- الفقه الإسلامي
- /
- ٠3موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الاستقامة التامة :
أيها الأخوة... انتهينا من موضوعات الصلاة والصيام والحج والزكاة ، ثم أخذنا موضوعاتٍ كثيرة في المعاملات ؛ كالوكالة ، والمزارعة ، والمساقاة ، وأشياء كثيرة . واليوم ننتقل إلى بعض الموضوعات في التوحيد ..
ولكن قبل الخوض في هذه الموضوعات ، لي كلمةٍ أجد نفسي مضطراً أن أقولها من حينٍ إلى آخر :
قد يشبَّه الرجل الذي يكثر حضور مجالس العلم ، والذي يتَّبعها من مكانٍ إلى آخر، ومن مسجدٍ إلى آخر ، وينتقل من خطيبٍ إلى آخر ، ومن مدرسٍ إلى آخر ، ويستمع ، ويطرب، ويستمتع ، ويعجب ، ويثني ، ويدعو ، لكنه إن لم يطبِّق مثله كمثل تاجرٍ اشترى بضاعةً ، وجهد في شرائها ، ثم جهد في نقلها ، ثم جهد في عرضها ، ثم جهد في بيعها ، ثم جهد في شحنها ، ثم جهد في جمع مالها ، وبعد مضي سنتين أو ثلاث أجرى حساباته الدقيقة فإذا هو لم يربح شيئاً ، ألا يتألَّم ألماً شديداً على هذا الجهد المضن الذي بذله بلا ربح ؟ .
لم أقل هذا الكلام من دون سبب ، أناسٌ كثيرون يحضرون معنا ولكنهم لا يلتزمون، نساؤهم على الشرفات ليسوا محجبات ، أجهزة اللهو في البيوت ، الاختلاط من عاداتهم ، بعض تعاملهم التجاري ليس صحيحاً ، بضاعتهم أحياناً محرَّمة ، أي إذا جئت إلى عندنا نحن والله نرحِّب بك ، وأتمنى أن تأتي ، ولكن هناك حقائق مرة ، حقائق صارخة إن لم تطبِّق فلن تكسب شيئاً في الدين ، تداوم شهراً وشهرين وثلاثة ، وسنة وسنتين وثلاث ، بعد هذا تقول : كله كلام بكلام. لأن الطريق مسدود ، الإنسان إن لم يطبق لا يوجد أمامه حل .
فأنا والله أشفق على أوقاتكم من أن تضيع سدى ، أشفق والله على عمركم الثمين ، والله لو تعرفون حق المعرفة أن كل دقيقةٍ تمر في الدنيا تعدل الملايين ، كل دقيقة ، لأنها فرصةٌ لسعادة أبديَّة ، والله حضور مجالس العلم لا يجدي ، كانوا قديماً شيوخ الطريق يقولون للمريد غير الصادق ، يعطونه امتحاناً قاسياً إن لم ينجح فيه يقولون له : يا ولدي فتوحك على غير يدنا . أي إنه أسلوب لطيف من أساليب الرفض ، بعض الشيوخ يقول : إذا الواحد ما استقام ، ما فكَّر ، ما كان له عمل صالح ، ما كان مصلياً صلاة متقنة لا يأتي إلينا ، لأنه إذا بقي الصادقون نتفاهم مع بعضنا أحسن . فهذا الذي والله يحيك في قلبي . فأنا أخ يعطيني دفعاً إلى غير حدود ، وأخ يثبِّط لي عزائمي ، المطبق أنا أقدم كل ما أملك في سبيل هذه الدعوة أجد نفسي مقصراً ، وغير المطبق أشعر بنداء داخلي : انظر كيف هؤلاء التلاميذ ، كيف هذه المستويات ؟ لا يوجد صدق ، لا يوجد التزام ، لا يوجد تطبيق .
فهذا الكلام من القلب للقلب ، لا أستطيع أن أتكلَّمه باستمرار فتملوا، لكن من حين إلى آخر أتكلَّم فيه ، الإنسان يراجع حساباته ، لابدَّ من نزول القبر ، لابدَّ من الحساب ، لابدَّ من دفع ثمن كل معصية ، لابدَّ من أن يقال لك : لمَ فعلت هذا ؟ لمَ ظلمت فلان ؟ لمَ خالفت أمر الله ؟ لمَ عصيت ؟ هذا حساب دقيق .
فكيف النبي الكريم وأصحابه الكرام فتحوا العالَم ؟ كيف كان الواحد كألف ؟ بهذه الاستقامة التامة .
التلازم بين الإيمان و الاستقامة :
يوم الجمعة أثناء الخطبة ، أنا أقرأ آية بالصلاة كثيراً لأنني أحبها ، لكن سبحان الله القرآن لا يبلى على كثرة الترداد ، قلت :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
لمَ هذا التلازم ؟ أي أنه من علامة إيمانك الصحيح استقامتك، ولا قيمة للإيمان بلا استقامة ..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
صار الإيمان له علامة ، أو له نتيجة ، علامته أو نتيجته الاستقامة ، ماذا بعد الإيمان ؟
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
فهل توجد حالة بالأرض تعادل هذه الطمأنينة ؟ أشد الناس الآن طمأنينةً يطمئنون بماضيهم وفي لحظتهم الراهنة ، ولكن لا يدري أحدهم ماذا سيكون في المستقبل ، لكن هذا الذي آمن بالله واستقام على أمره ..
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
هذه تغطية شاملة للماضي والمستقبل ، لا تخافوا من المستقبل ، ولا تحزنوا على ما فات ..
﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
هذه مرتبة ، هذه مرتبة النجاة ، هذه مرتبة الاستقامة ، هذه مرتبة الإيمان مع الاستقامة ، هذا الإنسان لا يغش يصل إلى الجنة ، لكن هناك مرتبة أعلى منها ..
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾
إن لم يكن مع الدعوة استقامة فالاستقامة بديهية ، و إن كان مع الدعوة عمل صالح..
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾
فالنظم رائع جداً ، كما أنه لا يجدي إيمانٌ بلا استقامة ، لا تجدي دعوةٌ بلا عملٍ صالح ..
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
أي أن عملاً يقود الإنسان إلى النار ، وعملاً آخر يقوده إلى الجنة ، وشتَّان بين الحالتين ..
الحد الأدنى من المعرفة أن تعرف الله و تستقيم على أمره :
سبحان الله ! والله قرأت هذه الآية آلاف المرات وما كنت أنتبه لهذا السياق ، لم يقل الله عزَّ وجل : ادفع السيئة بالحسنة . بل قال :
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
أي إذا كان رد الجميل بمئة طريقة حسنة ؛ فعليك أن تختار أحسنها ، فأين نحن من هذه الآيات في سورة فصِّلت ؟ هل أنت في مقام الإيمان والاستقامة أم في مقام الدعوة والعمل الصالح ؟ لابدَّ من أحد هذين المقامين ، الحد الأدنى الاستقامة ، الحد الأدنى أن تعرف الله وأن تستقيم على أمره ، والأرقى من ذلك أن تدعو إلى الله وأن يكون عملك صالحاً .
هناك أناس كثر يغبطونا على هذا المجلس ، مجلس يكون عليه إقبال ، و كثافة ، هناك أشخاص كثيرون يأتون من أطراف دمشق يحضرون هذا المجلس ، والله أنا أفرح بهذا ، وصدري ينشرح لهذا ، لكن حينما أرى أن هذا الحضور فقط حضور من دون التزام هذه ظاهرة لا تبشَّر بخير ، حتى الإنسان لا يقول : أخي والله حضرنا خمس سنوات ولم نستفد شيئاً ، فأحياناً الإنسان يترك المجلس لسبب تافه ، تافه جداً ، فإذا إنسان ما تمكَّنت أن أعزيه بوفاة والدته لم يعد يأتي أبداً إلى الدرس ، هل الله رخيص عليك ؟ من أجل سبب تافه لم يعد يأتي ؟ أنا ما عندي علم أصلاً ، أو ما بلغني خبر ، أو كان عندي أعمال فوق طاقتي ، لا يأتي إلى الدرس .
أنا شبَّهت هذا بإنسان يعطيك سيارة ثمنها نصف مليون ليرة ، نظرت فوجدت المرآة تخض قليلاً ، تقول : لا أنا لا آخذها ، بلا مقابل خذها ، غيّر لي هذه المرآة ، إنسان يرفض الحق لسبب تافه ؟ فمن يدعي العصمة ؟ العصمة للأنبياء ، ما سوى الأنبياء يخطئ ويصيب ، لا يكون ارتباطك بالمجلس ارتباطاً على شعرة ، على كلمة ، على كلمة خرجت عن المنطق ، لا نريد هذا ، هذا ارتباط ضعيف ليس له قيمة ، شرعاً لا يجوز .
فنحن نقوم بالتدريس تقريباً حوالي عشر سنوات ، أمضينا عشر سنوات بالفقه ؛ الصلاة ، والصوم ، والحج ، والبيوع ، والمعاملات بأكملها ، بالمعاملات أخذنا حوالي ستمئة صفحة ، بحث النكاح فقط ثلاثمئة وثلاثين صفحة ، الكلمات الرئيسة ، أخذنا موضوعات كثيرة، يا ترى أين التطبيق؟ رغم كل هذه الموضوعات تجد هناك مخالفات . فهذه الكلمة والله أقولها لكم من القلب إلى القلب توفيراً لوقتكم ، وإشفاقاً على جهدكم ، وعلى هذه المسافة الطويلة التي تتجشمون الوصول إليها .
فالقصة المبسطة سيدنا عمر التقى ببدوي ..
ـ قال له : بعني هذه الشاة .
ـ قال له : ليست لي .
ـ قال : خذ ثمنها وقل لصاحبها ماتت ، أو أكلها الذئب .
ـ قال له : والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت له ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني فإني عنده صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟
فكل القصة المبسطة على الحقيقة ثلاث مراتب ، لو كان هناك علوم شرعية ، إن لم تتقنها لكنك أتقنت هذا الموقف أن تقول : أين الله ؟ فأنت جيد .
الإمام الغزالي قال : " أنا تعلَّمت علوماً غير نافعة ، أو قد لا تجديني نفعاً في الآخرة " .
الثقافة و الهدى :
لو الإنسان أتقن علماً من العلوم الشرعية فماذا صار ؟ هناك أذكى منه ، الآن جامعة السوربون تمنح دكتوراه في الشريعة الإسلاميّة ، الأستاذ نصراني ، يعطيك دكتوراه في الحديث الشريف ، هناك دكتوراه بأصول الفقه من السوربون ، وهناك كلية شريعة تمنح دكتوراه في العلوم الإسلامية ، هذا الذي منحك دكتوراه صار مؤمناً ؟ هذه ثقافة ، دراسة ، فإذا الإنسان درس شيئاً ، وأتقن شيئاً ، وتعلَّم شيئاً ، وعلَّم شيئاً ، وما اهتدى ، وما استقام ، وما عرف الله عزَّ وجل ، وما سلك إليه سبيلاً ، ماذا قدم للآخرة ؟ الواحد يراجع نفسه ، ينظر إلى حساباته، يحاسب نفسه حساباً دقيقاً ، أما الحركة فيقول بعض العلماء : " هناك حركة وهناك تقدم ، أحياناً هناك إنسان يتحرك ، يقول لك : مكانك راوح . حركة لكن لا يوجد تقدم ، أسمع زعزعةً ولا أرى خشماً ، مثل المثل الذي قلته قبل قليل تماماً : بعنا ، اشترينا ، وشحنا ، وأفرغنا الطرود ، أخذنا متراجاً جاهزاً ، ووضعنا البضاعة في مستودع ، وعرضنا مساطرها ، وأمَّنا البائع ، ثم جمعنا ثمنها ، وبعد سنتين لا يوجد ربح أبداً ، تقول : يا خسارة هذا التعب ، لو لم أعمل و جلست في البيت لكان أريح لي .
لكي لا يؤدي الإنسان عمره سُدى ، العمر ثمين ، تلاحظوا كيف أن الناس تتساقط تساقطاً ، فلان مات . والله عندي علبة فيها كروت زيارات كنت أتفحصها من يومين ، والله هناك ستة أشخاص ميتين ، أين هم؟ من يعرف أين هم ؟
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
لذلك لابد أن نفرق بين الثقافة والهُدى ، الثقافة هذه المعلومات تبقى في الدماغ ، لكن الهدى استنارة القلب بنور الله ، هذه تحتاج إلى استقامة ، إلى مجاهدة ، أنا مثلي الأعلى ذلك البدوي الذي قال : أين الله ؟ لو ما أتقن بعض العلوم الشرعية وقال : أين الله . هذا عندي على العين والرأس ، سيدنا هارون ماذا كان ؟ من أرسل الله ؟ سيدنا موسى ، قال :
﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي ﴾
فهذه القضيَّة ليست بالفصاحة ، أبو جهل كان فصيحاً ..
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾
أما بلال فيقول : أسهد أن لا إله إلا الله ، ما عنده إمكان أن يخرجها ، سين بلال عند الله تعالى شين ، أي أن سيدنا بلال لا تخرج معه الشين ، حاول حاول ولم يستطع ، قال : أسهد أن لا إله إلا الله . سين بلال عند الله تعالى شين ، إنما التقوى هاهنا ، العبرة بهذا القلب ، يعرف الله عزَّ وجل ؟ يخشى الله ؟ أم إذا انفرد بحرمات الله انتهكها ؟ إذا انفرد الإنسان بحرمات الله فانتهكها فلا قيمة له عند الله إطلاقاً ، لا شأن له عند الله ..
من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله .
البطولة أن تكون عند الأمر والنهي ، هذه البطولة ..
و مــــا مقصود جنـات عدنٍ ولا الحور الحسان ولا الخيام
سوى نظر الحبيب فذا مناهم و هذا مطلب القوم الكـــــــــرام
* * *
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا فإنــــا منحنا بالرضا من أحبنا
و لذ بحمانا و احتم بجنـابــــا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
* * *
الابتعاد عن النفاق عند التعامل مع الله :
أنت تتعامل مع الله ، غش معه لا يوجد إطلاقاً ، كثير من كلمات التلبسة في الدعوة كلمات مضحكة ، أما الإنسان فيكون له مظهر معلن جيد ، ومخبر سيئ هذه زعبرة يا أخي هذا ليس بدين ، الدين أن تخشى الله وأنت وحدك كما تخشاه وأنت في ملأ من الناس، الدين ؛ لابدَّ للمؤمن من أن يصلي ، ولكن الصلاة وحدها ليست من الدين .. من شاء صام ومن شاء صلى .
في التعامل المالي ، في التعامل التجاري ، في الأسواق أين بصرك ؟ صار الدين غناء ، إذا كان الإنسان فناناً ، ما معنى فنان ؟ أي يطرب إلى المغنيات والمغنين الأحياء منهم والأموات ، له مجالس طرب ، أنا قلت مرة كلمة : والله الذي لا إله إلا هو لا يجتمع في بيت بني آدم قرآن وغناء ، وإذا اجتمعا ففي الغناء صادق ، وفي القرآن كاذب ، الغناء ينبت النفاق ، أنت مؤمن ، أنت من فئة مختارة ..
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾
أسمعك الحق الله عزَّ وجل ، فأين أنت من هذا الكلام الذي تسمعه ؟ هل أنت مقتنعٌ به ؟ إذا مقتنع فأنت مقتنع ، غير مقتنع ، أخي أنا لست مقتنعاً بكلامكم ، فإما اترك المجالس ، أو اطلب استماع الحق ، خذ مواقف واضحة ، هذه المواقف الضبابية ، هذه المواقف الاستسلامية ، أي وأتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، معظم المسلمين هكذا ، يقول لك: نحن عبيد ضعفاء ، شهواتنا غلبتنا ، ماذا نفعل ؟ نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان، نرجو الله أن يعفو عنا ، نرجوه أن يغفر لنا ، ربنا غفور رحيم ، إن شاء الله لن يحاسبنا على أعمالنا ـ كلام : اللهمَّ لا تسألنا عن شيء . فكيف ذلك وربنا قال :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
فهل نعطل هذه الآية أم نصحح الآية ؟ لا تسألنا عن شيء ، خالق كل شيء ورب كل شيء ، لا تسألنا عن شيء ، ما هذا الكلام ؟ هذا خلاف الدين ، هذا دعاء خلاف الدين .
من أراد الدنيا و الآخرة فعليه بالعلم :
المقصود من هذه الكلمة التمهيديَّة أن الإنسان يعمل حساباً ، حتى إذا استقام استقامة تامة ، وسلم وجهه إلى الله عزَّ وجل ، يقول للذي يعلمه : جزاك الله خيراً ، والله استفدنا، والله دخلنا الجنة ، والله توفقنا في الدنيا ، وشعرنا بسعادة ، واطمأن قلبنا ، والله نحن سعداء بذلك، ونحن لا نريد الدنيا نريد الآخرة ، ففي الدنيا ملوك يأكلون ما لذَّ وطاب ، لكن المؤمن والله ملك من ملوك الآخرة ، أنت موعود من رب العالمين ..
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ ﴾
إذا إنسان سلك الطريق السيئ ثم قال : غداً أتوب . فهل غداً بيدك ؟ .. " من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت " .
غداً بيدك ؟ لا هو ليس بيدك ، فهذا الكلام يدعو إلى التفكر ، هذا الكلام يبعث الهم أحياناً في النفس ، لأنني أضعك أمام مسؤوليات ، وإذا إنسان مثلاً معه مرض عُضال قال له الطبيب : هذا البيت العالي لا يصلح لك . تجده مستغرقاً في التأمل ، كيف أبيعه وهل سأجد بيتاً أرضياً بنفس السعر ؟ وربما لن يباع معنا ، والله الأسعار غالية ، يا ترى أبيع بيتي وبعدها أشتري ؟ فرضاً رُفعت الأسعار بعد ذلك سيضيع بيتي بنصف سعره ؟ نفتح فيها اعتمادات ، وأجلب بضاعة أبيعها ، وأربح فيها عشرة ملايين ، هذه خطر ، فلو باع بيتاً أو باع جزءاً منه ، وقع بخسارة ، عنده بيتان بالميسات باعهم ، باع سيارته ، باع الآلات ومازال عليه أربعة ملايين ليرة ، أنت ألا تؤمن بالقرآن ؟ ..
﴿ فَإِن ْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
إنسان آخر كذلك باع بيته ، وباع سيارته ، وباع محله ، ووضعه بالمصرف ، باسم إنسان آخر ليومين أو ثلاثة ، هذا الإنسان خلال يوم فقد كل ثروته ، لأنه قال : أضعهم بالمصرف وآخذ أرباحهم وفائدة الربح ثمانية عشرة بالمئة ، إذا كان يحضر مجالس علم هذا العمل فيه بركة ؟؟
((من بات كالاً في طلب الحلال بات مغفوراً له ))
إذا الإنسان كان متعباً بالعمل الحلال بات مغفوراً له . فوالله الذي لا إله إلا هو حضور مجالس العلم أضرّ من الطعام والشراب ، فالإنسان إذا لم يأكل ، أو أكل بشكل قليل يكون هو الرابح ، أحياناً يأكل تفاحة ، يأكل طعاماً خفيفاً ، لكن إذا الإنسان لم حضر مجلس علم فمعنى ذلك أنه معرض لأن يتورَّط ورطة كبيرة .
إذا تورط الإنسان بالزواج أحياناً ، أو بالطلاق ، أو بتزويج ابنته ، أو بتجارته ، أنا أقول : كل شيء فيه لغم ، و الإنسان إذا لم يكن مهتدياً ، لم يكن معه بصيرة ، كل شيء فيه لغم يمكن أن ينفجر فيه . فأحياناً الإنسان يغلط غلطة فيُذهب كل ثروته ، يغلط غلطة يخسر زوجته الصالحة ، يغلط غلطة فيأتيك صهر يحرق قلبك ، غلطة واحدة ، عندما يحضر الإنسان مجلس علم يعرف الحق والباطل . الصهر خطب البنت ، شيء جميل ، يريد أن يراها ، لابأس رآها ، يريد أن يمتحن أخلاقها ، استقبلناه ، أحب أن يأخذها نزهة ، ذهبت معه ، فالقضية عدة أيام ، وبعد ذلك تركها فإذا هي حامل منه ، تعال ودبر حالك ، هذا جهل ، أحياناً الإنسان يحضر صهره إلى بيته ويقول : هذا صار منا وفينا ، هذا صار من أهل البيت ، هذا كله كلام فارغ ، كل هذا خلاف الشرع ، هذا ليس في الشرع ، تقع فجائع أخلاقية مثل انفجار لكن بطريقة أخرى .
لذلك الإنسان إذا كان مخيراً يأكل أو لا يأكل ، أنا أعتقد ليس بمخير يحضر مجلس علم أو لا يحضره ، يعرف شيئاً من كتاب الله ، يعرف حديث رسول الله ، يعرف أحكام الفقه، يعرف آيات الله الكونية ، يعرف لمَ خُلِقَ في الدنيا ؟ يعرف هدفه ، يعرف طريقه ، يعرف وسائله، أي أن الإنسان ..
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
والله لا يستوون .
إنسان قال لك : الأرض مسطحة غير كروية ، فأنت لا تصدقه ، فأفقه ضيِّق ، آيات كثيرة في القرآن الكريم تقول :
﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾
الدحية هي الكرة ، الجهل بشع ، الجهل يسبب لصاحبه خسارة ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، فالإنسان يقول : أنا لن أحضر مجلس علم ، أنا عندي مشكلة ، حتى أنجح ، حتى أفتح المحل ، حتى أتزوج . هناك أناس تزوجوا و لم يدخلوا ، و أناس اشتروا محلات وما دخلوها ، و أناس اشتروا بيتاً و ما سكنوه ، شخص جاء معه دكتوراه وصل إلى بيته ، وضع الحقائب على الرصيف، ظن السائق أنه طلع فأراد أن يرجع للوراء ، فدهسه ، اثنتا عشرة سنة وهو يدرس ، وصل إلى بلده معه الحقائب ، هناك شخص بالطائرة مات ومعه دكتوراه ، الموت قريب منا ، أما المؤمن عندما يعرف الله عزَّ وجل وأخذ احتياطه ، واستقام ، وعلاقاته كلها جعلها نظيفة ، فمرحباً بالموت ، هو ينتظره ، أنا لا أخاف الموت بل هو غايتي ، فانظر الفرق بين إنسان يكون الموت شيئاً مرعباً له ، وبين إنسان يكون غايته .
الدين علمي و كل سبب له نتيجة :
إذاً الشيء الذي أردت أن أقوله لكم : إن الإنسان يأخذ الكلام على مأخذ الجد ، ولا يظن الإنسان أنه إذا حضر مجلساً يتبارك ، والله من جهة البركة لا يوجد ، هذه المعاني ليس لها معنى ، فماذا تعني كلمة نتبارك ؟!
الآن إذا إنسان معه مرض عضال ؛ وهذا الوصفة له ، معه التهاب معدة وأخذ دواء فوراً يشفي الالتهاب ، أما إن أحضر الدواء ، وتركه ، ووضعه في مكان ظريف على الرف ، قرأه ، ترنَّم باسمه ، فهل يشفى ؟ هذا كله كلام فارغ .
مثلما ربنا خلق الكون وفق أنظمة علمية دقيقة ، كذلك الدين علمي ، لا يوجد شطحات في الدين ، و لا خرافات ، و لا نتائج بلا أسباب ، هذا السبب له نتيجة ، وهذه النتيجة لها سبب .
الإنسان يسمع قصصاً بحكم مثلاً من أقربائه ، من أصدقائه، من زملائه ، من جيرانه ، ولكن سبحان الله كل قصة أسمعها ، كأن هذه الحالة تجعلنا نفهم الدين فهماً صحيحاً فهذا الذي أخذ قرضاً دفع الثمن غالياً ، باع بيتين ثمن كل بيت مليون ، باع سيارته ، باع معمله ، وبقي عليه أربعة ملايين ليرة ، لأن العملية غير مشروعة أصلاً ، فالإنسان يجب أن يكون على علم ؛ " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " .
والله زرت أخاً كريماً يحضر معنا قال لي : والله مرّ عليه سنة وشهر ولا فاتني الصبح ولا قيام الليل ، ولكن زلت قدمه بمخالفة بسيطة ، استيقظ متأخراً ، طبعاً هو ما فقد شيئاً ولكنه يحلل الأمور ؛ لماذا لم يستيقظ اليوم على صلاة الصبح ؟ لأنه وقع بمخالفة بسيطة ..
عبدي لا تعصني في النهار أوقظك في الليل ، إياك أن تعصني في النهار ، إذا الإنسان نام على طهارة يستيقظ على طهارة في الوقت المناسب ، أما إذا نام على غير طهارة فلن يستيقظ ، وانتهى الأمر .
فلذلك الذي نرجوه والله لا نريد حمداً ولا شكورا ولا ثناء ، ولكن حقائق ، قوانين، فهذا المفتاح لهذا الباب ، فهل يفتح قفل الباب بمفتاح آخر ؟ لا ، الطريق مسدود ، فكل باب له مفتاح توفيراً للوقت والجهد ، وكل واحد منا له هذا السؤال الدقيق : كيف مضت السنوات السابقة من حياته ؟ طبعاً في أربعين ، في ثلاثين ، في خمس وعشرين ، في خمس وأربعين ، في خمس وخمسين ، في ستين ، ولكن بالستين يكبرون ، فهل هناك ستون سنة أخريات ؟ هذه بعيدة جداً هذه الستين ، خمسين سنة أيضاً بعيدة ، فهؤلاء الناس الذين نزلوا في قبر واحد ، اسأل : أخي كم عمره ؟ يقول لك : خمسة وستون ، اثنتان وسبعون ، سبعة وستون ، ثمانية وستون ، أربعة وخمسون ، تسعة وأربعون ، ثمانية وثلاثون . معنى هذا إذا أخذنا أحسن احتمال، لا مرض ، ولا حادث ، ولا شيء ؛ لكن فقط للستين معنى ذلك وأغلب الظن أقل من مرض ، ولو كان هذا الكلام يبعث في القلب القشعريرة ، ما بقي أقل مما مضى ، هناك قبر، البارحة عزينا شخصاً ، طبعاً بيته ، غرفة نومه ، غرفة ضيوفه ، حاجاته ، أين هو الآن ؟ تحت التراب ، و ليس هناك أحد أحسن من أحد ، اقرأ تاريخ الملوك ، الجبابرة ، الوزراء ، الأغنياء ، الحكَّام ، المحكومين ، العلماء ، الجهَّال ، الأنبياء كلهم تحت الثرى .
الآن نحن في سنة ألف وتسعمئة وأربع وثمانين ، سنة ألفين وخمسمئة لا يوجد إنسان على وجه الأرض منا كلنا سيعيش ، كلنا سنموت ، يمكن أن يكون هناك مصلون جدد ، وأجيال آخرى ، أما فنحن تحت التراب ، كل شيء دنيوي لا يفيد يفيد ، مرة أخ يحضر معنا والله وتوفي ، وحضرت جنازته ، وقام رجل وأبَّنه ، فقال : إن هذا الرجل كان مؤذِّناً فهل كان يقول : إن بيته فخم ؟ لا يقولها ، أو كان بيته مزيَّناً بالجبصين ؟ كان يملك سيارتين ، واحدة للسفر وواحدة للحريقة ؟ لم يتكلم بهذا ، ولا سافر لأسبانيا وقعد في فندق خمس نجوم ، لا لم يقل شيئاً من ذلك ، ذهب إلى هولندا ، ذهب إلى أوروبا ، زوج خمس بنات ، عمل كتاب ابنته في أفخر فندق ، ليس لكل هذا الكلام طعم ، فما يدريك بهذا الإنسان إذا وزناه بالميزان ؟ قال : كان يؤذِّن، وهذه الكلمة تركت في نفسي أثراً كبيراً جداً ، أنه اعمل عملاً يحكى به عند الموت واعرف أن أربعة أخماس أعمالنا ، تسعة أعشار أعمالنا، تسعة وتسعين بالمئة من أعمالنا ليس لها ذكر إطلاقاً ، إذا كنت بطلاً اعمل عملاً يحكى عند القبر ساعة عن أعمالك الصالحة ، عن الذين اهتدوا على يديك .
تعريف الناس بالله عز وجل :
الإنسان أحياناً يكون أمة ..
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾
أمة ، هو لوحده أمة ، أي إذا الواحد خرج لمستوى ..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
إلى مستوى ..
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
فوالله الذي لا إله إلا هو أحياناً أجد أخاً عنده رغبة جامحة أن يدعو إلى الله فيقول: إن هذا الأخ أحضرته لك ، وهذا أقنعته بالحضور ، وهذا كان يحضر وغاب ، ونحن سألنا عنه فكان مقصراً فعاوناه . والله أنا أغبط هذا الأخ ، بالإسلام لا توجد مراتب دينية ، ولا يوجد تهميش ، أقل إنسان هو داعية ، ألا يوجد حولك أقارب ؟ ألا يوجد جيران ؟ أليس لك أصحاب ؟ أليس لك أصهار ؟ أليس لك إخوان في الله ؟ أليس لك أبناء ؟
ماذا تفعل ؟ أقنعهم . ماذا أقول لهم ؟ يا عيني ثماني سنوات حضور مجالس علم وما عندك إمكان أن تتكلم ساعة عن الله !! قالوا في التدريس : المدرس الناجح يجب أن يتكلم ساعات طويلة كلاماً ممتعاً جداً من دون تحريف . أي هناك أشياء يعقلها ، الآن قل لنفسك : كم آية يمكن أن أتكلم بها وأشرحها للناس ؟ هذا القرآن ، اعمل امتحاناً ، النبي الكريم كان يمشي على رؤوس أصابعه لما توفي سيدنا سعد ، قال :
(( اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ ))
ماذا يظن الناس ؟ يقولون : كلها خمس كلمات .. من ربك ؟ الله ، حافظها عن غيب ، من نبيك ؟ محمد ، ما دينك ؟ الإسلام . لا ، القرآن كتابك ، ماذا تحفظ منه ؟ الآن اعمل فحصاً لنفسك ، أنت إذا أردت أن تجلس مع إنسان ، وامتحنته بكتاب الله ، كم آية تقدر أن تتكلم في الصلاة ؟ تفضل ، والله ليسوا في بالي ، كم حديث شريف تحفظ ويمكنك أن تفسره للناس ؟ امتحن نفسك ، اجلس مع إنسان وادعه إلى الله فماذا تحكي له ؟
الآن يقول لك : صلِّ ، أي إنسان ممكن أن يقول لك : صلِّ ، ممكن أن تقول لإنسان : يا بني صلّ . فيقول لك : لا أريد أن أصلي . هذه أليست دعوة إلى الله ؟ الصلاة من حق الله ، لكن عرفه بالذي يصلي له أولاً ، تقول له : صلِّ ، ولكن لمن ؟ لله .
حكى لي أخ بالمحكمة ، دخل شخص دعا عليه دعوى وهي كيدية ، قال له : وكِّل الله . فقال له : أين الله لأوكِّله ؟ ألم يمل مني ويعذبني ؟ وهو يصلي ، فهذه الصلاة لا تفيده ، لكن عرف الناس بالله .
لكل شي حكمة :
يجب أن تعرف الإنسان بالله بحيث يرى رحمته ، يرى حكمته ، يرى حكمته بالفيضانات، بالكوارث ، وبنزول القحط ، يقول لك : كيلو اللحم يباع على طريق حماة أو حمص بأربع ورقات. انظر إلى عين الرحمة ، أناس غافلون هزهم ربنا هزة قوية ، لم يعد هناك كهرباء ، فكل شيء أصبح لا يدور ، ألا تريد ماء لدوران الآلات ؟ لا يوجد ماء .
الإنسان عندما يريد أن يرى حكمة ربنا ورحمته يراها بالقحط والخير ، بالشدة والرخاء ، بالصحة والمرض ، أحياناً ترى آلة لكن الإله لم نره ، قال لي شخص : هذه الآلة لا تفنى أبداً ، وربنا عز وجل ما كان قادراً على أن يعمل لنا قلباً لا يمرض أبداً !! لا ذبحة ولا جلطة ولا احتشاء عضلي ، أليس قادراً على أن يصنع قلباً لا يصاب بالمرض ، المرض فيه حكمة ، يجب أن أن تكشف حكمة ربنا بالمرض ، هذه آية الشمس جعلها الله تدور ولا تظل ثابتة ، من الذي قال هناك دعاء للدوران ؟ لا يوجد دعاء دوران ، لا يوجد دعاء لشروق الشمس، الشمس تشرق كل يوم ، هناك أشياء ثبتها الله و لم يحركها ، مثلما ثبت الدوران ، وثبت الشروق ، كان ممكن أن يثبت هطول الأمطار تماماً ، الشام فيها ألف وخمسمئة مليمتر إلى أبد الآبدين ، هل بقي هناك دعاء استسقاء ؟ لا حاجة للدعاء ، صار هناك استغناء عن الله عز وجل .
معنى هذا أن المرض فيه حكمة ، القحط له حكمة ، الفقر له حكمة ، الفقر ليس تقنين عجز ؛ تقنين معالجة ، إذا كان هناك إنسان والده ملك ، وصار معه التهاب أمعاء قال له الطبيب : فقط يجب أن يأكل الكوسا مسلوقاً . فهل أبوه ليس عنده إمكانات أن يطعمه كوسا محشي باللحم والسمن ؟! يقدر ، لكن هذا معالجة ، هذا تقنين معالجة وليس تقنين عجز أو فقر.
مرة خطر في بالي خاطر : لماذا يوجد غنى وفقر في الأرض ؟ لو لم يكن هناك غنى وفقر أليس هذا أفضل ؟ لا يمكن ، قلت : لو كان هناك أب عنده خمسة أولاد أحضر لهم كيسين برتقال ، كل كيس ثمنه خمسة وعشرون ليرة ، أصبح ثمنهم خمسين ليرة ، ووضعهم بالغرفة ، هل تعرف الأمين من الذي يأخذ كل شي لنفسه ؟ هل تعرف المنصف من غير المنصف ؟ تضيع الطاسة ، أما إذا أحضر الأب لهم عشر برتقالات ، إذا أكل الابن ثلاث برتقالات ، يحصل أخوه على واحدة ، إذا أكل الأخ أربع برتقالات جعل أخاه لا يأكل ولا برتقالة ، يأتي يأخذ الكبيرة ، وآخر يأخذ الصغيرة ، فالله إذا جعل البرتقال كله حجمه متساو ، لم يكن هناك نزاع، اختلاف القياسات صار فيه إظهار للفضائل .
حتى اختلاف الفاكهة كبيرة وصغيرة ، هذه تفاحة خدها أحمر ، الكل يحب التفاحة الحمراء هذه خدها أحمر أريد أن آخذها ، لا ، يأتي أخ يأخذها لوحده ، يأتي أخ ثان تفضل أنت كلها ، بابا تفضل أنت كلها ، هذه لها معنى ، نشأت محبة بين الأب وابنه ، اختار له أحسن تفاحة ، وجد واحدة خدها أحمر فلم يأخذها وأعطاني إياها ، لو كان كلهم خدهم أحمر ما بقي هناك شيء .
حتى الاختلاف بين الفاكهة له معنى ، المرض له معنى ، الصحة لها معنى ، إذا كان هناك شيء لم يذكره الله فهذا منتهى الحكمة ، صار يمشي في ذهني موضوعات جديدة أن الشيء الذي لم يقل عنه الله إطلاقاً فيه حكمة بالغة ، لو حكاه كان مثل الناس ، لو قال : نسبة الربح ثلاثة عشر ونصف بالمئة على الفاتورة ، هناك آية قرآنية بذلك ؟ وقال مثلاً : أخذت بضاعة كتب نصفها . هذا الصنف لم يبع معك ، فأنت تخسر ، ومعناها لا تستطيع أن تعيش ، هذه الله سكت عنها ، يجوز أنت عندك ستوكات ، وهناك شيء فاخر ، سعر يرخص ، وسعر يعلو ، هذا كله من حكمة الله عز وجل ، فلذلك الإنسان يجب أن يتحرك في موضوعات معينة، و عليه معرفة الله عز وجل لأنك أنت مصيرك معه .
هناك إنسان جالس مع زوجته ، هذا الزواج مؤقت ، كيف مؤقت ؟ هذه زيجة مواتية ، كيف مواتية ؟ هناك موت بعد ذلك ، فعلى قدر ما كانت هذه زيجة جيدة لابد من أن يفرق الموت بينكما ، قدر ما كان بيته جميلاً منتقى ، والله دخلت إلى بيت ، زاوية الشام كل جهاتها مفتوح ، آخذ شرقاً غرباً قبلياً ، كيف هذا المحضر لا أحد أمامه ولا خلفه ولا جانبه ورابع طابق ، دخلت إلى البيت ، لكن أين لا يوجد موت ؟ أريد أن أرى واحداً كهذا ، إن بنى له بيتاً يكون بمحل آخرته ، بباب الصغير ، بمقابر الدحداح ، ما ثمنه ؟ أما ترتيبه فرائع ، السجاد لونه خمري ، الثريات ، الشام مكشوفة كلها ، تريد أن ترى الشمس ؟ هناك واجهة شرقية ، تريد أن تراها بعد الظهر ؟ هناك واجهة غربية ، تريد أن ترى الشام كلها ؟ لكن آخر شيء لا بد من أن يموت ، يشيَّع إلى مثواه الأخير إلى الدحداح ، فالبطولة مع الأخير وليس مع المؤقَّت .
من فكر بالموت نقل اهتماماته من الدنيا للآخرة :
لذلك إذا فكر الإنسان بالموت ينضبط ، وتنتقل اهتماماته من الدنيا للآخرة ، بعد ما كان دنيوياً صار أخروياً ، يجب أن يكون الموت ماثلاً في أذهاننا كل يوم ..
(( من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له...))
الذي أرجوه من الأخوة الحاضرين أن يعمل كل شخص جرداً لحساباته ؛ فهل هناك مخالفات في بيته ؟ بناته ؟ زوجته ؟ هل عنده عدد من الأجهزة الكهربائية ؟
الآن كلنا نعرف هذا جهاز كهربائي مباح ، كأن يكون من نوع حماصة الخبز فلا مانع ، أما هل هناك أجهزة عنده من نوع آخر مثلاً ؟ من نوع يسبب فساداً أخلاقياً بالأسرة ؟ هذا الذي نريده منكم أن يأخذ الإنسان موقفاً عملياً ، ولا يبقى مقتنعاً ، قال : اللغة من وضاءتها ... أخي هل آتي لك بكأس من الماء ؟ من وضاءة اللغة إحداث الاستجابة ..
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
هذه الكلمة استغرقت موضوع الفقه وموضوع الحديث ، بقي القصة.
* * *
ربيعة الرأي :
قصة اليوم لأحد التابعين ، ظهرت على ربيعة الرأي علامات النجابة منذ نعومة أظفاره ، وظهرت أمارة الذكاء في أفعاله وأقواله ، فأسلمته أمه إلى المعلمين ، وأوصتهم بأن يحسنوا تعليمه ، واستدعت له المؤدبين وحضتهم على أن يحسنوا تأديبه ، فما لبث كثيراً حتى أتقن الكتابة والقراءة ، ثم حفظ كتاب الله عز وجل ، الآن يقرأ أحدهم القرآن يكون معه ليسانس يقول لك : (يس) ما هذه يس ؟ يا و سين لا يعرف أن يقول : يا سين . يكون معه ليسانس ، أما طفل فيحفظ كتاب الله .
ثم حفظ كتاب الله عز وجل ، وجعل يرتله ندياً طرياً كما أنزل عل فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ، وروى عما تيسَّر له من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستظهر من كلام العرب ما يحسن بمثله أن يستظهر ـ ليست كهذه الألغاز كلها حفظها ، لا يوجد فيها شيء، قصص بوليسية تهيج المشاعر كلها ، يجب أن يكون للإنسان برنامج يقرأه ، هناك كتابات مثل السيف ـ
وعرف من أمور الدين ما ينبغي أن يعرف ، وقد أغدقت أم ربيعة على معلمي ولدها ومؤدبيه المال والجوائز إغداقاً ..
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
* * *
أحياناً الأب يتكلم على معلم ابنه كلاماً بالبيت : هذا لا يفهم ؟ لا ، مثل أعلى لابنك ولو كان مخطئاً ، يجب ألا تتكلم بهذا الكلام أمام ابنك ، بعد ذلك يقل شأنه عنده ، انتبه، فإذا أكرمت المعلم ، بعثت له ببطاقة : نشكر اهتمامكم ورعايتكم ، ونتمنى له التوفيق في توجيهكم ، التوقيع الولي . المعلم بالنسبة له يجد أن هناك أهلاً يقدرون جهوده ، فيضاعف جهوده ، أما لماذا لم تعطه الوظيفة ؟ أريد أن أعمل للمعلم مشاجرة بالمدرسة ، ما هذا الأب !!
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
* * *
فكانت كلما رأته يزداد علماً تزيدهم براً وإكراماً ، وكانت تترقب عودة أبيه الغائب وتجتهد في أن تجعله قرة عينٍ لها وله ، لكن فروخاً طالت غيبته ، ثم تضاربت الأقوال فيه ، فقال بعضهم : أنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء . وقال آخرون : إنه ما زال طليقاً يواصل الجهاد. وقال فريقٌ ثالث عائدٌ من ساحات القتال : إنه نال الشهادة التي تمناها . فترجح هذا القول الأخير عند أم ربيعة لانقطاع أخباره ، فحزنت عليه حزناً أمض فؤادها ، ثم احتسبته عند الله .
الحرفة التي اختارها ربيعة لنفسه :
كان ربيعة يومئذٍ قد أيفع وكاد يدخل في مداخل الشباب ، فقال الناصحون لأمه : ها هو ذا ربيعة قد استكمل ما ينبغي لفتىً مثله أن يستكمله من القراءة والكتابة ، وزاد على أقرانه فحفظ القرآن وروى الحديث ، فلو تخيرت له حرفةً من الحرف فإنه لا يلبث أن يتقنها وينفق عليكِ وعلى نفسهِ مما تدره من خيرٍ . فقالت : أسأل الله أن يصير له ما فيه صلاح معاشه ومعاده ، إن ربيعة قد اختار العلم النافع .
الآن الآباء ... يكون الابن ليس له حب بالعلم ، يتعب و يتعب أهله ، إذا كان عندك ابن لا يوجد فيه أمل إطلاقاً ، اكسب عمره وضعه في مصلحة ، يكبر على المصلحة ، وهناك آباء بالعكس يكون ابنه عنده رغبة عالية بالدراسة ، يضعه عنده بالمحل ، هذا لا يجوز هذا الإنسان أين يحب ينبغ ، هناك أشخاص ينبغون نبوغاً هائلاً ، اتركه ماشي ، ادعمه، يبنغ بالدراسة ، اتركه ، ادعمه ، لمَ أنت تعاكس اتجاهه ؟ تعذب نفسك وتعذبه ، تريد أن تمشي سفينة على الأرض ، لا تمشي هذه تمشي على البحر .
ترجو النجاة ولا تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
* * *
وعزم على أن يعيش متعلماً ومعلماً ما امتدَّت فيه الحياة ، مضى ربيعة في طريق اختطها لنفسه غير وانٍ ولا مقصرٍ ، وأقبل على حلقات العلم التي كان يزخر بها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقبل الظمآن - جمع ظامئ - على الموارد العجاف ، ولزم البقية الباقية من الصحابة الكرام وعلى رأسهم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عن الرعيل الأول من التابعين ، وفي مقدمتهم سعيد بن المسيب ، ومكحول الشامي ، وسلمة بن دينار ، وواصل كلال ليله بكلال نهاره حتى أنهكه الجهد ، فإذا كلمه أحدٌ في ذلك ودعاه إلى الرفق بنفسه قال ربيعة : سمعنا أشياخنا يقولون : العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .
الآن بالتجارة إذا كنت فتحت محلاً تجارياً في منطقة نائيَّة لن تربح شيئاً ، إذا كنت حسنته أكثر تربح أكثر ، نقلته وعملته بالمدينة تربح أكثر، إذا كان هناك بضاعة نادرة تربح أكثر ، أكثرت البضاعة تربح أكثر ، العلم بالعكس ، تريد أن تبذل كل شيء لتنال شيئاً ، وإذا بذلت شي قليلاً لن تنال شيئاً أبداً ، هذه مشكلة العلم .
ثم ما لبث حتى ارتفع اسمه ، وبزغ نجمه ، وكثر إخوانه ، وأولع به تلاميذه ، وسوَّده قومه ، ولقد صارت حياة عالم المدينة هادئةً وادعةً ، فشطرٌ من يومه في داره لأهله وإخوانه ، وآخر في مسجد رسول الله لمجالس العلم وحلقاته ، ولقد مضت حياته متشابهةً حتى وقع فيها ما لم يكن في الحسبان .
البشرى التي زفت لأم ربيعة و الفزع الذي دخل قلبها :
في ذات عشيةٍ من عشيات الصيف المقمرة ، بلغ المدينة المنورة فارسٌ في أواخر العقد السادس من عمره ، ومضى في أزقتها راكباً جواداً قاصداً داره ، وهو لا يدري إن كانت داره ما تزال قائمةً على عهده ، أم أن الأيام قد فعلت بها فعلها ، مضى على غيابه أعواماً طويلة وكان يسائل نفسه عن زوجته الشابة التي خلَّفها في تلك الدار ما فعلت ؟ وعن جنينها الذي كانت تحمله بين جوانحها أوضعته ذكراً أم أنثى ؟ أحيٌ هو أم ميت ؟ وإذا كان حياً فما شأنه ؟ وعن ذلك المبلغ الكبير الذي جمعه من غنائم الجهاد وتركه وديعةً عندها ، حين مضى مجاهداً في سبيل الله مع الجيوش الإسلامية المتوجهة لفتح بخارى وسمرقند وما جاورها ؟
ولقد كانت أزقة المدينة وشوارعها ما تزال عامرةً بالغادين والرائحين، فالناس لم يفرغوا لصلاة العشاء إلا وشيكاً ، لكن أحداً من هؤلاء الناس الذين مرّ بهم لم يعرفه ، ولم يأبه له ، ولم يلتفت إلى جواده المطهم ولا إلى سيفه المدلَّى ، فسكان المدن الإسلامية كانوا قد ألفوا منظر المجاهدين الغادين إلى القتال في سبيل الله ، أو العائدين منه .
لكن ذلك كان فضلاً في إثارة حزن الفارس وازدياد وساوسه ، وفيما هو كان سابحاً في أفكاره هذه ، ماضياً يتلمس في تلك الأزقة التي عراها التغير وجد نفسه أمام داره ، والباب مفتوح ، دخل والابن ما عرفه ، وجد إنساناً داخل البيت ، صاح به ، الأم استيقظت وأطلت من نافذة عليتها فرأت زوجها بشحمه ولحمه ، فكادت تعقد الدهشة لسانها ، لكنها ما لبثت أن قالت : دعه يا ربيعة ، دعه يا ولدي إنه أبوك ، انصرفوا يا قوم بارك الله عليكم ، حذارِ يا أبا عبد الرحمن إن هذا الذي تتصدى له هو ولدك ، وفلذة كبدك .
فما كادت كلماتها تلامس الآذان ، حتى أقبل الابن على أبيه يقبله ، وأقبل الأب على ابنه يضمه ، وانفض عنهما الناس ، ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذي ما كانت تظن ظناً أنها ستلقاه على هذه الأرض بعد أن انقطعت أخباره مدةً كثيرة .
جلس فروخ إلى زوجته ، وطفق يحدثها عن أحواله ، ويكشف لها عن أسباب انقطاع أخباره ، ولكنها في شغلٍ شاغل عن كثيرٍ مما يقول ، فلقد نغَّص عليها فرحتها بلقائه واجتماع شمله بولده خوفها من غضبه على إضاعة كل ما أودعه لديها من مال ، مبلغ طائل ثلاثمئة ألف ليرة ، ترك لها ثلاثين ألف دينار ، ثلاثمئة ألف ليرة مبلغ ضخم جداً .. كانت تقول لنفسها : ماذا لو سألني الآن عن ذلك المبلغ الكبير الذي تركه أمانةً عندي ، وأوصاني أن أنفق منه بالمعروف ؟ ماذا سيكون منه لو أخبرته أنه لم يبق منه شيء ؟ أيقنعه قولي هذا ، إنني أنفقت ما تركه عندي على تربية ابنه وتعليمه ؟ وهل تبلغ نفقة ولدٍ ثلاثين ألف دينار ؟ أيصدق أن يد ابنه أندى من السحاب وأنه لا يبقي على دينارٍ ولا درهمٍ ، وأن المدينة كلها تعلم أنه أنفق على إخوانه الآلاف المؤلَّفة ، وفيما كانت أم ربيعة غارقةً في هواجسها ، التفت إليها زوجها وقال: لقد جئتك يا أم ربيعة بأربعة آلاف دينار ، فأخرجي المال الذي أودعته عندكِ لنضم هذا إليه ، ونشتري بالمال كله بستاناً أو عقاراً نعيش من غلته ما امتدت بنا الحياة .
فتشاغلت عنه ولم تجبه بشيء ، فأعاد عليها الطلب وقال : هيا أين المال حتى أضم إليه ما معي ؟ فقالت : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع - كلام بليغ واضح - لقد وضعته حيث يجب أن يوضع ، وسأخرجه لك بعد أيامٍ قليلة إن شاء الله .
وقطع صوت المؤذن عليهما الحديث .
المنزلة التي وصل إليها ربيعة الرأي :
هب فروخ إلى إبريقه فتوضأ، ثم مضى مسرعاً نحو الباب وهو يقول : أين ربيعة ؟ ابنه .
قالوا : سبقك إلى المسجد منذ النداء الأول ، ولا نحسب أنك تدرك الجماعة .
بلغ فروخ المسجد فوجد أن الإمام قد فرغ وشيكاً من الصلاة ، فأدى المكتوبة ، ثم مضى نحو الضريح الشريف - أي ضريح النبي الكريم - فسلم على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ثم انثنى نحو الروضة المطهرة ، فقد كانت في فؤاده أشواقٌ إليها وحنينٌ إلى الصلاة فيها ، فتخير لنفسه مكانٌ في رحابه النضرة ، فصلى ما شاء الله أن يصلي ، ثم دعا بما ألهم أن يدعو ، ولما همَّ بمغادرة المسجد وجد باحته قد غُصَّت على رحبها بمجلسٍ من مجالس العلم لم يشهد له نظيراً من قبل ، ورأى الناس قد تحلَّقوا حول شيخ المجلس حلقةً إثر حلقة ، حتى لم يتركوا في الساحة موطئاً لقدم ، وأجال بصره في الناس فإذا فيهم شيوخ معممون ذو أسنان ، ورجالٌ متوقِّرون تدل