وضع داكن
24-11-2024
Logo
الدرس : 38 - سورة البقرة - تفسير الآيات 101 - 102 السحر والدّجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الحق صِرف والباطل متنوِّعٌ:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والثلاثين من سورة البقرة، ومع الآية الثانية بعد المئة، وقد سبق هذه الآية قوله تعالى: 

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)﴾

[ سورة البقرة ]

نبذوا واتبعوا، وأي إنسان لابدّ من أن يترك وأن يتَّبع، فالمؤمن ترك الباطل واتّبع الحق، والكافر ترك الحق واتّبع الباطل، والويل ثمَّ الويل ثم الويل لمن أعرض عن الحق واتجه إلى الباطل، لمن نبذ كتاب الله المُنَزَّلَ من عند الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حبل الله المتين، صراطه المستقيم، طريق سعادة الإنسان، منهجه القويم، واتبع أهواء الناس.
وأنت أيها الأخ الكريم لابدّ من أن تدع شيئاً وأن تأخذ بشيء، فالمؤمن -كما قلت قبل قليل-نبذ أقوال البشر، وأهواء البشر، وخرافات البشر، وتخرُّصات البشر واتّبع ما أُنزل إلى النبي عليه الصلاة والسلام من عند الله، حقّ صِرف، وباطلٌ متنوِّعٌ.

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾

[ سورة الأنعام ]

الحق لا يتعدَّد:

﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)﴾

[ سورة يونس ]

لا يُرسم بين نقطتين إلا مستقيمٌ واحد، وأي خطّ مستقيم يأتي فوق الخط المستقيم، الحق لا يتعدَّد، وحينما تستقيم على أمر الله تلتقي مع أخيك حتماً، لقاء حتمي، مادمت أنت على صراطٍ مستقيم وأخوك على صراط مستقيم الخطان المستقيمان يتطابقان، أية تفرقةٍ بين مؤمنين هذا يعني أن أحدهما على حق والثاني على باطل. 
مثل بسيط: لو أن هناك طريقاً مستقيماً ينتهي بهدف وله بداية، وانطلق اثنان على هذا الطريق بسرعةٍ واحدة، وباتجاه هدفٍ واحد، لقاؤهما حتمي، إلا في حالةٍ واحدة أن يسلك الأول هذا الطريق باتجاه هذا الهدف، وأن يدَّعي الثاني أنه على هذا الطريق وهو ليس كذلك، إذاً لا يلتقيان. 
 

الحق لا يتعدد:


المعركة بين حقين لا تكون، مستحيل، لأن الحق لا يتعدَّد، وبين حقّ وباطل لا تطول لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي لأن الله تخلَّى عنهما معاً، فالأقوى ينتصر، والأكثر حيلةً ينتصر، والأذكى ينتصر.
فلذلك نبذوا واتبعوا، تركت ملَّة آبائي واتبعت الحق، فأنت لابدّ من أن تسأل هذا السؤال: ما الذي تركته في سبيل الله؟ وما الذي أقبلت عليه في سبيل الله؟ الإنسان قد يدع حرفةً فيها معصيةٌ لله، هل تركت شيئاً في سبيل الله؟ هل أعرضت عن نظريَّةٍ باطلة؟ عن تفسيرٍ سخيف؟ عن اتجاهٍ استحوذ على الناس؟ هل أعرضت عن بلوى عامَّة عمَّت الناس جميعاً ولم تعبأ بها؟ هل أنت مع المجموع؟ قيل: لا تكونوا إمَّعة، من هو الإمعَة؟ أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت. 
سؤال وجيه وخطير: ما الذي تركته في سبيل الله واتبعت من؟ 

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[  سورة الكهف ]

وقال: 

﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾

[ سورة لقمان ]

 

الولاء والبراء من خصائص المؤمن:


هل عندك ما يسمَّى بالبراء والولاء؟ هل توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً؟ ولو كانوا فقراء؟ وهل تتبرَّأ من الكفار والمنحرفين ولو كانوا أقوياء وأغنياء؟ الولاء والبراء من خصائص المؤمن، لابدّ من أن تتبرَّأ وأن تتولَّى، أما الذي يتولَّى أهل الكفر لما عندهم من دنيا، لما عندهم من مكاسب، لما عندهم من عطاءات، ويُعرض عن أهل الإيمان لضعفهم، كان الصحابة فقراء جداً، أما الصناديد والأقوياء، وأصحاب الوجاهة، والبأس، والقوة، والأمر، والنهي، كانوا كفاراً:

﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)﴾

[ سورة هود ]

أما أنت حينما تدع أهل الكفر ولو كانوا أقوياء، وتؤوي إلى أهل الإيمان ولو كانوا ضعفاء فقد واليت وتبرَّأت.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)﴾

[ سورة الممتحنة ]

وقال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾

[ سورة المائدة ]

لكن ضعاف الإيمان يوالون من حادَّ الله ورسوله، لما عندهم من دنيا، لما عندهم من مكاسب، يقول لك: شركة رابحة جداً تبيع الخمر، أنا مضطر ماذا أفعل؟ قد يوظِّف ماله في شركة ترتكب المعاصي، وقد يعمل في عمل يقوم على معصية الله ابتغاء دُنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
 

المؤمن يعتزُّ بدينه وبإسلامه وبسنة نبيِّه عليه الصلاة والسلام:


أول شيء بالدرس لابدّ من تركٍ ولابدّ من تمسُّك، لابدّ من إعراضٍ ولابدّ من إقبال، ما الذي تركته في سبيل الله؟ وما الذي أقبلت عليه في سبيل الله؟ هل انتقلت من خندقٍ إلى خندق؟ هل انتقلت من موقعٍ إلى موقع؟ هل انتقلت من نمط معيشةٍ إلى نمطٍ آخر؟ هل انتقلت من طريقةٍ يألفها الناس وفيها بلوى عامَّة إلى طريقةٍ يحبها النبي عليه الصلاة والسلام وهي نادرةٌ. 

(( عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال:  بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء. ))

[ صحيح مسلم  ]

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ : طوبى للغرباءِ قيل: من الغرباءُ؟ قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسِ سوءٍ كثيرٍ من يعصيهم أكثرُ ممن يطيعُهم. ))

[ أخرجه أحمد ، والطبراني، والبيهقي في ((الزهد الكبير)) : خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد ]

﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا﴾ نبذوا واتبعوا، المؤمن ينبذ طريقة أهل الكفر، قيَمَ أهل الكفر، مبادئ أهل الكفر، الأنماط المعيشيَّة لأهل الكفر، المؤمن لا يرضى أن يُقلِّد أهل الكفر في بيته، هناك بيوتات المسلمين مع الأسف الشديد يقلّدون أهل الكفر في أكثر احتفالاتهم، ونشاطاتهم، وسفرهم، وإقامتهم، بل إن نصف كلماتهم ليست عربيَّة، المؤمن يعتزُّ بدينه، ويعتزُّ بإسلامه، ويعتزُّ بسنة نبيِّه عليه الصلاة والسلام.
 

قُدِّم شيطان الإنس على شيطان الجن لأن خطره أشد:


أيها الإخوة؛

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)﴾

[ سورة البقرة ]

الشياطين هم عصاة الجن، والجنُّ فيهم المؤمنون وفيهم الكافرون:

﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً(11)﴾

[ سورة الجن ]

والشياطين هم العصاة من الجن الذين عصوا الله عزَّ وجل، يل إن منهم كفاراً ومؤمنين، وكل من عصى الله عزَّ وجل وخرج عن منهجه فهو شيطان ولو كان إنساناً، والدليل: 

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾

[ سورة الأنعام ]

وقد قُدِّم شيطان الإنس على شيطان الجن لأن خطره أشد، إنسان يسكن إلى جوارك، زميلك في عملك، رفيقك في دراستك، جارك في بيتك، يحمل شهادة كما تحمل، يعيش كما تعيش، لكنَّه شيطان يدعوك إلى المعصية، يدعوك إلى العَصْرَنَة، يدعوك إلى التحلُّل من كل منهجٍ سماوي، يدعوك إلى كسب المال الحرام، يتَّهمك بالجنون إن لم تكسب مالاً حراماً، إن قنعت بالحلال ولو كان قليلاً ولم تطمع بالحرام ولو كان كثيراً يتَّهمك بالجنون، هذا شيطان الإنس، وقُدِّم شيطان الإنس على شيطان الجن لأن شياطين الجن يحتاجون إلى دروسٍ من شياطين الإنس.
 

المعركة بين الحق والباطل مستمرَّة:


﴿وَاتَّبَعُوا﴾ قد يقول قائل: لقد كان سياق الآية أن يقول الله عزَّ وجل: واتبعوا ما تلت الشياطين على مُلك سليمان، ما تلت الشياطين، لكن الله عزَّ وجل يقول: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو﴾ معنى هذا أن المعركة بين الحق والباطل مستمرَّة إلى يوم القيامة، ليست هذه قصَّةٌ وقعت وانتهت، شياطين الإنس والجن يتلون الباطل، يُلْقون الباطل: 

﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)﴾

[ سورة إبراهيم ]

والكلمة الباطلة تطير في الآفاق، وقد يدين مئاتُ الملايين بدينٍ باطل، وقد يعبدُ خمسمئة مليون البقرة، يعبدونها من دون الله، وقد يعتقد مئات الملايين أن إلههُم هو المال:

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾

[ سورة الجاثية ]

المعركة بين الحق والباطل مستمرَّة: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ .
 

بعد أن بُعث النبي الكريم أي شيطانٍ أراد أن يسترِقَ السمع أتبعه شهابٌ ثاقبٌ فأحرقه:


أيها الإخوة؛ فيما مضى كان الشياطين لهم مقاعد للسَمع، يستمعون إلى الأوامر التي تحملها الملائكة إلى الأرض، وكانوا يُلقون إلى أوليائهم الكفار بعض هذه الأوامر، هذا ورد في القرآن الكريم:

﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)﴾

[ سورة الجن ]

لكن بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام: 

﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)﴾

[ سورة الجن ]

وأي شيطانٍ أراد أن يسترِقَ السمع أتبعه شهابٌ ثاقبٌ فأحرقه، فلذلك لجأ الشياطين إلى السحر، ومن سحر فقد كفر، السحر مأخوذ من السَّحَر، والسَّحَر قُبَيْلَ الفجر، أي بين الظلمة والضوء الصور تختلط، الساحر مهمَّته أن يُخَيِّل للمسحور شيئاً لا علاقة له بالواقع، أن يرى شيئاً لا وجود له:

﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)﴾

[ سورة طه ]

إنها لا تسعى ولكنهم سُحِروا:

﴿ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)﴾

[ سورة الأعراف ]

من خلال هذه الآيات يتضح أن السحر هو أن تسيطر على المسحور فتجعله يرى شيئاً لا وجود له.  

السحر أن تسيطر على المسحور بحيث تجعله يرى ما لم يُرَ:


حدَّثني صديق ذهب إلى الهند، رواها لي مباشرةً أنه رأى ساحراً أمسك بحبلٍ وقذفه إلى الأعلى، فعلِقَ في الأعلى، أمر غلامه أن يصعد على هذا الحبل، فصعد على هذا الحبل حتى غاب عن الأنظار، أمره أن يرجع فلم يرجع فتبعه، فإذا برأسه يقع مقطوعاً وبيديه، لقد غضب الساحر من غلامه الذي لم يرجع، كان هناك سائح يصوِّر، صوَّر هذا المشهد بكل تفاصيله، فلمَّا أراد أن يُظهر هذا الفيلم لم يجد شيئاً، ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ السِّحر أن تسيطر على المسحور بحيث تجعله يرى ما لم يرَ، إذا مشى الإنسان في الظلام وكان خائفاً يرى أشباحاً تتحرَّك، ليس في البيت شيء، لكن الظلام الدامس، والخوف الشديد، وضعف النفس جعلا الإنسان يرى أشخاصاً يتحرَّكون، علماء النفس يضعون بقعة حبر يراها كل إنسان بشكل، هذه قضيَّة نفسيَّة، يُعبَّر عنه في علم النفس: التنويم المغناطيسي، أي يستطيع المنوِّم أن يُري المنَوَّمين أشياء لا وجود لها إطلاقاً والآية واضحة: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ وقال: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ ، هي لا تسعى، الساحر يستطيع أن يسحر عيون المسحورين ولكن أحداً لا يستطيع أن يسحر عينيه.
 

الدعاء والاستعاذة بالله هما ما يبطل السحر وليس الدجل:


لذلك سحرة فرعون حينما رأوا العصا أصبحت ثعباناً مبيناً هم سحروا لكنهم لم يُسْحَروا:

﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(47)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49)﴾

[ سورة الشعراء ]

إلى آخر الآيات حتى قالوا: 

﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾

[ سورة طه ]

إخواننا الكرام؛ شائعٌ جداً في العالم الإسلامي أن هناك شيوخاً، لهم عمائم خضراء، يتعاونون مع الجن ليفكوا السحر، ليُحبِّبوا الزوجة إلى زوجها، هذا كلُّه دجلٌ ما بعده دجل، ليس إلا الله، وليس إلا الدعاء، وليس إلا أن تستعيذ بالله عزَّ وجل، هؤلاء السحرة يُدَجِّلون وقد يكون لهم مظهر ديني، من سحر فقد كفر.
 

أدلة من القرآن الكريم عن أهمية الاستعاذة بالله:


قال تعالى:

﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)﴾

[ سورة الجن  ]

والساحر يعيش فقيراً ويموت فقيراً، ويُقنع الناس أنه يفعل ما يريد، قرأت كتاباً فيه بعض الجرائم المُعَلَّلة، رجل يعمل في حقل مكافحة الجريمة، من خلال خبراته ألَّف كتاباً فيه بعض القصص، بعض الجرائم الواقعيَّة؛ إحدى المسجونات امرأةٌ تعمل في السحر، فهي اعترفت أنها ترشد المرأة إلى أن تطيع زوجها، طبعاً تدخلها أولاً إلى غرفة مظلمة، والبخور، وترتدي هذه المرأة السواد، وشعرها مُضَّطرب، تحيطها بجو كهنوتي، ثم تأمرها أن تطيع زوجها، وأن تتزيَّن له، وأن تخدمه، وأن، وأن، الذي أمرتها به هو سببٌ علمي لمحبَّة زوجها لها، لكن هذه المرأة الغبيَّة تتوهَّم أن الساحرة استطاعت أن توفِّق بينها وبين زوجها، لكن الأوامر الجزئية التي أعطتها إيَّاها هي كافيةٌ كي تحبِّب المرأة بزوجها والعكس، أي يجب أن نتحرَّر من هذه الأوهام أيها الإخوة، ليس في القرآن إلا:

﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾

[ سورة فصلت ]

وقال:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)﴾

[ سورة الأعراف ]

وقال:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾

[ سورة الفلق ]

وقال:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)﴾

[ سورة الناس ]

الذي يخنُس، يرتدُّ سريعاً، معك سلاح خطير، يكفي أن تستعيذ بالله بقلبٍ حاضر ينتهي عمل الشياطين جميعاً. 
 

قدرة الشيطان على الحركة السريعة والتشكّل:


قال العلماء: الشيطان له قدرة على الحركة السريعة، وعلى التشكُّل، فقد يتشكَّل بشكل إنسان، أو بشكل حيوان، أو جماد، أو نبات، على كل حينما يتشكَّل بهذه الصورة تحكُمه قوانين الصورة. 
ورد في بعض الأحاديث أن النبي رأى شيطاناً فأراد أن يربطه بسارية المسجد ليطّلع عليه الصحابة، لكنه اختفى سريعاً، أي إذا تشكَّل الشيطان بشكل تحكمه قوانين هذا الشكل، قال العلماء: لو تشكَّل الشيطان بإنسان وأطلقت عليه النار لمات فوراً، تحكمه قوانين هذه الصورة، فلذلك سريعاً ما يظهر ويختفي، أما هو حقيقته: 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)﴾

[ سورة الأعراف ]

على كل معك سلاح فتَّاك: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ والآن قلَّما تجد من يشكو من الشياطين، لأن شياطين الجن تتعلَّم من شياطين الإنس، الآية معكوسة الآن.
 

كل علاقةٍ بين الإنس والجن هي علاقة إضلال وتزوير:


﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي على عهد المَلِكِ سليمان النبي، طبعاً قالوا: إن سليمان أنشأ ملكه على السحرة والشياطين، سليمان ارتدَّ عابد وثن، وسمح للوثنيين أن ينشئوا معابدهم، كلامٌ ترويه كتب بني إسرائيل لا أساس له من الصحَّة، خرافاتٌ وأضاليل وأكاذيب: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ قالوا: إن سليمان مُلكه هو في خاتم، استطاع إنسان أن يأخذ منه هذا الخاتم فَقَد ملكه، قصص لا يُحسن بنا أن نعيدها وأن نذكرها لأنها لا وجود لها، أنبياء يرتدون إلى عُبَّاد صنم، أنبياء يُنشئون معابد للأوثان، أنبياء يزنون ببناتهم، هكذا في التلمود، ما جاء في التلمود وما جاء في كتب بني إسرائيل عن الأنبياء شيء لا يقبل إطلاقاً. 
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ سليمان ما كفر، ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ الشياطين يُعلِّمون الناس السحر، يتعاونون مع الإنس لإبطال الحق وإظهار الباطل، يتعاونون مع الإنس لإشاعة المعصية، فكل علاقةٍ بين الإنس والجن هي علاقة إضلال، كل علاقةٍ بين الإنس والجن هي علاقة تزوير، هي علاقة صرف الناس عن الله عزَّ وجل، وعن دين الله، وعن كتاب الله.
 

كل شيء لم يرد في السنَّة ينبغي ألا نفعله لأنه لا نفع منه:


بالمناسبة: حقيقة دقيقة جداً، ما من شيءٍ يقرِّبنا إلى الله عزَّ وجل إلا أمرنا النبي به، وما من شيءٍ يبعدنا عن الله عزَّ وجل إلا نهانا النبي عنه، فإذا كان التعاون مع الجن نافعاً، وينفعنا، ويفيدنا، ويقرِّبنا لكان الأولى أن يأمرنا النبي به، والنبي عليه الصلاة والسلام في قول العلماء: لا يؤخِّر بيان الشيء عن وقته، لأنه معصوم، نبي مرسل، ممكن أن يكون هناك نفع مع الجن بالتعاون معهم والنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمرنا بذلك؟! هو أمين على وحي السماء، أمين على هذه الرسالة، إذاً كل شيء لم يرد في السنَّة ينبغي ألا نفعله لأنه لا نفع منه.
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ وأنا أقول لكم: السحر منتشر في بلاد المسلمين، وقد ذكر لي أخ جزاه الله خيراً أنه شاهد مناظرة في بعض بلاد الخليج بين علماء مسلمين وبين سحرة وقد ظهر دجلهم، وكذبهم، وجهلهم بشكلٍ فاضح.
الساحر ليس على شيء أما المؤمن معه كتاب الله، معه منهج الله، معه سُنة رسول الله.
وأنا أحذِّر أيها الإخوة؛ بيوت فيها ساحرة، فيها امرأة مخاوية الجنّ، ترغِّب الناس في أشياء مقابل أجور باهظة، مقابل دجل، سمعت أنه إذا فتاة فاتها قطار الزواج تلجأ إلى بعض المُنَجِّمات، تأخذ منها مبلغاً ضخماً، وعندها بعض الشباب، تأمر شاب أن يخطبها كي تتقوَّى عقيدة هذه المرأة بهذه الساحرة أو هذه المدجِّلة، ثم لسببٍ يفتعله الشاب يبتعد عنها ويطلِّقها.
الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، هؤلاء الذين يتعاونون مع الجن لا يصلون، ولا يصومون، ومعظمهم يرتكب الزنا، إنسان يسمح لزوجته تذهب إلى منجِّمة أو إلى منجِّم، أو إلى كاهن ليختليا، هناك فضائح، هناك قصص يندى لها الجبين، ليس إلا هذا القرآن، وليس إلا هذه الآيات، وكل إنسان معه سلاح فتَّاك ضد الشيطان؛ استعذ بالله.
 

للآية التالية تفسير وجيه ودقيق:


﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ هذه الآية لها تفسيرٌ وجيه دقيق لابدّ من أن أقرأه لكم دقيقاً، التفسير دقيق، والذي ذهب إليه المحقِّقون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل، وهي مدينةٌ بالعراق على نهر الفرات، وكانا يُعلِّمان الناس السحر، وبلغ حُسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، حتى المُبطل له وجه إيجابي، والتمثيل سهل، فهذان الرجلان كانا يبدوان للناس على أنهما رجلان صالحان، حتى أن الناس اعتقدوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلِّمانه للناس هو بوحي من الله، هكذا يُوهمون الناس، أن ما يعلِّمانه للناس هو بوحي من الله، وبلغ مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على اعتقاد الناس الحَسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلَّم منهما السحر: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ إيَّاك أن تكفُر، هذا فتنة، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك أتشكر أم تكفر، وننصح لك ألا تكفر، أي كل إنسان دجَّال يجب أن يظهر بمظهر المنطق والصلاح، هذا فرعون نفسه قال:

﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾

[ سورة غافر ]

فرعون نفسه، فكل إنسان لابدّ من كلام يقوله يجب أن يكون مقبولاً، يقولان هاروت وماروت ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما روحانيَّة، وأنهما لا يقصدان إلا الخير، وقد سمعت آلاف المرَّات: يا أخي هذا إنسان آخى الجن المؤمنين، هدفه طيِّب، هدفه الخير؛ التوفيق بين الأزواج، هدفه اتساع الرزق، دائماً يُغطي الساحر والرجل المتعامل مع الجن نفسه بقرآن، بحديث، بصلاح، بلفَّة خضراء مثلاً، بيته فيه مظاهر كهنوتيَّة، أوراد معيَّنة، تمتمات معيَّنة، قال: وأنهما يوهمان الناس أن علومهما إلهية وصناعتهما روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير كما يفعل ذلك دجاجلة كل زمان، هذا شيء متكرِّر، والله هذه القصَّة التي وردت في القرآن الكريم قبل ألف وخمسمئة عام تتكرَّر كل يوم، إنسان اتخذ مهنة الدجل، ومهنة ابتزاز أموال الآخرين، ويستغل عقول البُسطاء والجهال، ويوهمهم أوهاماً كثيرة، وأن معه جنّاً، والجن يفك السحر.
 

هاروت وماروت يوهمان الناس أن السحر نزل عليهما من الله فجاء القرآن مكذِّباً لهما:


امرأة قُتِل زوجها فجاءها من يقول لها: ادفعي مئة ألف ونجمعكِ مع زوجكِ ليقول لكِ من قتله، يستغلون حاجة الناس أحياناً، إذاً كما يفعل ذلك دجاجلة كل زمان قائلين لمن يُعلمهم الكتابة للمحبَّة والبغض على زعمهم نوصيك ألا تكتب لجلب امرأةٍ متزوجة إلى رجل غير زوجها، نحن نستطيع أن نجعل كل امرأة تميل إلى أي رجل ولكن ننصحك لا تكفر، لا تجعل امرأةً متزوِّجة تميل إلى غير زوجها، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراءات ولليهود في ذلك خرافاتٌ كثيرة، حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله، هاروت وماروت يوهمان الناس أن السحر نزل عليهما من الله، وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس، فجاء القرآن مكذِّباً لهم في دعواهم نزوله من السماء، وفي ذمّ السحر ومن يتعلَّمه أو يُعلِّمه، أي هذه الآية كلها مفتاحها عبارة عن حرفين: ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾ نافية ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ اللذين يدَّعيان أنهما ملكان.
 

لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن ينالك بسوء إلا أن يأذن الله وهذا تطمين إلهي:


﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ ، وكانا يقولان للناس: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ تعقيبٌ إلهي: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذا التطمين الإلهي، لا يستطيع كائنٌ من كان على وجه الأرض أن ينالك بسوء إلا أن يأذن الله عزَّ وجل، فكلمة ﴿ما﴾ هنا نافية، يجب أن نعتقد طبعاً هذا تفسير محترم جداً ﴿ما﴾ هنا نافية، ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ على أصح الأقوال، ولفظ الملكين واردٌ حسب العُرف الجاري. 
الآن مثلاً قد يأتي أستاذ للأدب في الجامعة يقول: آلهة اليونان، هل هناك آلهة في اليونان؟ هذا اسمه تعبير العُرف، أحياناً ينتحل إنسان صفة فيحاكم، يأتي في التقرير الصفة التي انتحلها، ادَّعى أنه طبيب، هل هو طبيب؟!! 
 

نشاطات شياطين الجن التفريق بين الزوجين وكل أعمال الخير التوفيق بين الزوجين:


كلمة: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ هذا في رأي المفسِّر أنه جرى على مجرى استخدام التسمية العرفيَّة. ولفظ ﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ هنا واردٌ بحسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت، كما يردُ ذِكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلِّفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم، وكما يرد في كلام المسلم في الرَّد على الفرق الضالَّة.
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ من قبيل التمثيل وإظهار الأمر في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلَّمون من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن يتمكَّنوا به من التفريق بين أعظم مجتمعٌ في الأرض مجتمع الزوجين.
بالمناسبة كل نشاطات الجن بل شياطين الجن التفريق بين الزوجين، وكل أعمال الخير التوفيق بين الزوجين، وأنا أقول دائماً في عقود القران: إذا بُنِي الزواج على طاعة الله تولَّى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين، وإذا بُنِي على معصية الله تولَّى الشيطان التفريق بينهما.
 

ما ورد في كتب بني إسرائيل عن هاروت وماروت نفاها الله في القرآن من أصلها:


أما ما ورد في كتب بني إسرائيل عن هاروت وماروت هناك أحاديث عجيبة، زعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة، الآن القصَّة الكاذبة، القصَّة المزوَّرة، ما ورد في كتب بني إسرائيل، ما أشاع بنو إسرائيل، الأولى هي الصحيحة، أي هذه القصَّة نفاها الله عزَّ وجل من أصلها، ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ هذان الرجلان هاروت وماروت اللذان زعما أنهما ملكين يُعلمون الناس السحر بوحيّ من السماء، ويفرِّقون بين المرء وزوجه، ويقولون للناس: لا تكفروا إنما نحن فتنةٌ، هذه القصَّة بقضِّها وقضيضها لا أصل لها، أما كيف وردت في كتب بني إسرائيل، قال: زعم اليهود أن هاروت وماروت كانا ملكين من الملائكة، وأنهما لمَّا نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك، وأكبراه، ودعَوَا على أهل الأرض، فأوحى الله إليهما: إني لو ابتليتكما كما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني، معنى هذا أنه عندما ابتلى الله تعالى الإنسان بالشهوات الإنسان معه حق أن يعصيه، انظر إلى هذا الكلام المخيف!! فقالا: يا رب لو ابتليتنا لم نفعل، هل يمكن لمخلوق أن يردَّ على الخالق بعكس ما يريد؟ الإله يقول: لو ابتليتكما كما ابتليت بني آدم لعصيتماني، لا يا رب لا نعصيك، فأهبطهما إلى الأرض، وابتلاهم الله بشهوات بني آدم فمكثا في بلدةٍ كانت فيها فاجرة تسمَّى الزُّهرة، امرأة فاجرة، فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر، وقتلا النفس، وسجدا للصنم، هكذا وردت القصَّة في كتب بني إسرائيل، وعلَّماها اسم الله الأعظم، لهذه الفاجرة، الزانية، المومس، الذي كانا به يعرُجان إلى السماء، فتكلَّمت المرأة بهذا الاسم وعرجت إلى السماء، فمسخها الله تعالى وصيرها نجم الزُّهرة، هذه القصَّة التي نفاها الله عزَّ وجل: ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾ ، ﴿ما﴾ نافية. 
ثم إن الله تعالى عرَّف هاروت وماروت -نتابع قصة بني إسرائيل-على قبيح ما فيه وقعا، ثم خيَّرهما بين عذاب الآخرة آجلاً، وبين عذاب الدنيا عاجلاً، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلهما ببابل منكوسين في بئرٍ إلى يوم القيامة، وهما يُعلِّمان الناس السحر وهما في البئر، ويدعوان إليه، ولا يراهما أحدٌ إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلُّم السحر خاصَّةً، وهذه القصَّة من اختلاق اليهود وتقوُّلاتهم، ولم يقل بها القرآن قط وإنما ذكرها التلمود، كما يُعلم من مراجعة مدارس يدكوت في الإصحاح الثالث والثلاثين، وجاراه جهلة القُصَّاص من المسلمين فأخذوها عنه، وقد وردت هذه القصَّة الباطلة في بعض كتب التفسير، في بعض الكتب طبعاً.
 

بنود تفنيد قصة هاروت وماروت عند الإمام الرازي:


الإمام الرازي رحمه الله تعالى فنَّد هذه القصَّة الباطلة، فقال: ذكروا في القصَّة أن الله جلَّ جلاله قال لهما -لهاروت وماروت-: لو ابتليتكما بما ابتليت به بنو آدم لعصيتماني. فقالا: لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك، وهذا منهم تكذيبٌ لله تعالى وتجهيلٌ له، وهذا من صريح الكفر، هذا أول بند. 
أنهما خُيِّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وذلك فاسد، بل كان الأَولى أن يُخيَّرا بين التوبة وبين العذاب.
ثالثاً: إنهما يُعلِّمان الناس السحر في حال كونهما معذَّبين في بئر في بابل، ويدعوان إليه، وهما يُعاقبان، شيء غير مقبول عقلياً.
وأن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان مُنَزِّله هو الله، وهذا غير جائز في حق الله عزَّ وجل لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله تعالى إنزال ذلك: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ يدلُّ على أن تعليم السحر كفر، فهل يعقل أن الله يُعلمهما السحر كي يعلِّمانه للناس؟ فلو ثبت في الملائكة أنهم يُعلمون السحر لزِمهم الكفر وهذا باطل، ثم إنه لا يجوز في الأنبياء أن يُبعثوا لتعليم السحر، فكذلك في الملائكة من باب أولى، مستحيل ملك أن يعلِّم السحر، من سحر فقد كفر، ثم إن السحر لا يضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة وكيف يضاف إلى الله تعالى وينهى عنه ويتوعَّد عليه العقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموَّه؟ وقد جرت عادة الله إبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام:

﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)﴾

[ سورة يونس ]

إذاً عندنا قصَّة مكتوبة في التلمود باطلة لا أصل لها، افتراء من اليهود على الله عزَّ وجل، فجاء القرآن الكريم ونفى هذه القصَّة من أصلها، نفاها بحرفٍ واحد قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾ على ما توهَّمهم الناس أنهما ملكين، نفى الله عزَّ وجل هذه القصَّة من أصلها.
 

أمثلة عن بعض ما يتلوه القصَّاصون من حكاياتٍ باطلة ودَجَل وكرامات وقصص سخيفة:


نعيد الآيات: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ نبذوا كتاب الله واتبعوا هذه الخرافات: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ كم مسلم الآن ينبذ كلام الله وسُنَّة رسوله ويتَّبع ما يتلوه القصَّاصون من حكاياتٍ باطلة وخرافاتٍ سخيفة ودَجَل وكرامات ومنامات؟ شيء غير معقول. 
شخص فقَّد أخاه في مجلس عند شيخ، وجد ماء مسفوحاً على الأرض قال له: هذا أخوك، صار كالماء من شدة حبه لنا، ذاب،  كلمات غير مقبولة، غير معقولة.
شخص دُفِن فلمَّا جاء الملكان رُفِسا رفسةً أطاحت بهما خارج القبر، قال: شيخه عندما جاء الملكان قال لهما: أمثل هذا يُسأل؟ هذا من إخواننا.
تجده يترك كلام الله وكلام النبي المعصوم، وكل حياته قصص، وخرافات، وأوهام، ومنامات، وكرامات، هذا واقع فيه مسلمون كثيرون.
 

ملخص سريع لما ورد في الدرس:


﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ الشياطين هم الذين كفروا، هم الذين يعلِّمون الناس السحر: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذا تعقيبٌ إلهي، أي اطمئنوا لا يستطيع السحرة أن يفعلوا شيئاً، لا يستطيع مخلوقٌ كائناً من كان أن يَمَسَّك بأذىً إلا بإذن الله: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ من سحر فقد كفر:﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ وقال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور