الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
لحكمةٍ ولكرمٍ كثير جعل الله للإنسان ظاهراً وباطناً:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الرابعة بعد المئَتين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)﴾
هناك حقيقةٌ أيها الإخوة؛ هي أن الله لحكمةٍ بالغة ولكرمٍ كثير جعل للإنسان ظاهراً وباطناً، فباطنه محجوبٌ عن الناس، الناس لهم الظاهر، ولولا ذلك لو تكاشفتم لما تدافنتم، لك ظاهر، والناس لهم الظاهر، ولك باطن، لو أن كل واحدٍ منا كشف باطن أخيه، وكان في باطن أخيه غِلّ أو حقد أو حسد تدابر الناس، ولكن جلَّت حِكمة الله إذ جعل الباطن محجوباً.
النقطة الدقيقة أنه بإمكان الإنسان أن يتكلم كلاماً طيباً، ويعمل عملاً طيباً، وينتزع إعجاب الناس، وهو ألدّ الخصام، وهو عدوّ لدود، فربنا عز وجل إذا كان باطن الإنسان سيّئ، وأصرّ عليه، واستمر، يتولى الله في عليائه فَضْحَهُ.
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)﴾
من رحمة الله أنه حجب باطننا عن الخَلق:
الحقيقة أن للإنسان باطناً لا يعرفه إلا هو، ويعرفه ربُّه، وله ظاهر يعرفه به الناس، ورد في بعض الأقوال: أن الإنسان قد يستطيع أن يُضَلل بعض الناس كل الوقت، أو أن يُضَلل كلَّ الناس لبعض الوقت، أما أن يُضَلل كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل، وهذا يأباه الله عز وجل.
الباطن مخفي رحمة من الله، حينما أُثْنِيَ على سيدنا الصديق قال: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم حقق فيَّ ما يقولون، واجعلني خيراً مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون" .
كلام دقيق: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يقولون، بل وحقق فيّ ما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون" ، فالله عز وجل ستر الإنسان، الله اسمه الستار، أي داخلك محجوب عن الناس، قد يزور الإنسان شخصاً وفي باطنه حقدٌ، أو حسدٌ، أو غِلّ، محجوب، لو أن الإنسان بعد حينٍ تاب إلى الله، وشُفِي صدره من هذا المرض، الطرف الثاني ما رأى شيئاً.
الله أعطانا فرصة، إذا كان هناك في الباطن شيء سيّئ يمكن أن تصحح، إذا كان في الباطن غل، أو حسد، أو تقصير، أو عُجب، فأنت مدعو إلى إصلاح الباطن، ففي فترة إصلاح الباطن أنت في بحبوحة، لأن الإنسان لا يغفر، لو بلغك عن شخص أنه قال في حقك كلمة سوء لا تنساها له حتى المَوْت، لو أن الناس تكاشفوا لتدابروا ولتخاصموا ولما تدافنوا أساساً، لكن رحمة الله أنه حجب باطنك عن الخَلق، وأبقى باطنك بينك وبينه، فأنت بالإمكان أن تستغفر، وبالإمكان أن تُقْلع، وبالإمكان أن تتوب، وبالإمكان أن تُصحح، أما هنا نموذج، قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ أي بعض الناس ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .
قد يكون الإنسان ذكياً، والذكي يُمثِّل، والتمثيل يحتاج إلى قدرات عالية جداً، فالذكي يُمثِّل، فقد يقول كلاماً يُرضيك، يعرف اتجاهَك، هناك أناس عندهم قدرة عجيبة على التلوّن؛ إذا جلس مع أهل الدنيا هو في قمة أهل الدنيا، إذا جلس مع أهل الدين يتلبّس، لا إله إلا الله، الله يغفر لنا، له كلمات رائعة مع أهل الدين، فيها توكُّل، وفيها إنابة، وفيها شوق إلى الله، وهو يحفظ عدّة أبيات من الشّعر، وإذا جلس مع أهل دينٍ آخر قرَّب ديننا من دينهم، فأصبح ديننا مثل دينهم تماماً، أينما جلس يتلوَّن، هذه قدرة عالية بالإنسان، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قوله يُعجبك، يُرضيك، يعرف الوَتَرَ الحساس، يعزف عليه، يتلاعب بعواطفك، ذكي، لكن المشكلة أن هذا لا يُمَرَّر على الله، وعلاقتك مع الله، هناك نقطة دقيقة: باطنك محجوب عن الخَلق رحمةً من الله، والله كاشف الباطن رحمةً من الله، إذا المؤمن يعلم أن الله يعلم انضبط، انضبط لصالحك، فحينما توقن أن الله يعلم، أيّ إنسان يوقن أن الله يعلم سينضبط، صار الحساب داخلياً، المؤمن الصادق لا يجرؤ أن يحمل حقداً للأحد ولا غِلاً لأحد، ولا أن يُنافق.
فرحمة الله رحمتان، رحمة أنه مُطَّلعٌ على بواطننا، وهذا أكبر شيء يردعنا، رحمة الله رحمتان، الرحمة الأولى أنه مُطَّلعٌ على بواطننا، وهذا الاطلاع على بواطننا أكبر رادع لنا، أيْ يا عبدي لا تخفى عليّ خافية، تكلَّمْ ما شئت أنا أعرف الحقيقة، أعرف ماذا تنطوي عليه، هناك أمثلة كثيرة جداً، الطبيب حينما يفحص امرأةً، وحينما يختلس النظر إلى مكانٍ لا تشكو منه، ليس في الأرض كلها إنسان بإمكانه أن يكشف الحقيقة إلا الله.
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
علم الله عز وجل كامل يعلم ظاهرك ويعلم باطنك:
لو أن صديقة الزوجة جاءت زائرةً، والوقت شتاءً، وقلت لزوجتك: تعالين إلى هنا، الغرفة هنا دافئة، أنت ماذا أعلنت؟ أعلنت حرصك أن يكونوا في غرفة دافئة، ماذا تُبطن؟ الله وحده يعلم ماذا تبطن بهذه الكلمة؟ هذا مثل طبعاً، فلو أردت أن ترى شكل صديقة زوجتك، ودعوتهما إلى غرفة الجلوس حيث المدفأة مشتعلة، مَنْ يعرف النيَّة؟ الله، باطنك مكشوفٌ عند الله، وهذه من رحمة الله بنا، من أجل أن ننضبط، لذلك يعلَم السر ما أخفيته على الناس، ويعلم ما خَفِي عنك أنت، أيْ علم الله عز وجل عَلِم ظاهرك، سميعٌ بصير، ويعلم باطنك، ويعلم ما خفي عنك، وهذا معنى قول الإمام علي: "علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون" ، فأن يعلم الله باطنك فهذه من نعمة الله الكبرى، وأن يحجب عن الناس باطنك، هذه من نعمة الله الكبرى، فالناس يتراحمون بالظاهر.
إنسان مقيم في بلد أجنبي ذهب إلى مركز إسلامي مع فتاةٍ أعجبته في هذا البلد، وعقد عليها عقداً شرعياً فيه إيجابٌ، وقبولٌ، ومهرٌ، وشاهدان، وليس في الأرض كلها من يكشف حقيقة نيته من هذا الزواج، هو ينوي أن تبقى معه طوال مُدَّة دراسته فإذا أنهى دراسته طلَّقها، وعند الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى: كل زواجٍ ليس فيه نية التأبيد فهو زنا، أنت عقدت عقداً بمركز إسلامي فيه إيجاب، وفيه قبول، وفيه شاهدان، وفيه مهر، وهذا عقد شرعي مئة في المئة، أما أنك تنوي أن تطلّقها بعد انقضاء مُدَّة الدراسة فهذا لا يعلمه إلا الله.
فالله عز وجل حجب باطنك عن الخلق، أبقى لهم الظاهر، وأنا أحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، إخلاصك لا يعرفه إلا الله، نواياك الطيبة لا يعرفها إلا الله، هناك أمثلة دقيقة جداً: يوجد عندك ألف دنم أرض بمنطقة غير منظَّمة، جئت وتبرَّعت بألف متر من هذه الأرض لبناء مسجد، وفي نيَّتك أنك حينما تتبرع بهذه المساحة تُنَظَّم الأرض، فإذا نُظّمت ارتفع سعرها أربعة أضعاف، يقال لك: ما شاء الله، جزاه الله خيراً؛ عمَّر جامعاً، أنت لك الظاهر، وقد ينوي هو فقط أن يرفع ثمن أرضه، ولا علاقة له بالدين إطلاقاً، مَنْ يكشف هذه الحقيقة؟ ربنا عز وجل:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
باطننا مستور وظاهرنا مكشوف عند الخلق أما عند الله فمكشوفون ظاهراً وباطناً:
أنت حينما تعلم أن الله يعلم كل شيء هذا أكبر دافع للإخلاص، وأكبر دافع لتطهير الباطن، وأكبر دافع لسلامة النيَّة، فالله عز وجل رحِمنا حين أعلمنا أنه يعلم، ورحِمنا حين حجب باطنَنا عن الخلق ستراً لنا، فباطننا مستور، وظاهرنا مكشوف، أما عند الله فمكشوفون ظاهراً وباطناً، ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ بَعْضُ الناس، ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أما يُعجبك قوله في الحياة الدنيا فقط، أما لو قال في الآخرة كلاماً طيباً هو في الحقيقة إنسان طيب، لأن الله عز وجل قال:
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)﴾
في الدنيا تكلَّم ما شئت، أما في الآخرة لن توفَّق في كلامك إلا إذا كنت مخلصاً، لأن الله لو سمح لك أن تُقْنِع الناس بالآخرة وأنت لست كذلك فهذا غش لهم، في الآخرة لن يُسمح لك أن تقول قولاً يُعجبهم، أما في الدنيا فلك أن تقول قولاً يعجبهم، وهذا مقيَّد.
من أرضى الناس جميعاً فهو منافق:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ وهذا منتهى الفجور، كان عند أحدهم مخالفة، لزمه شاهد فذهب إلى شاهد زور، طلب منه خمسة آلاف، قال له: إني شاهد زور، لم أكن موجوداً، دخل الشاهد إلى المحكمة رأى أن هناك قرآناً، قال: أريد عشرة لأنه يوجد يمين، أي هناك شخص مستعد أن يفعل كل شيء.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ هذا النموذج شائع جداً، يواجهك، يُثْني عليك ثناءً، يمدَحك مديحاً، أنت تخجل، تدير ظهرك يتكلم العكس، ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً، كن بطلاً، كن موحَّداً، كن واضحاً، قال له: يا أمير المؤمنين أتحبني؟ قال له: والله لا أحبك، قال له: هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال له: لا والله، قال له: إذاً إنما يأسف على الحُبّ النساء.
كن صريحاً، أي هذا الشيء يُؤلم كثيراً، تلتقي مع إنسان يثني ثناءً عطراً على كل شيء تصدقه أنت، تعدّه من طرفك، فإذا به في غيبتك يطعن في كل شيء، هذا النموذج ممقوت عند الله عز وجل، كن واضحاً، كلمة الحق لا تُقرِّب أجلاً ولا تقطع رزقاً، الذي تمدحه امدحه صادقاً، والذي لا تحبه لا تمدحه، اسكت عن مدحه، وإلا فأنت منافق، ومن أرضى الناس جميعاً فهو منافق.
اليمين الكاذبة منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ الباعة أكثرهم: بذمتي، بديني، بأولادي، بصحتي، بالكعبة، بعتك إياه دون رأس ماله، وهو رابح مئة بالمئة، هذا حلف كاذب:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اليمينُ الكاذبةُ مُنفِّقَةٌ للسلعةِ مُمحِقةٌ للبركةِ. ))
قد يخجل الزبون فيشتري، لكن ممحقةٌ للبركة، لا يوجد بركة، تأتي مخالفة يقول لك: كلفتني المخالفة ثلاثمئة ألف، الذي أنت جمعته فرادى دفعته دفعةً واحدة.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)﴾
واجهك، مدحك، وأشهد الله على ما في قلبه، وهذا الشيء واضح جداً، إن جلس مع أهل الإيمان تجده شيخاً، شيخ ونصف، ويعلمهم، وإن جلس مع أهل الكفر يقول لك: هذا الدين أفيون الشعوب، الدين حالة ضعف بشري، تكلم كلاماً آخر، يتلوَّن، مع كل فئة له موقف.
﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ عنك، ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ هنا ﴿تَوَلَّى﴾ لها معنيان هنا:
1 ـ تولى عنك أي ترك المجلس:
تولى عنك أي ترك المجلس، تولّى؛ عمله سيِّئ، هو أشهد الله على ما في قلبه أنه مؤمن، وصادق، ومحسن، ومستقيم، فإذا تركك وانصرف إلى جماعةٍ آخرين أفسد الأرض ومن عليها، هذا معنى.
2 ـ تولّى أي انصرف أو استلم عملاً فجعل الفساد همَّه:
المعنى الثاني: إذا تولّى شيئاً، تولّى مهمةً، استلم عملاً، يريد الاختلاط، يريد الفسق، يريد الفجور، يريد المال الحرام، أنت كنت تدّعي أنّك شيخ الإسلام، ما الذي حدث؟ ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ الفساد أيها الإخوة لا يمكن أن يكون إلا بتدَخُّل بشري أبداً، لأن كمال الله عز وجل مُطْلَق، وكل شيء خلقه الله عز وجل كامل إطلاقاً، فنحن نفسد، خلق الله الطفل الصغير مثل المَلَاك، لو ابن مجوسي، لو ابن أفسق إنسان مَلَك، فالأسرة تُفسد الابن أو تُصلحه:
(( عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه كمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيها جَدْعَاء.. ))
إذاً هذا الإنسان الذي يُقسم لك أنه مخلص، ومحبّ لله، ومستقيم، وطاهر، ويحب الله ورسوله، وهو ألدّ الخصام، ما الذي يكشفه؟ إذا انتقل إلى حقل آخر، إلى مكان آخر، إلى جماعة آخرين، هذا ورد في سورة البقرة أيضاً:
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)﴾
إنّه ملوَّن، فتولّى أي انصرف أو استلم عملاً فجعل الفساد همَّه، ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ فالفساد تدخُّل بشري، الفساد كائن مُخيَّر ومعه شهوة، وترك المنهج، لو أمسك بالمنهج ما صار فساداً، الآن علاقة إنسان بامرأة وفق المنهج زواجٌ فقط، بلا منهج زنى ودعارة، وأعمال لا ترضي الله عز وجل، علاقته بالمال بالمنهج كسب مشروع لا يوجد مشكلة، بلا منهج سرقة، واحتيال، وخداع، وربا، وما شاكل ذلك.
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ الحرث له معنيان:
1 ـ النبات بالمعنى النباتي الأرضي:
المعنى الأول: النبات، أيْ:
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)﴾
حتى بالنبات هناك فساد، الله عز وجل صمم الخلق أكمل تصميم، فجاء الإنسان وأفسد، النبات وضع له هرمون نمو، هذا يعطيه حجماً كبيراً، وألواناً زاهية، لكنه مسرطن، فاستخدم هرمونات للنمو، مثلاً هناك كثير من الأشياء تزيد من ملوحة التربة، كل المبيدات الكيماوية مؤذية جداً، صمم ربنا مبيدات حيوية، فنحن استخدمنا المبيدات الكيماوية فصار هناك فساد، الأدوية الراقية أدوية نباتية، نحن استخدمنا أدوية كيماوية لأجسامنا، صار هناك مضاعفات، أمراض كثيرة جداً من أدوية نستعملها بشكل كثير، الشراب الطبيعي استبدلناه بشراب كيماوي، أكثر أنماط السلوك أنماط مُبْتَدَعَة، ليست في أصل التصميم، فنشأت أمراض وبيلة، نشأ ارتفاع نِسَب السرطان، فهذا من باب إهلاك الحرث، إفساد الحرث.
2 ـ المرأة بالمعنى الإنساني:
والمعنى الثاني:
﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)﴾
فالإنبات يأتي عن طريق الأرض، وعن طريق المرأة، فالأرض فسدت، والمرأة أُفْسِدَت، فصار هناك إفساد للحرث بالمعنى النباتي الأرضي، وبالمعنى الإنساني التي هي المرأة، والمرأة إذا فسدت شيء مخيف، هناك قصص عن فساد المرأة؛ ممكن أن تُقيم مشكلات لا تنتهي إذا فسدت، فشيئان إذا فسدا فسد المجتمع، المرأة أحد هذين الشيئين، وقد يحارب المسلمون بالمرأة، أي أكبر حرب تُشَن على المسلمين إفساد أخلاقهم عن طريق ما تأتي به الفضائيّات، هذا إفساد، المرأة فسدت، الزواج فسد.
الإنسان حينما تولّى أفسد الأرض:
إذاً: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ حتى النسل، أيْ الأولاد، الابن كل شيء يدعوه إلى الشهوة، وكل شيء يدعوه إلى معرفة الله مُغَيَّب عنه، بعيد عنه، فالجيل فسد، طبعاً الفساد عندنا أقل بكثير جداً من بلاد أخرى، فالفساد عَمَّ العالم، فالإنسان حينما تولى أفسد الأرض، أفسد نباتها، وأفسد المرأة، وأفسد الولد، ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ الله صمم المرأة زوجة، صممها أختاً، بنتاً، أماً، ولكنه لم يصممها مومساً، لم يصممها مخلوقاً يبيع جسده بالمال، لم يصممها كذلك، لم يصممها مُتْعةً في الطرقات، لم يصممها سلعةً رخيصةً، صممها كائناً راقياً، صممها أماً قدِّيسة، صممها زوجةً وفية، صممها أختاً رحيمةً، صممها أماً رؤوماً، فالإنسان أفسد، جعل المرأة متعةً في أي مكان، ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ والجيل حينما يفسُد، حينما تفسد أخلاقه، ونحن والحمد لله الدعاية للتدخين ممنوعة في بلدنا، هذه نعمة كبيرة، أما حينما يُلقى في روع الشاب أنك أنت تكون عظيماً إذا دخَّنت، تكون بطلاً إذا دخنت!! كان في بعض أجهزة الإعلام رجل محترف الدعاية للدخان مات بسرطان الرئة، وهو على فراش الموت قال: كنت أكذب عليكم، الدخان قتلني، أنت حينما تُغري الشاب أن يدخن، وأن يُتلف صحَّته، وأن يُتلف ماله، أنت ماذا تفعل؟ حينما تفتح نادياً ليلياً أو ملهى ماذا تفعل أنت؟ حينما تعرِض الجنس في هذه النوادي الليلية ماذا تفعل؟ تُفسد الشباب.
كل شيء خلقه الله سمح لك به:
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ الله يحب الطُهْر، يحب العفاف، ولم يحرمك شيئاً، كل شيء خلقه الله سمح لك فيه في قناةٍ نظيفة، في علاقةٍ شريفة، في علاقة واضحة، فالفساد يرفضه الله عز وجل، عندك شهوة، هذه الشهوة لها قناة نظيفة، تحرَّك من خلالها.
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
المعنى المخالف من يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه، لا يوجد حرمان في الإسلام إخواننا الكرام ولكن يوجد تنظيم، يوجد طهر، المؤمن كيسٌ فطنٌ حذر، مؤمن جاهل لا يوجد، مؤمن أحمق لا يوجد، يفتِّح الله له بصيرته، يعطيه إدراكاً عميقاً، قال: المؤمن كشف المنافق، الذي يتخذ شخصية ازدواجية كشفه، والدليل قال له:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)﴾
معنى ذلك أنه انكشف، المؤمن يكشف، قال أحدهم لسيدنا علي: لمَ انصاع الناس لأبي بكر وعمر ولمْ ينصاعوا لك؟ يريد أن يستهزئ به، قال له: "لأن أصحابهم أمثالي، وأصحابي أمثالك" ، مدح أحدهم سيدنا عمر، قال له: "أنا دون ما تقول، وأعلى مما في نفسك" ، قصدي أن المؤمن لا يمرر عليه شيء، وهبه الله الكياسة، والدليل كشفه قال له: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ﴾ هذا الإنسان المنافق؛ ذو الوجهين، المتلوِّن، الذي يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ .
الإنسان إما أن يعتزّ بالله وإما أن يعتز بالإثم:
قال: هذا الإنسان ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ ينتصر لباطله، ينتصر لمعاصيه، ينتصر لانحرافه، ينتصر لما يفعله من موبقات، يفلسفها فلسفة، ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ الإنسان إما أن يعتزّ بالله وإما أن يعتز بالإثم، كل يعتز بما يعتقد، قال الشاعر:
اجـعل لربك كل عـزك يستقرُّ ويثبتُ فإذا اعتززت بمن يموتُ فإن عزك ميِّتُ
يمكن أن تعتز بقوي، لكن القوي سيفنى وسيهلك، ممكن أن تعتز بالمال، ممكن أن تعتز بالنسَب، ممكن أن تعتز بالوسامة، ممكن أن تعتز بشهادة عُليا تحملها، ينبغي أن تعتز بالله، صار عندنا عز بالله، وعز بغير الله، قد تعتز أنَّك أنت حققت دخلاً فلكياً من عمل فيه معصية كبيرة، قد ربحت من حِرْفَةٍ لا ترضي الله، قد ربحت ملايين مُمَلْيَنَة من عملٍ فيه شقاء للناس، أنت اعتززت بهذا الدخل، اعتززت بهذا القوي، هذه عزةٌ ليست لله، أما سبحانك إنه لا يذلّ من واليت، ولا يعز من عاديت.
قد تعتز إلى حين، للباطل جولة ثم يضمحل، العبرة بالنهاية، العبرة بالخاتمة، العبرة بمن يضحك أخيراً، فهذا أخذته العزة بالإثم وينبغي أن تعتز بالله، أن تعتز أنك عبدٌ لله، أن تعتز أنك مستقيمٌ على أمر الله ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أيْ تكفيه جهنَّم، ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ .
ملخص سريع لما ورد في الدرس:
أيها الإخوة؛ مرةً ثانية بشكل مختصر: لحكمةٍ بالغةٍ بالغة، ولفضلٍ عميم، ورحمةٍ عظيمة أنّ الله حجب الباطل عن الخلق، أنت مستور، مهما فكَّرت، مهما أتتك خواطر لا تُرضي الله، الناس لا يعرفونها، نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ومن رحمة الله بنا أنه أعلمنا أنه يعرف بواطننا، معرفة باطننا رحمةٌ بنا، هذا أكبر ردع لنا، ردع وباعث إلى الطاعة، وتطهير الباطن، فأنه يعلم رحمة، وأنه أخفى عن الخلق الباطن رحمة أيضاً، رحمتان، إلا أنّه عندما يبطن الإنسان الشر ويتمادى يتولّى الله كشفه، وعندما يرقى المؤمن عند الله يعطيه بصيرة:
(( عن أبي سعيد الخدري وأبي أمامة وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا فَرَاسةَ المؤمنِ، فإنه ينظرُ بنورِ اللهِ. ))
صار عندنا باطن محجوب، وظاهر مُعْلَن، فرحمة الله بنا أن هذا الباطن محجوب، ورحمة الله بنا أنه يعلم باطننا، والله بعد حين يفضح، والمؤمن المُوفَّق يكشِف، عندناً رادعان، الله يعلم وسيفضح، والمؤمن بفطنته وفِراسته يكشف، إذاً رحمةٌ من كل الأنواع تقريباً، والفساد محصور بالإنسان، لأنه مخيَّر أودعت فيه الشهوات، ولم يتبع منهج الله حين يتحرَّك، والعزة ينبغي أن تعتز بالله لا أن تعتز بسواه، من اعتز بغير الله ذَل، من اعتز بماله ضَل، من اعتز بالقوي اضمحل، ينبغي أن تعتز بالله.
اجـعل لربك كل عـزك يستقرُّ ويثبتُ فإذا اعتززت بمن يموتُ فإن عزك ميِّتُ
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾
الملف مدقق