- الفقه الإسلامي
- /
- ٠3موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين.
أنواع الطلاق :
1 ـ الطلاق الرجعي :
أيها الأخوة المؤمنون ، وصلنا في موضوع الطلاق إلى الطلاق السني ، والطلاق البِدْعي .
واليوم نتحدَّث إن شاء الله تعالى عن الطلاق الرجعي ، والطلاق البائن، فالطلاق الرجعي هو الذي يوقعُه الزوج على زوجته التي دخل بها حقيقة .
فعليه أن يكون دخل بالزوجة حقيقة وإلا الطلاق لا يقع ، أي دخل على زوجته دخولاً حقيقيًا ، أو طلّقها على مال ، أو كان الطلاق مكمِّلاً للثلاث كان طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه ، معنى رجعي أي يمكن تداركهُ ، يمكن أن يعود الزوج ، ويرجع إلى زوجته .
الطلاق الرجعي لا يمْنعُ الاستمتاع بالزوجة ، لأنّه لا يرفع عقْد الزواج ، أي طلّقها في طهْرٍ لم يمسَّها فيه ، لها الحقّ أن تتزيَّن وأن تتبرّج وأن تبدو بأجمل زينة ، هذا كلّه من حقّها وله الحقّ أن ينظر إليها ، الطلاق الرجعي لا يمنعُ الاستمتاع بالزوجة ، ولا يُزيل المُلْك ، ملْكُه عليها قائم ولا يؤثِّر في الحلّ ، لا يحلّ عقْد الزواج ، إلا أنَّه لا يترتَّب عليه أثرهُ ما دامت المطلَّقة في العدّة ، ما دامت المطلّقة في الحيضات الثلاث لا يظهر أثرهُ ، لا يظهر أثرهُ إلا بعد انقضاء العِدَّة ، فإذا انْقضَت العِدَّة ، ولم يُراجِعها بانَتْ منه بيْنونةً صغرى ، إذًا الطلاق الرجعي لا يمنعُ الاستمتاع بالزوجة ، وإن مات أحدهما ورثهُ الآخر ، مادامت العِدَّة لمْ تنْقض ، ونفقتها واجبة عليه ، فما دام العدّة قائمة والزواج قائم ؛ كلّ شيء قائم .
والرجعة حقّ للزوج مدّة العِدَّة ، إذا قال لها : راجعتُك ومسَّ يدها ، فقد راجعها ، وقد أنهى هذه الطَّلْقة ، وهو حقّ أثبتَهُ الشارعُ له ، ولهذا لا يملك إسقاطهُ ، فلو قال : لا رجعة لي كان له الحق في الرجوع ، أيْ كلامه لا يقدّم ولا يؤخِّر ، ، ولا يغيّر من الحقوق التي ثبَّتها الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾
وإذا كانت الرجعة حقّاً له ، فلا يشترط رضا الزوجة وعلمها إن بانَت عنه ما دامتْ ضِمْن العِدَّة ، علمها ورضاها لا يشترط ، المقصود هو ، إذا ندم على فعلته ، وقال لها : راجعتكِ أو مسَّ يدها فقد راجعها و انتَهت الطَّلْقة .
ولا تحتاج إلى وليّ ، فجعل الله الحقّ للأزواج لقول الله عز وجل :
﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾
وتصحّ المراجعة بالقول مثل أن يقول : راجعتك ، مثل أن يضع يده على يدها ، وروى الشافعي أنّ المُراجعة لا تكون إلا بالقول الصريح للقائل عليه ، ولا تصحّ إلا باللّقاء.
قال أبو حنيفة : لا بأس للزَّوجة أن تتزيَّن لِزَوجها ، طبعًا المطلّقة طلاقًا رجعيًّا ، وتتطيَّب له ، وتتشوّق ، وتلبس الحليّ ، وتُبدي الجمال والكحل ولا يدخل عليها إلا أن تعلم بِدُخوله بِقَولٍ ، أو حركة من تَنَحْنُحٍ ، أو خفق نعْلٍ .
الطلاق الرجعي ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل على زوجته ، فإن كانت الطلقة الأولى احْتَسَبَتْ ، وبقيَت له طلقتان ، وإن كانت له الثانية احتسبَتْ وبقِيَت له طلقة واحدة ، ومُراجعتها لا تمْحو الأثر ، فلو طلّقها في طُهْر لم يمسَّها فيه ، وبعد أسبوعين ندم على هذه التطليقة ، وقال لها : راجعْتُك ، فما انتهى كلّ شيء ، فهذه حُسِبَت طلقة ولو راجعها ، لو أنّه تراجع عن هذه الطلقة حُسبَت طلقة ، إنّ المراجعة لا تمحو الأثر ، وهذه حكمة بالغة لكي لا يصبح الطلاق لعبًا بين الأزواج .
مثلاً ، وإن كانت الثانية احْتسبَت وبقيَت له طلقة واحدة ، ومراجعتها لا تمحي هذا الأثر ، بل لو تركت حتى انْقضَت عِدَّتها من غير مراجعة وتزوَّجَت زوْجًا آخر ، ثمَّ عادَت إلى زوجها الأوّل ، عادَت إليه بما بقي لها من الطَّلقات ! فالطلقة هذه ثابتة ، شيء دقيق ، أنت قلتَ لها بِساعة غضب : طلّقتك ، وكانت في طُهْرٍ لم تمسَّها فيه ، وبعد ساعةٍ ندِمت ، وقلت لها : راجعتك ولمسْت يدها ، رجعَت واحْتُسبَت طلقةً ، فلو أنَّكَ طلَّقتها طلاقًا فيه بيْنونة صغرى وتزوَّجَتْ مكانك رجلاً آخر ثمّ طلَّقها ، وعُدْت إليها بقي لك عندها طلقتان ، احْتُسب الواحدة .
2 ـ الطلاق البائن :
أما الطلاق البائن فهو الطلاق المُكمّل للثلاث ، والطلاق قبل الدخول والطلاق على المال ؛ أي مخالعة ، وقبل الدخول مباشرةً ينفذ مرَّةً واحدة أو الطلاق المُكمِّل للثلاث .
والطلاق البائن إن شاء الله تعالى نأخذه في درس آخر ، وربّما أمكن إعطاؤهُ في هذا الدرس .
وهو ينقسم إلى بائن بَيْنونةً صُغرى ، وهو ما كان دون الثلاث ، وبائن بَينونة كبرى وهو المكمِّلُ للثلاث ، فإذا طلَّقها في طهْرٍ لمْ يمسَّها فيه ، ومضَتْ عِدَّتها كاملةً ثلاث حيضات ولم يراجعها ولم يمسَّها فهذه طلقة بانَت عنه ، لكن بيْنونة صغرى ، لا ترجع إليه إلا بعقْد جديد ، ومهْر جديد ، ورِضاءٍ منها ، لكن لا تحتاج إلى أن تُزوَّج بغيره ، هذه هي البينونة الصغرى .
الطلاق البائن بيْنونةً صغرى يُزيل قيْد الزّوْجيَّة بِمُجرّد صدوره ، وإذا كان مُزيلاً للرابطة الزوجيّة ، فإنّ المطلّقة تصير أجْنبيَّةً عن زوجها ، فلا يحلّ له الاستمتاع بها ، لا يستمتع بها إلا ضمن العِدَّة ، فإذا انْقضَت العِدَّة بانَتْ عنه بيْنونةً صغرى ، ولا يرثُ أحدهما الآخر إذا مات ، يحلّ بالطلاق البائن موعد مؤخَّر الصداق ، فنحن عندنا مهر مؤجّل ، ومهر معجَّل ، المؤجّل يحِلّ في حالتين ، أيّهما أبْعَد ، وأيّهما أقرب ، الطلاق أو الموت ، وللزّوج أن يعيد المطلّقة طلاقًا بيْنونةً صغرى إلى عصمته بِعَقْدٍ ومهْرٍ جديدَيْن دون أن تتزوَّج زوجًا آخر ، وإذا أعادها عادَت إليه بما بقيَ من الطَّلقات، عادَت إليه على تطليقة واحدة ، أو على تطليقتين ، فإذا كان طلَّقها واحدةً من قبْل ، فإنّه يملك عليها طلْقتَيْن بعد العَوْدة إلى عصمتِهِ ، وإذا كان طلَّقها طلْقتَين لا يملك عليها إلا طلْقةً واحدة .
وأما الطلاق البائن بَيْنونةً كبرى فيُزيل قَيْد الزَّوجيَّة تمامًا مثل طلاق البينونة الصغرى ويأخذ جميع أحكامه ، إلا أنّه لا يُحِلّ للرجل أن يعيد من أبانها بيْنونةً كبرى إلى عصمته ، إلا بعد أن تنكحَ زوْجًا آخر نكاحًا صحيحًا لا لبْسَ فيه ، ويدخل بها دون إرادة التحليل ، فإن طلَّقها فلا تحلّ له من بعدُ حتى تنكحَ زوجًا غيره ، فإن طلَّقها الطَّلقة الثالثة ، فلا تحلّ لزوجها الأوّل إلا بعد أن تتزوَّج آخر ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
(( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها فهل تحل للأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته. وفي لفظ: حتى يجامعها ))
أي حتى يتمّ الزواج الحقيقيّ ، هذا فيما يتعلّق بالطلاق الرجعي والطلاق البائن البَينونة الكبرى أو الصغرى ، الصغرى ربطت نفسها ، وينعقد زواج جديد بِعَقد جديد ، ومهر جديد ، ورضاء الزوجة ، أما البينونة الكبرى فلا بد من الزواج من رجل آخر زواجًا صحيحًا لا تحليل فيه ، أما الطلاق الرجعي طلّقها في طهر لمْ يمسّها فيه، فإن راجعها في خلال العدَّة ثلاثة أطهار رجعت له من دون عقْد ومن دون مهْر ، وانتهى الأمر ، ولكنّها احْتُسبَت طلقةً ، ولو أنَّه طلّقها طلاقًا رجعيًا ، وبانَت عنه بيْنونة صغرى ، ثمّ تزوَّجَت برجل آخر ، ثمّ طلّقها ، فعادَت إليه عادَت إليه على طَلقتين ، فالطلاق لعِبٌ بالنار ، فلو قلت : طلّقتك ، وبعد ساعة راجعتها احْتُسِبَت طلْقة ، فالأفضل ، والأوْجه ، والأعقل ألا تلجأ إلى الطلاق إلا في حالات نصَّ عليها الشّرع أما أن يُتَّخَذ أداةً لِرَدع الزَّوجة فهذا لعبٌ بالنار ، ويوقع الرجل في شبهة الحرام ويبقى مُشوَّشًا ، ومُتْعبًا ، ويصبح متعباً بالفتاوى المتناقضة التي يجمعها من عامّة الناس .
* * *
تحريم الدخول على النساء :
والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ ....))
" طبعًا المقصود بالنساء الأجنبيّات ، أنا من خلال ملاحظتي أرى أنّ بعض الرجال أو بعض الشباب يكثر الدخول إلى بيت قبل التأكّد من أنّ هذا البيت مثلاً ليس فيه نساء ، سريع الدخول إلى البيوت ، قليل الاستئذان ، سريع القبول ، النبي الكريم قال :
((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ ....))
لأنّ أوّل شيء هناك تهمة ، فالإنسان قد يُتَّهَم وهو بريء ، وهناك شيء آخر ، قد يقعُ هو فريسة لهذه المخاطرة ، لأنّ النبي صلى اله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم قال :
(( ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ... ))
لماذا لم يقل : ما خلا كافر بكافرة ؟ ولماذا لم يقل ما خلا منافق بِمنافقة ؟ قال : ما خلا رجلٌ ، وهذه كلمة مطلقة ، وما دامت الكلمة نكرة ، وتنكيرها شمولي أيْ أيّ رجلٍ كائنًا من كان - مؤمن ، كافر ، فاسق ، عاص ، طائع - أيّ رجلٍ إذا خلا بامرأة كان الشيطان ثالثهما ، إياكم والدخول على النساء ، أحيانًا الإنسان يطرق باب أخيه ، أخوه له زوجة ، تقول له : أخوك غير موجود ، يقول لها : سأرتاح عندك قليلاً ثمّ أذهب ، تقول له : لا، هذا لا يجوز ، هذه زوجة الأخ امرأة أجنبية لا تحلّ لك أن تدخل عليها ، ولا أن تنظر إليها ، قيل يا رسول الله : الحمو ؟ فقال : الحمو الموت ..." أحيانًا تقول : النَّمِر الموت ، أي النَّمر يفضي بك إلى الموت ، فالحمو الموت أي يفضي خطره إلى الموت ، وربّما كان الموت أهْون ، حديث مقتضب وموجز ، و تكمن بلاغته صلى الله عليه وسلّم في إيجازه ، إياكم والدخول على النساء ، المقصود الأجنبيّات اللاتي لا تحلّ لك أن تراهنّ ، الإمام مالك رضي الله عنه توسَّع في هذا الحديث ، فمَنَعَ الدخول على النساء اللاتي لا يحلّ لك الزواج منهنّ خوْفَ ما قد يخطر في البال من تهمٍ بعيد ، نهى الابن على أن يدخل على زوجة أبيه ، لا تحلّ له، ولكن قطع الابن من أمّه أكبر بكثير من طبعه من زوجة أبيه .
السادة الأحناف نهَوا الرجال عن الاختلاء بالصِّهرة الشابة ، الكنَّة ، فهي محرّم الزواج منها ، ولك أن تنظر إليها ، ولكن في حضرة الابن يجوز ، ولكن في غيبة الابن فالأكمل والأولى ألا تخْلُوَ بها ، لذلك قال بعضهم : لا تبلغ أن تكون من المتّقين ، حتى تدع ما لا بأس به ، حذرًا ممَّا به بأس ، زوجة الأب لا ينبغي أن تخْلُوَ بها ، مع أنَّها لا تحلّ لك ، والصِّهرة الشابة زوجة الابن الشابة لا يقبل لك أن تخلُوَ بها، أما بحضور ابنك فهي زوجة ابنك ، ولك أن تحادثها ، وتجلس معها ، وتأكلا معًا، الإمام مالك توسَّع في فهْم هذا الحديث حتى وسَعهُ إلى دائرة تَحِلّ ، ولكن منعَ الخَلوَة من باب الكمال .
إياكم والدخول على النساء، هناك أشخاص سريع الدخول ، امرأة في غرفة لوحدها ولو أنّها مسنَّة لا يجوز الدخول عليها ، مثلاً زوجة أخي ، وأخي مسافر ، قد يحتاجون إلى أغراض ، فيذهب ويبقى ساعة عندهم ، يمكن لأحد الجيران ألا يعرف هذا ، يعرفون أنّ زوجها بالحج أو مسافر ، وجاء رجل فبقيّ ساعة ثمّ خرج ! ممكن أن تسبِّب سمعة سيّئة للبيت ، قال النبي الكريم :
((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ ....))
هذا كمال المؤمن ، قٌال عليه الصلاة والسلام : " الإيمان عفّة عن المطامع، الإيمان عِفّة عن المحارم ..." الإنسان كلّما كان عفيفًا أكثر كلّما ارتفع في نظر الناس، هناك شهوَة ، هناك شهوتين مهلكتين ؛ النساء والمال ،
(( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ))
الورع :
الورع قال عليه الصلاة والسلام : لا ورعَ كالكفّ ..." ترك المحارم ورع ، وهذا حدّ ، وهو أحد أنواع الورع ، فأنت إذا سألتني ما الورع ؟ أقول لك : الاستقامة على أمر الله تعالى ، ترْك ما نهى الله عنه ، وهناك تعريف أرقى ؛ ترْك ما لا بأس به حذرًا ممَّا به بأس، هذا ترْك مضانّ التُّهم ، فالدخول مثلاً على زوجة الابن وهي وحدها في البيت ، هناك احتمال بالمئة خمسة أو بالمئة سبعة ، احتمال بسيط جدًّا ، فاحتمال أن يميل قلبه إلى أمّه هذا ينتفي كُليًّا ، أما زوجة أبيه فالاحتمال أكثر ، لذا الإمام مالك وسّع الدخول ، وهذا من كمال الورع ، أن تدع ما لا بأس به حذرًا ممّا به بأس ، أن تدع مضانّ المعصِيَة ، فتَرْك المعصيَة ورع ، وترك مضانّ المعصيّة ورع أرقى ، ترك ما يشغل القلب عن الله عز وجل هذا أرقى درجات الورع ، شيءٌ مباح ، لكنّك إذا اشتغلتَ به أبْعدك عن الله عز وجل ، وهذا أرقى درجات الورع ، أي القلب له عز وجل وما جعل الله عز وجل لرجل من قلبين في جوفه .
النهي عن محادثة النساء :
شيءٌ آخر ؛ يقول عليه الصلاة والسلام : إياكم ومحادثة النساء ، تجد شخصًا طليق اللّسان ، إذا كان عنده زبونة بالمحلّ يسوق الحديث من موضوع إلى موضوع ! هذا لا يجوز قال تعالى :
﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾
نساءً ورجالاً ، كم سعر هذا القماش ؟ سعر هذا القماش المتر بعشرة ، أما هذا اليوم فمناسب ، وهذا اللون مناسب لك ، هذا كلّه كلام باطل ، إياكم ومحادثة النساء ، الواحد قد يكون طليق اللسان ، وقد يكون فصيحًا ، وقد يكون له ذكاءً ، وقد يكون له قدرة على إدارة حديث ممتع ولبق ، ولكن لا يظهر هذه البراعة على النساء ، فربّما أهلكهُ هذا الحديث :
(( إياكم ومحادثة النساء ))
أكثر الناس لهم جولات في الحديث مع أقربائهنّ ، بنت خالته ، بنت عمّته ، زبونة بالمحلّ ، وهو لا يدري أنّ هذا حجاباً بينه وبين الله تعالى ، لا يدري أنّه بهذه المحادثة قد ابتعد عن الله تعالى بعدًا كبيرًا ، لا يدري أنّه بهذه المحادثة قد سدّ الطريق إلى الله عز وجل :
(( إياكم ومحادثة النساء فإنَّه لا يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم إلا همّ بها))
قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ﴾
الصمت أحد أنواع العبادة الراقية :
الحديث الثالث ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام :
(( إياكم والفتن ، فإنّ وقْع اللّسان فيها مثل وقع السيف ))
أحيانًا يكون هناك امرأة فلتانة ، قد تحكي كلمةً لا تبالي بها ، قد لا تعلّق عليها أهميّة ، هذه الكلمة خطيرة جدًّا ، كأن تقول : والله سمعتُ أنّه يريد الزواج عليها! وهو ما سمع ، مزاح فقط ! هذه الكلمة في هذه الفتنة ، الزوجة في بيت أهلها ، والزوج مزعوج ، وهي تتلقّف الأخبار بفارغ الصّبر ، تتلقّف شبح الخبر ، وهو ينتظر ردّ الفعل، وأعصابهُ متوتّرة ، يأتي إنسان خاليّ البال مرتاح ينقل كلمة غير دقيقة فإذا هي تُسبّب الطلاق ، هذا مثل ، فالإنسان بالفتنة تكون أعصابهُ متوتّرة لا يحتمل كلمة ، ويشبه الطالب بالامتحان ، قبل الفحص بِساعتين يقول لك : فلان أتى بالأسئلة ، وتكون هذه مزحة ، تجد أعصابه تضطرب ، وقد يجد أنّ موضوعًا ما درسه ، لذا المؤمن لا يلعب بأعصاب الناس ، فهناك حالات يحدث فيها توتّر شديد ، فهذا الذي يُشيع أخبارًا سيّئة في الحروب ، هذا مؤاخذ عند الله عز وجل ، وفي الأزمات الكبرى، وفي موضوع الطلاق ، وفي موضوع الفراق ، وموضوع خصومة شديدة ، مثل هذه الموضوعات الخطيرة الكلام فيها خطير ، لأنّ أعصاب الطَّرَفين متوتِّرة إلى أقصى الحدود ، وأيّ كلمة قد تخرب بنيانًا ، أو قد تقوّض دعائم الصلح ، لذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( إياكم والفتن ، فإنّ وقْع اللّسان فيها مثل وقع السيف ))
أحيانًا خطبة ، عند أهل الزوجة وعند أهل الزوج حساسيّة بالغة أن تقول: الزوج بخيل ، أنت تمزح فقط ، ولكن هناك من يظنّها حقيقة فيتَّهمون بعضهم بالبخل، وينقل الكلام لأهل الزوجة ، فيقولون : لا نعطي البخيل !!! هذا وضع خطِر، أنت بالحاسّة السادسة تعلم أن هناك حالات يكون فيها الإنسان في أقصى درجات التوكّل ، الكلام قد يفضي إلى التهلكة ، الكلام قد يفصل علاقة شريفة ، قد يقطع خيرًا كثيرًا :
(( إياكم والفتن ، فإنّ وقْع اللّسان فيها مثل وقع السيف ))
أحدهم تزوّج امرأة ، فقال لي شخص : هذه المرأة ليْسَت من مُستواه ! هذه فقيرة وهو قصَدَ شيئًا ، وانفعل الزوج ، وحصل الطلاق ! أحيانًا الإنسان يحذّر أنيسه فيقول : لا نعرف الله أعلم ، هو يقصد موضوع الإرث ، وذاك فهم موضوعًا أخلاقيًّا فحدث الطلاق ، في الفتن المؤمن الراقي ، والمؤمن في حدّه الأدنى يلْزم الصَّمت .
أحيانًا تحصل خطبة ، ولا تتِمّ ، نريد أن نفهم لماذا فسِخَت الخطبة ؟ يمكن أن يكون لهذا الزوج وضعٌ خاص مثلاً ، وما ناسبتْهُ هذه الزوجة ، ولكن قد تناسب غيره ، لا ينبغي أن تلوك الحديث بين الناس ، أحد أنواع العبادة الراقية الصّمت .
* * *
أمنية أربعة شباب في فناء الكعبة :
والآن إلى قصّة تابعيّ جليل ؛ هو عروة بن الزبير ، ما كانت شمس الأصيل تُلَملم خيوطها الذهبيّة عن بيت الله الحرام ، وتأذن للنَّسمات النبيلة بأن تتردَّد في رحابه الطاهرة ، حتى شرع الطائفون بالبيت من بقايا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وكبار التابعين يعطّرون الأجواء بالتّهليل والتكبير ، ويقرعون الأرجاء بصالح الدعاء ، حتى أخذ الناس يتحلَّقون زمرًا زمرًا حول الكعبة المعظَّمة الرائدة وسط البيت في مهابة وجلال ، ويملؤون عيونهم من بهائها الأسمى ، ويُديرون أحاديث لا لغو فيها ولا تأثيم ، وبالقرب من الركن اليماني جلس أربعة فتيان ، صلاح الوجوه ، كرام الأحساب ، معطّري الأردان ، كأنّهم حمامات المسجد نَصاعةً ؛ هم عبد الله بن الزبير ، وأخوه مصعب بن الزبير ، وأخوهما عروَة بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان، أربعة شباب في فناء الكعبة تحلّقوا قُبَيل الغروب ، وجلسوا ، ودار حديث الفتية الأبرار ثمّ ما لبث أن قال أحدهم : لِيَتَمَنَّى كُلّ منَّا على الله ما يحبّ ، فانطلق أخْيِلَتُهم تحلّق في عالم الغيب الرَّحب ، ومضَت أحلامهم تتوق في رِياض الأماني الخضْر ، ثمّ قال عبد الله بن الزبير : أمنيَّتي أن أملِكَ الحجاز ، وأن أنال الخلافة ، وقال أخوه مصعب: أما أنا فأتمنَّى أن أملِك العراقَين - الكوفة والبصرة - فلا يُنازعني فيهما منازع ، وقال عبد الملك بن مروان : إذا كنتما تقْنعان بذلك فأنا لا أقْنعُ إلا أن أملك الأرض كلّها ! وأن أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان ، مَنْ بقيَ عروَة بن الزّبير ، وسكت عروة بن الزبير فلم يقل شيئًا ، فالْتفتوا إليه وقالوا : وأنت ماذا تتمنّى يا عروة ؟ قال : بارك الله لكم فيما تمنَّيْتم من أمر دنياكم ، أما أنا فأتمنَّى أن أكون عالمًا عاملاً يأخذ الناس عنِّي كتاب ربّهم وسنَّة نبيِّهم وأحكام دينهم ، وأن أفوز في الآخرة بِرِضا الله عز وجل ، وأن أحظى بِجَنّته ، قصّة واقعيّة ، أربعة شباب في فناء الكعبة ، تمنّى الأول أن يكون ملك الحجاز ، وتمنّى الثاني أن يكون ملِك العراق ، وتمنّى الثالث أن يكون خليفة المسلمين كلّهم ، وتمنّى الرابع أن يكون عالمًا بِكِتاب الله ، وسنّة نبيّه ، ربّنا عز وجل قال :
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾
والشيء الثابت في العلم الدّيني أنّ الله عز وجل متكفّل أن يعطيّ كلّ مخلوق سُؤلهُ ، لكنّ الشرط أن يكون الطلب في صدق شديد ، إن كنت بطلبك صادقًا تصل إليه وربّ الكعبة ، فالذي وصلت إليه هو الذي أنت فيه سابق ، والذي لم تصل إليه هو الذي تمنَّيْتهُ ، فالتَّمَنِّي شيء ، والطّلب السابق شيء . قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾
من سعى في طلب شيء ، وصلهُ وربّ الكعبة ، أحدكم يطلب من الله تعالى، إذا طلبت أن تختم كتاب الله ، والله لن تموت إلا بعد أن تفهم كتاب الله ، وإن طلبْت الدنيا تأتيك الدنيا ، إلا أنّ الله تعالى إذا كان يُحِبّ عبْدًا ، وطلبَ الدنيا ، وكانت الدنيا تؤذيه ، ربّما أخَّرها له فلعلَّه يُغَيِّر رأيَهُ ، قال تعالى :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾
وقال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾
والآية الثالثة :
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾
ودار الزمان دورته ، فإذا بعبد الله بن الزبير يُبايَعُ له بالخلافة عقب موت يزيد ، فيَحكِمُ الحجاز والبصرة واليمن وخراسان والعراق ، هذا الطّفل الصغير صار رجلاً ، وحكمَ هذه البلاد ثمّ وثب عند الكعبة غير بعيد عن المكان الذي تمنّى فيه ما تمنّى ، وإذا بمصعب بن الزبير يتولّى إمْرة العراق من قِبَل أخيه عبد الله ، ويُكْتب هو الآخر دون ولايته أيضًا ، وإذا بعبد الملك بن مروان تؤول إليه الخلافة بعد موت أبيه ، وتجتمع عليه كلمة المسلمين بعد مَقْتَل عبد الله بن الزبير ، وأخيه مصعب على أيدي جنوده .
ثمّ وجدوه أعظم ملوك الدنيا في زمانه ، فماذا كان أمر عروَة بن الزبير ؟ كلّ واحد تمنّى أمنية .
عروة بن الزبير نشأته و حياته :
ولد عروة في بيت من أعزّ البيوت شأنًا وأرفعها مقامًا ، أبوه الزبير بن العوّام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأوّل من سلّ سيفًا في الإسلام ، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة ، هذا والدهُ .
وأمّه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها المُلقَّبة بذات النّطاقين ، وجدّه من أمّه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ، وجدّته من أبيه صفيّة بن عبد المطّلب عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وخالته عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها ، فقد نزل إلى قبرها حينما دُفنت بنفسه وسوّى عليها لحْدها بيَديه ، أفتظنّ بعد هذا الحسب حسبًا ؟ وأنّ فوق هذا الشَّرَف شرَفًا ؟ وحقّق عروَة أمنيته التي تمنّاها على الله عند الكعبة المعظّمة ، علامة صدق طلبه السعي ، أكبّ على طلب العلم ، وانقطع له ، واغْتنَم البقيّة الباقية من صحابة رسول الله ، فطفق يؤمّ بيوتهم ، ويصلّي خلفهم ، ويتتبّعُ مجالسهم ، حتى روى عن علي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وأيّوب الأنصاري ، وأسامة بن زيد ، وسعيد بن زيد ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عباس ، والنعمان بن بشير ,
هم طلب العلم و هؤلاء طلبوا الخلافة والمُلْك ، هذا طلب العلم ، تتبَّع صحابة رسول الله ، صلّى خلفهم ، سألهم ، روى عنهم ، نقل عنهم ، وأخذ كثيرًا عن خالته عائشة أمّ المؤمنين ، حتى غدا أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يفزع إليهم المؤمنين في دينهم ، ويتَّعظ بهم الولاة الصالحون على ما استرعاهم الله عز وجل من أمر العباد والبلاد ، من ذلك لمّا قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليًا عليها من قِبَل الوليد بن عبد الملِك ، جاءه الناس فسلّموا عليه ، فلمّا صلّى الظهر دعا عشرةً من فقهاء المدينة، وعلى رأسهم عروة بن الزبير فلمّا صاروا عنده رحَّب بهم وأكرمَ مجالسهم ، ثمّ حمِد الله عز وجل وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ قال : إنّي دعوتكم لأمر تؤجرون عليه ، وتكونون لي فيه أعوانًا على الحقّ ، فأنا لا أريد أن أقطَع أمرًا إلا برأيِكم أي برأي من حضر منكم ، فإن رأيْتم أحدًا يتعدّى على أحد ، أو كان لعامل مظلمة فأسألكم أن تبلّغوني ذلك ، فدعا له عروة بن الزبير بخير ، ورجا له من الله السّداد والرّشاد ، وقد جمع عروة بن الزبير العلم إلى العمل ، فقد كان صوّاماً في الهواجر ، قوّامًا في العتمات ، رطب اللّسان دائمًا بذكر الله عز وجل ، وكان إلى ذلك ختيمًا لكتاب الله جلّ وعلا ، عاكفًا على تلاوته ، فكان يقرأ ربع القرآن كلّ نهارٍ نظراً في المصحف ، ثمّ يقوم به الليل تلاوةً عن ظهْر قلب ، ولم يُعْرف عنه ترْك ذلك منذ صدْر شبابه إلى يوم وفاته ، غير مرّة واحدة بِخَطب نزلَ به سيأتيكم نبأه بعد قليل .
كان عروة بن الزبير يجد في الصلاة راحة نفسه ، وقُرّة عينه ، وجنّة ربِّه فيُتقِنها ويتقن شعائرها أتمّ الإتقان ، ويُطيلها غاية الطول ، - طبعًا وحده - وروِيَ عنه أنّه رأى رجلا يصلّي صلاةً خفيفة ، فلمَّا فرغ من صلاته دعاه وقال له : يا بن أخي ، أما كانت لك عند ربّك جلّ وعلا حاجة ؟! والله إنّي لأسأل الله تبارك وتعالى كلّ شيءٍ حتى الملْح ! وأنا أدعوكم لذلك ، حياتنا كلّها مشاكل ، صلِّ وادْعُ الله في الصلاة حتى تحسّ أنّ ربّنا عز وجل سمعك ، وقد أدّى رغبتَك ، وكان عروة بن الزبير رضوان الله عليه سَخِيّ اليد ، سمْحًا ، جوادًا ، ومِمَّا أُثر عن جوده أنّه كان له بستان من أعظم بساتين المدينة ، عذب الماء ، ذليل الأشجار ، باسط النخيل ، وكان يُسَوِّر بستانه طوال العام لحماية أشجاره من أذى الماشيَة ، وعبث الصُّبْيَة ، حتى إذا آن أوان الرُّطَب وأيْنعت الثِّمار ، وطابَتْ واشْتَهَتْها النُّفوس كسر حائط البستان من أكثر من جهة ليُجيز للناس دخوله ! أما الآن فيقول له : انْتبه الفواكه مرشوشة بالمواد السامّة !! ولا تكون هناك مواد ولا شيء !!! أما ذاك فكان يكسر جدران البستان حتى يتيح للمارة الأكل منها ، والآن بأمريكا حتى يُحافظوا على سعر الفواكه يتْلفون قسمًا كبيرًا منها ، فأبناء الجيوش كانوا يذهبون إلى أماكن إتلاف هذه الفواكه ، لما أكلوا البرتقال خفّ البيع ، العام القادم سمّموا البرتقال حتى لا يأكل الطفل الفقير البرتقال من دون دراهم ، يشتريها أبوه من السوق فيبقى السعر مرتفعاً !! وُحُوشٌ فكان الناس يلمّون به ذاهبين آيبين ، ويأكلون من ثمره ما لذّ الأكل ، ويحملون ما طاب لهم الحمْل ، وكان كلّما دخل بستانه هذا ردّد قوله عز وجل :
﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾
قبل عشرين أو ثلاثين سنة هكذا قيل لي : يخرج الفلاّح من البستان ويضع سلّة تفاح بالطريق ، هذا مشمش ، وهذا تين ، وهذا تفاح ، فالناس في الطريق يأكلون ما يشتهون، الآن كيلو التوت بخمس عشرة ليرة ، وقد كان لا يُباع إطلاقًا ، التوت وقف مبذول للناس كلّهم، ولكن لمَّا بخل الناس شدَّد الله عليهم ، والآن في بعض القرى، وقد شاهدْت هذه بنفسي ، كلّما مرّ المارّ يسلّمونه فواكه ضيافةً ، والله عز وجل يُعطيهم ثمارًا فوق الحُسبان ، خيرات وبركات ، وتصدير وأسعار جودة ، أما أهل هذه القرية فلا تمرّ إلا وتأخذ فاكهةً مجَّانًا .
امتحان الله عز وجل لعروة بن الزبير :
وفي سنة شاء الله جلّ وعزّ أن يمتحن عرْوَة بن الزبير امتحانًا لا يثبت له إلا ذوي الأفئدة التي عمّرها الله بالإيمان ، دعا خليفة المسلمين عروة بن الزبير لزيارته في دمشق فلبّى الدعوة ، وصحب معه ابنه الأكبر ، ولمَّا قدِم على الخليفة رحَّب بِمَقْدَمهِ أعظم ترحيب ، وأكرم وِفادته أوفى إكرام ، وبالغ في الحفاوة به ، ثمَّ شاء سبحانه وتعالى أن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، ذلك أنَّ ابن عروة دخل على اصْطبل الوليد لِيَتَفَرَّج جِياده الصافِنات فرَمَحَتْهُ دابَّة رمْحةً قاضِيَةً أوْدَتْ بِحَياتِهِ ، ولم يكد الأب المفجوع ينفض يديه من تراب قبر ولده حتى أصابتْ إحدى قدَمَيْه الآكلة - الغرغرينا- وأصبح معه الموات ، فتورَّمَتْ ساقُه ، وجعل الورم يشتدّ ويمْتدّ بِسُرعة مذهلة فاسْتدعى الخليفة لِضَيفِهِ الأطباء من كلّ جهة ، وحضَّهم على معالجته بأيَّة وسيلة ، لكنَّ الأطِبَّاء أجمعوا على أنَّه لا منْدوحة لِبَتْر ساق عروَة ، قبل أن يَسْرِيَ الورَم إلى جسَدِهِ كلّه ، ويكون سببًا في القضاء عليه ، ولم يجِد بُدًّا من الإذعان لذلك - انظر مقامه العالي ، أحيانًا المصائب تكون مصائب رفْع ، فالأنبياء مصائبهم كشف، والمؤمنون رفع ، وغير المؤمنين ردْع :
(( ما أصاب عبد مصيبة فما فوقها إلا بإحدى خلتين بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة أو بدرجة لم يكن الله ليبلغه إياها إلا بتلك المصيبة))
ولمَّا حضر الجرَّاح لِبَتْر الساق أحضَرَ معه مباضعه لِشَقّ اللَّحم ، ومناشيره لِنَشْر العظم ، قال الطبيب لعروة : أرى أن نسْقيك جرعةً من مُسْكر لكي لا تشعر بالآلام ، فقال : هيهات !- اسم فعل ماض- لا أستعين بِحَرام على ما أرجوهُ مِن عافِيَةٍ، فقال له : إذًا نسقيك مخدِّرًا ، فقال : لا أحبّ أن أُسلبَ عضْوًا من أعضائي دون أن أشْعرَ بِألمِهِ وأحْتسب بذلك ، فلمَّا همَّ الجراح بِقَطع الساق تقدَّم نحو عروة طائفة من الرجال ، فقال : ما هؤلاء ؟ فقال : جيءَ بهم لِيُمسِكوك فربَّما اشْتدّ عليك الألم فجذبْت قدمَكَ جذْبةً أضرَّتْ بك ، قال : رُدُّوهم لا حاجة لي بهم ، وإنِّي لأرجو أن أكْفيَكم ذلك بالذِّكْر والتَّسْبيح ، ثمَّ أقبلَ عليه الطبيب وقطع اللَّحم بالمِبضع ، ولمَّا بلغَ العظم وضع عليه المنشار وطفِقَ ينشرهُ به ، وعروَة يقول : لا إله إلا الله والله أكبر ، وما فتىء الجرَّاح ينشر وعروة يكبّر ويُهلِّل حتى بُتِرَتْ الساق بتْرًا ، ثمّ أغْليَت الزَّيت في مغارف الحديد ، وغُمِسَت فيه ساق عروة لإيقاف تدفّق الدِّماء ، وحسْم الجراح ، وأُغْمِيَت عليه إغماءةً طويلة حالَت دون أن يقرأ حصَّته من كتاب الله ذلك اليوم ، هذا هو الأمر القاهر الذي لم يقرأ فيه حصّته من كتاب الله ، وليس لسبب تافهٍ ، نعسان ، لك كمّية قرآن اقرأها ؛ حزب أو نصفه جزء اقرأها ، وكان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم يقرأ فيه القرآن !! وكانت المرَّة الوحيدة التي فاتهُ فيها ذلك الخير ، ولمَّا صحا عروة دعا بقَدَمِهِ المبتورة فناولوه إيَّاها ، اسْمعوا الآن ؛ فجعلَ يُقبِّلُها بيَدِهِ ويقول : أما والذي حملني عليك يا قدمي في عتمات الليل إلى المساجد - انظروا هذا القسَم - إنَّه ليعْلمُ أنَّني ما مشْيتُ إلى حرامٍ قطّ ، وقد شقَّ على الوليد بن عبد الملك ما نزل بِضَيفه الكبير من النوازل ، فقد احْتسَب ابنه ، وفقَدَ ساقهُ في أيَّام معدودات فجعل يحتال لِتَعْزيَتِهِ وتصبيره على ما أصابه ، وصادف أن نزلَ بِدَار الخلافة جماعةٌ من بني عفْسٍ فيهم رجلٌ ضرير ، فسأله الوليد عن سبب كفّ بصره ، قال : يا أمير المؤمنين لم يكن في بني عفْس رجلٌ أوْفَرَ مِنِّي مالاً ، ولا أكثر أهلاً وولدًا ، والله إذا أعطى أدْهش وإذا أخذ أدْهش ، نزلْتُ مع مالي وعِيالي في بطْن واد من منازل قومي فطرقنا سيْلٌ لم نرَ مثلهُ قطّ ، فذهبَ السَّيل بما كان لي من مالٍ وأهل وولدٍ ، ولم يترك لي غير بعيرٍ واحد وطفلٍ صغير حديث الولادة !! وكان البعير صعبًا ففرّ مِنِّي ، فتركْتُ الصَّبيّ على الأرض ، ولَحِقْت بالبعير ، فلم أُجاوِز مكاني قليلاً حتى سمِعْت صَيْحة الطِّفل فالْتَفَتّ فإذا رأسهُ في فمِ ذئْبٍ يأكلهُ ، فبادرتُ إليه غير أنَّني لم أستطع إنقاذهُ إذْ كان قد أتى عليه ، ولحِقْت بالبعير فلمَّا دَنَوْت منه رماني بِرِجلهِ على وجهي رمْيةً حطَّمَتْ جبيني وذهبتْ بِبَصري ، وهكذا وجدْت نفسي في ليلة واحدة من غير أهل ولا ولد ولا مالٍ ولا بصر !!! فقال الوليد لِحاجِبِه انْطلق بهذا الرجل إلى ضَيْفنا عروة بن الزبير ، ولْيقصَّ عليه قصَّته لِيَعلمَ أنَّ في الناس من هو أعظمُ منه بلاءً ، ولمّا حُمِل عروة إلى المدينة، وأُدخل على أهله ، بادرَهم قائلاً لا يهُولنَّكم ما ترَوْن ! لقد وهبني الله عز وجل أربعةً من البنين ، ثمَّ أخذ منهم واحدًا وأبْقى ليَ ثلاثًا ، فله الحمد والشكر ، وأعطاني أربعة أطراف ثمَّ أخذ منها واحدًا وأبقى لي منها ثلاثة ، وَيْمُ الله لأن أخذ الله لي قليلاً فقد أبقى لي كثيرًا ، ولأن ابتلاني مرَّةً فلطالما عافاني مرَّات .
الصبر مؤشّر للإيمان ، إذا كان هناك إيمان كان هناك الصبر ، وإذا لم يكن الإيمان لم يكن الصَّبر ، الصّبر معرفة بالله عز وجل ، الأمر بيده وهو رحيم ، وحكيم ، وعليم، وعلامة المؤمن أنَّه راض ، ويقول : الحمد لله رب العالمين على أشدّ المصائب فكيف على أهونها ؟ إذا أصابتْه مصيبة قال : " الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذْ أُلْهِمتُ الصَّبْر عليها " مواقف الصحابة أو أصدقاؤهم من المصيبة ، إذا الواحد ساذج ورأى مؤمنًا أُصيب بِمُصيبة يقول : حتْمًا عمل معصيَة !! وهذه فظاظة بالتفسير، وسوء الظنّ بالأخ المسلم ، كبار الصحابة أصابتهم مصائب كبيرة ، وهذه مصائب رفْع وليْسَت مصائب ردْع ، فالعاصي له مصائب ردْع ، أما المؤمن فله مصائب رفْع قال تعالى :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
فالإنسان بالمصيبة يظهر ، وبها ينحطّ .
أما أصحابه ماذا قالوا ؟
ولمَّا عرف أهل المدينة بِوُصول إمامهم وعالمهم عروة بن الزبير ، تسيلوا على بيته لِيُواسوه ويُعَزُّوه فكان من أحسن ما عُزِّيَ به كلمةً قالها إبراهيم بن محمّد بن طلحة ، قال له : " أبْشِرْ يا أبا عبد الله ، فقد سبقَكَ عضْوٌ من أعضائك ، وولدٌ من أبنائك إلى الجنَّة ، والكلّ يتْبَعُ البعض إن شاء الله تعالى ، ولقد أبقى الله لنا مِنك ما نحن فقراء إليه ، أبقى لنا منك علمك وفقْهك ورأيَك ، أما الطرف الذي سبقك إلى الجنَّة احْتسِبْهُ عند الله ".