وضع داكن
10-10-2025
Logo
الخطبة : 1094 - بعض حكم مناسك الحج - أخي في الله أخبرني متى تغضبْ ؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِّل فلن تجد له وليّاً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمِعَت أُذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الغُر الميامين، أُمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنّا وعنهم يا ربَّ العالمين.
 اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات . 

التَّلْبِيَةُ اسْتجابة لِنِداءٍ ودعْوةٍ يقعان في قلب كل مؤمن:


أيُّها الإخوة الكرام: يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويُخلِّف في بلدته هُموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، هموم الحاضر والمستقبل، وبعد أن يُحْرِمَ من الميقات يبتعد عن الدنيا كُليّاً، ويتجرَّد إلى الله عزَّ وجل، ويقول: "لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" ، هذه التَّلبِية كأنّها استجابةٌ لِنِداءٍ ودعوةٍ يقعان في قلبه، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال، تعال يا عبدي لأُريحَك من هُمومٍ كالجبال تجثم على صدرك، تعال يا عبدي لأُطهِّرك من شهواتٍ تُنَغِّصُ حياتك.

إلى متى أنتَ باللَّذَّاتِ مَشغُولُ         وَأنتَ عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسؤُولُ

[ البوصيري ]

تعال يا عبدي وذُقّ طعم محبَّتي، تعال يا عبدي وذُقّ حلاوة مُناجاتي، "لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" .
 تعال يا عبدي لأُريَك من آياتي الباهرات، تعال يا عبدي لأُرِيَكَ ملكوت الأرض والسماوات، تعال لأُضيء جوانحك بِنُوري الذي أشْرقَت به الظلمات، تعال لأَعمُرَ قلبكَ بِسَكينةٍ عزَّت على أهل الأرض والسماوات، تعال لأملَأ نفسك غِنىً ورضاً شَقِيتَ بفقدِهما وشَقيَتْ بفقدهما نفوسٌ كثيرات، تعال يا عبدي لأُخرِجَك من وُحول الشَّهوات إلى جنَّات القُربات، تعال يا عبدي لأُنقذِك من وَحشة البُعد إلى أُنس القرب، تعال لأُخلِّصك من رُعب الشِّرك وذُلِّ النفاق إلى طمأنينة التوحيد وعِزّ الطاعة، "لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" .
 تعال يا عبدي لأنقلك من دُنياك المحدودة، وعملك الرتيب، وهمومك الطاحنة، إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنَّة قُربي، تعال يا عبدي وحُطّ همومك ومتاعبك ومخاوفَكَ عندي، فأنا أضمنُ لك زوالها، تعال يا عبدي واذكُر حاجاتك وأنت تدعوني فأنا أضمنُ لك قضاءها.

(( قال اللهُ تعالى: إن بيوتي في الأرضِ المساجدُ وإن زُواري فيها عمَّارُها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيتِه ثم زارني في بيتي فحق على المزورِ أن يُكرمَ زائرَه ))

[  أخرجه ابن حجر العسقلاني ]


دعوة الله تعالى كل حاج إلى زيارة بيته الحرام ليسعد بهذا اللقاء و تنزاح عنه الهموم:


فكيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات، وتجشَّمت المشقَّات، وتحمَّلت النفقات، وزُرتني في بيتي الحرام، ووقفتَ بِعَرفة تدعوني وتسترضيني، "لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" .
 تعال يا عبدي وزُرني في بيتي، لتنزاحَ عنك الهموم، ولتُعاينَ الحقائق، وتَسْتعِدَّ للقاء:

((  إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: إنَّ عبدًا أصحَحتُ لهُ جسمَهُ، ووسَّعتُ عليهِ في مَعيشتِهِ، تمضي عليهِ خمسةُ أعوامٍ لا يَفِدُ إليَّ لمَحرومٌ ))

[ أخرجه الطبراني وابن حبان والبيهقي ]

  تعال يا عبدي وطُف حول الكعبة طواف المُحبّ حول محبوبه، واسعَ بين الصفا والمروَة سعيَ المُشتاق لمطلوبه، تعال يا عبدي وقبِّل الحجر الأسوَد يميني في الأرض، واذرُف الدمع على ما فات من عمُرٍ ضيَّعتهُ في غير ما خُلقت له، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات، وعاهدني على الإقبال على الطاعات والقُربات.
يُروى أنَّ الله تعالى قال لداوود: " يا داوود، أنت تُريد وأنا أُريد، ولا يكون إلا ما أُريد، فإن سلّمت لما أُريد كفيتك ما تُريد، وإن لم تُسلِّم لما أُريد أتعبتك فيما تُريد، ثم لا يكون إلا ما أُريد" .

