وضع داكن
27-12-2024
Logo
الدرس : 58 - سورة البقرة - تفسير الآية 177 فقه الأولويات
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

سياق هذه الآية جاء بعد تحوِّل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرَّمة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة الكرام؛ سياق هذه الآية جاء بعد تحوِّل القِبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرَّمة، وهذا التحوّل عند ضعاف الإيمان، وعند المنافقين أحدث بلبلةً، لأن أهل الدنيا متعلِّقون بالأشكال، متعلِّقون بالقشور، وتحويل القِبلة لم يكلفهم شيئاً، كانوا يُصَلون إلى هذه الجهة فصاروا إلى هذه الجهة؛ ومع ذلك أحدثوا فتنةً، وبلبلةً، واضطراباً، فالله عزَّ وجل ردَّ عليهم فقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ كذا وكذا.
 

همّ الشيطان الأوحد أن يشغل المسلمين بقضايا جانبيَّة فرعيَّة:


قبل أن أشرح هذه الآية لابد من وقفةٍ متأنية، في كل شيءٍ جوهر وعَرَض، كمثل أضعه بين أيديكم: المركبة فيها شيء أساسي جداً المحرك، العجلات، الوقود، المِقود، وفيها أشياء حاجيَّة، وفيها أشياء تحسينيَّة، وفيها أشياء كماليَّة، وفيها أشياء تزيينية، فلو اهتممنا بالتزيينيات وتركنا الأساسيات لكان هناك خلل كبير، لابدّ من أن تقوم هذه المركبة على كل ذلك، الأكمل أن يكون فيها أشياء أساسيَّة، وأشياء حاجيّة، وأشياء تحسينيَّة، وأشياء كمالية، وأشياء تزيينية، أما أن نضحي بالأساسيات من أجل التزيينيات فهذا ضعفٌ في العقل، وسوء فهم لمهمة هذه المركبة، هذا مثل.
الدين أساسه الإيمان بالله، أساسه صحة العقيدة، أساسه الاستقامة على أمر الله، أساسه العمل الصالح، أساسه التخلُّق بالأخلاق الإسلاميّة، أساسه أن تحمل همَّ المسلمين، أساسه أن تنهض بالمجتمع الإسلامي إلى ما يحب الله ويرضى، وهناك شكليات كثيرة جداً، قد يختلف المسلمون على درجة القِبلة، في أمريكا انشقّ المسلمون صفَّين، صف يصلي باتجاه الكعبة مباشرةً، وصفٌّ يصلي باتجاهٍ معاكسٍ للكعبة ليصل بعدها إلى الكعبة عن طريقٍ طويل، وهذه قضية كبرى هي مسار خلافٍ، وخصومةٍ، ونزاعٍ بين الجماعات الإسلامية. 
أرأيتم أيها الإخوة إلى مهمة الشيطان؟ أن يُفرِّق كلمة المؤمنين، أن يُحرِّش بينهم، أن يُوقع بينهم العداوة والبغضاء، أن يشغلهم بقضايا جانبيَّة، وهذه مشكلة المشاكل اليوم، همّ الشيطان الأوحد أن يشغل المسلمين بقضايا جانبيَّة فرعيَّة، فرعيَّة جداً، هذه مشكلة كبيرة أن ننسى ما يُعَانيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من قضايا خطيرة جداً تمسُّ وجودهم، وتمسّ سلامتهم، وتمسّ مستقبل أبنائهم، وأن نُعادي بعضنا بعضاً بقضايا جانبيَّة جداً. 
كنت أقول: إن أعداء المسلمين يتعاونون وبينهم خمسةٌ بالمئة من القواسم المشتركة، والمسلمون -وللأسف الشديد-يتقاتلون وبينهم خمسة وتسعين بالمئة من القواسم المشتركة. 
 

