- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الحديث النبوي الشريف، حديث اليوم من باب المجاهدة.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ))
يا أيها الإخوة المؤمنون؛ الولي هو القريب، ومتى يقرب الإنسان من الله ؟ في حالةٍ واحدة: إذا أطاعه، فالولاية مبذولةٌ لكل إنسان، سيدنا عمر رضي الله عنه حينما عيَّن سيدنا سعد بن أبي وقاص قائداً في معركة القادسية قال: يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له، فإذا أطعت الله عزَّ وجل تكون وليه..
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾
الولاية مبذولة لكل إنسان، أطعه تقترب منه، فإذا اقتربت منه كنت وليه، لذلك سيدنا الجنيد هذا العارف بالله قال: ليس الولي من يمشي على وجه الماء، وليس الولي من يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحرام والحلال، يعني أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، هذه الولاية، الولاية مبذولة لكل إنسان، الناس سواسيةٌ كأسنان المشط، فهذه بعض المعتقدات الزائفة الزائغة: حتى الله يأذن، حتى تأتي الولاية، حتى الله يسمح لنا، الولاية مبذولة، أطعه تكن وليّه..
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69)﴾
لا أعذار أبداً، أطعه تكن وليه، فإذا كنت وليه تولاَّك بالحفظ، والتوفيق، وكنت برعايته، وتجلَّى على قلبك، القضية لو يقول الواحد: أخي الله ما كتب لي، لم يأت الإذن بعد، لله في خلقه شؤون، حتى يهدي الله قلبي، هذه الولاية لأهل الخواص، ليس هناك خواص، ولا عوام، كلنا في فضل الله سواء، كلنا على قدر المساواة في طريق الإيمان، فلذلك معنى الولي بالضبط: هو الإنسان القريب من الله عزَّ وجل، والقرب ثمنه الطاعة..
تعـصي الإلـه وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال بديع
لو كان حـبك صادقـاً لأطعتـه إن المحب لمن يحبُّ يطيع
* * *
من عادى لي وَلِيّا فقد آذَنتُه بحرب.
فهذا الولي، هذا الطائع لله عزَّ وجل الذي هو عند الأمر والنهي، هذا الذي يطيع الله عزَّ وجل في كل شؤونه، وفي كل أحواله، هذا إذا عاديته، فأنت في خطرٍ كبير، لأنك إذا عاديته لا تعادي ذاته، لا تعادي شخصه، بل تعادي مهمَّته، تعادي وظيفته، تعادي مقامه، إذاً أنت تعادي الحق، إذاً أنت تريد أن تطفئ نور الله عزَّ وجل، إذا عاديت الولي فأنت ضدُّ الحق، أنت وضعت نفسك في خندقٍ معادٍ لخندق الإيمان، لذلك:
من هو الولي؟ ليس الذي يدعي الولاية، بل هو الولي الحقيقي الطائع لله عزَّ وجل في كل شؤونه، أو الذي يدعو إليه
أولاً: الفرائض.
فلذلك:
نوافل العبادات، نوافل المعاملات، نوافل الأعمال الصالحة، جميع هذه النوافل ليست مقبولةً ما لم تؤدَّ الفرائض، إنسان لا يصلي لكنه عمَّر جامعًا، لا، لابد من أن يصلي أولاً، التقرب إلى الله لا يكون بالإحسان من دون صلاة، هذا الذي يدع حقوق الآخرين ؛ له أولاد، له زوجة، له أقارب، له أب، له أم، قبل أن تتقرب إلى الله بالنوافل، قبل أن تحج الحجة الخامسة والعشرين ارعَ حقوق أولادك، لهم عليك حق، لذلك جميع أنواع النوافل ؛ نوافل العبادات، نوافل المعاملات، نوافل الذكر، هذه كلها ليست مقبولة ما لم تؤدَّ العبادات، الفرائض.
لهذا يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
ثانياً: النوافل.
قال:
بعد أداء الفرائض والنوافل تأتي محبة الله عز وجل والعطاء.
قال:
هذه الكلمات إشارات إلى نصر الله عزَّ وجل، يعني يسمعك الحق، ويسمعك الذي ينفعك، ويسمعك ما أنت بحاجةٍ إليه، وترى بنور الله حقائق الأشياء، ترى بنور الله، تسمع بنور الله، تتحرك بنور الله، تعادي بنور الله، تواصل بنور الله، تقطع بنور الله، تصل بنور الله، تعطي بنور الله، تمنع بنور الله، تبطش بنور الله، تنتقل من مكان إلى مكان بنور الله، هذه معنى أنه كنت سمعه، وكنت بصره، وكنت يده، معناها أن كل حركاتك وسكناتك في تأييد، وفي تسديد، وفي هدى، وفي رشاد، وفي توفيق، وفي توجيه نحو ما ينفعك.
سبحانك يا رب، أهل المعصية والفجور تأتيهم وساوس، أحياناً الإنسان يفكر، يُفكر، يفكر، يدرس، يَدرس، يدرس، يحسب، يَحسب، يحسب فتأتي فوق رأسه بعدها، هذا جعل الله تدميره في تدبيره، أما المؤمن الله عزَّ وجل، ما دام المؤمن مع الله سبحانه وتعالى فهو بصره، وهو سمعه، وهو يده، يعني يرى بنور الله، يسمع بنور الله، يتحرك بنور الله، يعطي، يمنع، يصل، يقطع، كل هذا بنور الله، طبعاً لا ينبغي أن نفهم هذا الكلام على ظاهره، الله سبحانه وتعالى ليس هو يد الإنسان، هو في عليائه، لكن إذا قال: كنت يده يعني أعنته، سددت عمله، وفَّقته، إذا قال: كنت بصره يعني أريته الحق، رأى بنوري، إذا قال: كنت سمعه يعني استمع إلى الحق بنوري، فهذه الكلمات معناها أن الله سبحانه وتعالى يؤيده، ويحفظه، وينصره، وهو يتحرك بنور الله عزَّ وجل.
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
(( عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي ))
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
﴿
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾
﴿ وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) ﴾
عندما تكون مؤمنًا، وتقرأ كتاب الله أحياناً تذوب ذوبان محبةً لله عزَّ وجل.
فهذا الحديث إذا أطاع الإنسان الله عزَّ وجل صار وليّه، الولاية مبذولة، ليس هناك أخذ معدلات، انتهت المقاعد، انتهت الشواغر، انتهى الملاك، الملاك لا يسمح، ليس هناك تعيينات، باب الولاية مفتوحٌ على مصراعيه، والشروط شرط واحد، هو الطاعة لله عزَّ وجل.
ومن عادى ولي الله فقد عادى دين الله، فقد عادى شرعه، فقد عادى الحق، لذلك الله سبحانه وتعالى يتولى محاربته.
سبحان الله الإنسان كيف تمر الأيام والليالي، ولا يزال هناك جفوةٌ بينه وبين الله !!! بابه مفتوح، باب التوبة مفتوح، باب الصلة مفتوح، الله سبحانه وتعالى يسترضى.. "، صدقة السر تطفئ غضب الرب "..، "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطَّاها "، الله عزَّ وجل يسترضى بالصدقة، يسترضى بالعمل الصالح، يسترضى بخدمة الخلق، فمتى الصلح مع الله، الصلحة بلمحة..
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
أعيد على أسمعاكم مرةً ثانية قراءة الحديث الشريف:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ))
والله مقام عالي كثير، يعني المؤمن تأتيه إلهامات لمصلحته: يا عبد الله افعل كذا، اذهب من هذا الطريق، تعامل مع هذا الرجل، اشترِ هذا البيت، اخطب هذه الفتاة، كل حياته سلسلةٌ من التوفيقات، فإذا عصى الله عز وجل يخفق في زواجه، يخفق في عمله، يخفق في علاقته مع الآخرين، يقع في ورطات، يقع في مشكلات، يتهم بأشياء وهو منها بريء، يقع في أزمات، لذلك الإنسان بين أن يكون ولياً لله عزَّ وجل، وبين أن يكون ولياً للشيطان.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع شرح بعض الأحاديث الصحيحة.
صور من مواقف عمر بن الخطاب.
والآن إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
سيدنا عمر رضي الله عنه كان شجاعاً، عزيز النفس، فحينما أسلم قال: والله يا رسول الله لن نعبُد الله سراً بعد هذا اليوم، فكان إسلام عمر فيه عزٌ للمسلمين.
موقفه من صلح الحديبية.
صلح الحديبية، هذا الصلح يرد في كتب السيرة، والحقيقة بنوده في ظاهرها فيها إجحافٌ لحق المسلمين، سيدنا عمر عزيز النفس، شهم، فرأى هذا الخليفة العظيم أن المزايا التي أعطاها النبي عليه الصلاة والسلام لكفار قريش سخيةٌ وكثيرة، وهو يؤمن بضرورة مناجزتهم، ودخول مكة طوعاً أو كرهاً، وما داموا لا يريدون أن يجنحوا للسلم، ويحتكموا إلى الحق، وما دام الحق والباطل في معركة فلابد للحق أن يستعلي بدل أن يهادَن، ولابد له أن يناجز بدل أن يساير، هكذا فهم عمر المسألة، وكوَّن الرأي، ولم يكن للجهر به من مفر، وهكذا أقبل على النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يبدأ الكاتب في تحرير صحيفة المعاهدة، فقال:
ـ يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟
ـ قال: بلى.
ـ قال: يا رسول الله، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟
ـ فقال عليه الصلاة والسلام: بلى.
ـ فقال سيدنا عمر: يا رسول الله، فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ؟!! لماذا هذه الشروط المجحفة ؟ لماذا هذه القيود ؟ لماذا هذه المزايا السخية للكفار ؟ فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
ـ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ابن الخطاب إني رسول الله. فهمتم ماذا قال له ؟ إني رسول الله، أي:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً.
أنا سأقول لكم هذه الكلمة، وإن شاء الله مسؤول عنها حتى الموت:
واللهِ الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يضيع مؤمناً، تطيعه ويضيُّعك؟
تطيعه ويجعلك في آخر الركب؟!
تطيعه وتندم على طاعته؟!!
ادعُ الله عزَّ وجل في صلاة الصبح بالدعاء المأثور دعاء القنوت وقل له: سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز مَن عاديت، وهذه الأيام بيننا، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز مَن عاديت، يعني من رابع المستحيلات أن يذل المؤمن، وأن يعلي الكافر دائماً، للباطل جولةٌ ثم يضمحل، ولكن العاقبة للمتقين.
ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا، يعني ما اقتنع، فذهب لسيدنا الصديق قال:
ـ يا أبا بكر ألسنا على الحق ؟
ـ قال: نعم.
ـ قال: أليسوا على الباطل ؟
ـ قال: نعم.
ـ قال: فلماذا إذاً نعطي الدنية في ديننا، ونرجع، ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟
ويطمئنه سيدنا الصديق بأن الله لن يتخلَّى عن رسوله، وأن فتح الله قريب، معنى هذا أن سيدنا الصديق أقرب لرسول الله من سيدنا عمر، يعني فهم عليه.
ـ فقال سيدنا الصديق: يا عمر الزم حرزه.
يعني كن معه، استسلم له لأنه رسول الله، لأنه معصوم، لأنه يوحى إليه وليس هذا لغير رسول الله، كل إنسانٍ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء، ما جاءنا عن رسول الله فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن أصحابهم فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن سواهم فهم رجال ونحن رجال.
إنسان غير رسول الله لا يحق له أن يقول: اتبعوني بلا دليل، لا نتبع بلا دليل.
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، هذا كلام سيدنا الصديق.
إنسان غير رسول الله لا يحق له أن يقول: اتبعوني، بلا دليل، لا تتبع إلا بالدليل، إذا جاءك بالدليل من كتاب الله، وفسر العلماء كما فسرها علماء المسلمين أئمة التفسير، وجاء بالحديث الصحيح المتواتر، وفسره كما فسره علماء الحديث، أنت الآن عليك أن تتبعه، أنت إذا اتبعته لا تتبعه بل تتبع الله ورسوله فقط.
إذا دعاك إنسان بعد رسول الله إلى الله، جاء لك بآيةٍ، وفسرها كما فسرها أئمة التفسير، أو جاء بحديث صحيح، وفسره كما فسره علماء التفسير، أنت الآن ملزمٌ أن تطيعه، وأنت إذا أطعته لا تطيعه هو، بل تطيع الذي جاء به من كتاب الله ومن سنة رسوله، أما أطيعوني بلا دليل، لا نطيعه.
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
لا مجال، أنت مأمور بنص كتاب الله أن تأخذ ما جاء به النبي، وأن تنتهي عما عنه نهاك، فلو كان في سلوك النبي ما هو خلاف الحق لكان الله قد أمرك بالباطل، ألم يقل لك: أطع رسولي، وانتهِ عما عنه نهاك، معنى ذلك لو أن النبي غير معصوم كأن الله قد أمرك بالمعصية.
إذاً ما ينطبق على النبي لا ينطبق على غيره، لا يحق لأحدٍ أن يأخذ ميزات النبي عليه الصلاة والسلام، هو معصوم، ويوحى إليه، وقد أُمِرْنا أن نطيعه في كل شيء، وأن ننتهي عما عنه نهانا، وليس هذا لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سوى النبي تعامل معه بالدليل، افعل كذا، أين الدليل ؟ لا تفعل، أين الدليل؟.
موقفه حين تولى الخلافة.
سيدنا عمر شعر بالمسؤولية بعد أن تولى أمر الناس، حتى إنه أراد أن يكون أول من يجوع إذا جاع قومه، وآخر مَن يشبع إذا شبعوا.
عبارة دقيقة: أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر من يشبع إذا شبعوا.
كان يخاطب نفسه فيقول: كيف يعنيني شأن الناس إذا لم يصبني ما يصيبهم؟ يعني إذا دخل الأب مثلاً المطعم، وأكل حلويات، كل يومين أو ثلاثة يأكل أكلة حلو، وليس في البيت في حلويات، والدنيا شتاء، اشتهوا أن يأكلوا حلويات، هذا الأب ما انتبه لهذه الناحية لأنه شبعان.
حدثني شخص فقال لي: عنده اثنا عشر نفسا، يأتي بأوقية من اللحم ـ حالته المادية جيدة ـ يضعها في الطبخة، يدخل عند اللحام يأخذ أوقيتين ويأكلها، يشويها ويأكلها في مكان خفي، كيف يعنيك أمر هذه الأسرة إن لم تشعر بما تشعر؟ إن لم تجع كما تجوع؟ إن لم تشته كما تشتهي؟ فالأب إذا ما شعر بشعور أولاده، وبشعور زوجته، ليس مؤهلاً أن يكون أباً.
فكان سيدنا عمر يقول: كيف يعنيني شأن الناس إذا لم يصبني ما يصيبهم؟ فصار سيدنا عمر يلتزم أكل الزيت حين أصاب المسلمين أزمةٌ شديدة في اللحم والسمن، ويدمن أهل الخطاب أكل الزيت حتى قرقرت أمعاءه، يقول لك: التوى قلبي كله زيت بزيت، فيضع كفه على بطنه ويقول له: قرقر أيها البطن أو لا تقرقر فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين.
في رواية ثانية: لتمرن أيها البطن على الزيت مادام السمن يباع بالأواقي، مادام السمن غاليا فكل الزيت.
في عام الرمادة، وهذا كان عام مجاعة قاتلة في المدينة، أمر يوماً بنحر جذور ـ ناقة كبيرة ذبحت وتوزيع لحمها على الفقراء من أهل المدينة ـ وقام المختصون بإنجاز هذه المهمة، بيد أنهم استبقوا لأمير المؤمنين أطيب أجزاءٍ في الذبيحة، أطيب جزء في الذبيحة يقال إنه السنام، الشهباية مثلاً أطيب شيء، فتيلة مثلاً، فبالناقة أطيب شيء السنام، وعند الغذاء وجد سيدنا عمر أمامه على المائدة سنام الجزور وكبده، وهما أطيب ما فيه، فقال:
ـ من أين هذا ؟
ـ قيل: من الجذور الذي ذبح اليوم.
ـ فقال وهو يزيح المائدة بيده الأمينة: بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إذا أكلت أطيبها، وأكل الناس كراديسها، يعني عظامها، فقال: أزحها من أمامي، وقال: يا أسلم ارفع هذه الجفنة، وأتني بالخبز والزيت، بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إذا أكلت أطيبها، وأكل الناس كراديسها.
موقفه مع رسول عامله على أذربيجان.
في مرة جاءه من أذربيجان رسول عامله، واسمه عتبة بن فرقد، فهذا الرسول وصل للمدينة في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، في المدينة كره أن يطرق باب أمير المؤمنين في هذه الساعة المتأخرة فتوجه إلى المسجد، وليس فيه إضاءة، فسمع صوتاً يناجي ربه، يقول هذا الصوت: يا رب أنا واقفٌ بين يديك، هل أنت راضٍ عني ؟ هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها؟ من هذا الشخص.
ـ فقال: من أنت يرحمك الله، من أنت؟.
ـ قال: أنا عمر، كره أن يطرق بيته ليلاً فإذا هو في المسجد.
ـ فقال: يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل؟!
ـ قال: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعف رعيتي.
فالنتيجة صلى معه، وأذن الفجر، وصليا الفجر، ودعوا بدعاء الفجر، وأخذه إلى البيت، وقال:
ـ يا أم كلثوم ماذا عندك من الطعام؟.
ـ قالت: والله ما عندنا إلا خبزٌ وملح.
هو خيَّره: أتحب أن تأكل مع فقراء المسلمين أم أن تأكل في بيتي؟.
قال: لا عندك في البيت، ليس هناك نسبة، بالبيت لا مع الفقراء؟!.
فقال: يا أم كلثوم ماذا عندك من الطعام ؟.
فقالت: والله ما عندنا إلا خبزٌ وملح ؟.
فقال:
ـ أحضريه لنا.
وأكل سيدنا عمر مع ضيفه الخبز والملح، إذا كان هناك واحد منا جميعاً من يأكل خبزا وملحا فأنا مسؤول، فقط خبز وملح؟ شرب الماء، وحمد الله على أنه أطعمه وسقاه وقال:
ـ ما الذي جاء بك إلينا؟ خير إن شاء الله؟.
ـ قال: جئت لك بهذه الهدية.
فتحها فإذا حلوى من أذربيجان، فذاق منها لقمةً فإذا لها طعمٌ طيب فقال:
ـ يا هذا أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام؟.
ـ قال: لا، هذا طعام الخاصَّة، يعني الطبقة الغنية.
ـ قال له: أو أعطيت فقراء المدينة مثل ما أعطيتني؟.
ـ قال: لا، هذه لك وحدك.
ـ فقال له: أين بعيرك؟ خذ حملك هذا وارجع به لعتبة، وقل له: عمر يقول لك اتقِ الله، وأشبع المسلمين مما تشبع منه.
وفي قول آخر أنه قال له: وزع هذه الحلوى على فقراء المدينة، وحرامٌ على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين.
موقفه مع أهله وأقرباءه.
طبعاً كان يجمع من حين لآخر أهله وأقرباءه المقربين إليه، أهل خاصته يقول: " إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وأمرتهم بكذا وكذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايم الله لأوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني "، فصارت القرابة من عمر مصيبة، كل إنسان قريب من سيدنا عمر سيحاسب مرتين، يضاعف لها العذاب ضعفين، هؤلاء الأشخاص الذين بحكم أعمالهم، بحكم مراتبهم الاجتماعية يحتلون مركز الصدارة هؤلاء، يعاقبون ضعفين، ويثابون مرتين، مرةً على أعمالهم الطيبة، ومرةً لمن اقتدى بهم، فإذا أساؤوا يعاقبون مرتين، مرةً لأنهم أساؤوا، ومرةً لأنهم كانوا قدوة سيئةً لغيرهم، هذه دخل فيها الأب، دخل فيها المعلم، دخل فيها مدير المعمل، دخل فيها رئيس الدائرة، دخل فيها كل إنسان، لو كان له ولاية على عشرة أشخاص، صار هذا له عذاب الضعف.
مع أن سيدنا عمر كان إماماً في الورع والزهد، لكنه يعاتب ولده عبد الله بن عمر عتاباً فيه العجب العجاب، فمرة سيدنا عمر رأى ابنه يستروح نعمةً متواضعة من نعم الحياة، يعني يأكل لحماً، هذا ذنبه الوحيد، دخل يوماً دار ابنه عبد الله، فرآه يأكل شرائح اللحم، فغضب وقال: ألأنك ابن أمير المؤمنين تأكل لحماً والناس في خصاصة، ألا خبزاً وملحاً، ألا خبزاً وزيتاً، والناس في خصاصة؟.
موقفه مع ابنه وابنته.
ذات مرة خرج في جولة تفتيشية في السوق، فرأى إبلاً سماناً تمتاز عن بقية الإبل بنموها وامتلائها، فقال:
ـ إبل مَن هذه ؟
ـ فقالوا: هي إبل عبد الله بن عمر، لابنك هذه.
وانتفض أمير المؤمنين كأنما القيامة قامت وقال:
ـ عبد الله بن عمر ؟ بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين. طول بالك الله يعينك، وأرسل في طلبه من فوره، وأقبل عبد الله يسعى، وحين وقف بين يدي والده، أخذ عمر يفتل سبلة شاربه، وتلك كانت عادته إذا أهمه أمرٌ خطير وقال لابنه:
ـ ما هذه الإبل يا عبد الله ؟
ـ فأجاب: إنها إبلٌ أمضاء ـ يعني هزيلة ـ اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى ـ أي إلى المرعى ـ أتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون. مثلي مثل كل الناس.
ـ فعَقَّب عمر في تهكمٍ لاذع: ويقول الناس حين يرونها ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين ـ أنت عرفت لماذا سمينة إبلك هذه ؟ لأنك ابني ـ ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين ـ وتربح بهذه الطريقة، يطعمونها ويسقونها وتسمن، وتبيعها وتربح لأنك ابن أمير المؤمنين، قال له: يا عبد الله بن عمر خذ رأسمالك الذي دفعته في هذه الإبل، واجعل الربح في بيت مال المسلمين.
آخر لقطة من سيرة سيدنا عمر رضي الله عنه، يصل إلى المدينة يوماً بعض أموال الأقاليم فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها لتأخذ نصيبها، وتقول له مداعبةً:
ـ يا أمير المؤمنين حق أقاربك في هذا المال، فقد أوصى الله بالأقربين، ما لنا شيء نحن؟
ـ فيجيبها جاداً: يا بنية، حق أقاربي في مالي، أما هذا فمال المسلمين، قومي إلى بيتك، اذهبي.
سيدنا عمر من علمه هذا ؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام، مرة قال النبي لأحب الناس إليه، لابنته فاطمة، قال مرةً:
(( فاطمةٌ بضعةٌ مني من أحبها فقد أحبني ومن أبغضها فقد أبغضني ))
ولما ولدت، حملها وضمها وشمها وقال:
(( ريحانةٌ أشمها وعلى الله رزقها ))
ولم يكن في الناس مخلوقٌ أحب إليه من فاطمة، قالت: يا أبتِ، طلبت منه شيئا من المال، فقال:
لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال
ثم يحرمها ويعطي سواها.
إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع الحديث عن هذا الخليفة العظيم.
و الحمد لله رب العالمين