نفحات الإيمان في الحج تشيع في النفس الأمن و الطمأنينة:


أيُّها الإخوة الكرام: هذا لسان الحاج الصادق وهو يقول: "لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" .
ومما جاء في الأثار القدسية من الكتب السماوية السابقة: "خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيُعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك، وعِزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بِما قسَمْتُهُ لك فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ فيها ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي، وكنتَ عندي مَذْموماً"
"لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" ، تعال يا عبدي إلى عرفات، يوم عرفة يوم اللقاء الأكبر، تعال لتتعَرَّض لنفحةٍ من نفحاتي تُطَهِّرُ قلبك من كلّ درَنٍ وشهوة، وتُصفّي نفسكَ من كلّ شائبةٍ وهمّ، هذه النفحات تملأُ قلبك سعادةً وطمأنينةً، وتُشيع في نفسك سعادةً لو وُزِّعَت على أهل بلدٍ لكفتْهُم، عندئذٍ لا تندم وأنت في عرفات، إلا على ساعةٍ أمْضيتها في القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
تعال إلى عرفات يوم عرفة، لتعرف أنَّك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات، ولك وحدك سُخِّرت الأرض والسماوات، وأنّك حُمِّلْت الأمانة التي أشْفقَت منها الجبال والأرض والسماوات، وأنِّي جئْتُ بك إلى الدنيا لتعرفني، وتعمل عملاً صالحاً يؤهِّلُكَ لجَنَّة الخُلد، تعال إلى عرفات لتعرف:

﴿  إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا  بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

وقد ذكر ابن القيِّم في طريق الهجرتين هذا الأثر: "ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كل شيء، والله أحب إليك من كل شيء" .

من ذاق روعة اللقاء و حلاوة المناجاة في عرفات تصبح الآخرة أكبر همّه:


أيُّها الإخوة الكرام: وبعد أن يذوق المؤمن في عرفات، من خلال دعائه وإقباله واتِّصاله، روعة اللقاء وحلاوة المُناجاة، ينغمسُ في لذّة القُرب، عندئذٍ تصغُر الدنيا في عَيْنَيْه، وتنتقل من قلبهِ إلى يديه، ويُصبح أكبر همِّه الآخرة، فيسعى إلى مقعد صِدقٍ عند مليكٍ مُقتدر، وقد يُكشف للحاج في عرفات، أنَّ كلّ شيءٍ ساقهُ الله له مما يكرهه، هو محضُ عَدلٍ، ومحضُ فضلٍ، ومحضُ رحمة، و يتحقَّق من قوله تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[ سورة البقرة ]

الرّمْي تعبير مادِّي وعهْد موثَّق في عداوَة الشيطان ورفض لِوَساوِسِهِ:

وبعد أن يفيض الحاجّ من عرفات، وقد حصَلَت له المعرفة واستنار قلبهُ، وصحَّت رؤيتُه، يرى أنَّ السعادة كلّها في طاعة الله، وأنّ الشقاء كلّه في معصيته، عندئذٍ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يَعِد أولياءه بالفقر إذا أنفقوا، ويُخَوِّفهم ممَّا سِوَى الله إذا أنابوا وتابوا.

﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)﴾

[ سورة النساء ]

قال تعالى: 

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[ سورة إبراهيم ]

عندئذٍ يُعبِّر الحاجّ عن عداوته للشيطان، تعبيراً رمزيّاً بِرَمي الجِمار ليَكون الرّمي تعبيراً مادِّياً، وعهداً موثَّقاً في عداوَة الشيطان، ورفضاً لِوَساوِسِهِ وخطراته، يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "اعلم أيُّها الحاج أنّك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان وتقصِم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفهِ إلا بامتِثالِكَ أمر الله تعالى" .

الهدْي هديّة إلى الله عز وجل تعبيراً عن شُكر الإنسان ربه على نعمة الهدى:


وحينما يتَّجِهُ الحاجّ لسَوق الهَدي، ونحْر الأضاحي، كأنَّ الهدْي هديّةٌ إلى الله عزَّ وجل، تعبيراً عن شُكرهِ لله على نعمة الهدى التي هي أثْمنُ نعمةٍ على الإطلاق، وكأنَّ ذبح الأُضحيَة ذبحٌ لكُلِّ شهْوةٍ لا تُرضي الله، وكل رغبةٍ تُسخِط الله عزَّ وجل، وتضحيةٌ بكلّ غالٍ ورخيص، ونفسٍ ٍ ونفيس، في سبيل مرضاة الله تعالى، قال تعالى: 

﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)﴾

[ سورة الحج ]


اتجاه الحجاج إلى المدينة المنورة أحبّ بلاد الله إلى الله بعد الانتهاء من مناسك الحج:


ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق، وتلك المشاعر، ثم يطوف طواف الوداع لينطلقَ منه إلى بلده إنساناً آخر، اسْتنارَ قلبه بِحَقائق الإيمان، وأشرقَت نفسهُ بأنوار القُرب، وعقدَ العزم على تحقيق ما عاهَدَ الله عليه، وإذا صحَّ أنَّ الحجّ رحلةٌ إلى الله، فإنَّه يصِحّ أيضاً أنَّه الرحلةُ قبل الأخيرة، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفضِيَةً إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض.
وبعد أن ينتهي الحُجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة، التي هي من أحبّ بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

(( من زارني بعدَ موتي فَكأنَّما زارني في حياتي ومن زارَ قبري فلَهُ الجنَّةُ ))

[ أخرجه البيهقي ]


طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله:


أيُّها الإخوة الكرام: قال تعالى: 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64)﴾

[ سورة النساء ]

الإمام القرطبي يشرح هذه الآية ويقول: ليس هذا لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد المُفسِّر الكبير جمال الدين القاسمي في تفسير هذه الآية: أنَّ في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجُل حينما يظلم نفسه بمعصية ربّه، من خلال خروجه عن سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وجبَ عليه أن يستغفر الله أولاً، وأن يعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تتم التوبة إلى الله ولا تُقبَل، إلا إذا ضمَّ إلى استغفار الله استغفار الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله، ورفض سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم عين معصية الله، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله.

إرضاء رسول الله عين إرضاء الله وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله:


يُستنبَط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى: 

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾

[ سورة التوبة ]

ضمير المُفرَد، إذاً إرضاء رسول الله عين إرضاء الله، وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله.
وقد قال تعالى:

﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)﴾

[ سورة النساء ]

وفي قوله تعالى: 

﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]


حبّ النبي الكريم سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم:


أيُّها الإخوة الكرام: لعلَّ سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم، حينما يزور مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما إن يُبصِر الروضة الشريفة حتى يَجهش بالبكاء، وعندئذٍ تُصبح نفس الزائر صافيةً من كل كَدَر، نقيةً من كل شائبة، سليمةً من كل عيب، مُنتشيةً بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها منه، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: 

(( مَنْ جاءَني زائرًا لمْ تَنزعْهُ حاجةٌ إلَّا زِيارتي كان حقًّا عليَّ أنْ أكونَ لهُ شفيعًا يومَ القيامةِ ))

[ أخرجه الطبراني ]

أيُّها الإخوة الكرام: وإن شئت الدليل القرآني قال تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ  إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ  وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾

[ سورة التوبة ]


حبّ النبي الكريم حقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة:


قال الإمام الرازي: "إنَّ روح محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قويةً، صافيةً، مشرقةً، باهرةً، لشدَّة قُربه من الله، ولأنَّ قلبه الشريف مهبطٌ لتجليات الله عزَّ وجل، فإذا ذكر أصحابه بالخير والود، أو ذكره المؤمنون بالحبِّ والتقدير فاضت آثار هذه المحبة والتقدير من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب نفوسهم، وصفت سرائرهم" ، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾

[ سورة الأحزاب ]

رُويَ أنَّ بلالاً رضي الله عنه سافر إلى الشام، وطال به المُقام، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد رأى في منامه وهو بالشام، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده كثيراً، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما، وجعل يضمّهما ويُقبلهما فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذِّن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرّا عليه، فصعد وعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه، ولمّا بدأ بقوله: الله أكبر، وتذكر أهل المدينة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتجَّت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم، فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
لقد صدق أبو سفيان حينما قال: "ما رأيت أحداً يُحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً" .
     وهذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمنٍ إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم:

(( لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]


من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له:


أيُّها الإخوة الكرام: هذه بعض حِكَم مناسك الحج، والذي يؤسف أشدَّ الأسف، أنه يأتي الحاج ليُحدِّثك عن كل شيءٍ في الحج إلا الحج، أين نفسه؟ أين مشاعره؟ أين صلحه مع الله؟ أين إقباله على الله؟ أين سكينته التي منَّ الله بها عليه؟ 
لذلك قال بعض العلماء: "من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنِّه أن الله قد غفر له فلا حج له".
أيُّها الإخوة الكرام: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حجَّاً مقبولاً، حجَّاً كما أراد الله جلَّ جلاله، حجَّاً فيه توبةٌ نصوح، فيه إقبالٌ على الله عزَّ وجل. 
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

* * *

الخــطــبـة الثانية : 

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلق العظيم، اللهم صلَّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

متى تغضب؟ 


أيُّها الإخوة الكرام: تنازعت عندي موضوعاتٌ شتّى قبل أن آتي إليكم، الموضوع المهم جداً موضوع الحج ونحن على مشارف الحج، والموضوع الساخن الذي ترونه، لذلك أُذكِّركم بأبياتٍ من الشعر عنوانها: متى تغضب؟ 
يعني افتتاح فندقٍ في بلدٍ يُكلف مئة مليون دولار، وطفلٌ يموت لأنَّ المنفسة توقفت بلا كهرباء، هذه المُفارقة في العالم الإسلامي ألا تُثير الغضب؟! فهذا الذي نَظَم هذه الأبيات قال: 

أخي في الله أخبرني متى تغضب؟

إذا انتُهكت محارمنا إذا نُسِفت معالمُنا ولم تغضب

إذا قُتِلت شهامتُنا إذا ديست كرامتنـا

إذا قـامـت قـيـامـتـنا ولـم تـغــضــب

فــأخبرني متى تغضــب؟

[ عبد الغني التميمي ]

يموت أبناء غزَّة تحت سمعنا وبصرنا، يموت الأطفال:

إذا نُهبَت مواردنا إذا نُكبَت معاهدنا

إذا هُدِمَت منازلنا إذا قُطِعَت طرائقُنا

وظـلَّت قُـدسنا تُغـصَـبْ ولـم تغضـب

فأخبرني متى تغضب؟

عدوّي أو عدوُّك يهتك الأعراض يَعبث في دمي لعباً

إذا لله... لـلـحــُـرمــات... لـلإســلام لــم تـغـــضــب

فأخبـــرني متى تغضب؟!

رأيـتَ هنـاك أهوالاً رأيـتَ الـدم شـلالاً 

رجــالاً شــيَّـعــوا لـلــمــوت أطــفــالاً

رأيتَ القهر ألواناً وأشكالاً ولم تغضب

فأخبـــرني متى تغــضب؟

فصارحني بلا خجلٍ لأية أُمةٍ تُنسَب؟!

هناك حصارٌ عربيٌ إسرائيلي:

فـصــارحـنـي بــلا خـجـلٍ لأيـة أُمـةٍ تُـنـسَـب؟!

فلست لنا ولا منّا ولست لعالم الإنسان منسوبا

ألـم يـُحــزنـك مـا تـلـقـاه أُمـتـنـا مـن الـهــولِ؟

ألـم يُخـجِلـك مـا تجـنـيه مـن مسـتـنـقع الـحَـلِّ؟

ومــا تـلـقــاه فــي دوامــة الإرهـاب والــقــتـل ِ

ألـم يُـغــضــبك هـذا الـواقـع الـمـعـجـون بالـذلِ

وتـغــضـب عــنـد نــقــص الــمـلـح فـي الأكــلِ!!

ألم يهززك منظر طفلةٍ ملأت مواضع جسمها الحفرُ

 ولا أبكاك ذاك الطفل في هلعٍ بـظـهـر أبـيه يـستتـرُ

 فـما رحـمـوا استغاثـته ولا اكـتـرثـوا ولا شـعـروا

فخرّ لوجهه ميتاً متى التوحيد في جنبَيكَ ينتصرُ؟

أتبقى دائماً من أجل لقمة عيشكَ 

الــمـغـمــوسِ بــالإذلال تـعـتـذرُ؟

مـتـى مـن هـذه الأحـداث تـعتبرُ؟

متى تغضب؟

[ عبد الغني التميمي ]

أيُّها الإخوة الكرام: ادعوا لإخوتنا في غزَّة، الدعاء مقبول، وتمنَّوا أن تُقدِّموا لهم كل ما تستطيعون. 

(( نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عملِه، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليُعطي العبدَ على نيَّتِه ما لا يُعطِيهِ على عملِه،  وذلك أنَّ النيةَ لا رياءَ فيها، والعملُ يُخالطُه الرياءُ ))

[ أخرجه الديلمي ]

لكن نحن في محنةٍ شديدة أيُّها الإخوة، محنتنا أننا ابتعدنا عن الله وماتت في نفوس الأُمة كل معاني الشهامة والبطولة:

رُبَّ وامعتصماه انطلقت         مـلء أفـواه البنـات اليُتَّـمِ

لامست أسمـاعهم لـكنها         لم تلامس نخـوة المُعتصـمِ

[ عمر أبو ريشة ]


الدعاء : 


اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولَّنا فيمَن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحقِّ ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
 اللهم يا واصل المنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
 اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ، مولانا ربّ العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تُنسنا ذكرك يا ربَّ العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقِّ والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين.
اللهم أعطنا سؤلنا يا ربَّ العالمين، اللهم وفِّق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما فيه خير البلاد والعباد، اجمع كلمتهم، وحّدهم يا ربَّ العالمين إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور