الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الآيات التالية هي أول ما نَزَلَ في القتال:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التسعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)﴾
ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نَزَلَ في القتال، أول الآيات التي نزلت في قتال الكفار والمشركين هي هذه الآيات، ولكن ماذا نزل قبلها؟ نزل قبلها قوله تعالى:
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾
هذه الآيات: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ هي أول آياتٍ نزلت في القتال، وكان قد سبقها إشارةٌ من الله عز وجل إلى أن هؤلاء الذين آمنوا قد ظُلِموا حينما قوتلوا وأخرجوا من ديارهم ونُكِّلَ بهم بغير حق، وكان قد نزل قبل هاتين الآيتين:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
إذاً آيات القتال تدرَّجت، أول إشارة إلى القتال: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ لا تقاتلوا، الإشارة الثانية: أنتم مظلومون، الإشارة الثالثة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ .
أسباب نهي المؤمنين عن القتال وهم في مَكَّة المُكرمة:
أيها الإخوة الكرام؛ قد يسأل سائل: لماذا نُهِيَ المؤمنون عن القتال وهم في مَكَّة المُكرمة؟ الجواب:
1 ـ حتى يُرَبَّى أصحاب رسول الله على الطاعة:
طبيعة الحياة في مكة أساسها عدم قبول الضيْم، أساسها الثأر، أساسها الهجوم، فهؤلاء المؤمنون الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء يُعِدُّهم الله عز وجل ليكونوا قادةً في المستقبل، لقد نُقلوا من رَعْيِ الغنم إلى قيادة الأمم، هؤلاء الذين عاشوا في مكة قبل نزول الإسلام، عاشوا حياةً أساسها الانفعال الشديد، أساسها الاضطراب، أساسها الأخذ بالثأر، فلابدّ من أن يُرَبَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أيْ أنتم مكلفون أن تصلّوا وأن تصوموا وألا تفعلوا شيئاً، وقد تحمَّل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الضيم، والقهر، والتطاول، والشتْم، والإيذاء المادي، والتعذيب، والأمر الإلهي: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ فالحكمة الأولى من أن الله أمر -طبعاً إخواننا الكرام البحث تاريخي فقط، أي من أمانة البحث أن أوضح لكم تفاصيل هذه الآيات-فالصحابة الكرام يُربيهم الله عز وجل ليكونوا قادةً للأمم ليحملوا رسالة، ولابد لهذه القيادة وحمل الرسالة من نظام، من طاعة، فلابد من أن يُطيعوا مع أنهم تحمّلوا فوق ما يطيقون، كان بإمكان أحدهم أن يكيل الصاع صاعَيْن لخصمه، ولكن الأمر من الله عز وجل أن: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ .
2 ـ وُجود بقية خلقٍ كان عند العرب قبل الإسلام:
هناك حكمةٌ أخرى من أن الله عز وجل منع المؤمنين وهم في مكة من القتال، السبب هو أن بقية خلقٍ كان عند العرب قبل الإسلام، حينما يأتي رجل في الجاهلية ويُسْلِم يقول له عليه الصلاة والسلام:
(( عن حكيم بن حزام: أنَّهُ قالَ لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيْ رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أتَحَنَّثُ بها في الجاهِلِيَّةِ، مِن صَدَقَةٍ، أوْ عَتاقَةٍ، أوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أفيها أجْرٌ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أسْلَمْتَ علَى ما أسْلَفْتَ مِن خَيْرٍ. ))
وكان عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عن أبي هريرة: فَخِيارُكُمْ في الجاهليةِ خِيارُكُمْ في الإسلامِ إذا فَقِهوا. ))
فلما قاطع كفار قريش بني هاشم لتضييق الخناق على النبي، بقية المروءة حتى في مجتمع الجاهلية دعتهم إلى تمزيق الصحيفة، إذاً كان هناك بقية من الناس لا يحتملون الظلم، فمن أجل أن تَسْلُكَ الرسالة طريقها إلى الانتشار والتوسع، فكان من الحكمة والمسلمون في مكة ألا يُقَاتلوا، جاءهم أمرٌ بعدم القتال، أولاً كي يدربوا على الطاعة، وتحمُّل الشدائد، والمكاره، والقهر، والضغط، والضيم، والأمر بعدم القتال، ثم إنّ الحياة الجاهلية فيها بقيةٌ من خير برزت في مكَّة المكرمة حينما مُزِّقت الصحيفة، وتعامل كفار قريش مع المؤمنين بدافعٍ من بقية الخُلُق الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:
(( عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ وفي روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاقِ. ))
[ السلسلة الصحيحة : صحيح :أخرجه البزار ]
3 ـ القتال في مكة يعني أن تنشِب معركةٌ في كل بيت وهذا يتناقض مع الدعوة الإسلامية:
الشيء الثالث وهو الأهم هو أنّ المؤمنين في مكة أفراد في بيوت، وأن الذين يُعذبونهم ويُنكِّلون بهم هم أهلهم، فلو أُمِرَ المؤمنون في مكة بالقتال لنشبت حربٌ في كل بيت، لتمزقت الأسرة، وهذه حكمةٌ بالغة، ليس هناك كيان للمسلمين، ليس لهم أرض، ليس لهم كيان، أفراد في أُسر مشركة، فلو أُمِرَ المؤمنون في مكة بالقتال لكان يعني هذا أن تنشِب معركةٌ في كل بيت، ولأصبحت الحياة في مكة لا تطاق، حربٌ أهلية، والإسلام جاء للسلام، جاء لترسيخ معاني الود، معاني الخُلُق، فلأن المسلمين ليسوا على أرضٍ تجمعُهم، وليس لهم كيانٌ يقودُهم، هم فُرادى متفرقون في بيوتات مُشركة، فلو أُمِروا بالقتال لكان معنى هذا أن تَنشِب معركةٌ في كل بيت، وهذا يتناقض مع الدعوة الإسلامية، الدعوة التي هي من عند الله، والتي تسعى إلى إقرار السلام في المجتمع، هذه بعض الحِكَم التي يمكن أن تُسْتنبط.
4 ـ كان المسلمون في مكة قِلَّة ليس لهم أرض ولا قيادة تجمعهم:
الحكمة الرابعة: هم كانوا قلةً في مكة المكرمة، أي المسلمون قلة، وحينما يُؤمَرون بالقتال صار هذا أمراً بالانتحار، لابد من أن يأخذوا بالأسباب، لابد من أن يكون هناك أملٌ بالنصر، أما أشخاص ضعفاء، شباب، متفرقون في بيوت مشركة، يُؤمَرون بقتال أهلهم وآبائهم فهذا شيء مستحيل، أولاً: هم قِلَّة ليس لهم أرض، ليس لهم قيادة تجمعهم، ثانياً: ظهرت نخوةٌ في الجاهلية أعادت لهم بعض حاجاتهم، ثالثاً وهو أن الحياة في الجاهلية فيها عنف، فيها عدم نظام، فيها اضطراب، فلو تُرِك الأمر على غاربه لنشبت معارك لا تنتهي.
الحكمة من نصر الله تعالى للمؤمنين:
إذاً الحكمة من أن الله أمر المؤمنين أن يكفوا أيديهم، وأن يُصَلّوا، وأن يصوموا، وأن يؤدّوا الزكاة، كانت حكمةً رائعة وقتها، فلما هاجر المؤمنون إلى المدينة، وأصبح لهم أرض تَجَمَّعوا عليها، أصبح لهم كيان، أصبحت لهم قيادة حكيمة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآن سبقت هذه الآيات إشارة إلى أن هؤلاء المؤمنين: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ لكن الحكمة تقتضي ذلك، ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز*الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ الله عز وجل حينما ينصر المؤمنين من أجل ماذا؟ من أجل أن يُقيموا الصلاة في الأرض، وأن يكونوا رُسُلاً إلى البشرية جمعاء.
أساس مشروعية القتال في الإسلام:
أيها الإخوة؛ الآية التي هي موضوع درسنا اليوم: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ قبل أن أمضي في شرح هذه الآية لابد من ضرب المثل، تصور بلدةً لها وليّ أمرٍ تسميه: رئيس بلدية، تسميه: حاكم البلدة، لها ولي أمرٍ، هذا الإنسان على درجة عالية جداً من العلم والأخلاق، أراد أن يُنشِئ في هذه البلدة معهداً من أعلى مستوى، يستقدم له أعلى الأساتذة، هذا المعهد مجهَّز بكل وسائل التعليم، والتربية، والتثقيف، والتأديب، أراد ولي أمر هذه البلدة أن ينشئ معهداً يربي شبابها تربيةً عالية، من أجل أن يسعد هؤلاء الشباب في حياتهم، وأن يحتلوا مناصب مرموقة، وأن يصلوا إلى أعلى درجات السعادة في الدنيا، أُنْشِئت هذه المدرسة، وبُنيت بناءً راقياً، واستُحدِث فيها كل وسائل التعليم، وَعُيِّنَ فيها كبار المدرسين.
ثم فوجئ صاحب هذه البلدة أن فئةً من قُطَّاع الطرق ومن المنحرفين تصرف الطلاب عن المدرسة، إما أن تُغْريهم بارتياد أماكن منحطة، أو مشاهدة أفلام مُنْحَطَّة، أو إبعادهم عن هذه المدرسة، أو أن تمنعهم بالقوة من أن يدخلوا إلى هذه المدرسة، هل يقف ولي أمر هذه البلدة مكتوف اليدين؟ هل يسمح لفئةٍ أن تمنع نشر العِلم في البلدة؟ هل يسمح لفئةٍ تحول بين الطلاب وبين دخول معهدهم؟ هل يسمح لفئةٍ أن تغري الطلاب بالانحراف الخلقي وتعويدهم على المخدرات والخمور والزنا وما إلى ذلك؟ لابد من التدخل، لابد من التدخل من أجل أن تؤدي هذه المدرسة رسالتها، فهؤلاء الذين يقفون على مسالك الطُّرُق إلى المدرسة، يمنعون الطلاب من الدخول إليها، أو يصرفونهم إلى أماكن اللهو والانحطاط، هؤلاء شاذون، هؤلاء خرجوا عن مبادئ هذه البلدة وعن قيمها، فلابد أن يُحال بينهم وبين ما يصنعون، هذا هو القتال في سبيل الله.
الجماعة المؤمنة من حقها أن تعرف ربها، من حقها أن تسعد به، من حقها أن تصل إلى غايتها في الدنيا، من حقها ألا تُفْتَنَ عن دينها، أنت كأب لو كان لابنك صديق أفسده عليك، وجعله يهرب من المدرسة، وينغمس في الرذيلة والمخدرات، بماذا تشعر تجاه هذا الصديق صديق ابنك؟ تشعر أنه اعتدى عليك أعلى عدوان.
أعلى عدوان على الإطلاق أن تعتدي على دين الإنسان، أن تُفسِدَه، هؤلاء الذين ينشرون الرذيلة بطريقةٍ أو بأخرى، عن طريق المجلات، أو عن طريق الفضائيّات، أو عن طريق الكُتُب، هؤلاء على ماذا يعتدون؟ يعتدون على دين الإسلام، يفتنونه عن دينه، فإما أن تعتدي على الدين مباشرة، وإما أن تفتن الناس عن دينهم، لذلك هؤلاء الذين يعيشون على انهيار البيوت، ويعيشون على إفساد الشباب، يعيشون على إفساد الفتيات، هؤلاء الذي يعيشون ليمنعوا دخول الطلاب إلى المدرسة، ليمنعوا نشر العِلم، مع أن ولي أمر هذه البلدة لم يُجبر أحداً على دخول هذا المعهد، لكن طُلاب المعهد من حقهم أن يصلوا إلى معهدهم سالمين، وأن يستمعوا إلى الدروس هادئين، وأن يصلوا إلى أهدافهم مرتاحين.
فلذلك مشروعية القتال في الإسلام حينما جاء بها القرآن، وحينما طبَّقها النبي عليه أتمُّ الصلاة والسلام أساسها من أجل ضمان حُرية العمل، من أجل ضمان حرية العبادة، من أجل ضمان حرية الاستقامة على أمر الله، من أجل ضمان حرية طلب العلم، هذا هو.
شُرِّع القتال في الإسلام من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا:
لذلك الآية الأولى أيها الإخوة يقول الله عز وجل: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أول نقطة في هذه الآية: ينبغي أن يكون القتال في سبيل الله إعلاءً لكلمة الله، أما الحروب القذرة التي تشهدها البشرية اليوم، ساعة يقولون: تطهير عِرْقي، ذبح على الهوية، لأنه مُسْلم، وساعة يقولون: من أجل اتخاذ البلاد مجالاً حيوياً، أطماع اقتصادية، أينما كان البترول تجد المطامع تحوم حوله، فهذه الحروب الحديثة التي تقودها بعض البلاد القوية حروبٌ لا علاقة لها إطلاقاً بنشر فكرةٍ، ولا تحقيق مبدأٍ، ولا ترسيخ دينٍ، إنما المصالح فقط تُحَرِّف هؤلاء الذين يعتدون على حقوق الشعوب، الآية دقيقة جداً أول شيء: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ القتال المشروع في الإسلام من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ومن أجل ألا تكون فتنة، ومن أجل أن يكون الدين لله، أنت لا تسمح لابنك أن يرتاد بيتاً إلى جوارك تُمارس فيه كل أنواع الرذيلة، يعتدون على طُهْر الأطفال، وعلى عفَّتهم، وعلى أخلاقهم، وعلى انضباطهم بإغراءات، لابد من أن تقف بين هؤلاء وبين ما يفعلون، هذا هو الأصل، ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الهدف أن يكون الدين مُهَيْمِنَاً، والهدف أن يكون الدين لله، والهدف ألا تكون فتنةٌ، والهدف أن تَنصُر مظلوماً.
الآداب التي جاء بها الإسلام في القتال:
الشيء الثاني؛ ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ .
1 ـ لا تُقَاتِل إلا من يُقاتِل فالنساء والأطفال والشيوخ لا يُقاتَلون:
المرأة لا تُقتل، والصبي لا يُقْتل، والشيخ الفاني لا يقتل، وهذا الذي التجأ إلى صومعةٍ يعبد الله فيها لا يُقتل، هكذا النصوص تأتي، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن ابن عمر قال :وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. ))
[ رواه الجماعة إلا النسائي : صحيح ]
وإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه تأكيداً لكرامة الإنسان، وأعف الناس قتلةً أهل الإيمان، عندهم أخلاق، حتى في حربهم أخلاقيون، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن قتل الصبْرِ أي أن تدعه بلا طعامٍ حتى يموت، فلذلك أول شيء: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ في هذا القرآن العظيم لا يُقاتَل إلا المُقاتِل، أما هذه الحروب الحديثة تنزل هذه القنبلة فتقتل النساء والأطفال والشيوخ معاً، ولا تُفرِّق بين وليدٍ رضيعٍ بريءٍ طاهرٍ وبين مقاتلٍ شرسٍ خبيث، هذه الأسلحة التي اخترعتها أوروبا وأمريكا، هذه لا تُفرِّق بين طفلٍ ومُقاتِل، ولا بين امرأةٍ ومُقاتِل، ولا بين شيخٍ ومُقاتِل، والآية تقول: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ هذا من حيث النوعية، لا تُقَاتِل إلا من يُقاتِل، الشيء الثاني؛ فالنساء والأطفال والشيوخ لا يُقاتَلون.
2 ـ ينبغي أن تكون متأدِّباً بآداب القتال:
الشيء الثاني ينبغي أن تكون متأدِّباً بآداب القتال، فلا تجعل خصمك يموت صبراً، جوعاً، أو عطشاً، أو تعذيباً، ولا تضرِب الوجه حفاظاً على كرامة الإنسان، ولا تقتل امرأةٍ، ولا طفلاً، ولا شيخاً، ولا تعقروا ناقةً إلا لمأكلةٍ، ولا تقطعوا شجراً، هذه الآداب التي جاء بها الإسلام حتى في القتال.
الفتنة أشدّ بكثيرٍ من القَتل:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ لمجرَّد أن تعتدي على إنسان فالله عز وجل لا ينصُرك، ولا يأخذ بيدك بل يهزمك، ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ لأن هذا الإنسان الذي تُقَاتله هو إنسان شرد عن الله، ينبغي أن تُريه عدلاً، وإنصافاً، وقوةً، وبأساً من دون أن تَظلِمه، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)﴾
الإنسان حينما يُقْتَل مظلوماً يدخل الجنة، أما حينما يُفْتَن عن دينه يدخل النار، فلا شك أن الفتنة أشدّ بكثيرٍ من القَتل.
العدوان على الدين والعدوان على الجسم:
كان هذا الجاهلي يأتي بابنته الصغيرة التي هي كالقمر، يأخذها إلى خارج المدينة، ويحفر لها حفرة، يضعها في الحفرة، ويهيل عليها التراب، تقول له: يا أبت يا أبت، تتوسل إليه إلى أن تموت، قلبٌ كالصخْر، مع أن هذا العمل وَحْشِي، مع أن هذا العمل ينفر منه كل طبعٍ سليم:
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾
ومع ذلك هذا الذي يُرَبِّي ابنته حتى تَكْبُر؛ يُطلق لها العنان، يسمح لها أن تمشي بأية طريقة، وأن ترتدي أي ثياب، ولو كانت فاضحةً مكشوفةً، هذا الأب الذي يفتن ابنته عن دينها، ويسمح لها أن تُظْهِر مفاتنها، ويسمح لها أن تلعب بالنار، هذا الأب جُرْمُهُ عند الله أشدُّ ممن لو قتلها، هذا الأب جُرمُه عند الله أشدّ من قتل ابنته صغيرةً، لأنها إن قُتِلَت صغيرةً دخلت الجنة، أما حينما تُفتَن عن دينها، أي اعتدي عليها بأبلغ من اعتدائها على جسمها، أي هناك عدوان على الدين، وهناك عدوان على الجسم، العدوان على الجسم بالقتل، أحياناً إنسان يقتل إنساناً بحادث سير دون قصد، هذا اعتدى على جسمه، أما هذا الذي يفتن الناس، يُشيع بينهم الأفكار الهدَّامة أحياناً، يؤلِّف الكُتب التي تطعن في الدين، يغري الشباب بأن يفعلوا الفاحشة، ينقُل ما في النوادي الليلية إلى البيوت، هذه الصحون الفضائية ألا ترونها أمامكم؟ تنقل كل شيء للبيوت.
هؤلاء الذين يعتدون على الدين، الإنسان دينه استقامته، دينه عفته، دينه صلاته، دينه طاعته لله، دينه تعلقه بالآخرة، فأية طريقةٍ؛ عن طريق مجلةٍ أو كتابٍ أو فيلمٍ أو مسلسلٍ يأتينا من الخارج ليُهدِّم أخلاق أبنائنا ويُفسد شابَّاتنا، هذا عدوان على الدين، فصار هناك عدوان على الدين، وعدوان على الجسم.
الأشهر الحرم ضمان لعدم استمرار القتال:
يقول الله عز وجل: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ شاءت حِكمة الله عز وجل أن يجعل الأمْنَ في مكانٍ وزمان، فالأشهر الحُرُم فيها أمن، السبب: الآن تدور معركة:
﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)﴾
قد تستمر المعركة ثماني سنوات، لو طَبَّقَ الفريقان هذه الآية حيث لا يوجد قتال في الأشهر الحرم، فحينما يهدأ الناس، ويرتاحون من القتال، ويتذوَّقون طعم السلم، يحافظون عليه، فكأن الله جعل هذه الأشهر الحُرم ضماناً لعدم استمرار القتال، لأن الله هو الذي خلق هذه الأنفس، هو الخبير بطبيعتها، ترون قد تستمر المعركة ثماني سنوات، وقد يذهب ضحيتها مليون إنسان، بسبب أنهم تابعوا القتال في الأشهُر الحُرُم، حينما يلتزم الناس جميعاً بهذا المبدأ؛ أن الاقتتال في الشهر الحرام لا يوجد، يرتاح الناس، ذاقوا طعم السلم، فمالوا إلى حلّ المشكلة، من دون أن تتفاقَم، وجعل الله مكاناً آمناً هو بيت الله الحرام، قال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هذا مكان آمن، ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ إذا هم بدؤوا القتال في هذا المكان الطاهر المقدَّس، أنتم تابعوا القتال، ولا تبدؤوهم أنتم حتى هم يبدؤوا، ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أي إذا بدؤوا القتال في بيت الله الحرام، أو في الشهر الحرام فقاتلوهم.
الله تعالى يلوح للمقاتلين الحاقدين في الآية التالية بالعفو:
قال تعالى:
﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)﴾
يا أيها الإخوة؛ هذه الآية رائعة جداً، أي هذا الذي يُقَاتل المؤمنين، هذا الذي يريد أن يُطفِئ نور الله عز وجل، هذا الذي يريد أن يَحُول بين الناس وبين طاعة الله عز وجل، هذا الذي يُشيع الفساد في الأرض، هو نفسه لو توقَّف عن إفساده، وتاب إلى الله، لقبله الله وعفا عنه، لأن الله رب الجميع، كأن الله لوَّح لهؤلاء المقاتلين، المشركين، الكُفَّار، الحاقدين، المجرمين، لوَّح لهم بالعفو، ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لذلك الله عز وجل لا يُبْغِضُ الكفار، ولكنه يُبْغِض أعمالهم، لا يغضب منهم، ولكن يغضب عليهم، هذه نقطة دقيقة جداً.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ عبدي لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي، طبعاً هذا كلام تاريخي كما أقول مرة ثانية، أستعرض لكم ترتيب هذه الآيات التي نَقلت المؤمنين من طور قبول الضيم في مكة المكرمة إلى طور أن يقفوا وقفةً قويةً في المدينة المنورة بعد الهجرة.
مشروعية القتال في الإسلام لئلا تكون فتنة:
قال تعالى:
﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)﴾
كأن الله عز وجل أشار في هذه الآية إلى أن مشروعية القتال في الإسلام لئلا تكون فتنة، وكلُّكم يعلم أنه في بعض البلاد البعيدة عن منهج الله، التي لا تُقيم للدين وزناً، ولا تسمح لإنسان أن يُقيم شعائر الله، في هذه البلاد يُفْتَن الإنسان عن دينه، يُمنع أن يؤدِّي شعائر الله، يُمنَع أن يدخل المسجد، يُمنَع أن يُحَجِّبَ زوجته، ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
كلّ تجاوزٍ للحُرُمات لابدّ له من قصاصٍ رادع:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾
أيْ أنت حينما تجترئ على حُرْمَةِ هذا الشهر أيضاً المسلمون يجترئون عليك، فدائماً هناك معاملة بالمثل، هذا الشهر حرام، حرامٌ أن تقاتل فيه، أنت إن بدأت القتال فيه لا ينبغي أن تكون آمناً فيه، أنت اعتديت على حُرْمَة هذا الشهر فينبغي أن يُعتدى عليك في هذا الشهر ولو كان حراماً، ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ وكل تجاوزٍ للحُرُمات لابدّ من قِصاصٍ يردع، لأنه لا يوجد نظام بالأرض إلا وله مؤيّد قانوني، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ .
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾
على الإنسان أن يعدّ لعدوه أعلى درجات القوة وهذا أمر إلهي:
إخواننا الكرام؛ نحن مع أعدائنا الشرِسِين الذين شَرَّدوا الشعوب، واقتلعوا الإنسان من جذوره، هؤلاء ينبغي أن يؤدبوا، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ كلكم يرى ويسمع: أعداؤنا يخرقون كل الأنظمة الدولية، ولا يُطبّقون أي قرارٍ على الإطلاق، ومع ذلك لا أحد يُحاسبهم، بينما نحن أي خطأ يصدر عن بلد يُعتدى عليه اعتداء إلى أن يجوع أهله، ويموتوا من الجوع.
هناك الآن إحصاءات دقيقة أن خمسمئة ألف طفلٍ يموتون كل عامٍ جوعاً ومرضاً في بعض البلاد التي خضعت لمقاطعةٍ اقتصادية، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ لأن الله عز وجل قال:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾
هذا أمر إلهي، أي يجب أن تُعدّ لعدوك أعلى درجات القوة، ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ لاستنفاذ كل وسائل القوة.
الشيء الثاني: أية قوةٍ هذه؟ كلمة عامة، هذه جاءت أولاً عامة، وجاءت نَكِرَة، جاءت عامة كي تغطي كل أنواع القوة التي تأتي على خواطرنا، وجاءت مضافةً إلى بعضها.
الآية التالية هي آية الإعداد:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ في عهد النبي الإعداد يشمل رباط الخيل، في عهودٍ لاحقة يشمل المنجنيق وصُنع السفن الحربية، في عهود بعدها يشمل المُدَرَّعات والطائرات، والآن كما ترون يبدأ القصف ويستمر القصف إلى أن تُدَمَّر البُنْيَة التحتية للبلد كلياً، من دون أن ينزل جندي واحد، عن طريق الطيران، وعن طريق إحكام الأهداف، لذلك: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ القوة تعني أن تستخدم كل وسائلها بأدق تفاصيلها، ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ من أجل ماذا؟ ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ أحد أكبر أدوار القوة أنك لا تستخدمها لكنها تفعل فعلها، الذي يملك سلاحاً قوياً مَرْهوب الجانب، والدليل: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ وينبغي أن يكون عدوكم عدواً لله عز وجل.
الإعداد والإيمان شرطان ضروريان لتحقيق النصر:
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ هذه معيةٌ خاصة، الآية التي ذكرتها قبل قليل: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ هذه آية الإعداد، لكن النصر يحتاج إلى شيئين: إلى إعدادٍ وإلى إيمان، والإيمان والإعداد كلاهما شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، فمن آمن ولم يُعِدّ لعدوه أعلى درجات القوة لا يستحق النصر، ومن أعدّ لعدوه أعلى درجات القوة ولم يؤمن لا يستحق النصر، فلابد من الإيمان والإعداد، إلا أن الذي يُثْلِجُ القلوب أن الله عز وجل ما كلَّفنا أن نُعِدّ القوة المكافئة ولكن كلفنا أن نُعِدّ القوة المُتاحة، فنحن إن أردنا أن يرفعنا الله عز وجل، وأن ينصُرنا على شُذَّاذ الآفاق هؤلاء المفسدون في الأرض، ينبغي أن نُعِدّ لهم ما استطعنا من قوةٍ، وينبغي أن نُعِدّ إيماناً قوياً في مستوى إعدادنا، فإذا جمعنا الإيمان والإعداد استحققنا النصر.
دعوتُ مرةً في خطبة إذاعيةٍ وقلت: اللهم انصرنا على أنفسنا حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا.
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾
أي مستحيل المؤمن إلا وينتصر، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾
ولكن ينبغي ألا نُقَصِر لا في الإعداد ولا في الإيمان، إن قصَّرنا في الإيمان خسرنا المعركة بسبب ضعف إيماننا، وإن قصرنا في الإعداد خسرنا المعركة بسبب تقصيرنا في الإعداد، الإيمان والإعداد كلاهما شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، والحقيقة أن المعركة بين حَقَّين لا تكون لأن الحق لا يتعدَّد، وأن المعركة بين حق وباطلٍ لا تطول لأن الله مع الحق، أما إن كانت بين باطِلَين فقد تطول.
على المؤمن أن يعدَّ للكفار الإيمان والقوة التي يفهمونها:
أيها الإخوة؛ ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ*الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ هذه المعية الخاصة، معهم بالنصر، والتأييد، والحِفظ، والتوفيق.
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)﴾
ما علاقة هذه الآية بالقتال؟ القتال يحتاج إلى رجال، ويحتاج إلى أموال، فلابد من أن تبذلوا مُهَجَكم وأموالكم معاً، الأمة التي تريد أن تنتصر على شُذَّاذ الآفاق هي الآن المعركة معركة مصير، معركة نكون أو لا نكون، فلابد من أن نُعِدّ الإيمان لشُذّاذ الآفاق، ولابد من أن نُعِدّ لهم القوة التي يفهمونها هم.
من رحمة الله بنا أنه كلفنا أن نُعِدّ القوة المُتاحة وليس القوة المكافئة:
لكن رحمة الله بنا أنه كلفنا أن نُعِدّ القوة المُتاحة، وعلى الله الباقي، وليست القوة المكافئة، قد لا نستطيع إعداد القوة المكافئة، ولكن بالإمكان أن نُعِدَّ القوة المُتاحة، وأن نُقَوي إيماننا بالله عز وجل كي نستحق أن تنطبق علينا الآية الكريمة: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
أما حينما تنطبِق على المسلمين الآية الثانية:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
(( ورد عن رسول لله صلى الله عليه وسلم أنه قال: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه: يُوشِكُ أنْ تَداعى عليكم الأُمَمُ مِن كلِّ أُفُقٍ، كما تَداعى الأَكَلةُ على قَصعَتِها، قال: قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، أمِن قِلَّةٍ بنا يَومَئذٍ؟ قال: أنتم يَومَئذٍ كَثيرٌ، ولكنْ تَكونونَ غُثاءً كغُثاءِ السَّيلِ، تُنتزَعُ المَهابةُ مِن قُلوبِ عَدوِّكم، ويُجعَلُ في قُلوبِكم الوَهْنُ، قال: قُلْنا: وما الوَهْنُ؟ قال: حُبُّ الحَياةِ وكَراهيةُ المَوتِ. ))
[ تخريج المسند لشعيب : حكم المحدث :إسناده حسن ]
مليار ومئتا مليون ـ
ملخص لما ورد في درس اليوم:
من أجل أن تنطبِق علينا آيات النَصر والتأييد على هؤلاء الذين يَتَحدَّوْنَ أمم الأرض، شُذّاذ الآفاق، ينبغي أن نُعِدّ الإيمان، وينبغي أن نُعِدّ لهم القوة المتاحة التي بين أيدينا، والقتال يحتاج إلى رجال وإلى أموال: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي إن لم تنفقوا، إن لم تُحصِّنوا بلادكم، هناك الآن تحصينات كثيرة يجب أن تُحَصّنها بها باستثمار الثروات الطبيعية، يجب أن تُحَصّنها بالصناعة الوطنية، يجب أن تُحَصّنها بالوحدة الوطنية أيضاً، يجب أن تُحَصّنها أيضاً بالعلم نتفوق به، هذا كله ينبغي أن يكون مُلاحظاً.
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ إن بَخِلَ الناس في الإنفاق، وإن تقاعسوا عن نُصرة دين الله عز وجل، أي تجاوز الكفار الحدود، ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
إخواننا الكرام؛ وردت هذه الآيات المُتَعَلِّقة بالقتال على التدريج التالي أولاً: أُمِر المؤمنون حينما كانوا في مكة المكرمة بالكف عن القتال لحكمٍ كثيرةٍ جداً ذكرتها لكم من قبل، ثم نُوِّهَ بأنهم ظُلِموا لأنهم قوتلوا وأخرجوا ونُكِّلَ بهم، وهذه إشارة إلى أن من حقهم أن يأخذوا ما فقدوه من عدوهم، ثم جاءت الآيات تأمرهم بعد أن صار لهم كيان في المدينة، وقيادة حكيمة يجب أن يأخذوا بأسباب القوة، وأن يقفوا أمام أعدائهم وجهاً لوجه، وهذا الذي حصل في التاريخ.
ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يُعِيد لهؤلاء المسلمين مجدهم التَليد، وأن يجعلهم يحملون هذه الرسالة التي أُنيطت بهم، وأن ينشروها في الآفاق عن طريق تعميق إيمانهم، وإعداد القوة المتاحة لعدوهم، ثم تأتي آيات الحج فهذه إن شاء الله في دروسٍ أخرى.
الملف مدقق