الله عزَّ وجل يريد من الإنسان جوهر الدين وأصوله ودعائمه وأركانه:


إنسان أُمِر أن يصلي باتجاه المشرق، ثم أُمِرَ أن يصلي باتجاه المغرب، ما الذي حصل؟ العبرة أن تكون مع الله، العبرة أن تتصل بالله، العبرة أن تكون سعيداً بقربك من الله، الجهات لا قيمة لها، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ والآية الكريمة من بلاغة القرآن الكريم أن البر شيء معنوي، صار مجسَّداً في هذه الآية، له كيان، البِر الذي تبحثون عنه، البِر الذي يسعدكم، البِر الذي يرفع منكم، ليس أن تختلفوا في جهة القبلة. 
قد يأتي أُناس ويقولون: هذا المسجد، أو أي مسجد آخر لا تصح الصلاة فيه لأنه ينحرف عن القبلة ثلاث درجات، المذاهب الفقهيَّة واسعة جداً، من أوجه المذاهب الفقهية في هذا الموضوع أن القِبلة جهةٌ، وليست نقطة، مادامت جهة فإن كل المساجد المتجهة نحو الجنوب تصحُّ الصلاة فيها، أما إذا كانت نقطة فنحتاج إلى علماء رياضيات لقياس الزوايا، وندخل في متاهاتٍ لا تنتهي، فكأن الله عزَّ وجل لا يريدنا أن ندخل في التفاصيل المُملة، والتفاصيل المُخلَّة، والتفاصيل التي تبعدنا عن بعضنا بعضاً، يريد الله عزَّ وجل منا جوهر الدين، أصوله، يريد دعائمه وأركانه، وإذا أتبعنا هذه الدعائم والأركان بالتفاصيل الدقيقة المتفق عليها فهذا جيد جداً، فالله عزَّ وجل يردّ على هؤلاء الذين أحدثوا بلبلةً واضطراباً في شأن تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرَّفة فيقول: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ ودائماً هناك أُناس يتمسَّكون بالتفاصيل، والقشور، وتفاصيل التفاصيل، وينسون الأصل، فربما أقاموا النكير لعدد درجات المنبر، أربع درجات لا يجوز، السنة ثلاث درجات، ندخل بمتاهات لا تنتهي.
 

البِر الذي يريده الله عز وجل هو الذي يقربنا إليه:


فيما قرأت أن رجلاً أسلم حديثاً في مصر، وأراد أن يتعلَّم على يد شيخ من شيوخ الأزهر، بدأ بكتب الفقه بالتسلسل، بدأ بأحكام المياه، أبقاه ستة أشهر في أحكام المياه، وفي أشياء ربما في وقتها كان لها مهمة كبيرة جداً، المياه؛ حكم الوضوء بمياه الآبار، وبمياه المجاري السطحية، والبركة الراكدة، والبركة كم قُلَّة، وحكم الوضوء بماء الحمّص، وماء العدس، فهذا بعد ستة أشهر خرج من جلده، وترك هذا الشيخ، وترك الإسلام كلَّه، التقى مع أحد علماء مصر الكبار قال له: الماء الذي تشربه توضَّأ منه! فألغى له ستة أشهر من التفاصيل قد لا يحتاجها، قد يحتاجها الاختصاصيون، قد يحتاجها المتعمِّقون بالفقه، أما طالب علم يريد أن يعرف الله ينبغي ألا تغرقه في تفاصيل ليس الآن بحاجة إليها، هناك موضوعات كثيرة لسنا بحاجةٍ إليها.
إنسان قال: إذا أعطيت إنساناً مئة ليرة ليصرفها لك أربع قطع ذات الخمس والعشرين ليرة فقد أكلت الربا، الحضور ضَجّوا، هذا هو الربا؟ إذا صرف إنسان المئة ليرة إلى أربع قطع ذات الخمس والعشرين ليرة!! لأنه قال له: سواءً بسواء، ويداً بيد، فأنت أعطيته قطعة واحدة وأعطاك أربعة صار هناك ربا الفضل، فأحياناً الإنسان يدخل في تفاصيل، يدخل في إشكالات، يدخل في قضايا فرعية جداً، وينسى الأصل، وينسى جوهر الدين، وينسى أصل الدين. 
على كلً ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ الذي يريده الله عز وجل، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ الذي يقربكم إلى الله عز وجل أن ندخل في خصومات، وفي مشاحنات حول قضايا فرعيَّة جداً من الدين.
 

