الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ثمار طاعة الله نقطفها في الدنيا والآخرة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية العشرين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)﴾
أيها الإخوة؛ حينما قال الله عز وجل:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾
هذه الآيات يبينها لكم في الدنيا والآخرة، أي ثمار طاعته تقطفونها في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
حياتهم، صحَّتهم، زواجهم، عملهم، كَسْبُهم، أولادهم، سمعتهم، مكانَتهم، راحة بالهم، تألّقهم، طمأنينتهم، سلامتهم في الدنيا والآخرة، أي ثمار الإيمان تُقطف في الدنيا قبل الآخرة.
كل مؤمنٍ في جنة هي جنة القُرْب:
يتوهَّم الناس أن ثمار الإيمان تُقْطَفُ في الآخرة فقط، لا، نحن في جنَّة وكل مؤمنٍ في جنة؛ إنها جنة القُرْب قال تعالى:
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾
في الدنيا ذاقوا طعمها، ذاقوا نموذجاً منها، إنها جنَّة القرب، وفي الدنيا جنةٌ مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، أي هذه الطمأنينة التي يحياها المؤمن، هذا الأمن الذي يعيشه المؤمن:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾
من لوازم الكفر الفسق ومن لوازم الإيمان الطاعة:
المؤمن مرتبط بالله عز وجل، والله بيده كل شيء، الشعور الذي يُخالط المؤمن من أنه مع الله، وأن الله معه، هذا شعور لا يُقدَّر بثمن، أن تشعر أن الله معك، وأنك مع الله، وأنّ الله يحفظك، وأن الله يصونك، وأن الله يُدافع عنك، وأن الله يُوفِّقك، وأن أمرك بيد الله لا بيد سواه، هذا الشعور وحده لا يُقدَّر بثمن في الدنيا والآخرة، آيات الله ظاهرةٌ في الدنيا قبل الآخرة، هذه كلمة ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أول آية، ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي ثمار الإيمان، ثمار طاعة الله، ثمار معرفة الله تقطفونها في الدنيا والآخرة، والدليل: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم﴾ محياك أي حياتك، قوامك، حواسك الخمس، أعضاؤك، صحتك، سمعتك، بيتك، أولادك، دخلك، إنفاقك، أنت مع قِيَم ثابتة، وهذه القيم الثابتة يدعمها الله عز وجل، أنت مع الله، وإذا كنت مع الله مَن الذي يجرؤ أن يكون ضدك؟ إذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان عليك فمَن معك؟ يقول الله عز وجل:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
يقابل كلمة المؤمن الكافر، لمَ لمْ يقل الله عز وجل: أفمن كان مؤمناً كمن كان كافراً؟ قال: لا، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾ أي من لوازم الكفر الفسق، ومن لوازم الإيمان الطاعة، فهل يُوازى مستقيمٌ مع منحرف؟ صادقٌ مع كاذب؟ مخلصٌ مع خائن؟ نظيفٌ مع قذر؟ منصفٌ مع جاحد؟ محسنٌ مع مسيء؟! ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً﴾ .
الفرق بين السعادة واللذة:
سمعة المؤمن في الدنيا متألِّقة، المؤمن مَلِك، معنى مَلِك أن أحداً لن يستطيع أن يتحدَّث عن سمعته ولا بكلمة واحدة، مَتَّعَهُ الله بعزِّ الطاعة، متَّعه الله بطيب الذِكْر، أينما تحرّك يثني عليه الناس: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾ .
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
لِمَ لم يقل: أفنجعل المسلمين كالكافرين؟ كالمجرمين، معنى ذلك أن من لوازم الكفر أن يكون مجرماً، من لوازم الإيمان أن يكون مُصلحاً، وشتانَ بين المصلح والمُفسد، والمؤمن والكافر، هذه بعض الموازنات، المؤمن يبحث عن سعادةٍ تنبُع من داخله، بينما الكافر يبحث عن لذةٍ تأتيه من خارجه، المؤمن يملك أسباب السعادة، تنبُع من داخله، بينما الكافر لا يملك ذلك، اللذة تحتاج إلى أموال، وإلى نساء، وإلى بيوت، وإلى مَرْكَبات، فاللذة تنبع من الخارج، بينما السعادة تنبع من الداخل، السعادة تملك كل أسبابها، بينما اللّذة لا تملك كل أسبابها، السعادة مُتعاظمة في تأثيرها، بينما اللذة متناقصة في تأثيرها، السعادة قد تتصل بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، ولكن اللذة تنتهي إلى قبرٍ موحش، ثم إلى جهنَّم وبئس المصير، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً﴾ .
الله تعالى يبين لنا الآيات في الدنيا وفي الآخرة:
يقول الله عز وجل: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ يبين لكم الآيات في الدنيا والآخرة، وهذه الحياة بين يديك، انظر إلى شابٍ مستقيم طائعٍ لله عز وجل، كيف أن الله يحفظه، وكيف أن الله يوفِّقه، وكيف أن الله معه، وكيف أنه مغموسٌ في سعادةٍ لو وزِّعت على أهل بلدٍ لكفتهم، ثم انظر إلى حياة الكفَّار:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
هذا معنى قوله تعالى: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ .
قلب الأم أحد الآيات الدالة على عظمة الله:
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ اليتيم مَن فَقَدَ والده، أو والدته، أو فقد أبويه معاً، وقد يكون غنياً، ولكن ما الذي فقده هذا اليتيم؟ فقد الأب، فقد الرعاية، فقد الحُب، أي في قلب الأب والأم من الرعاية والرحمة والحب لأولادهما ما لا يوجد في إنسانٍ ما كائنٍ مَن كان، ائت بأم، وائت بألف مربيةٍ، ألف مربيةٍ لا ترقى إلى مستوى أمّ ولدت هذا الطفل، والشاهد كثير، قد تتمنى البنت أن تكون مع أمها في كوخٍ ولا أن تكون مع سيدتها في قصر، لأن في قلب الأم من الحُب ومن الرحمة ما لا يوصف، بل إن قلبَ الأم أحد الآيات الدالة على عظمة الله، إن أردت أن تعرف رحمة الله فانظر إلى قلب الأم، هذه الأم تتمنى أن يعيش ابنها على أنقاضها، تتمنى أن ينام وتسهر، أن يشبع وتجوع، أن ينعم بالصحة وتمرض، قلب الأم من آيات الله الدالة على عظمته.
فهذا اليتيم فقد أثمن شيءٍ في حياته، فقد قلب الأم أو قلب الأب، فقد الرعاية، فقد الحب، فقد الحنان، فقد الاهتمام، أتيح لي أن ألتقي بأيتام فلو أغرقناهم بسعادةٍ أو بنعيمٍ لا يوصف، لو أطعمناهم أطيب الطعام، لو أسكناهم في أجمل البيوت، لو فرزنا لهم أعظم المدرسين، كل هذا لا يُعوِّضهم عن آبائهم مهما فعلوا، لا شيء يُعوِّض عن الأب والأم، فاليتيم فقد أمه وأباه، أو فقد أحدهما، فهذا اليتيم لئلا يحقد على المجتمع، لئلا يرى طفلاً في سنّه له أبٌ يُكرمه، له أمّ تحنو عليه، لئلا يحقد على المجتمع أُمِرنا برعاية الأيتام، وتكريماً لأيتام المسلمين كان النبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الأيتام، نشأ يتيماً لا يعرف أمه ولا أباه.
قضية اليتيم قضيةٌ خطيرة جداً:
لذلك أيها الإخوة؛ قضية اليتيم قضيةٌ خطيرة جداً، إما أن نرعاه أشدّ الرعاية، وإما أن يكون خارجاً على أنظمة المجتمع وقيَمِهِ، لأنه عندئذٍ يحقد، لا شيء يعدِل الأب، ولا شيء يُعدِل الأم مهما فعلنا، نحن نُخَفف، فلذلك ربنا عز وجل أفرز اليتامى بآيةٍ دقيقةٍ جداً: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ﴾ والمُطْلَق في القرآن على إطلاقه ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ﴾ إصلاحٌ لهم في حاجاتهم، أمِّنوا لليتيم حاجاته، أمِّن له طعامه وشرابه، آمّن له مسكنه ومأواه، آمّن له وسائل صحته، آمّن له وسائل تعليمه، آمّن له مالاً يعيش من رَيْعِه، ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ أي علاقتك مع اليتيم ليست علاقة تجارةٍ، وليست علاقة ابتزاز، وليست علاقة أخذٍ، وليست علاقة نفعٍ، علاقتك مع اليتيم علاقة إصلاحٍ له فقط، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ اضربه إذا كنت في مثل هذا الذنب تضرب ولدك، يجب أن تربيه، يجب أن تُقوِّم اعوجاجه، يجب أن تُصلح أخلاقه، يجب أن تهتم بصحته، يجب أن تهتم بطعامه وشرابه، يجب أن تهتم بأخلاقه، يجب أن تهتم بجسمه، بإيمانه، بمستقبله، بدخله، ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ﴾ القرآن الكريم إعجازه في إطلاقه، ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ علاقتك مع اليتيم أن تُصلِحه.
لكن أيها الإخوة، لو أن الله منعنا أن نُخالطهم لكان في هذا عنتٌ كبير، قال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ﴾ أي لك أن تخلط ماله بمالك، لكن الخلط شيء والمزجَ شيءٌ آخر، ولأضرب على ذلك بمثل: يمكن أن تخلط الحمّص مع العَدَس، وفي أي وقتٍ تشاء تفصلهما عن بعضهما، أما إذا خلطت الماء المُحَلَّى بالسكر مع الماء الذي يشوبه الحَمْض فمستحيل أن تُفرِّق بينهما بعد حين، فالعلماء فرقوا بين الخلط وبين المزج، المزج للسوائل والخلط للأجسام الصلبة.
﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ يمكن أن تستثمر مال اليتيم عندك، ولكن أدخلت ماله في تجارتك، جعلته شريكاً في الجرد، معه مئة ألف أدخلتها في رأس المال، لكن العلماء قالوا: لك أن تخلِط ماله بمالك، ولكن يجب أن تُعامله بالإحسان، إن كنت غنياً ينبغي أن تستعف، أي إن أردت أن تستثمر له مئة ألفٍ يجب أن تعطيه ربحها كاملاً إن كنت غنياً، إن كنت غنياً ينبغي أن تستعف عن أكل ماله، وإن كنت فقيراً فينبغي أن تأكل بالمعروف، ما هو المعروف؟ قال: المعروف أجر المثل أو حاجتك أيهما أقل، أي هذه المئة ألف ريعها مثلاً عشرون ألفاً، إن تفرَّغت لها مثلاً، أنت بحاجة إلى أربعين ألفاً، ريعها عشرون، نصيبك من ريعها عشرون، ينبغي أن تكتفي بالعشرين، أجر المثل أو حاجتك أيهما أقل، ريع هذا المليون مئة ألف، أنت حاجتك خمسون ألفاً ينبغي أن تكتفي بالخمسين، لو أنك استثمرت لليتيم مالاً، ربح هذا المال أو نصيبك من الربح إذا كان يساوي أجر المثل، وهو أقل من حاجتك، ينبغي أن تكتفي بأجر المثل ولو كان أقل من حاجتك، وإن كانت حاجتك أقل من أجر المثل ينبغي أن تكتفي بحاجتك دون أن تأخذ أجر المثل، هذا معنى ذلك، ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ﴾ هذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(6)﴾
أي هناك ضوابط.
الله مطّلع على قلبك وعملك فيعلم ما إذا كنت مصلحاً لمال اليتيم أو مفسداً له:
لو أن له مالاً وأردت أن تستثمره له بصفقةٍ من بضاعةٍ أنت تُديرها، هل لك أن تشتري له من نفسك؟ العلماء قالوا: يجوز، ولكن بأفضل سعر في السوق لصالحه، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ العلاقة مع الله سهلة جداً، الله مطّلع، مطّلع إلى قلبك، مطّلع إلى عملك، إلى حركتك في الحياة، فيعلم ما إذا كنت مصلحاً لماله أو مفسداً لماله، هناك مَن يتَّجر بمال اليتيم فيجعل ماله في صفقةٍ ليست واضحةً، يمتحن بماله السوق، يجعل ماله دريئةً لماله، هناك صفقة لها ربحٌ ثابت، هناك صفقة -إن صح التعبير-مضمونة النتائج، وهناك صفقة فيها مغامرة، قد لا تربح، هذا مَن يكشفه؟ لا يكشفه إلا الله، قد يأتي الذي يدير مال يتيم فيجعل ماله في صفقةٍ لا يعلم خيرها من شرها، فإن نجحت أدخل ماله في مثل هذه الصفقات، وإن لم تنجح جعل مال اليتيم تجربةً للسوق، ودريئة لماله، فجعل مال اليتيم دون ماله، هذا شيءٌ لا يعلمه إلا الله.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ يعلم ما إذا كنت قد جعلت من مال اليتيم تجربةً واختباراً للسوق، أو أنك وضعت مال اليتيم في أفضل صفقةٍ مضمونة النتائج.
الأصل في التعامل مع اليتيم:
إذاً الله عز وجل قال: الأصل في التعامل مع اليتيم ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ ولكن لئلا يُرهقنا، لئلا يُحمِّلنا ما لا نطيق، لئلا نكون في عنتٍ ومشقة، قال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ﴾ لك أن تُسْكنه معك، ولك أن تقتطع من ماله جزءاً لمصروف البيت، صار هناك اختلاط، لكن دائماً بالحد الأدنى، ودائماً لصالح اليتيم، أي قد يأكل في الشهر فرضاً بألفي ليرة، تقتطع من ماله ألف ليرة واحدة، أي دائماً الحد الأدنى، الحد الأسلم، الحد الأحوط، لك أن يسكن معك في البيت، وأن يأكل من طعامك، وأن تقتطع من ماله جزءاً للمصروف، وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)﴾
أي ارزقوهم لا من أصل المال من ريع المال.
الإنسان مخيَّر ولكن مع أنه مخير مراقَب مراقبة شديدة جداً:
إذاً: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أنت افعل ما تشاء لكن الله يعلم خبايا الأمر، ماذا تنوي؟ ماذا تريد؟ ماذا تفعل؟ ماذا لم تفعل؟ ولو شاء الله لمنعكم من أن تخلطوا أموالهم بأموالكم، لمنعكم من أن تستثمروا أموال اليتيم: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ معنى ذلك أن الإنسان مخيَّر ولكن مع أنه مخير مراقَب مراقبة شديدة جداً، والآن أفضل شيء بالإدارة أن تثق بمَن حولك، وأن تعطي الصلاحيات، وأن تُراقب مراقبةً شديدة، لو لم تثق بمَن حولك لتعطل الأمر، وأصبحت الإدارة مركزية، والمركزية فيها أخطاء كثيرة جداً، ثق بمَن حولك، وامنحهم صلاحيات، وراقبهم مراقبةً شديدة، هكذا سنة الله في خلقه، أنت موثوق، يا أيها الوصي أنت موثوق اخلط ماله بمالك، واقتطع من ماله جزءاً لمصروفه، واتّجر بماله، ولكن الله يعلم ما إذا كنت تفعل في حركتك لصالحه أو لغير صالحه، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ لحمَّلكم ما لا تطيقون، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
ثم تنتقل الآيات إلى موضوعٍ من أخطر موضوعات الحياة؛ موضوع الزواج.
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾
هذه المرأة التي تخطبها، قد يدعوك إلى خطبتها شكلها وجمالها، ولكن هناك مهمةً خطيرةً جداً جداً، هذه المهمة منوطة بهذه المرأة، هذه المرأة فضلاً عن أنها زوجتك، سوف تغدو مُربِّية أولادك، هي التي ستُربِّيهم، لأنك مشغولٌ في كسب المعاش.
"يا رسول الله إن زوجي تزوجني وأنا شابة، ذات أهل، ومال، وجمال، فلما كبرت سني، ونثر بطني، وتفرَّق أهلي، وذهب مالي، قال: أنت عليّ كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا" أي هو يُنفق عليهم وأنا أربيهم، مهمة المرأة تربية الأولاد، لأن الرجل حقيقة مشغولٌ في كسب المعاش، هذا شيء واقع، يخرج الإنسان من بيته صباحاً يعود مساءً، مَن هذه التي ترعى أولادها؟ وتهتم بسلوكهم، وتُدقق في أخطائهم؟ وتنظر في أخلاقهم؟ إنها أمهم، لذلك الأم لها مهمة خطيرة جداً وهي تربية أولادك.
فلذلك قد تُعْجَب بشكل إنسانة مشركة، ينبغي ألا تؤخذ بجمالها، ينبغي أن تبحث عن أخلاقها، وعن دينها، وعن أصالتها، وعن تربيتها، وعن عفافها، وعن صدقها، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ أي أخطر شيء في الأم أن تكون مُؤمنةً، أن تُلَقِّن أولادها مع حليب ثديها الصدق والأمانة.
حدثني أخ عن امرأةٌ كانت تمشي مع ابنها أعطته سكرةً، بعد ثلاثمئة متر سألته: أين قشر السكرة؟ قال: رميتها في الأرض، رجعت معه ثلاثمئة متر قالت له: خذها وضعها في السلَّة، لماذا؟ هذا السلوك دخل في دمه، الحفاظ على النظافة، لو أن أماً مُرَبية بأعلى مستويات التربية تُعوِّد أبناءها الصدق، والأمانة، والعفة، والاستقامة، والصلاح، والنشاط، والعادات الطيبة.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
من يختار امرأةً صالحةً فهو الرابح الأكبر:
مَن علَّم رجلاً علَّم واحداً، ومَن عَلَّمَ امرأةً علّم أسرة، صدقْ أنك لو بحثت عن أحد أسباب الشباب المنضبط، أو عن أحد أهم الأسباب لوجدت وراءهم أمّاً واعية مثقفة ثقافة إسلامية، وراءهم أم طلبت العلم الشرعي، وعرفت ما لها وما عليها، فأنا أتمنَّى أن ينتبه المؤمنون إلى اختيار زوجاتهم من المؤمنات الصالحات، لأنهن عماد هذا المجتمع، ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ دقق ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ لو أعجبكم شكلها، وقِوامها، ولونها، وصفات جمالها، ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ لأن هذا الجمال يزوي بعد حين، وتبقى عِلاتها في التربية والانحراف، بينما المؤمنة تقطف ثمار إيمانها في أولادك، سوف ترى أن أولادك قد رُبُّوا تربية رائعة بسبب أمهم المؤمنة، ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ كأن الله عز وجل أرادنا أن نضحي أحياناً، أن نبحث عن المؤمنة ولو كان مستوى جمالها أقل من غيرها المتفلِّتة، أما الذي يبحث عن الجمال فقط يدفع الثمن باهظاً، ورد في الأثر: "أنه من تزوج المرأة لجمالها أذلّه الله، ومن تزوجها لمالها أفقره الله، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً، فعليك بذات الدين تربت يداك" ، الذي يختار امرأةً صالحةً هو الرابح الأكبر، والذي يختار امرأةً بارعة في شكلها ضعيفةً في خُلُقها هو الخاسر الأكبر، لا مانع إذا اجتمعا.
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
عدم توجيه الخطاب للمؤمنات لأن أمر المرأة بيد وليها فاختلف الخطاب:
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ أية امرأة مشركة، المشركة غير موحدة، هذه الذي تُحبّ المظاهر، تُحبّ البذخ، تُحبّ أن تمشي في الطريق مُظْهِرَةً كل مفاتنها، هذه أليست مشركة بالمعنى الواسع؟ طبعاً، لأنها أشركت ذاتها مع الله عز وجل، تريد أن تعرض مفاتنها ولا تعبأ بمنهج ربّها، تريد أن تكيد لأخواتها، أن تفتخر عليهن في بيتها، وفي أثاث بيتها، وفي الحليّ التي قُدِّمَت لها، المرأة التي تبحث عن المظاهر، وعن سُمْعَتها في المجتمع، وعن استعلائها على زميلاتها أو على بنات جنسها هي امرأةٌ بالمعنى الواسع مُشركة، بالمعنى الضيِّق قد تكون مسلمة لكنها مقصرة.
﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ طبعاً الآن اختلف الخطاب، لم يُوَجَّه الخطاب للمؤمنات، أيتها المؤمنات لا تقبلن الزواج من المشركين. لا، لأن أمر المرأة بيد وليها، اختلف الخطاب، في أول قسم بالآية تَوَجّه الخطاب للرجال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ أما بالمقابل لم يُوجَّه الخطاب إلى المؤمنات ألا ينكحن المشركين، لا، قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ أي لا تُزوّجوا، ﴿الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا﴾ أي لا تُزوجوا، ﴿الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ .
أكبر مهمة للأب أن يهتم بتزويج بناته من شابٍ مؤمنٍ:
مرة كنت أمشي في أحد أسواق دمشق، استوقفني أخٌ له محلٌ في هذا السوق، فعرض عليّ هذه المشكلة، قال لي: خطب ابنتي شابٌ ثري جداً، له معمل، وبيت في أوجه أحياء دمشق، ومركبة فارهة، كل شيء على أفضل ما يكون، إلا أن في دينه رِقَّة، فماذا أفعل؟ قلت له: ألا تقرأ القرآن الكريم؟ قال: بلى، قلت: إذا قرأت القرآن الكريم وانتهيت من قراءته، ماذا تقول بعد أن تقرأه؟ قال لي: أقول صدق الله العظيم، قلت له: يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ أعجبتك وسامته، وأعجبك ماله وبيته ومركبته، ولكنّ في دينه رِقَّة قد لا يُصلي، قد يشرب، قد يسافر فيقع في الفاحشة، فقال لي: شكراً، يبدو أن ضغطاً داخلياً ضغط عليه فزوّج ابنته من هذا الشاب المتفلِّت، لم يدم الزواج أشهراً حتى طلقها، أنت حينما تختار مؤمناً لابنتك، إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها، المؤمن مقيَّد، الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن، لذلك أكبر مهمة منوطة بالآباء أن يهتم بتزويج بناته من شابٍ مؤمنٍ يحفظ لها دينها، ويحفظ لها أخلاقها، ويضمن لها آخرتها، ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ وكم من أسرٍ مسلمةٍ طَمِعت بمال خاطبٍ فذهب المال وبقيت أخلاقه الشرسة؟! وللعوام أمثلة في هذا المجال كثيرة جداً، قال: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ .
إن بحثت عن مؤمنٍ ضَمِنت لابنتك سعادة الدنيا والآخرة:
تُروى قصة عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وكان من كبار التابعين، عنده فتاة يندر مثيلها؛ علماً، وفقهاً، وجمالاً، خطبها الوليد بن عبد الملك لابنه فامتنع، عنده تلميذٌ في المسجد فقير جداً، توفيت زوجته فتفقَّده فعَلِم أنه قد فقد زوجته، قال له: ألا أزوجك ابنتي؟ قال له: أتمنى، ماذا عندك؟ قال: درهمان، القصة ممتعة وطريفة ونادرة، يبدو أنه زوجه إياها، وصار هناك إيجاب وقبول ومهر على درهمين، في المساء طُرِق باب هذا الفقير، فقال: مَن؟ قال: سعيد، فقال هذا التلميذ: تصورت كلّ مَن أعرفه اسمه سعيد لعله جاءني في هذا الوقت إلا واحداً استبعد أن يكون هو الطارق، إنه سعيد بن المسيب، لأنه كان قاضياً، وكان قد أمضى بين بيته ومجلس قضائه أربعين عاماً ما خرج عن هذا الخط، مِن بيته إلى مجلس القضاء، فلما فتح الباب رأى سعيد بن المُسيِّب، فدفع له ابنته، طبعاً يوجد عقد قد تمّ صباحاً، قال له: كَرِهت أن تنام الليلة وحدك، خذها، هذه التي خطبها الوليد بن عبد الملك لابنه فأبى، فلما سُئِل قال: ضمنت لها الجنة بهذا الزوج.
قد يزوج الإنسان ابنته لشخص غني، فاسق، انزعي الحجاب، اسهري معي، يأتي أصدقاؤه، سهرة مختلطة، قد يشربون، قد يرقصون، معنى ذلك أنه أدخلها إلى النار، أما إن زوجت ابنتك إلى المؤمن في الأعم الأغلب ضمنت لها الجنة، أنا لا أقول لكم هكذا أن زوِّج ابنتك لإنسان مُعْدَم، ما قصدي هذا من هذه القصة، ولكن حينما تبحث عن مؤمن فأنت تبحث عن الموقف الصحيح، إنك إن بحثت عن مؤمنٍ ضَمِنت لابنتك سعادة الدنيا والآخرة، وإن بحثت عن المال ربما شَقِيَت بهذا المال، ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ الأثرياء من المشركين يدعون إلى النار، هناك تفلُّت، نمط حياتهم نمط غير شرعي، هناك اختلاط، وكم من أسرةٍ اختلطت بأسرةٍ أخرى فانتهت إلى الطلاق؟! هناك اختلاط، هناك كسب مال حرام، هناك انحرافات خطيرة جداً، هذه كلها تعود بالشقاء على الزوجين ولو أنهما بقيا مع بعضهما طوال الحياة، لكن قد تنتهي بهما الدنيا إلى النار، ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ أي العبد المؤمن هو عبدٌ آمن بالله، مصيره الجنة، ومَن معه من زوجته وأولاده في الأعم الأغلب مصيرهم إلى الجنة، لأنه حملهم على طاعة الله، فإن أردت لابنتك مصيراً ينتهي بها إلى الجنة فابحث عن المؤمن، إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها.
الآيات التالية تبين أن أخطر حدث بحياة الإنسان زواجه:
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ أجمل شيء في الإيمان إذا كان هناك ماضِ سيِّئ هناك مغفرة، وبعده الجنة، ﴿يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ وإذا كان هناك جاهلية ﴿وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ .
أيها الإخوة؛ تُبيِّن هذه الآيات أن أخطر حدث بحياة الإنسان زواجه، البيت قد يُغَيره، وقد يُغَيّر حرفته، أما زواجه فمن الصعب جداً أن يُغَيره فهو قرار مصيري، فإن كانت هذه الزوجة مؤمنةً سعدت بها وسَعِد أولادك بها، لذلك أول واجبات الأب تجاه أولاده قبل أن يتزوَّج أن يُحْسِن اختيار أمِّهم، أول واجب على الأب تجاه أولاده قبل أن يُنجبهم أن يُحْسِن اختيار أمهم، إن اختارها من بيت علمٍ، ومن بيت أدبٍ، ومن بيتٍ عريق، إن اختارها مؤمنةً، صالحةً، مستقيمة، عفيفة، سَعِد بها في الدنيا وكانت سبب سعادته في الآخرة، وإن اختارها بارعةً دون أن تكون فاضلةً قد يتمتَّع بجمالها إلى حين، ثم يشقى بها وينتهي إلى أسفل سافلين،﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ .
إذا بُنِي الزواج على طاعة الله تولّى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين:
هناك أشخاص أغنياء جداً، سمعت خبراً طريفاً: أن بعض الفنادق الكبرى في دمشق أرادت أن تشجع على أن تُعقَد عقود القران فيها، طبعاً أرباحها من عقود القران عاليةً جداً، العرس يكلف عشرين أو ثلاثين مليوناً، إلى آخره، فاستعرضت عقود القران التي تمّت في هذا الفندق من ستة أشهر، ودَعَت أصحاب هذه العقود إلى حفل تكريمي كي يُشَجعوا غيرهم على عقودٍ في هذا الفندق، فقال لي الرجل صاحب الخبر: الإدارة المالية بحثت عن هؤلاء الذين عقدوا عقدهم في هذا الفندق فكانوا ستة عشر عقداً، دعوهم لحفل تكريمي، ثلاثة عشر عقداً آلت إلى الطلاق قبل ستة أشهر، إحصاء دقيق جداً، ثلاثة عشر عقداً آلت إلى الطلاق قبل مُضِي ستة أشهر، أي إذا بُنِي الزواج على طاعة الله تولّى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين، أما إذا بُنِي على معصية الله فإن الشيطان يتولى التفريق بينهما، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ سمعت عن قصة أن عقداً قد جرى في أحد فنادق دمشق، ونفقاته عالية جداً، المرأة في مكان جلوسها على منصة معينة وزوجها إلى جانبها، جاء المصوِّر ليصورهما، يبدو أنها أشارت إليه أن يكون أقل منها، أن ينخفض قليلاً، فقال لها: طالقٌ طَالقٌ طالق!!! وهي على منصة العرس طلقها، زواج أساسه شيطاني، أساسه فيه عنف، فيه انحراف، فيه تفلُّت، المؤمن له ترتيبٌ آخر، المؤمن له بركة في زواجه.
لي صديقٌ توفيت أمه، وكان أبوه قد جاوز التسعين، وأمه قبل هذا بقليل، فذهبنا لتعزيته، كان الأب يبكي بكاءً مراً، لم تُخْطف صغيرة، عمرها ثمانون سنة، فسألته بعد أن انتهت التعزية: ما هذا البكاء، اصبر يا رجل؟ قال لي: والله اقترنت بها خمسين عاماً، ما نمت ليلة وأنا غاضبٌ عليها، ولا ليلة واحدة، الآن يقول لك: ثلاثون سنة ما أراحتني يوماً، ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ هذه الآيات أيها الإخوة، قضية الزواج قضية خطيرة ومصيرية، فقبل أن تختار زوجة عُد للمليون، ابحث عن دينها، وعن علمها، وعن أدبها، وعن أهلها، وعن تربيتها، وعن خصائصها، لأنها أم أولادك، وسوف تقطف ثماراً يانعةً إن كانت صالحة، وسوف تدفع ثمناً باهظاً إن كانت سيئة.
الملف مدقق