- محفوظات / ٠4مقالات
- /
- ٠2مقالات متنوعة
يا من جئت الحياة، فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدَّست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيّأت تفُّوقك لتكون واحداً فوق الجميع، فعشت واحداً بين الجميع، يا من أعطيت القدوة، وضربت المثل، وعبّدت الطريق.. يا من كانت الرحمة مُهجتك، والعَدل شريعتك، والحُب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك. ولسان حالك يقول: " المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مَركبي، وذِكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والزُهد حرفتي، واليقين قوّتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خُلقي، وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة.. ".
أشهد أن الذين بهرتْهم عظمتك لمعذورون، وأن الذين افْتَدَوْكَ بأرواحهم لهم الرابحون، أي إيمان، وأي عزم، وأي مضاء، وأي صدق، وأي طُهر، وأي نقاء، وأي تواضع، وأي حُب، وأي وفاء؟..
فيوم كنت طفلاً عَزَفْتَ عن لَهْو الأطفال !.. وعن ملاعبهم، وأسمارهم، وكنت تقول لأترابك إذا دَعَوكَ إلى اللهو: " أنا لم أُخْلَق لهذا"!!.
ويوم جاءتك رسالة الهدى، وحُمَّلتَ أمانة التَبليغ، قلت لزوجتك، وقد دعتك إلى أخذ قسطٍ من الراحة: " انقضى عهدُ النومِ يا خديجة "..
ويوم فتحت مكة التي آذتك وأخرجتك، وكادت لك، وائتمرت على قتلك.. وقد ملأت راياتك الأفق ظافرة عزيزة، قلت لخصومك: "اذهبوا فأنت الطلقاء !!".
ويوم دانت لك الجزيرة العربية، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً صعدت المنبر، واستقبلت باكياً، وقلت لهم: " من كنتُ جلدت له ظهراً فَهذا ظهري فَلْيَقْتَد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه.. ".
ويوم دخلت على ثَوْبان ـ ذلك الغلام الفقير ـ فرأيته يبكي فسألتَه: ما يُبكيك يا ثَوبان؟.. قال: يا رسول الله إنك غبتَ إني اشتقتُ إليك، فتبكي عيناي، فإذا تذكرت الآخرة وأنني لن أكون معك في الجنة حيث أنت في أعلى درجاتها، ازداد بكائي.. عندئذٍ هبط الأمين جبريل يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69)﴾
ويوم أقبل عليك رجلٌ فَظٌّ، لم يكن قد رآك من قبل غير أنه سمع أن محمداً يسبُّ آلهة قريش، فحمل سيفه وأقسم ليسوِّينَّ حسابه مع محمد، ودخل عليك وبدأ حديثه عاصفاً مزمجراً، وأنت تبتسم وتنطلق مع بسماتك أطياف نور آسر، وما هي إلا لحظات، حتى انقلب الغيظ المتجهم حباً..!! يكاد من فرط الوجد والحياء أن يذوب، وانكفأ على يديك ودمعه ينهمر من عينيه، ولما أفاق قال لك: يا محمد، والله لقد سعيت إليك وما على وجه الأرض أبغضُ إليَّ منك، وإني لذاهب عنك، وما على وجه الأرض أحب إليَّ منك !!.. لقد أشرقت على هذا الرجل أنوار الحق، ومحبة الخلق الكامنة في قلبه الشريف، ففعلت في قلب الرجل فعل السحر !!..
إنها النبوة ! إنها النبوة !.
ويوم غضبت صلى الله عليه وسلم من غلامٍ لك ـ وكان بيدك سواك ـ فقلت له: " والله لولا خشية القصاص لأوجعتك بهذا السواك"...
نحن بأمسَّ الحاجة إلى هديك الرَّباني، الذي لا تزيده الأيام إلا رسوخاً وشموخاً، ونحن بأمسَّ الحاجة إلى سُنَّتك المطهرة، التي هي المنهج القويم والصراط المستقيم، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى أخلاقك العُظمى، التي لا يزيدها التأمُّل، والتحليل، إلاَّ تألُّقاً ونضارة، لقد كنت بحقٍّ بين الرجال بطلاً.. وبين الأبطال مثلاً..
حيث قلت لابنتك فاطمة الزهراء رضي الله عنها: " يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، أنا لا أغني عنك من الله شيئاً، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ! ".
ما من كلمة تُقال في شمائلك أبلغ من كلمة سيدنا جعفر بن أبي طالب ابن عمك رضي الله عنه، يوم كان في الحبشة مهاجراً وسأله ملكها النجاشي عنك فقال: " أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحَّده، ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفُّ عن المحارم والدماء... ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات "( 1 ).
خاطبك ربك فقال:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46)﴾
لقد دعوت إلى الله، وتلوت على قومك آيات الله، وعلَّمتهم الكتاب الحِكمة، وزكِّيت الذين آمنوا بك، وساروا على نهجك، حتى صاروا أبطالاً.. رهباناً في الليل فرساناً في النهار.. يقومون الليل إلا قليلاً، ينفقون أموالهم سرّاً وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة، في صلاتهم خاشعون، عن اللغو مُعرِضون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، ولأماناتهم وعهدهم راعون، يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً يبيتون لربهم سجَّداً وقياماً، هم تائبون.. عابدون.. حامدون.. سائحون.. راكعون، ساجدون.. آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر.. حافظون لحدود الله.. يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، إذا قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لهم فاخشوهم، زادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، هم رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً، يُبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يشخون أحداً إلا الله، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، إذا ذُكر الله وجِلَت قلوبهم، وإذا تُلِيت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكَّلون، ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، كانوا قوَّامين بالله شُهداء بالقِسط، أذلة على المؤمنين أعزَّة على الكافرين.. أحبوا الله وأحبهم.. رضي الله عنهم ورضوا عنه..
لقد عرفت قيمة الوقت، فجعلته ظرفاً لبطولات تعجز عن صنعها الأمم والشعوب، حتى أقسم الله بعمرك الثمين فقال تعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
ما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يصطلحوا مع ربّهم، ويخلصوا له دينهم، ويهتدوا بهديك، ويتبعوا سُنَّتك، ثم يدعوا بدعائك، فلعل اللّه يُخرجهم من الظُلمة، وكيف عنهم الغمّة، وينصرهم على عدوهم.
يا ذا القلب الذكي، يا من لا تَفْلَت منك شاردة، من آمال الناس وآلامهم، إلا لبَّيتها ورعيتها، وأعطيتها من ذات نفسك كلَّ اهتمامٍ وتأييد.. يا أيها العابد الأوَّاب، يا من تقف في صلاتك تتلو سوراً طويلة من القرآن، في انتشاء وغبطة، لا تقايض عليها ملء الأرض ذهباً، ثم لا تلبث أن تسمع بكاء طفلٍ رضيع كانت أمه تصلي خلفك في المسجد فتُضحُي بغضبتك الكبرى وحبورك الجيّاش، وتُنهي صلاتك على عجل رحمةً بالرضيع !!..
يا من سوَّيت نفسك مع أصحابك، في بعض الغزوات، فتناوبت واثنين منهم على راحلة، فلما طُلِب منك أن تبقى راكباً قلت لهما: " ما أنتما بأقوى مني على السير، وما أنا بأغنى منكما على الأجر !؟ ".
يا من كنت ترتجف، حينما ترى دابة، تحمل على ظهرها فوق ما تطيق..
يا من أرسلك الله رحمةً للعالمين. فقال:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
وزكّى عقلك فقال:
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾
وزكّى لسانك فقال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)﴾
وزكّى شرعك فقال:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
وزكّى جليسك فقال:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾
وزكّى فؤادك فقال:
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)﴾
وزكّى بصرك فقال:
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾
وزكّى خلقك فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
وأقسم بعمرك الثمين فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
نشهد أنك أدّيت الأمانة، وبلَّغت الرسالة، ونصحت الأمَّة.. وكشفت الغُمَّة، ومحوت الظُلْمة... وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد...
اللهم صلِّ وسلَّم وبارك على سيد البشر وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين ربّاهم تربية حملت أحدهم على أن يقول: "والله لو كُشِفَ الغطاء ما ازدت يقيناً، ولو علمت أن غداً أجلي، ما قدرت أن أزيد في عملي ".
ونحن نقول مع مَن قال:
يا سيدي يا رسول الله، ما أعقلك، وما أرحمك، وما أوصلك، وما أحكمك .. جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمّته، لقد كنت رحمةً مهداة ونعمة مزجاة..