وضع داكن
26-10-2025
Logo
الخطبة : 1093 - الإسلام هو منهج المسلمين ودستورهم الحكيم - الاستقامة أساس الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى : 

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلِل فلن تجد له وليّاً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن تَبعه إلى يوم الدين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.

الأمن العقدي حالة يتمتَّع بها المسلمون: 


أيُّها الإخوة الكرام: أُعيد وأُكرِّر أنَّ المسلمين يتمتَّعون بحالةٍ نفسيةٍ قلَّ مثيلها، هذه الحالة هي الأمن العَقدي، يعني مبادئ دينهم، قيمُهم، مهما تطورت الأحداث، مهما استجدَّت المُستجدَّات، مهما ظهرت الانعطافات، كل هذا الذي يجري يؤكِّد عظمة دينهم لماذا؟ قال: لأنَّ الدين أعطى المسلمين تصوُّراً دقيقاً، عميقاً، صحيحاً، متناسقاً، شمولياً، عن الكون والحياة والإنسان، فهذا الكون بحسب نصوص القرآن الكريم مُسخَّرٌ للإنسان تسخير تعريفٍ وتكريم، الدليل: 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية  ]

والسماوات والأرض مصطلحٌ قرآني يعني الكون، والكون ما سوى الله (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) مِنَّةٌ وكرم.
مُسخَّر تسخير تعريف لا بُدَّ من أن تعرف الله من خلال الكون.

الكون بكل جزئياته ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله: 


فالكون بكل جزئياته التي لا تُعد ولا تُحصى يكاد ينطِق بوجود الله، ووحدانيته، وكماله، بل ينطِق بأسمائه الحُسنى، هذا الكون فيه رحمة.
البطريق طائرٌ يعيش في القطب الجنوبي، حينما تلد أُنثاه بيضةً يضعها على قدميه، ويُغطّيها بريشه، ويبقى واقفاً لا يتحرك، ولا يأكل، ولا يشرب أربعة أشهرٍ، رحمةً بهذه البيضة.
 يوجد بالكون رحمة، يوجد حكمة، لو وضَع في شَعرك أعصاب حسّ، تحتاج إلى عمليةٍ جراحية كل أسبوع في المستشفى، تخدير عام ثم حلاقة، بالشَعر لا يوجد أعصاب حسّ، بالأظافر لا يوجد أعصاب حسّ، لو جعل لك عيناً واحدة لا ترى البُعد الثالث، لو جعل لك أُذُنٌ واحدة لا تعرف جهة الصوت، الحديث عن جسم الإنسان يحتاج إلى سنوات.

وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ           تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ

[ لبيد بن ربيعة ]

(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)   تسخير تعريف. 

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[ سورة آل عمران  ]

تسخير تعريف وتسخير تكريم.

من آمن بالله و شَكَره حقَّق الغاية من وجوده:


الله عزَّ وجل منحك نعمة الإيجاد:

﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)﴾

[ سورة الإنسان  ]

منحك نعمة الإمداد، أمدَّك بالماء، والهواء، والطعام، والشراب، والمعادن، وأشباه المعادن، والخضار، والفواكه، والنباتات، والزوجة، والأولاد، والمسكَن، والمأوى، منحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهُدى والرشاد، إذاً كرَّمك، موقفك من هذا التكريم أن تشكُر، فإذا آمنت وشكرت حقَّقت الهدف من وجودك، قال تعالى:

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء  ]

هذا تصوُّرٌ صحيح، أنت مع الكون، مع كل مظاهره، مع كل آياته، الكون قرآنٌ صامت.

تسوية الحساب الكامل يوم القيامة: 


أيُّها الإخوة: أسماء الله الحسنى كلها محقَّقة في الدنيا إلا اسم العدل، هذا الاسم مُحقَّق جزئياً، فالله عزَّ وجل يكافئ بعض المُحسنين تشجيعاً للباقين، ويُعاقب بعض المُسيئين ردعاً للباقين، أمّا توفية الحساب الكامل: 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران  ]

     فلذلك:

﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)﴾

[ سورة الروم  ]

﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)﴾

[ سورة طه  ]


تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف و تكريم: 


أُعطيكم مُلخصاً سريعاً: هذا الكون في القرآن الكريم مسخَّرٌ للإنسان تسخير تعريفٍ وتكريم، وأنت أيُّها الإنسان ينبغي أن تؤمن استجابةً للتعريف، وينبغي أن تشكُر استجابةً للتكريم، فإذا آمنت وشكرت حقَّقت الهدف من وجودك، وعندئذ تتوقف معالجات الله عزَّ وجل: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) .

الحياة الدنيا دار تكليف وليست دار تشريف: 


الآن الحياة الدنيا، مشكلة أهل الأرض: 

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[ سورة الكهف  ]

الحياة الدنيا تعرفها من اسمها، حياةٌ دنيا، لأنه سيليها حياةٌ عُليا فيها: 

(( قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ صحيح البخاري ]

 لا يوجد فيها مرض، ولا قلق، ولا خوف، ولا اجتياح، ولا منع مساعدات، ولا طُغاة، ولا يوجد شيءٌ من هذا القبيل، ولا زوجة سيئة، ولا ابنٌ عاق، ولا تقدُّم بالسن، ولا أمراض (أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ) الحياة الدنيا ممرٌ وليست مقراً، دار تكليف وليست دار تشريف، دار عمل وليست دار أمل، الحياة الدنيا الأصل فيها أن تعرف الله فيها.

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾

[ سورة محمد  ]

يوم القيامة (عَرَّفَهَا لَهُمْ) في الدنيا، أذاقهم نعيمها، يقول ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ في الدنيا جنَّة، من لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة" .

الدنيا دار التواء لا دار استواء:


أيُّها الإخوة: الحياة الدنيا في حقيقتها تقسِم البشر قسمين، لكن هذان القِسمان ليسا متساويين، قِلةٌ قليلةٌ عرفت حقيقة الحياة الدنيا.
إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، لا تستقيم لإنسان، قد يكون غنياً وليس عنده أولاد، وقد يكون له ذريةٌ كثيرة وهو ليس بغني، وقد يكون غنياً وله ذرية، لكن صحته ليست كما ينبغي.

(( أَيُّها الناسُ إنَّ هذه الدنيا دارُ التِوَاءٍ لا دَارُ اسْتِوَاءٍ ومَنْزِلُ تَرَحٍ لا مَنْزِلُ فَرَحٍ فَمَنْ عَرَفَهَا لمْ يَفْرَحْ لِرَجَاءٍ ولَمْ يَحْزَنْ لِشَقَاءٍ ألا وإِنَّ اللهَ تَعَالَى خلق الدنيا دارَ بَلْوَى والآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى فَجَعَلَ بَلْوَى الدنيا لِثَوَابِ الآخِرَةِ سَبَبًا وثَوَابَ الآخِرَةِ من بَلْوَى الدنيا عِوَضًا فَيَأْخُذُ لِيُعْطِيَ ويَبْتَلِي لِيَجْزِيَ وإِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ وشِيكَةُ الانْقِلابِ فَاحْذَرُوا حَلاوَةَ رَضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا واهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِهَا لِكَرِيهِ آجِلِهَا ولا تَسْعُوا في عُمْرَانِ دَارٍ وقَدْ قَضَى اللهُ خَرَابَهَا ولا تُوَاصِلُوهَا وقَدْ أَرَادَ اللهُ مِنْكُمُ اجْتِنَابَهَا فَتَكُونُوا لِسَخَطِهِ مُتَعَرِّضِينَ ولِعُقُوبَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ ))

[ أخرجه الديلمي  ]


الناس عند الله عزَّ وجل نموذجان: 


1 ـ نموذج عرف الله فانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسلِم وسعِد في الدنيا والآخرة:

لذلك البشر على اختلاف مِللهم، ونِحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، هُم عند الله نموذجان:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6)﴾

[ سورة الليل  ]

صدَّق أنه مخلوقٌ للجنَّة فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء.

2 ـ ونموذج غفل عن الله وتفلَّت من منهجه وأساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة:

الطرف الآخر:

﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8)  وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9)﴾

[ سورة الليل  ]

كفر بالآخرة وآمن بالدنيا، فاستغنى عن طاعة الله، بنى حياته على الأخذ.
ردُّ الإله على الأول:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7)﴾

[ سورة الليل  ]

هذا التيسير.
و ردُّ الإله على الثاني:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)﴾

[ سورة الليل  ]

إحباطات، إخفاق، عدم نجاح، دمار. 

أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها وأشقاهم فيها أرغبهم فيها:


أيُّها الإخوة الكرام: حينما نفقه حقيقة الحياة الدنيا نسعد بها، إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) .
أعطاك القرآن تصوُّراً عن الكون مسخَّرٌ لك، الإنسان ليس عدواً للطبيعة، الطبيعة في خدمته، هو صديق الطبيعة مُسخَّرةٌ له، الإنسان جزءٌ من هذه الطبيعة، لو أنَّ من قوانين هذا الجسم، أن النسيج إذا جُرِح لا يلتئم، التَغَت الجراحات كلها في الأرض، التغى الطب الجراحي أصلاً، لو أنَّ القلب إذا برَّدته فسكن وأنهيت العمل الجراحي، فصعقته بالكهرباء فلا يعمل، انتهى العمل القلبي كله، انتهت عمليات القلب المفتوح في الأرض.
لو أنه يوجد في الجسم نماذج، نموذج صيني، نموذج شرقي، لا يوجد طب، أمّا الطبيب يدرس في أمريكا، يُعيَّن في الخليج، يأتيه مريضٌ صيني، الدواء صنع اليابان، درس في بلد، وأقام في بلد، وعالج ببلد، واستعمل دواء من بلد، لأنَّ البُنية التشريحية للإنسان واحدة في الأرض، النُظُم الفيزيولوجية واحدة، لولا هذا التوحُّد في التشريح وفي الفيزيولوجية لا يوجد طب أساساً، لكن لأن الله واسع، ما من إنسان وله شبيه، أنت واحد من ستة آلاف مليون بقزحية العين، بالنطفة أيضاً، بنبرة الصوت، برائحة الجلد، بالبصمة، بالزُمرة النسيجية، أنت واحد لا شبيه لك، فالله عزَّ وجل لكرامة الإنسان منحه بعض صفاته وهو الفرد، وأنت فردٌ أيضاً لأنك مكرَّمٌ عند الله.

الإنسان في التصور الإسلامي هو المخلوق الأول رتبةً:


إذاً أيُّها الإخوة: هذه الدنيا فيها حقائق دقيقة جداً ينبغي أن تعرفها، الإنسان في التصوُّر الإسلامي هو المخلوق الأول رُتبةً: 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

الإنسان المخلوق المُكرَّم:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[ سورة الإسراء  ]

مكرَّمٌ بالعقل، مكرَّمٌ بالنطق:

﴿ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

[ سورة الرحمن  ]

مكرَّمٌ بالخيال، مكرَّمٌ بالمحاكمة، بالذاكرة، ذاكرتك حجمها كحجم حبة العدس، فيها سبعين مليار صورة، فالإنسان مخلوقٌ أول ومُكرَّم ومُكلَّف، مُكلَّفٌ أن يعبد الله.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

والعبادة كما تعلمون طاعةٌ طوعيةٌ، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبيةٍ، أساسها معرفةٌ يقينيةٌ، تُفضي إلى سعادةٍ أبدية.

الإنسان مخلوقٌ أول مُكرَّم مُكلَّف ومُتحرك:


والإنسان مخلوقٌ مُتحرك، هذه الطاولة لو تركتها آلاف السنين تبقى في مكانها، الإنسان مُتحرك ما الذي يُحركه؟ حاجته إلى الطعام، بحاجته إلى الطعام يتحرك ليأكل، فيبقى حيّاً حفاظاً على وجوده، وحاجته إلى الجنس يتحرك المؤمن ليتزوج فيبقى هذا النوع مستمراً، والإنسان يتحرك ليؤكِّد ذاته فيبقى ذكره مستمراً، هناك حاجاتٌ ثلاث، حاجةٌ إلى الطعام حفاظاً على وجوده، وحاجةٌ إلى الجنس حفاظاً على بقاء النوع، وحاجةٌ إلى تأكيد الذات حفاظاً على الذكر، فهو مخلوقٌ أول ومُكرَّم ومُكلَّف ومُتحرك، لولا هذه الحاجات لما وجدت شيئاً على وجه الأرض، لا تجد جامعات، ولا معامل، ولا طُرق، ولا جسور، ولا زراعة، ولا صناعة، ولا تجارة إطلاقاً، هذه الطاولة لا تحتاج إلى شيء إذاً لا تتحرك، لولا هذه الحاجات لما وجدت شيئاً.

الإنسان خُلق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره:


ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة الإنسان ضعيف: 

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾

[ سورة النساء  ]

ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، ولو خلقه قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه.

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[ سورة المعارج  ]

والله أيُّها الإخوة يمكن أن يقوم عِلمٌ عملاق اسمه علم النفس الإسلامي، من خلال آيات القرآن وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
الآن الإنسان مُتحرك، إن صحَّت حركته في الدنيا سَلِم وسَعِد في الدنيا والآخرة، وإن لم تصحّ حركته في الدنيا، شقي وهلك في الدنيا والآخرة، السؤال متى تصحُّ حركته؟ إذا عرف سرّ وجوده، أنت في الدنيا من أجل أن تعبُد الله، من أجل أن تُطيعه وأن تُقبِل عليه، حتى تسعَد بقربه وتسلَم في الدنيا والآخرة.

من صحَّت حركته في الدنيا سلم و سعد في الدنيا و الآخرة:


أيُّها الإخوة: لكن العبادة فيها قسمٌ شمولي، صومٌ، وصلاةٌ، وحجٌ، وزكاةٌ، وفيها قسمٌ خاص، فالغني العبادة الأولى له إنفاق المال، والقوي العبادة الأولى له إحقّاق الحقّ وإبطال الباطل بتوقيع، والعالِم العبادة الأولى له إلقاء العِلم دون أن يخشى في الله لومة لائم، والمرأة العبادة الأولى لها رعاية الزوج والأولاد، هذه عبادة الهوية، أمّا عبادة العصر ونحن في عصرٍ صعبٍ جداً، إذا أراد الطرف الآخر إفقارنا، فالعبادة الأولى بعد العبادات الأساسية، كسب الأموال الحلال وإنفاقها لحلّ مشكلات المسلمين، يعني بلد عربي إسلامي، عنده اثنان ونصف مليون كيلو متر مربع من الأراضي الصالحة للزراعة، وعنده نهر أربع أخماسه يصب في البحر، السودان، هذا القطر يمكن أن يُطعِم العالم الإسلامي كله، لو توجّهت إليه بعض المليارات التي استقرت في بلاد الغرب ولم يأخذوا منها شيئاً، هذا تعاون.
أيُّها الإخوة: إن أراد الطرف الآخر إفقارنا ينبغي أن نستصلح الأراضي، أن نُنشئ السدود، أن نستخرج الثروات، أن نُطوِّر الصناعات، هذا من العبادة أن تبني أُمتك، وإذا أرادوا إضلالنا ينبغي أن توضِح الحقائق، وأن تُدعِّم المبادئ والقيَم، وأن ترد على كل الشُبهات، وإن أرادوا إفسادنا ينبغي أن نُحصِّن شبابنا من الزيغ والانحلال، إن أرادوا إذلالنا ينبغي أن نُضحّي بالغالي والرخيص والنفس والنفيس.
أيُّها الإخوة: هذا المفهوم الأوسع للعبادة، فإذاً تسعَد وتسلَم إذا جاءت حركتك موافقةً لهدفك.

الإسلام هو الحياة: 


الآن ننتقل إلى موضوع هذا اللقاء وهذه الخُطبة، أيُّها الإخوة الأكارم، الإسلام هو الحياة، دين الحياة، أَلِف بعض المسلمين أن يقرؤوا القرآن على الموتى، قال تعالى: 

﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾

[ سورة يس  ]

هذا القرآن يُقرأ على الأحياء، هو منهجٌ لهم، طريقٌ مستقيم، دستورٌ حكيم، فلذلك الإسلام هو الحياة، فإن لم تكن حياة المسلمين كما ينبغي، فهناك خللٌ كبيرٌ في فهمهم للدين، ولو صلّوا، وصاموا، وحجّوا، وزكّوا، لا يكفي، هذه عباداتٌ شعائرية، هناك خللٌ في دينهم خطير، لأنَّ الإسلام يجعل حياة المسلمين في أعلى المراتب، حياة تعاون، حياة انضباط، حياة قيَم، حياة مبادئ، حياة عطاء، حياة عِفّة، حياة أمانة، حياة صدق، الإسلام هو الحياة.

مشكلات المسلمين أعراض لمرضٍ واحد هو البُعد عن الله:


الآن أيُّها الإخوة: مشكلات المسلمين والله لا تُعد ولا تُحصى، ولكن يُخطئ خطأً فاحشاً من يتوهم أن هذه المشكلات أمراض، وينبغي أن نُعالج كل مرضٍ على حدة، وهذا خطأٌ جسيم، كل هذه المشكلات مهما كثرت هي ليست أمراضاً، ولكنها أعراضٌ لمرضٍ واحد هو البُعد عن الله، إنسان دخل إلى البيت الثلاجة لا تُبرِّد، والغسالة لا تدور، والمذياع لا ينطق، والمكيف لا يُقدِّم الهواء البارد، كله معطَّل، غاب عنه أن التيار الكهربائي في البيت مقطوع، بدلاً من أن يُعالج هذه الأجهزة ويفُكّها، دعها كما هي، انتبه إلى التيار الكهربائي، فإذا دخل التيار إلى البيت كل هذا يعمل، أُقسِم لكم بالله أن حياتنا لن تستقيم إلا إذا عرفنا الله عزَّ وجل.
مَثَل قد لا يكون مُستساغاً، لو أنَّ بائعاً وَجَدَ في وعاء الزيت فأراً، المؤمن هل يستطيع أن يبيع هذا الزيت؟ مستحيل، الرقيب هو الله، سيدنا ابن عمر رأى راعياً قال له: << بِعني هذه الشاة وخُذ ثمنها، قال له: ليست لي، قال: قُل لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب، قال له: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟>> المسلم وضع يده على جوهر الدين.

الاستقامة على أمر الله جوهر الدين: 


جوهر الدين أن تستقيم على أمر الله، والله لو عرف الناس ربَّهم، التغى الغش، التغى الكذب، التغى النفاق، التغى الاحتيال، كل أمراضنا أعراضٌ لمرضٍ واحدٍ هو البُعد عن الله عزَّ وجل، الآن توثِّق وبعقود وتنشأ مشكلاتٍ لا تنتهي وبالقضاء عدد من السنوات، لا يوجد خوف من الله. 

(( الإيمانُ قَيدُ الفَتْكِ، لا يَفْتِكُ مُؤمِنٌ ))

[ أخرجه أبو داوود ]

مثلاً: أنت أب، أُم، مُعلِّم، مُعلِّمة، مدير مدرسة، مدير جامعة، مدير معمل، مدير مؤسسة، أي إنسان يحتل منصباً قيادياً كيف ينجح؟ هناك من يتوهم أنه ينجح بذكائه، أو ينجح بأنه يحمل شهادة إدارة أعمال من بلدٍ بعيد، ممكن، هو ينجح إذا كان مؤمناً، لأنَّ الله عزَّ وجل يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

لأنه يا محمد من خلال اتصالك بنا استقرت في قلبك رحمة، رحمة بمن حولك، هذه الرحمة انعكست ليناً، هذا اللين جذب مَن حولك إليك فالتفّوا حولك، أصبحوا أعواناً لك، أصبحوا حراساً لك، أصبحوا جنوداً لك، لأنك رحمتهم، لأنك كنت لَيّناً لهم، بدافعٍ من رحمةٍ استقرت في قلبك.

الخوف من الله عزَّ وجل أساس المحبة و التآلف و الرحمة بين الناس: 


الآن بالعالم ماذا يحصل؟ القوي يأكل الضعيف، والله مظاهر البذخ في العالم الغربي العقل لا يُصدِّقُها، ومظاهر الجوع والفقر في غزَّة الأطفال يموتون جوعاً، المستشفيات توقفت، الأفران توقفت، الكهرباء انقطعت، والعالَم يتفرج، القوي يأكل الضعيف والغني يأكل الفقير، لا يوجد روادع، لا يوجد قيَم، لا يوجد مبادئ، لا يوجد خوفٌ من الله عزَّ وجل، هذا منهجٌ لكل إنسانٍ يحتل منصباً قيادياً: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) أنت مُعلِّم، يقول: اكتب الدرس عشرين مرة، يموت الطفل في الليل لا يرحمه، حقد عليه، يكلفه بجزاء فوق طاقته، لا يوجد رحمة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) .

مَن طبَّق الدين بشكلٍ صحيح قطف ثماره اليانعة: 


هذا الدرس يحتاجه المُعلِّم، والمُعلِّمة، والأب، والأُم، وأيُّ إنسانٍ ولّاه الله على عشرة إذا رحمهم التفّوا حوله.
 والله كنت في زيارة معمل، أخبرني مدير المعمل أنَّ الحد الأدنى من الرواتب عشرون ألفاً، يعني الذين في المعمل يتفانون في خدمته، أعطاهم ما يستحقونه، أعطاهم حاجتهم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) هذا من يحتل منصباً قيادياً، بدءاً من المُعلِّم.
 الآن هذا الإنسان الذي له رئيسٌ يحكمه، يعني موظف في دائرة، طبيب بمستشفى، مُمِرض بمستشفى، خادم بجامعة، هذا كيف يؤدّي واجبه أداءً مثالياً؟ إذا عرف الله يتعامل مع الله، لا يُقصِّر في واجبه خوفاً من الله، لو ساءت علاقته مع من يأمره، سوء علاقته لا تؤثِّر في إخلاصه وخدمته، فتجد المؤمن مستقيماً، لا يأكل المال الحرام، يُسهِّل حاجات المواطنين، إذا شخص دخل إلى دائرةٍ ووجد الموظف قد تعاون معه تعاوناً شديداً، يستغرب وكأن هناك مشكلة، الأصل أن يخلِق لك العقبات، هذا خطأٌ كبير، حياتنا لا تستقيم إلا بمعرفة الله عزَّ وجل، الدين هو الحياة، هناك آيةٌ قرآنية تقول:

﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾

[ سورة النور  ]

لا أحد ينتبه إلى كلمة جميعاً، لا تُقطَف ثمار الدين إلا إذا طبَّقناه جميعاً، هناك راحةٌ نفسية، هناك صدق، هناك أمانة، هناك احترام، هناك أدب، هناك تسامح.

الإخلاص لله عزَّ وجل أساس النجاح و التوفيق:


أيُّها الإخوة: إذا كنت تأمُر منهجك هذه الآية: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) وإذا كنت تأتَمِر منهجك الإخلاص لله عزَّ وجل، لو أنَّ إنساناً كان مُعلِّماً ودخله قليل لا يُدرِّس، يقول لك: أنا أعمل على قدر الراتب، لأنه ما عرف الله عزَّ وجل، لو عرف الله لا ينتقم من الطلاب، لمن جعل له الدخل أقل مما ينبغي، لا تستقيم حياتنا إلا إذا عرفنا الله عزَّ وجل.
على كل مسلم أن يحمل همّ المسلمين ويبتعد عن مصالحه الشخصية ليرقى عند الله: 
أيُّها الإخوة: قد يقول قائل أين خطة المسلمين المستقبلية؟ يوجد بالإسلام ملامح دقيقة جداً، سيدنا عمر رضي الله عنه دخل إلى قريةٍ، فرأى معظم الفعاليات الاقتصادية فيها بيد غير المسلمين، فعنَّفهم تعنيفاً شديداً، فقالوا كما يقول بعض من آتاهم الله ثرواتٍ طبيعية، واستغنوا عن أن يُنشئوا أي معمل، قالوا: قد سخَّرهم الله لنا، فقال سيدنا عمر: ـ بعضهم يُسمّيه عملاق الإسلام ـ كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟ سيدنا عمر أدرك قبل ألف وأربعمئة عام أن المُنتِج قوي والمُستهلِك ضعيف، ومشكلة الدول النامية أنها تقع على رأس قائمة المستوردين وفي أسفل قائمة المُصدّرين.
زرت بلداً إسلامياً صغيراً في آسيا، تعداده ثلاثة وعشرون مليوناً، وكانوا في الغابات قبل خمسة وعشرين عاماً، قال لنا السفير هناك: صادرات هذا البلد إلى العالم، تفوق صادرات العالم العربي كله بما فيه النفط، أمة تعمل!
فيا أيُّها الإخوة: أنت حينما تعرف الله صار للعمل معنى لك، تعمل لبناء الأُمة، تعمل للتخفيف من واقع المسلمين، تعمل لنُصح المسلمين، كنت في الصين قلت لكم رأينا مسجداً في بكين أُنشئ قبل ألفٍ ومئتي عام، والذي أنشأه أدخَل الإسلام إلى الصين، الآن هناك ثمانين مليوناً، هذا عمل! ثلاثة عشر تاجراً مسلماً نشروا الإسلام في إندونيسيا أكبر بلدٍ إسلامي، تحتاج إلى عملٍ صالحٍ، إلى عملٍ يرفعك عند الله، اسأل نفسك يومياً ماذا قدَّمت من أجل المسلمين؟ احمل همَّ المسلمين، اخرُج من ذاتك، حاول أن تكون شيئاً مذكوراً، لكن كل إنسان همّه مصالحه فقط، هذا الهمّ لا يرقى بك، يجب أن تحمل همَّ المسلمين.

التوكل و التواكل: 


فيا أيُّها الإخوة: نفهم الإسلام فهماً خاطئاً، نفهم التوكل قعوداً، سيدنا عمر رأى أُناساً يتكفَّفون الناس في الحج، سألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبةً في الأرض، ثم توكل على الله.
مرَّ سيدنا عُمر برجُلٍ معه جملٌ أجرب، قال له: يا أخا العرب ما تفعل به؟ قال: أدعو الله أن يشفيه، قال له: هلَّا جعلت مع الدعاء قِطراناً؟
نحن نفهم التوكل تواكلاً، نفهم التوكل قعوداً، نفهم التوكل انسحاباً من الحياة، نفهم التوكل تقوقعاً، نفهم التوكل لا دخل لنا، "يصطفلوا، فخّار يكسر بعضه"، هذا انسحابٌ من الحياة.
أيُّها الإخوة: يجب أن تُثبِت أنك مؤمن، تَحمِل همّ أُمتك، تُقدِّم لها شيئاً، إذا أتقنت عملك فهذا عملٌ جيِّد، إذا رحمت الناس في الأسعار قدَّمت شيئاً، والله هناك طُرق لخدمة البشر لا تُعد ولا تُحصى، ولا يوجد إنسان لا يملِك إمكانية ليُقدِّم شيئاً، أحد هذه الأشياء أن يُتقِن عمله، وأن يكون فيه مُخلصاً لخدمة الناس.
أيُّها الإخوة الكرام: يفوتنا أن نفهم التوكل على أنه أخذٌ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم توكلٌ على الله وكأنها ليست بشيء، قضية ليست بسهلة، هناك من أخذ بالأسباب، واعتمد عليها، وألَّهها، فوقع في وادي الشرك، وهناك من لم يأخذ بها كالمسلمين وقعوا في وادي المعصية، البطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخــطــبـة الثانية : 

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من اصطلح مع الله وأقبل عليه شعر بسعادةٍ لا توصف:


أيُّها الإخوة الكرام: ورد في بعض الأحاديث:

(( مَن كانتِ الدُّنيا هَمَّهُ، فرَّقَ اللَّهُ علَيهِ أمرَهُ، وجعلَ فَقرَهُ بينَ عينيهِ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما كتبَ لَهُ، ومن كانتِ الآخرةُ نيَّتَهُ، جمعَ اللَّهُ لَهُ أمرَهُ، وجعلَ غِناهُ في قلبِهِ، وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغِمةٌ ))

[ صحيح ابن ماجه ]

 حديثٌ يُكمِّل هذا الحديث:

(( ما من عبدٍ يَعتصِمُ بِي دُونَ خَلْقِي، أعرِفُ ذلكَ من نِيَّتِه فَتَكِيدُه السَّماواتُ بِمنْ فيها، إِلَّا جَعلْتُ له من بينِ ذَلِكَ مَخْرَجًا، ومَا من عبدٍ يَعتصِمُ بَمخلوقٍ دُونِي، أعرِفُ ذَلِكَ من نِيَّتِه، إِلَّا قَطعتُ أسبابَ السَّماءِ بين يدَيْهِ، وأَرْسَخْتُ الهَوَي من تحتِ قَدَمَيْهِ، وما من عبدٍ يُطيِعُنِي إِلَّا وأَنا مُعطِيهِ قبلَ أنْ يَسْألَنِي، وغَافِرٌ لهُ قبلَ أنْ يَستغفِرَنِي ))

[ الألباني ضعيف الجامع ]

فلذلك أيُّها الإخوة: الإنسان حينما يصطلح مع الله، ويُقبِل عليه، ويُطيعه في كل منهجه، يشعر بسعادةٍ لا توصف لقوله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32)﴾

[ سورة فصلت ]


الاستقامة أساس الدين: 


أيُّها الإخوة الكرام: 

(( استَقيموا ولَن تُحصوا واعلَموا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةَ ولا يحافظُ علَى الوضوءِ إلَّا مؤمنٌ ))

[ صحيح ابن ماجه ]

وحينما يُحذَف المفعول به يُطلَق الفعل، أي لن تحصوا الخيرات، كل الخيرات، سمعةٌ طيبة، على راحةٍ نفسية، على زواجٍ ناجح، على أولادٍ أبرار، على دخلٍ معقول: (استَقيموا ولَن تُحصوا) .
ويمكن أن يُجمَع الدين كله في الاستقامة، ولن نقطف من الدين أية ثمرةٍ، إلا إذا استقمنا على أمر الله، والاستقامة على أمر الله لا تعني أداء الصلوات، والصيام، والحج، والزكاة، هناك منهجٌ تفصيلي قد يقترب من خمسمئة ألف بند، في طريقة كسبك للمال، إنفاقك للمال، علاقتك بزوجتك، بأولادك، بجيرانك، بمَن حولك، مع من فوقك، مع من تحتك، علاقتك بالقضايا الكُبرى في العالم (استَقيموا ولَن تُحصوا) .

الدعاء : 


اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولَّنا فيمَن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربَّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك، اللهم يا واصل المنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
 اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضنا وارضى عنّا.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ، مولانا ربَّ العالمين.
اللهم اكفِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك.
اللهم لا تؤمنّا مكرك، ولا تهتك عنّا سترك، ولا تُنسنا ذكرك يا ربَّ العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تُهلكنا بالسنين، اللهم اسقنا الغيث واجعلنا من الشاكرين،  يا ربَّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي الأُمي وعلى آله وصحبه وسلم. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور