذا التمني أو هذا الاهتمام يدل على رحمة الله عز وجل : " لله أرحم بعبده من هذه بولدها " والله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا البدوي بناقته .
أيها الأخوة الكرام حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾
فهذه الرحمة التي يتراحم بها الناس هي من خلق الله عز وجل ، هذه الفكرة الأولى أن نظام الأبوة ، قلب الأم ، عناية الأب دليل ملموس بين أيدينا على رحمة الله عز وجل وعناية الله بعباده .
محبة الصغار والرحمة بهم من دلائل الإيمان :
أيها الأخوة الكرام : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملأ قلبه حب الأطفال :
((كانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السلام قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ المِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قالَ :صَدَقَ اللّهُ {إِنّمَا أمْوَالُكُمْ وأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} نَظَرْتُ إلى هَذَيْنِ الصّبِيّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهمَا))
أيها الأخوة ، يمكن أن نستنبط أن محبة الصغار والرحمة بالصغار من دلائل الإيمان ، ومن دلائل القرب من الواحد الديان ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان قمة في محبة الصغار ، وفي العناية بالصغار ، وفي رحمة الصغار .
((إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ ))
وكما قلت قبل قليل لم يبقَ بأيدي المسلمين - وأنا أعني ما أقول - من ورقة رابحة مع الله عز وجل إلا أولادهم ، فالعناية بالأولاد لأنهم المستقبل ، ولأنكم إذا أردتم أن تستعيد هذه الأمة مجدها التليد وقوتها التي كانت مضرب المثل ، هذه الأمة التي كانت ترعى الغنم فرعت الأمم ، هذه الأمة الآن كبت وهي في محنة شديدة ، وليس أمامنا من ورقة نربح بها مع الله عز وجل إلا أولادنا ، فإذا اعتنينا بهم فهذه قربة من الله عز وجل ما بعدها من قربة .
تأديب الأولاد من أعظم الأعمال الصالحة :
أيها الأخوة : كيف وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾
وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب
﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾
فالإنسان محاسب عن أهله وعن أولاده ، وهذه الآية أصل في هذا الباب ، أنت مكلف أن تربي أولادك ، وأن تعلمهم أمر دينهم ، وأن تفقههم ، وأن تعودهم الخلق الحسن ، والعادات الطيبة ، وأن يكونوا في خدمة المجتمع ، وأن يكونوا أناساً صالحين ، هذا كله من مهمات الآباء ، وقد يغفل الأب عن مهمته الخطيرة في أنه يتزوج وينجب ولا يعنى إلا بالتعليم فقط من أجل تحقيق الدنيا ، أما أي يعنى بآخرة أولاده ، أي يعنى بصلاتهم ، أي يعنى باستقامتهم ، فهذا قد يغيب عن باله .
ابن عباس رضي الله عنه قال في معنى قوله تعالى :
﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾
أي أدبوهم وعلموهم . وعن جابر بن سمرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لأنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه ، خيرٌ من أن يتصدق بصاع ))
تأديب الأولاد من أعظم الأعمال الصالحة ، فلذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( أفضل كسب الرجل ولده ))
من يحرص على تربية ابنه سعد في الدنيا و الآخرة :
أيها الأخوة ، إننا حينما نؤدب أولادنا نقدم للحياة عناصر نظيفة ، نقدم للمجتمع لبنة صالحة ، وهذا ما تهدف إليه التربية الإسلامية ، لكن الشيء الدقيق جداً أن الله جل جلاله وعد الآباء الذين يربون أولادهم على منهج الله عز وجل ، ويحرصون على سلامة عقيدة أولادهم ، وعلى استقامة سلوكهم ، وعلى تقربهم إلى ربهم ، هؤلاء الآباء وعدهم بسعادة الدنيا، وسعادة الدنيا هي قرة العين ، قال تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾
أن يكون ابنك صالحاً ، أن يكون ابنك كما تتمنى ، كما تريد ، هذه سعادة ما بعدها سعادة ولا يعرفها إلا من ذاقها ، ولا يعرف قيمتها إلا من حرمها ، هذا وعد الله في الدنيا ، أن يكون الولد قرة أعين لأبيه ، أما الوعد في الآخرة فقال تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾
أي كل الأعمال الصالحة التي تصدر عن الابن هي في صحيفة الأب ، بل كل الأعمال الصالحة التي تصدر عن ذرية هذا الأب مهما امتد الزمن وإلى قيام الساعة في صحيفة الأب ، إنها تجارة ما بعدها من تجارة ، يكفي أن تربي ابنك على الإيمان والخلق القويم ، فذريته وذرية ذريته إلى يوم القيامة في صحيفة الأب لذلك :
(( أفضل كسب الرجل ولده ))
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾
وقد ورد في بعض الأحاديث في الأدب المفرد أنه : " أول من يمسك بحلق الجنة أنا فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي ، قلت : من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم " هذا موقف شخصي وليس حكماً شرعياً، ولكن حينما تعتني الأم عناية فائقة بأولادها إنها بنص هذا الحديث تنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الجنة لعلو مقامها عند الله عز وجل .
نظام الأبوة ونظام البنوة يدلان على رحمة الله :
أيها الأخوة الكرام : لا زلنا في المقدمة ، لا زلنا في أن نظام الأبوة ونظام البنوة " وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ " يدلان على رحمة الله عز وجل ، ويدلان على عناية الله بعباده .
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
والشيء الثاني أيها الأخوة أنه من علامة إيمانك ، بل من علامة قربك من الله عز وجل أن تحب الصغار ، وأن تعتني بهم ، وأن ترحمهم .
الشيء الثالث أيها الأخوة : الأطفال هم المستقبل ، فإذا اعتنينا بهم ضمنا المستقبل، لأنهم كما قلت قبل قليل : هم الورقة الرابحة الوحيدة التي بقيت في أيدينا نربح بها عند الله عز وجل .
الشيء الأخير في المقدمة أن الله سبحانه وتعالى وعد الآباء الذين يربون أولادهم على منهج الله عز وجل بسعادة الدنيا والآخرة ، بسعادة الدنيا ، أن يكونوا لهم قرة عين ، وهذا لا يعرفه إلا من ذاقه ، ولا يعرف قيمته إلا من فقده ، ثم إن كل أعمال ذرية الإنسان بصحيفته يوم القيامة .
منهج النبي في تربية الأولاد :
1 ـ احترام الطفل :
الآن إلى منهج النبي عليه الصلاة والسلام في تربية الأولاد .
يقوم منهج النبي عليه الصلاة والسلام على احترام الطفل ، وهذا ركن أساسي من أركان تربية الصغار ، أن تشعره بقيمته ، أن تكون له شخصية قوية ، أن تحترمه على أنه صغير .
فقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن سعد بن مالك ممن استصغر يوم أحد ، كان صغيراً جداً ، وقد استشهد أبوه في المعركة ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن نظر إليه : سعد بن مالك ؟ قال : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، صغير جداً فدنوت منه فقبلت ركبته - لعل طوله لا يزيد عن ركبة النبي - فقال : آجرك الله في أبيك وكان قد قتل يومئذٍ شهيداً ، لقد عامله النبي صلى الله عليه وسلم وعزاه بتعزية الكبار وواساه في مصيبته بعد ميدان المعركة مباشرة ، سيد هذه الأمة ، سيد الخلق وحبيب الحق يعزي طفلاً صغيراً لا يزيد طوله عن ركبة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : سعد بن مالك ؟ قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، دنوت منه فقبلت ركبته ، فقال : آجرك الله في أبيك وكان قد قتل يومئذٍ شهيداً ، فقد عامله وعزاه بتعزية الكبار ، وواساه في مصيبته .
أيها الأخوة الكرام : روى مسلم عن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي بشراب فشرب منه ، وعن يمينه غلام ، وعن يساره شيوخ ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء الشيوخ ؟ قال لا والله لا أأذن ، ولا أوثر نصيبي منك أحداً ، النبي أقره على إصراره ، أي احترام لشخصية الطفل كهذا الاحترام !!
أطفال كانوا يلعبون في طرق المدينة مرّ سيدنا عمر من شدة هيبته تفرقوا إلا واحداً منهم بقي في مكانه ، فلما وصل إليه لفت نظره بقاءه في مكانه وأدبه وجرأته ، قال : يا غلام لمَ لم تهرب مع من هرب ؟ قال : أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلمك ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك ، هذا الغلام رسم منهج أمة ، ينبغي أن يكون البريء مطمئناً ، والمذنب خائفاً ، فإذا عكس الأمر فنحن في خلل خطير ، البريء ينبغي أن يكون مطمئناً ، والمذنب ينبغي أن يكون خائفاً .
أيها الأخوة الكرام : تقوم تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم على احترام الطفل ، أما هذا الأب الذي ينهال بالضرب على ابنه أمام أخيه الصغير ، وأمام أقربائه ، وأمام أصدقائه ، ويسمعه أقذع الشتائم هذا ليس أباً ، وليس مربياً ، إنه سيولد في نفس ابنه عقداً لا نهاية لها .
(( من لا يَرحم لا يُرحم ))
(( علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف ))
هذا منهج من منهج رسول الله .
2 ـ تعويده تحمل المسؤولية :
البند الثاني من هذا المنهج : تعويد الطفل على تحمل المسؤولية ، هذا الذي لا يثق بابنه إطلاقاً ويقوم عنه بأي عمل هذا ينشأ ضعيف الشخصية ، لا يتحمل مسؤولية ، قد لا يستطيع أن يشتري شيئاً ، قد لا يستطيع أن يقوم بأتفه الأعمال ، لأن أباه قد ألغى شخصيته، لذلك الأب الواعي الموفق في تربية أولاده يحمل ابنه مسؤولية ، وطن نفسك أيها الأب أن ابنك قد يخطئ بل لا بد من أن يخطئ ، ولكن أن يخطئ ثم يصحح أفضل من ألا يخطئ وألا يتعلم.
تروي كتب السيرة أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سأله النبي صلى الله عليه وسلم ، بل سأل أصحابه إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية ، ويقول عبد الله بن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة ، فقال عبد الله : فاستحيت ، فقالوا : يا رسول الله أخبرنا بها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هي النخلة ، فقال عبد الله : فحدثت أبي فيما وقع في نفسي ، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا . أي حينما يسأل الطفل ويجيب تنمو شخصيته ، والمعلم الناجح والأب الموفق الذي يسأل ابنه سؤالاً يستطيع الإجابة عنه حتى ينمي بنفسه الثقة بنفسه ، وحتى تنمو شخصيته .
3 ـ العدل بين الأولاد :
أيها الأخوة الكرام : اسمحوا لي أن أقول هذه الكلمة : من الجرائم التي ترتكب في البيوت عدم العدل بين الأولاد ، عوامل الاستقرار النفسي عند الطفل الصغير أن يشعر بالعدل في البيت ، أن يشعر أنه وأخوته سواء .
((عن النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيّ : أَنّ أُمّهُ ابْنَةَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لاِبْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لَهُ فَقَالَتْ :لاَ أَرْضَى حَتّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ :يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أُمّ هَذَا ابْنَةَ رَوَاحَةَ قَاتَلْتَنِي عَلَى الّذِي وَهَبْتُ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا ؟ قَالَ :نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :أَفَكُلّهُمْ وَهَبْتَ لَهُمْ مِثْلَ الّذِي وَهَبْتَ لاِبْنِكَ هَذا؟ قَالَ :لاَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :فَلاَ تُشْهِدْنِي إذا فَإنّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ))
هذا الحديث أصل في التسوية بين الأولاد .
أيها الأخوة الكرام : أن تميل كل الميل لطفل بعينه دون أخوته ، إلى جنس من الأولاد دون جنس آخر ، فذلك ينافي نظرة الإسلام ، وينافي مبادئه الصحيحة ، وينافي منطق المساواة التي بنيت عليها تعاليمه ، ولا تفرقة في الإسلام بين فتى وفتاة ، ولا بين ولد أو بنت، بل كلاهما في كفتي الميزان ، لا يرجح أحدهما على الآخر إلا بمقدار العلم الذي حصله والعمل الصالح الذي يقدمه .
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾
بل قد تجد في الأسرة واحداً من أبنائها على مستوى من الذكاء جيد ، أو على وسامة تلفت النظر ، فالأب والأم دون أن يشعرا يتوجهان إلى هذا الذكي أو الوسيم ويهملان الآخر ، فهذا ينشئ في نفس الآخر عقداً لا نهاية لها ، البطولة أن تعامل الولدين على ما بينهما من فارق كبير أو صغير ، إما في الذكاء ، أو الوسامة ، كأنهما في مستوى واحد هذا من مقتضيات الإيمان .
أيها الأخوة الكرام : إن الخروج عن منطق المساواة والإنصاف ميل عن الصراط المستقيم ، عندئذٍ تتولد الأحقاد بين الصغار ، تتولد العقد النفسية ، عندئذٍ يحقد الأول على الثاني ، ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تمييز الذكور وعن تفضيلهم على الإناث ، ونهى أن يفعل الأب ذلك فإن في هذا مخالفة لتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام ، فعن أنس رضي الله عنه قال :
((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه ))
من عال جاريتين ؛ أي أنفق عليهما ، من عال طفلتين أنفق عليهم ورباهما تربية صحيحة جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قالَ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ عَالَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فأَدّبَهُنّ وَزَوّجَهُنّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنّ فَلَهُ الْجَنّةَ))
أي البنت التي في البيت سبب دخولك الجنة ، والبنتان كذلك ، والثلاثة كذلك .
أيها الأخوة الكرام : المبدأ الأول : احترام شخصية الطفل ، المبدأ الثاني : العدالة التامة بين الأولاد في العطاء وفي الاهتمام ، وفي الابتسامة ، وفي القبلة ، وفي الهدايا ، وفي كل شيء ، أقول : العدل التام وهناك العدل المطلق ، المطلق لا نستطيعه ولا نحاسب عليه ، اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، أما العدل التام ، النظرة ، الابتسامة، المبلغ من المال ، القبلة ، الضم ، هذا كله ينبغي أن يكون بمساواة ما بعدها من مساواة .
4 ـ حاجته إلى الحنان و المرح :
أيها الأخوة الكرام : ويبين النبي عليه الصلاة والسلام حاجة الطفل إلى الحنان ، وحاجته إلى المرح ، فالأب إذا دخل بيته ينبغي أن يكون واحداً من أفراد البيت .
أولاً : قدم ناسٌ من الأعراب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : تُقَبِّلُونَ صبيانَكم ؟ فقالوا : نعم ، قالوا : لكنَّا واللّه ما نُقَبِّلُ ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
(( أوَ أمْلِكُ أنْ كانَ اللَّهُ تَعالى نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ ؟))
أن تضم ابنك ، وأن تقبله ، وأن تعانقه ، وأن تغذيه بالعطف والحنان ، هذا من أساسيات التربية .
بل تقول السيدة عائشة رضي الله عنها فيما رواه الإمام البخاري : " كنت ألعب مع البنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت يتقمعن - يهبنه - فيسربهن إلي ليلعبن معي "
أي الأب حينما يعلم أن ابنه ينبغي أن يعيش وقته ، واللعب شيء أساسي في حياة الصغار ، حينما ييسر له وسائل اللعب ، وسائل المرح ، حينما يملئه عطفاً وحناناً ، هذا الطفل ينشأ بنفسية سوية وصحة نفسية عالية .
وعن عبد الله بن جعفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر سبق بي إليه فحملني بين يديه ، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه ، قال : فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة .
أي عنايته بالصغار ، اهتمامه بهم ، يركبهم خلفه على دابته ، هذا من مظاهر عناية النبي عليه الصلاة والسلام .
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة ، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها ، قال أبي : فرفعت رأسي ليعلم ماذا حصل - أطال السجود كثيراً - فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه يوحى إليك ، قال : كل هذا لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته . هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بل ورد إن التحفة أو اللعبة تدخلان على الطفل الفرح والسرور ، وتزرع على ثغره البسمة والسعادة ، و قد أصبحت الآن وسيلة لتنمية المعارف والمدارك ، ورد أنه من دخل السوق واشترى تحفة فحملها إلى عياله كحامل صدقة إلى قوم محاويج ، يبدأ بالإناث قبل الذكور ، قد لا تقدر أنت قيمة هذه اللعبة ، ولكن هذه اللعبة تملأ نفس هذا الصبي سروراً وسعادة ، والدمية مستثناة من تحريم التماثيل لأنها بهدف إدخال السرور على قلب الفتيات الصغيرات .
حقوق الأولاد على الآباء :
أيها الأخوة الكرام : أول حق من حقوق أولادك عليك أن تحسن انتقاء أمهم ، والحق الثاني أن تعلمهم بمطلق هذه الكلمة ، العلوم التي تنفعهم في الآخرة ، والعلوم التي تنفعهم في الدنيا من دون تفرقة بين الذكور والإناث ، لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، وقال شراح الحديث : على كل شخص مسلم ذكر كان أو أنثى ، فالعلم أيها الأخوة ليس وقفاً على جنس دون جنس ، ولا على طائفة دون طائفة ، إنه واجب على الجميع .
أيها الأخوة الكرام : بل إن تعليم المهارات في الحياة الدنيا أيضاً من مستلزمات الصغار ، سيدنا عمر يقول : " علموا أولادكم السباحة والرماية و مروهم أن يثبوا على الخيل وثباً " أي المركبات الآن تحل محل الخيل ، والحاسوب أيضاً من مستلزمات هذا العصر، " ربوا أولادكم وهذبوهم فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم ، علموا أولادكم السباحة والرماية ومروهم أن يثبوا على الخيل وثباً ".
أيها الأخوة الكرام : ثم هناك من يرى أنه من ملك ناصية العلم ملك ناصية العالم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، وفرق كبيرٌ كبير بين العالم والجاهل .
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، الجهل شيء لا يحتمل، فلذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل .
5 ـ التعليم لا التعنيف :
الآن من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية الأولاد أن
(( علموا ولا تعنفوا ))
فقال أنس بن مالك : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت : والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به ، فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي ؛ من ورائي ، فنظرت إليه وهو يضحك ، قال : يا أنيس أذهبت حيث أمرتك ؟ قال : قلت : نعم أنا أذهب يا رسول الله ، قال أنس : والله لقد خدمته تسع سنين ، ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت ؟ ولا لشيء تركته لم تركت ؟"
هذا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام في تربية الصغار .
6 ـ لزوم الأب ابنه :
شيء آخر من منهج النبي عليه الصلاة والسلام أن يلزم الأب ابنه ، الزم ولدك فإذا كان معك تعلم منك ، إذا كان معك كنت حصناً له ، هو عبء عليك لكن لابد من ذلك ، لا تحاول أن تبعد ابنك عنك ، في رحلاتك ، وفي نزهاتك ، وفي لقاءاتك ، ابنك ينبغي أن يكون ملازماً لك ، الزم ولدك لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( أَكْرِمُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ ))
وبعض الأشخاص دفع ابنه إلى مربٍّ فقال للمربي : ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك ، فإن عيونهم معقودة بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنت ، والقبيح ما استقبحت ، أي يأتي بعد الوالد المعلم ، والوالد والمعلم المصدران الكبيران لتربية الصغار فإذا أهمل الوالد عمله والمعلم كذلك تعلم الطفل من أقرانه المنحرفين .
وروى ابن خلدون أن هارون الرشيد قال لمعلم ولده الأمين : " إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه ، وثمرة قلبه ، فصير يدك عليه مبسوطة ، وطاعته لك واجبة ، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين ، أقرئه القرآن ، وأعرفه الأخبار ، وروه الأشعار ، وعلمه السنن ، وبصّره بمواقع الكلام ، وامنعه من الضحك إلا بأوقاته ، ولا تمرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ، ولا تُمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، وقومه ما استطعت بالحكمة والملاينة ".
أيها الأخوة الكرام : الحقيقة الخطيرة في هذا اللقاء وهذه الخطبة أنت أيها الأب أفضل من يعلم ابنه ، لا تحيل الخلل في تربية ابنك على المدرسة ، ولا على الشارع ، ولا على الطريق ، ولا على أصدقاء السوء ، أنت مسؤول أولاً وآخراً ، ولا تعفى من المسؤولية ولو كان الظرف صعباً والبيئة منحلة ، أنت المسؤول الأول ، أنت أفضل معلم لولدك ، وأنت تقبض الثمن في الدنيا قبل الآخرة ، وأنت تعذب بالدنيا قبل الآخرة ، لأنه من بلغ أعلى منصباً في الأرض ، وجمع أكبر ثروة ، ووصل إلى أعلى مقام ، ولم يكن ابنه كما تمنى فهو أشقى الناس .
إذا ميز الطفل فحكمه حكم الكبار :
أيها الأخوة الكرام : بقي شيء متعلق بالمسجد ، قال العلماء : إذا ميز الطفل فحكمه حكم البالغ ، فلا يؤخر عن مكانه الذي سبق إليه بالمسجد ، هذه العادة السيئة التي لا وجود لها في الدين ولا في النصوص ، كلما وجدوا طفلاً في الصف الأول أرجعوه إلى الصف الذي بعد الأول ، الطفل الذي يسبق إلى مكان يجب أن يبقى فيه ، ولو كان في الصف الأول ، إذا ميز الطفل فحكمه حكم البالغ فلا يؤخر عن مكانه الذي سبق إليه بالمسجد ، أما قبل سن التمييز فينبغي أن يجنب المسجد حتى لا يلوثه أو لا يزعج المتعبدين ، لأن هذه المساجد بيوت قد أقيمت للصلاة وقراءة القرآن ، وإذا اضطر الإنسان أن يصطحب ابناً غير مميز ينبغي أن يكون معه يداً بيد ، ينبغي أن يضبطه لئلا يزعج المصلين ، كم من أخ يأتي مع أولاد صغار ويدعهم في ساحة المسجد يلعبون ، ويتصايحون ، ويتشاتمون ، ويتضاربون، ويشوشون على سماع الدرس ، إذا كان مميزاً فحكمه حكم الكبار ، وإذا كان دون التمييز وكنت مضطراً أن تصحبه معك فليكن معك ويده في يدك دون أن تطلقه ليفعل ما يشاء وأنت لا تدري .
أيها الأخوة الكرام : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المشيمة :
أيها الأخوة الكرام : يقول العوام : إذا ولدت المرأة خرج الخلاص معها ، الخلاص هو المشيمة ، قرص كبير يرافق الجنين في رحم الأم ، اسمه المشيمة تلقى بعد الولادة في المهملات ، هذه المشيمة فيها آية من آيات الله الدالة على عظمته ، في هذه المشيمة دورتان دمويتان ، يفصل بينهما غشاء رقيق اسمه الغشاء المشيمي ، هذا الغشاء معجزة ، الدورتان الدمويتان دورة دم الأم ودورة دم الجنين ، وقد يكون الدم الأول من زمرة ، والدم الثاني من زمرة ، ولا يختلطان ، بينهما هذا الغشاء .
أيها الأخوة : هذان الدورتان تفصلان في المشيمة ، يفصل بينهما غشاء رقيق ، هذا الغشاء الرقيق معجزة كاملة ، ماذا يفعل هذا الغشاء ؟ قال : يسمح بمرور الغذاء المنتقى المختار بعناية فائقة ، ما كل الغذاء بدم الأم ينقل إلى الجنين ، هذا الغشاء يختار من غذاء الأم من دمها ما يناسب الجنين ، فالغذاء ينتقل عبر الغشاء من دم الأم إلى دم الجنين بعناية فائقة ، وبانتقاء عجيب ، واختيار رائع ، وهذا الغشاء أيضاً ينقل ما يحتاجه الجنين من الأوكسجين من دم الأم إلى دم الجنين ، وهذا الغشاء ينقل المناعة التي في دم الأم إلى دم الجنين ، ينقل الغذاء المنتقى المختار ، وينقل الأوكسجين ، وينقل المناعة ، ثم هو ينقل بالعكس المواد السامة وغاز الكربون الناتج عن الاحتراق في جسم الجنين إلى دم الأم كي تصفيه عن طريق التنفس ، ولا يسمح هذا الغشاء بنقل الأمراض والأشياء الضارة من دم الأم إلى دم الجنين ، هو في حصن من أمراض الأم ، بل إن المواد الضارة عنده تنتقل إلى الأم ، والغذاء المنتقى يأتي إليه ، ومناعة الأم والأوكسجين من عند الأم ، هذه المشيمة في الحقيقة جهاز تنفس للجنين ، وهي في الحقيقة جهاز هضم ، ثم إن هذه المشيمة تعطي الأوامر لنمو الأثداء وامتلائها بالحليب قبل الولادة ، إن هذه المشيمة تعطي الأوامر لتسهيل الولادة ، شيء لا يصدق ولكن ضاق الوقت ، هذا الغشاء سماه العلماء الغشاء العاقل ، غشاء يعقل ، ينتقي من دم الأم ما يناسب الجنين ، يأخذ من دم الأم الأوكسجين ، يأخذ من دم الأم مناعتها ، يأخذ من دم الجنين المواد السامة وحمض البول وينقلها إلى دم الأم كي تصفى ، ثم إنه يمنع مرور الجراثيم الضارة التي في دم الأم ، فكم من مرض تصاب به الأم ولا يصاب به الجنين ، ثم إنه يسهل إفراز الحليب في ثدي الأم ويسهل الولادة ، كل هذا في هذه المشيمة التي تلقى في المهملات بعد الولادة .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، وإنه لا يزل من واليت ولا يعز من عاديت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مآلنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، انصر ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين ، أيد عبادك المؤمنين وأذل الشرك والمشركين ، شتت قواهم يا رب العالمين ، اجعل تدمير أعدائهم في تدبيرهم .