فقه الأولويات:


قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ إنسان يقول لك أحياناً: توجد في الفاتحة أربع عشرة شدَّة، إن لم تأتِ بها كلها فالصلاة باطلة، أنت حجّرت واسعاً، حمَّلت الإنسان ما لا يطيق، حملته على أن يزهد في صلاته، حملته على أن يترك الصلاة إذا قلت له: لابد من أربع عشرة شدة يجب أن تأتي بها، إن أتيت بها هذا أكمل شيء طبعاً، لكن لا تُكفِّر الناس. 
مرة دخل أخ إلى الجامع، قال: كل إنسان لا يوجد على رأسه "طاقيَّة" فصلاته باطلة. أنا كان على رأسي طاقيَّة والحمد لله، هكذا بهذه البساطة؟!
هذا الذي يجعل من الفرع أصلاً، ومن الشيء الهامشي جوهراً، ومن قضيةٍ فرعيةٍ جداً جذعاً، هذا إنسان يحتاج إلى مزيد من الفقه، بل إنه ظهر ما يسمى بفقه الأولويات، فإن هم أطاعوك بذلك لقنهم أنه لا إله إلا الله يا معاذ لأهل اليمن وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأبلغهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات، فإن أجابوك إلى ذلك فقل لهم أمرَ الصيام، ثم أمرَ الزكاة، ثم أمرَ الحج، هكذا. 
أنا أريد ما يعانيه المسلمون اليوم من مشكلاتٍ خطيرة أساسها التمسك حتى القتال، أو حتى الخصومة الفاجرة، أو حتى الصدام بقضايا هامشية جداً وفرعية لا تقدم ولا تُؤخر، ثم إهمال جوهر الدين. 
مثلاً: هذا الذي يحرص كي يُقبّل الحجر على أن يدفع رجلاً، ويركل رجلاً، ويدفع صدر رجلٍ، ويزيح رجلاً، آذى سبعة أشخاص إيذاء شديداً ليقبِّل الحجر الأسود، هل هذا فقيه؟ لا والله، والله هناك من يأتيه أذى لا يوصف من إنسانٍ في أثناء الحج، وفي مكان تقبيل الحجر الأسود، هذا الذي يضحي بفرائض من أجل سنن لا يملك فقه الأولويات، نحن بحاجةٍ إلى أن نعرف أصل الدين، وجوهر الدين، وأركان الدين، والقصد العام من الدين، وأن نعرف الأساسيات، والحاجيَّات، والتحسينات، والكماليات، والتزيينات، هكذا.
 

يجب ألّا نقيم وزناً للتفاصيل على حساب أصول الدين:


﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ ولكن الذي يجعلك باراً، الذي يجعلك إنساناً كاملاً، الذي يجعلك إنساناً في مرضاة الله، الذي يجعلك إنساناً يُحقق الهدف من وجودك أن تفعل كذا وكذا.
يجوز تعطر إنساناً بعطر غير زيتي يخرج من جلده وقد يسهر ليتابع بعض المسلسلات حتى الساعة الواحدة ليلاً، إذا عطرته بعطر غير زيتي يقول لك: هذا نجس، جيد، الأَوْلى أن تتعطر بعطر زيتي، أما هذه الجلسة حتى الساعة الواحدة، وأنت تتابع مشاهد فاضحة هذه ألا يوجد شيء عليها؟! تجده يحاسبك على سمْسمة بين أسنانه في رمضان ويأكل مئات الألوف اغتصاباً، واحتيالاً، وعدواناً، هذه الشخصية السخيفة، هذه التي تتمسَّك بتفاصيل دقيقة جداً، وتنسى أصول الدين هذه شخصيةٌ مرفوضة، وهذه شخصيةٌ لا يحبها الله عزَّ وجل، سدّدوا وقاربوا، أنا هذا الكلام إياكم أن تفهموا من هذا الكلام أن تتساهلوا في تفاصيل الدين، أبداً أنا ما قصدت هذا، ولكن قصدت أن تنسى أصل الدين، أن تنسى جوهر الدين، أن تنسى المنطلقات الكبرى للدين، مقاصد الدين، وأن تتابع التفاصيل على حساب الأصول.
لو فرضنا أن المحرِّك جيد، والعجلات ممتازة، والمقود حساس، والوقود ممتلئ، وكل شيء جيد، وحسَّنت منظر المركبة لا يوجد مانع، أفضل، كانت نظيفة ومزينة ومرتبة، أما تعتني بزينتها والمحرك محروق!؟ تعتني بزينتها وفيها خطر قد يقضي على ركابها؟! هذا الذي أريده، أنا لا أدعوكم إلى التساهل بالتفاصيل، هذا الدين منهج تفصيلي كامل، ولكن أدعوكم إلى ألا تقيموا وزن التفاصيل على حساب أصول الدين، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ أي أصل هذا الدين أن تؤمن بالله، أصل هذا الدين معرفة الله، أصل هذا الدين أن يمتلئ قلبك تعظيماً لله، أن تؤمن به موجوداً، وأن تؤمن به واحداً، وأن تؤمن به كاملاً، أن تؤمن به فعَّالاً، إلهاً في الأرض وفي السماء، أن تؤمن أن الأمر كلَّه بيده، أن تؤمن أن النفع والضّر بيده وحده، أن تؤمن أنه مصدر الكمال والجمال والنوال، أن تؤمن أن المصير إليه، أن تعرفه معرفةً دقيقةً، تفصيليةً، كاملةً، مستوفيةً، حتى تكون هذه المعرفة دافعاً لك لطاعته.
 

معرفتك بالله إن لم تحملك على طاعته فلا قيمة لها:


يا إخوان، معرفتك بالله إن لم تحملك على طاعته لا قيمة لها، كما عرف إبليس أن الله خالقٌ: 

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾

[ سورة الأعراف ]

وأن الله عزيزٌ: 

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص  ]

وأن الله ربّ:

﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)﴾

[ سورة ص  ]

آمَن بالله خالقاً، ورباً، وعزيزاً، وآمن باليوم الآخر، وكل هذا الإيمان جعله يستنكف أن يسجد لسيدنا آدم: 

﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)﴾

[ سورة ص ]

إذاً هذه المعرفة التي لا تنتهي إلى طاعة معرفةٌ إبليسيَّة لا قيمة لها، مقياس معرفتك التي تحملك على طاعة الله، هذا مقياس المعرفة، فليس البر أن تتعلَّق بشكليات الدين، وأصول الدين تهملها، ليس البِر أن تتعلَّق بالتفاصيل وجذوع الدين تقطعها، ليس البِر أن تقيم خصومةً، وشحناء، وبغضاء في قضايا جانبيًّة، وأنت لست مطيعاً لله عزَّ وجل.
 

أخطاء وقع بها المسلمون اليوم:


مرة قال لي أخ: دخلنا في مناقشة عقيمة، وبقينا حتى ساعة متأخرة كدنا نختصم حول تعريف صلاة التهجُّد، وصلاة قيام الليل، أي صلاةٍ هي قيام الليل وأي صلاةٍ هي تهجُّد؟ أنا ما أجبته، قلت له: قُم صلِّ ركعتين لله وقل: يا رب هاتان الركعتان صليتهما في سبيلك، وتقرباً إليك، وأنا لا أعرف ماذا تسمِّيهما، يا رب سمّها ما شئت، قم فصلِّ فقط. 
إذا سأل ابن والده: أنا إن أردت أن أدرس يا والدي كم تحب أن يكون بُعْدُ الكتاب عن طرف الطاولة، كم سنتيمتراً؟ قال له: خمسة سنتمتر، وكم تحب أن تكون زاوية الكتاب؟ قال له: ثلاثون درجة، أحضر منقلة، وكم تحب أن يكون حرف الكتاب بعيداً عن حرف الطاولة الأيمن؟ وحرف الكتاب الأيسر عن حرف الطاولة الأيسر؟ قال له: ادُرس وخلّصني، اقرأ، يريد أن يدرس أذْهَبَ كل وقته بالمسافات، والقياسات، افتح هذا الكتاب واقرأ وأنت مضطجع، افتح الكتاب واقرأ وأنت تمشي، افتح الكتاب واقرأ وأنت جالس في غرفة الانتظار، العبرة أن تقرأ، آتيكم بأمثلة..
بلاغ منع تجول: "يمنع التجول تحت طائلة إطلاق الرصاص" ، انتَبَهَ للحروف، والخط، والحبر، والورق، والوقت، والتوقيع، والختم، ولكن لم ينتبه لمضمون الكتاب، أهم شيء بهذا البلاغ مضمونه، أهم شيءٍ في الكتاب هذا الكتاب المعلَّق أن تقرأه وأن تدخل البيت، أما أن تقف وتنسى مضمونه، وتتابع تفاصيل مملة حول نوع الخط، وحول الحبر، وحول التوقيع، وحول الختم، هذا الذي وقع فيه المسلمون اليوم، تركوا أصول الدين، تركوا جوهر الدين، وانغمسوا في التفاصيل التي لا تقدِّم ولا تؤخر.
ومرة ثانية أتمنى أن يكون كلامي واضحاً: أنا لا أدعوكم لإهمال التفاصيل، لا أدعوكم لترك بعض دقائق هذا الشرع الحكيم، هذا منهج كامل، ولكن أنا أرفض أن يعتني الإنسان بالتفاصيل، ويُقيمَ خصومةً وعداوةً بينه وبين جماعاتٍ أخرى، وينسى أصول الدين، ممكن نقيم معركة بين ماذا ينبغي أن نفعل في القعود الأخير، أن نفعل هكذا أشهد أن لا إله إلا الله، أم نفعل هكذا؟ أم نعمل هكذا؟ اختر واحدة لا يوجد مانع، أما أن نقيم مشكلة، نُحدِث خصومة، نكفّر الناس، هذا شيء غير معقول.
أنا لا أتكلَّم من هواء، أتكلم من واقع، هذا واقع المسلمين في شتى بقاع الأرض، كم من مسجد في أوروبا وأمريكا دخل رجال الأمن بأحذيتهم ليفضّوا نزاعاً بين جماعتين إسلاميتين حول قضايا تافهة في الدين، قضايا تفصيلية، وهذا الجامع للجماعة الفلانية، وهذا الجامع للجماعة الفلانية، هؤلاء يُكَفِّرون هؤلاء، هذه مشكلة الآية.
 

أصل الإيمان كلِّه أن تؤمن أن كل شيءٍ يجري بأمر الله وعلمه:


﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ أي لا تكونُ باراً، ولا مقبولاً عند الله عزَّ وجل إذا دخلت في هذه المتاهات، وتلك التفصيلات، وهذه الخصومات، ونسيت جوهر الدين، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ أي أصل الإيمان كلِّه أن تؤمن بالله، لا أن تؤمن به خالقاً، قضية سهلة جداً، ما من إنسان إلا قلَّة شاذَّة منحرفة جاءت في آخر الزمان أنكرت وجود الله، أما البشرية جمعاء من آدم إلى يوم القيامة تؤمن أن الله خلق الكون، حتى عُبَّاد الوثن: 

﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)﴾

[ سورة لقمان ]

ليس هذا هو الإيمان المطلوب، الإيمان المطلوب أن تؤمن به فعَّالاً، أن تؤمن به متصرِّفاً، رافعاً وخافضاً، معطياً ومانعاً، مُعزاً ومُذلاً، قابضاً وباسطاً، أن تؤمن به أن كل شيءٍ يجري بأمره وعلمه.
 

كل شيء بيده سبحانه حتى التفاصيل الدقيقة جداً:


قال تعالى: 

﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾

[ سورة القصص ]

الصندوق الذي فيه سيدنا موسى من يُسيّره؟ الله جلَّ جلاله: 

﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)﴾

[ سورة الأنعام ]

الله عزَّ وجل كل شيء بيده حتى التفاصيل الدقيقة جداً، هل هناك أقل من سقوط ورقة في الخريف؟ إلا هو يعلمها، فصِحَّتُك، وأجهزتك، وأعضاؤك، وقلبك، ورئتاك، وكل الأجهزة والأنسجة، والخلايا تعمل بأمر الله، وزوجتك، وأولادك، وعملك، ورزقك، ومن فوقك، ومن تحتك، ومن حولك كلهم بيد الله عزَّ وجل.
أن تؤمن به خالقاً، ومُسيّراً، ومُربياً، أن تؤمن به واحداً، وكاملاً، وموجوداً، أن تؤمن بأسمائه الحسنى كلها اسماً اسماً؛ هو السميع، والبصير، والعليم، والقدير، والغني، والودود، واللطيف، والقابض، والباسط، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل، والرحمن، والرحيم، والقيوم، والحي، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، هكذا، لكن هل يوجد إنسان يأخذ شهادة عُليا ولم يدخل مدرسة؟ هل هناك إنسان يأخذ شهادة عُليا في خمس دقائق بكلمة قالها؟
 

من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر:


إخواننا الكرام؛ لماذا أمر الدنيا واضح جداً؟ هل هناك إنسان يقول لك: أنا دكتور، وهو أُمّي؟ مستحيل، هل هناك إنسان أخذ دكتوراه في يومين أم في ثلاث وثلاثين سنة؟ هل من إنسان يصبح عالماً وما دخل مدرسة إطلاقاً؟ كيف تريد أن تقول: أنا مؤمن ومُحصِّل ولم تحضر أي درس علم، وليس لك أستاذ تتعلَّم منه؟ هذا الكلام مستحيل. 
البِر أن تؤمن بالله، العبرة أن تتحدَّث عن الله ساعات طويلة مما عقلت عنه، هل يمكنك أن تحدثنا عن الله عزَّ وجل؛ عن أسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، وعن أفعاله، وعن قرآنه، وعن كلامه حديثاً طويلاً واضحاً؟ معنى هذا أنت مؤمن، تجد الإنسان في أمور الدنيا طليقاً جداً، فإذا جاءه لأمر الآخرة لا يعلم شيئاً، من قلة معرفته بالصحابة ترَضَّى على عنترة، فهو لا يعرف، حَسِب أن عنترة صحابي فتَرَضَّى عليه، يتقن أشياء كثيرة جداً، أما الأشياء الأساسية في الدين لا يعلمها أبداً، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الإيمان بالله يحتاج إلى وقت، متى جلست وفكرت بهذا الكون؟ متى جلست وقرأت شيئاً عن عظمة الله عز وجل؟ متى فرَّغت  من وقتك لحضور درس علم لتتعلَّم؟ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ بعد ذلك الإيمان بالله من لوازمه أن تؤمن باليوم الآخر. 
أنقل لكم هذه الحقيقة: مستحيل، وألف مستحيل أن تستقيم إن لم تؤمن بأن هناك يوماً سوف تقف به بين يدي الله عزَّ وجل، وسوف تُحاسَب عن كل كلمةٍ، وعن كل حركةٍ، وكل سكنةٍ، وكل درهمٍ كيف اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ هكذا، الإيمان باليوم الآخر يردع الناس، لا يمكن أن تستقيم حياتنا إن لم نؤمن باليوم الآخر، هناك أكثر من خمسة وعشرين ألف دعوى كلها كيدية؛ اغتصاب أموال، اغتصاب أراض، اغتصاب بيوت، أشياء مزوَّرة، أشياء غير صحيحة، كل هؤلاء الذين يفعلون هذا ما ذاقوا طعم الإيمان، مستحيل أن تؤمن بالله وأن تأخذ ما ليس لك.
 

أنواع الإيمان:


أيها الإخوة؛ موضوعٌ مهمٌ جداً جاء مكانه في هذه الآيات، الإيمان أربعة أنواع؛ نوع حسي، ونوع عقلي، ونوع إخباري، ونوع إشراقي.  

1 ـ الإيمان الحسي:

الإيمان الحسي أن تدرك الشيء بحواسك الخمس، أن تدرك وزنه بأن تحمله، لونه بأن تنظر إليه، سطحه أملس أم خشن بأن تلمسه، رائحته إن كانت له رائحة، هذه معرفة حسيَّة، الأشياء نعرفها بحواسنا الخمس؛ نعرف أشكالها، وألوانها، وأوزانها، ورائحتها، هذه ليس فيها خلاف، ونحن وغيرنا من بقية الحيوانات سواء، بل إن بعض الحيوانات متفوقة جداً في بعض الحواس؛ فالصقر يرى ثمانية أضعاف الإنسان، والحمار الذي يحتقره الناس هو المخلوق الأول الذي يعرف الزلزال قبل وقوعه بربع ساعة، لذلك وضعوا حماراً في تركيا في السجن بتهمة كتم معلومات، الكلب يشم مليون ضعف عن الإنسان، هناك طيور تطير مئة وخمسة وعشرين كيلو متراً في الساعة، موضوع طويل، ما من حيوان إلا وهو متفوقٌ على الإنسان في بعض الخصائص، دعوكم من هذا.  

2 ـ الإيمان العقلي:

المعرفة الأساسية هي المعرفة العقليَّة، المعرفة العقلية شيءٌ غابت عينه وبقيت آثاره، طريق المعرفة به عن طريق العقل، فالإيمان بالله، ذات الله عزَّ وجل لا تدركها الأبصار، ولكن الكون كله يدل عليه، الكون كله يدل على الله، أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى متجسِّدة في هذا الكون، فالإيمان بالله أولاً من خلال خلقه، ومن خلال أفعاله، ومن خلال زلزال بتركيا، وزلزال باليونان، وزلزال بتايوان، وإعصار شرَّد اثنين ونصف مليون بأمريكا، سرعته مئتان وخمسة وعشرون كيلو متر، لا يُبقي ولا يذر، وفيضانات بالسودان، كل يومين هناك خبر، معنى ذلك أن هذه أفعال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾

[ سورة الإسراء ]

قالوا: حرب البلقان رسالة إلى أوروبا، وقالوا: زلزال تركيا رسالة من السماء إلى الأرض، لأن مسجداً في مركز الزلزال لم يمس بأذى، بالمركز في أزمير، وحوله أنقاض، فالله عزَّ وجل يُعرّفنا بذاته من خلال الكون، ويُعرّفنا بذاته من خلال أفعاله التي نراها، مسجد في مركز الزلزال لم يُمس بأذى وكل ما حوله أنقاض، هذه رسالة من الله إلى عباده، فالإيمان بالله يمكن أن تؤمن به من خلال خلقه، ومن خلال أفعاله، ومن خلال كلامه، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ هو الأصل، ولكن يجب أن تؤمن بالله إيماناً يقينياً، وعلامة يقيني يحملك على طاعته، فإن لم يحملك على طاعته فلا قيمة له، صار إيماناً إبليسياً؛ وهذا حال معظم الناس، تجده يحضر الصلاة يقول لك: والله الإسلام عظيم، دين يا أخي، دين الله هذا، لا يوجد إسلام ببيته، ولا بعمله، ولا بتجارته، ولا بحركاته، ولا باحتفالاته، ولا بمآسيه، كله بدع، وكله انحرافات، وهو يقول لك: أنا مسلم.

تعصي الإله وأنت تظهر حبه              ذاك لعمري في الــمقال شنيع

لـو كان حبك صادقا لأطعتــه              إنّ المـــحب لمن يحب يطيــع

[ الشافعي ]

* * *

فأول شيء الإيمان بالله. 
الآن بعد أن آمنت بالله، الله عزَّ وجل له كتاب، من خلال إعجاز القرآن تؤمن بكتابه، من جاء بهذا الكتاب المعجز؟ إنسان اسمه محمد عليه الصلاة والسلام، إذاً هو رسوله، عن طريق العقل فقط، عن طريق العقل الذي هو مناط التكليف تؤمن بالله، وبكتابه، وبرسوله، انتهى دور العقل.  

3 ـ الإيمان الإخباري:

الآن جاء دور النقل، جاء دور الإيمان الإخباري، الله أخبرك بوجود يوم آخر، يوجد صراط، ويوجد جنة، ويوجد نار، ويوجد حساب، ويوجد عذاب، ويوجد حوض، ويوجد برزخ، هذه كلها إخبار من الله، أخبرك بوجود ملائكة، أخبرك بوجود جنّ، أخبرك أن يوم القيامة لا نهاية له إلى أبد الآبدين، هذه كلها أشياء إخبارية العقل لا يستطيع أن يعرفها بذاته، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ عن طريق عقله: 

﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)﴾

[ سورة يس ]

﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾

[ سورة محمد ]

والعقل مناط التكليف، ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إيمان إخباري، ﴿وَالْمَلَائِكَةِ﴾ إيمان إخباري، ﴿وَالْكِتَابِ﴾ إيمان تحقيقي عقلي، ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ إيمان تحقيقي عقلي، انتهى الإيمان.
 

العقل والنقل:


يجب أن تؤمن بالله بشكل -مختصر-خالقاً مربيّاً مُسيّراً، موجوداً واحداً كاملاً، أسماؤه حسنى مع التفاصيل، وصفاته فُضلى، وهو إلهٌ في الأرض وفي السماء:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

آمنت بالله، الإيمان بالله من كمال الله ألا يدع عباده من دون أمر ونهي، إذاً أرسل كتباً، ومن كمال الله عزَّ وجل ألا يظلم العباد، يوجد بالدنيا تفاوت كبير؛ هناك غني وفقير، وقوي وضعيف، ووسيم ودميم، وصحيح ومريض، متى تُسوّى الحسابات؟ في اليوم الآخر.
فاليوم الآخر يمكن أن تؤمن به عن طريق العقل، أو عن طريق النقل معاً، الله أخبرنا به، أما العقل لا يقبل، حياة العمر قصير، قِوى كبيرة، قِوى مُستضعفة، عناصر قوية، عناصر مستضعفة، أغنياء فقراء، أقوياء ضعفاء، أصحاء مرضى، تفاوت كبير جداً، ثم موت يُنهي كل شيء، فإذا لم يكن هناك يوم آخر فالوضع غير مقبول أبداً، وغير معقول.
فيجب أن تؤمن بالله بعقلك، وباليوم الآخر بعقلك، وبالكتاب بعقلك، وبالنبيين بعقلك، أما الملائكة بالنقل، بالإخبار، ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ .
 

الإيمان يجب أن يؤكده الفعل:


لكن آمنت فإن لم تتحرَّك ما قيمة إيمانك؟ هذا بالدرس القادم إن شاء الله، ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ .
أيها الإخوة الكرام؛ إنسان معه مرض جلدي بحاجة ماسَّة إلى أن يتعرَّض لأشعة الشمس، جالس في غرفة قميئة رطبة لا ترى الشمس أبداً، وهو فصيح يقول: يا لها من شمسٍ ساطعة! ما أجمل أشعة الشمس! إنها أشعةٌ كالذهب، أنت أين تجلس؟ إن كان المرض يحتاج إلى أشعة الشمس لمَ لمْ تخرج إليها؟ فما قيمة إيمانك بأشعة الشمس الساطعة والمُطهِّرة والمُبهرة وأنت بعيدٌ عنها؟ لابد من حركة، إذا لم يكن هناك حركة كلام فارغ مهما قلت: أنا إيماني قوي.
إنسان قال: الشمس ساطعة، هي ساطعة، ماذا فعل؟ ما فعل شيئاً، ما أضاف شيئاً، إذا قال: ساطعة، حقيقة بديهيَّة معروفة، وإذا قال: غير ساطعة، يحتاج إلى مشفى المجانين، إذا أنت أقريت بالحقيقة ما فعلت شيئاً، وإذا أنكرتها لم يكن عندك عقل، لكن متى تنتفع بالحقيقة؟ إذا استفدت منها، أنا بحاجة ماسة لأشعة الشمس، أؤمن بالشمس وأخرج كي أتعرَّض لأشعتها المطهرة، اجعل في بالك إذا لم يكن هناك حركة ليس هناك شيء: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)﴾

[ سورة الأنفال ]

 

على المؤمن أن يتحرك نحو خدمة الخلق:


الآيات الكريمة أكثر من مئتي آية: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)﴾

[ سورة البروج ]

أي إيمان بلا عمل مستحيل، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن حتى تُعبِّر عن ذاتها بحركةٍ نحو الخلق، أما مؤمن سكوني، مؤمن من بيته إلى دكانه، ليس له علاقة بأحد، هذا مستحيل، لا يعاون أحد أبداً؟ لا يتمنى أن ينقل الحق لإنسان؟ لا يبلغ عن النبي ولو حديثاً ولو آية؟ همه شخصه!! هذا ليس مؤمناً، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ﴾ يوجد حركة، لابد من حركة، أن تتحرك إلى بيتٍ من بيوت الله، أن تتحرَّك لخدمة الخلق، لنشر الحق، أن تحمل همّ المسلمين، هذا موضوع الدرس القادم، لا يوجد حركة لا يوجد شيء أبداً، هكذا إنسان قناعاته ممتازة، وعواطفه جيدة، الآن يوجد نمط جديد؛ قناعاته إسلامية، وعواطفه إسلامية، وعنده خلفية إسلامية، وأرضية إسلامية، ونزعة إسلامية، ولكن لا يوجد عمل إطلاقاً، يضع في بيته آية الكرسي، ويضع مصحفاً في جيبه لكنه لا يعمل عملاً إطلاقاً، ليس له أي عمل صالح، فقط له مظاهر، صار إسلامه إسلاماً فولكلورياً، إسلاماً استعراضياً ولكن لا يوجد إسلام عملي، فيجب أن نؤمن أنه لابد من عمل، لابد من حركة نحو خدمة الخلق: 

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو  : أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». ))

[ صحيح البخاري ]

إنسان يحضر الدروس منذ عشرين سنة، ليس بإمكانه أن يتكلم كلمتين في مجلس؟ يشرح آية؟ يشرح حديثاً؟ ينصح؟ يعطي حكماً شرعياً؟ طلب العلم فريضة، وتعليم العلم فريضة.
أيها الأخوة؛ أرجو الله سبحانه وتعالى في درسٍ قادم أن نتابع هذه الآيات.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور