- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
حديث المسح على الخفين .
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من دروس الحديث الشريف، ومن كتاب رياض الصالحين، ومن باب التوبة.
(( عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ, أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ, فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ, فَقَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ, فَقُلْتُ: إِنَّهُ حَكَّ فِي صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ, وَكُنْتَ -أي يا صفوان- امْرَأً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَسْأَلُكَ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ, كَانَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا -أَوْ مُسَافِرِينَ- أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلا مِنْ جَنَابَةٍ, لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ, وَبَوْلٍ, وَنَوْمٍ, فَقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي الْهَوَى شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ, كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ, فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ, إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ صَوْتِه, هَاؤُمُ, فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ, فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَغْضُضُ, قَالَ الأَعْرَابِيُّ: الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ, قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا, حَتَّى ذَكَرَ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ, مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا عَرْضُهُ, أَوْ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي عَرْضِهِ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ عَامًا, قَالَ سُفْيَانُ -أحد الرواة-: قِبَلَ الشَّامِ, خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مَفْتُوحًا, -يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ- لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ))
يا أيها الإخوة المؤمنون؛ في هذا الحديث الشريف, الذي رواه التِرمذي في باب الدعوات، ورواه النَسائي في كتاب الطهارة.
في هذا الحديث الشريف موضوعاتٌ ثلاثة:
ولأن هذه الموضوعات الثلاثة موضوعاتٌ أساسيَّةٌ في الدين، فلذلك سأخصِّص بعض هذا الدرس للموضوع الأول, وهو طلب العلم، وفي الدرس الآخر إن شاء الله, أتحدَّث بالتفصيل عن المسح عن الخفين، وفي درسٍ ثالث نتحدَّث عن الحبِّ في الله، والبغض في الله، لأن هذه الموضوعات تتعلَّق بالدين أشدَّ التعلُّق، ولاسيما الحبُّ في الله، والبغض في الله، ولاسيما طلب العلم .
تمهيد .
زر بن حبيش, تابعيٌّ جليل، ومعنى التابعي الذي رأى من رأى رسول الله، الصحابي هو الذي صاحب رسول الله، والتابعيِّ هو الذي رأى, وصاحب أصحاب رسول الله، يُروى أن هذا التابعي عاش مئةً وعشرين عاماً.
(( فعن زِرِّ، وقد قال عليه الصلاة والسلام عندما سأله أَعْرَابِيّ, قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ:
بالمناسبة في بعض الأحاديث التي تتحدَّث عن طول العُمر، طول العمر له تفسيران :
إما أن يدعو لك أحدٌ بطول العمر, فيستجيب الله له، بمعنى أنه يهبك في هذا العمر المحدود من الأعمال الصالحة, كأنَّك عشت مئتين من السنين، فالإنسان عمره لا يُقاس بشهادة ميلاده, بل يقاس بحجم أعماله، هذه نقطة مهمَّة جداً.
النبي عليه الصلاة والسلام, عاش ثلاثاً وستين عاماً, وكان يقول دائماً:
(( معترك المنايا بين الستين والسبعين ))
عاش عمراً متوسِّطاً ومعتدلاً، ومع ذلك ترك آثاراً على وجه الأرض, لا يستطيع إنسانٌ حتَّى الآن, أن يُدْرِكَ أبعادها.
لذلك هذا مايكل الذي ألَّف كتاباً سمَّاه: المئة الأوائل, هو كاثوليكي، وقرأ عن عظماء العالَم الشيء الكثير، واختار من عظماء العالَم في الشرق والغرب، قديماً وحديثاً, ألوف الشخصيات، واختار منها مئةً, عَدَّها من الأوائل، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام على رأس هذه المئة، لا من باب الحُب، ولكن من باب التقدير، لأن وضع مقياساً دقيقاً هو: عمق التأثير، واتساع رقعة التأثير، وامتداد أمد التأثير، هذه المقاييس الثلاثة, طبَّقها على هؤلاء المئة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في طليعتها.
إذاً: البطولة أن تعيش العُمُرَ الذي قدَّره الله لك، ولكن بين أن يكون هذا العمر تافهاً، لا معنى له، مليئاً بالقيل والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، فبين أن يكون هذا العمر مصروفاً في التُرُّهات, والأباطيل, والشهوات، والمباهج الدنيويَّة، والمسرَّات, وبين أن يكون هذا العمر مصروفاً في معرفة الله، وفي التقرُّب إليه، وفي طاعته، وفي الدعوة إليه.
لذلك قال بعض العلماء:
فطول العمر لا يتعلَّق بالمدَّة, ولكن يتعلَّق بحجم العمل, الذي تركته في هذه الحياة الدنيا.
أعطيكم مقياساً دقيقاً: أي عمل يمتدُّ أثره إلى الآخرة, فهو من الأعمال العَظيمة, من ترك صدقَّةً جاريةً، ساهم في بناء مسجد، من ترك علماً يُنْتَفَعُ به، من ترك ولداً صالحاً يدعو إلى الله عزَّ وجل، هذه الأعمال أجرها مستمرٌّ إلى يوم القيامة، لذلك:
(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ, انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))
والله سبحانه وتعالى حينما قال متحدِّثاً عن عمر الإنسان:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
قال العلماء: النذير هو النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
وقال بعضهم:
إذاً:
فضل طلب العلم .
كيف نفسر قول صفوان بن عسال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، في ضوء علم الشريعة الاسلامية؟ فهذا التابعيّ زِرُّ بن حبيش, قال:
هذا الصحابيُّ الجليل, الذي غزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزواتٍ كثيرة, تزيد عن اثنتي عشرةَ غزوة.
هناك من يقول مثلاً: إنَّ هذا الحديث, يشجِّع طلبة العلم على طلب العلم، هذا معنى عام، معنى كلي، ولكن لو أردنا أن ندخل في تفاصيل هذا المعنى، الحقيقة: أن هناك قاعدةٌ أصوليَّةٌ في تفسير النصوص، تقول هذه القاعدة: كل ما ورد من النصوص، وأمكن حمله على ظاهره, حُمِلَ على ظاهره، ما لم يرد ما يصرفه عن ظاهره.
فالإنسان ليس له الحق, أن يفسِّر كما يشتهي، أو أن يفسِّر كما يحلو له، للتفسير قواعد قَعَّدها عُلماء التفسير، فليس لك الحق أن تؤول هذه الآية وفق مزاجك، أو وفق رأيك، إنَّ هناك قواعد دقيقة لتفسير هذه الآية، فكل ما ورد, وأمكن حمله على ظاهره, حُمِلَ على ظاهره, ما لم يرد ما يصرفُه عنه، لأن الكلام ينقسم إلى حقيقةٍ وإلى مجاز.
فإذا قلت: في بيتنا زهرةٌ، ماذا تعني هذه الكلمة؟ تعني هذه الكلمة: أن في بيتك زهرةً، ماذا تعني كلمة زهرة؟ أي نبات، لأن الأصل أن يُحْمَلَ هذا الكلام على ظاهره، أخي أنا أقصد بالزهرة الطفل جميل، إذا قلت: إنَّ في بيتك زهرةً, أي في بيتك زهرةٌ، وهي نبات، لأن هذا الكلام له ظاهر، وفي أصول تفسير النصوص, يجب أن يُحْمَلَ هذا الكلام الظاهر على معناه الظاهر.
أما إذا قلت: في بيتنا زهرةٌ تلعب، صار في النص قرينةٌ, تمنع إيراد المعنى الأصلي ، ننتقل إذاً إلى المجاز، إذا شَبَّه القائل الطفل بزهرةٍ, وحذف الطفل، وأبقى شيئاً من لوازمه، ألا وهو اللعب، واللعب قرينةٌ مانعةٌ من تصوِّر المعنى الأصلي.
فالكلام ينقسم إلى حقيقةٍ وإلى مجاز، إذا قلت: رأيت البحر، أي رأيت البحرَ، أما إذا قلت: يا أخي, أنا رأيت عالم علمه كالبحر، قلت: رأيتَ البحرَ، أي رأيت البحرَ، أما إذا قلت: زارني بحرٌ، البحر لا يزورك، فهذه قرينةٌ تمنع تصوُّرَ المعنى الحقيقي.
فيا ترى:
المعنى الأولى:
أن يفسَّر هذا الحديث الذي ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ الملائكة، وهي التي تطير في السماء، وتحلِّق في الأجواء، أو تملأ الفضاء، حينما يبلغها أن هناك مجلس علم, تهبط إلى الأرض، وتكفُّ عن الطيران، وقد كَنَّى النبي عليه الصلاة والسلام عن وضع أجنحتها, كنايةً عن الكفِّ عن الطيران، وتستمع إلى ما يُقال في هذا المجلس، كأن النبي عليه الصلاة والسلام, أراد أن يُبَيِّنَ لنا عِظَمَ وشأن طالب العلم في السماء.
تركت المنزل قبل ساعتين، وارتديت الثياب، وتوجَّهت إلى السيارة العامَّة، واستغرق الوصول إلى المسجد ساعةً ونصف، وأمضيت في المسجد ساعةً ونصف، ثمَّ عُدتَ في ساعةٍ ونصف، هذه الساعات الأربع, اقتُطِعَت من وقتك الثمين، كان يمكن أن تستلقي في البيت، أن تجلس مع أهلك، مع أولادك، كان من الممكن أن تعمل عملاً, يُدِرُّ عليك ربحاً, ولكنَّك اقتطعت من هذا الوقت وقتاً, وصرفته في طلب العلم، لذلك الملائكة تضع أجنحتها تعظيماً لمجالس العلم، وتعظيماً لطالب العلم.
ما بعدَ هذه البلاغة من بلاغة، وقد ورد معنا في الحديث القدسي:
(( يَا بْنَ آدَمَ, تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي, أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى, وَأَسُدَّ فَقْرَكَ ))
وكأن معنى تفرَّغ, تشير إلى أن هناك ازدحاماً في الوقت، إلى أن الوقت ممتلئ، إلى أن المشاغل كثيرة، إلى أن هموم المعاش كبيرة، إلى أن طبيعة الحياة مُعَقَّدة، ولكن:
إذاً:
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) ﴾
لذلك المُعَلِّم مأمورٌ من قِبَلِ المولى جلَّ وعلا, أن يتواضع لمن يُعَلِّمه, قال تعالى:
﴿
إذاً المعنى الثاني:
تواضع الملائكة، حينما تأتي الملائكة، وتسكن أمام طالب العلم، تضع له أجنحتها، فإذا مرَّ إنسان عظيم، وإنسان آخر انحنى له، خفض له رأسه، هذا تعبير عن تعظيمه، توضعٌ من الثاني، وتعظيمٌ للأول، فالملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.
قال لي أحدهم اليوم: ليس في الدنيا ساعةٌ أمتع, ولا أقرب إلى النفس, من ساعةٍ أحضر فيها مجلس علم، وكأن هذه الساعة, ينقطع فيها الإنسان عن هموم الحياة وما أكثرها، هموم المعاش، هموم كسب الرزق، المُشكلات الاجتماعيَّة، هذه كلُّها إذا دخل المسجد, جعلها وراء ظهره، وأقبل الله عليه, لأنه يطلب العلم.
أما المعنى الثالث:
كنايةٌ عن أن الملائكة تقدِّم المعونة، وتيسِّر السعي لطالب العلم، أي أن طالب العلم أموره ميسَّرة.
سمعت أكثر من قصَّة، بل سمعت عشرات القصص من أخوتي الأكارم، كيف أن الله سبحانه وتعالى عاملهم أطيب معاملة، وأكرمهم، ويسَّر لهم أمورهم، ووفَّقهم في أعمالهم؟ لأنهم حضروا مجالس العلم.
عبدي, كن لي كما أريد, أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد, ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد، وأنا أريد, فإذا سلَّمت لي فيما أريد, كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد, أتعبتك فيما تريد، ثمَّ لا يكون إلا ما أريد
فلذلك المعنى الثالث أن طالب العلم ، الملائكة تضع أجنحتها خدمةً له، تسهيلاً لأعماله ، توفيراً لحاجاته، لذلك طالب العلم مَخْدوم، كيف؟ لا نعلم، أموره مُيَسَّرة.
جاء في بعض الأحاديث الشريفة أنه:
(( من طلب العلم تكفَّل الله له برزقه ))
العلماء وضَّحوا: أن الملائكة هنا, المقصود بهم: ملائكة الرحمة، وبعضهم قال: الملائكة عموماً تضع أجنحتها، أي تكفُّ عن الطيران, لتستمع إلى مجالس العلم، أو تضع أجنحتها, تعظيماً لطالب العلم، أو تضع أجنحتها معونةً له، وتوفيقاً، وتيسيراً.
فهل بعد هذا الحديث شيءٌ, يدعونا إلى ترك مجالس العلم؟ إذا كان الله سبحانه وتعالى في سمائه، والملائكة، وكُلُّ المخلوقات يُبَجِّلونَ، ويعظِّمون طالب العلم، لماذا؟ لأن:
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))
شيءٌ آخر: توجد نقطة دقيقة جداً, أتمنى أن أوضِّحها لكم, وهي: أن في الحياة فروقاً كبيرةً بين الناس، شتَّانَ بين الغنى والفقر، هناك غنيٌّ يملك ألوف الألوف، وألفٌ لا يملكون واحداً، واحدٌ يملك مليون، ومليون لا يملكون واحداً، مع أن الغنى شيءٌ مهمٌّ في الحياة الدنيا، ومع أن الفقر شيءٌ صعبٌ في الحياة الدنيا، ومع ذلك ما قَبِلَ الله عزَّ وجل، ولا أراد أن يكون الغنى عاملاً مرجِّحاً بين عباده.
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ, ذِي طِمْرَيْنِ, لا يُؤْبَهُ لَهُ, لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ))
الله سبحانه وتعالى أعطى قارون المال، وهو لا يحبُّه, قال تعالى:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾
إذاً: مع أن المال في نظر معظم الناس شيءٌ مهمٌ, وثمينٌ جداً في الحياة الدنيا، وأن الفقر في ظاهره, شيءٌ مزعجٌ جداً، مع كل هذا, لم يرض الله عزَّ وجل، ولا أراد، ولا أقر, أن يكون الغنى عاملاً مرجّحاً بين خلقه، لهذا جعل معظم الأنبياء من الفقراء.
وقد سُئل النبي عليه الصلاة والسلام من قِبَل سيدنا جبريل:
(( يا محمَّد, أتحبُّ أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يا أخي, بل نبيَّاً عبداً, أجوع يوماً فأذكره, وأشبع يوماً فأشكره ))
ومع أن القوَّة شيءٌ مهمٌ جداً في الحياة الدنيا، وشيءٌ ثمينٌ جداً، وأن الضعف شيءٌ صعبٌ جداً، ومُزعجٌ جداً، مع هذه المفارقة الحادَّة بين القوَّة وبين الضعف، لم يرض الله سبحانه وتعالى أن تكون القوَّة عاملاً مرجِّحاً بين عباده في الدنيا، فأعطى فرعون المُلْكَ، وهو لا يحبُّه، وجعل سيدنا موسى يخرج من مصر خائفاً, قال تعالى:
﴿
ومع أن الصحَّة في الحياة الدنيا شيءٌ مهمٌ جداً, وأن المرض لا يُحْتَمَل، كذلك لم يرض الله، ولا أراد, أن تكون الصحَّة عاملاً مرجِّحاً بين عباده، ولكن عاملاً وحداً أَقَرَّهُ الله في القرآن الكريم, أن يكون مرجِّحاً بين العباد، إنه العلم، فقال:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ
إذاً: رتبة العلم أعلى الرُتَب، وإن الله عالمٌ يحبُّ كل عالم
وسوف ننتقل في درسٍ قادم إلى الحديث عن موضوع المَسْحِ على الخُفَّين، وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى, نتحدَّث عن الحبِّ في الله, والبغض في الله، ربما استغرق هذا الحديث ثلاثة دروس.
قصة التابعي سلمة بن دينار1.
والآن إلى قصَّةٍ من قصص التابعين، نحن قبل سنةٍ أو أكثر, كنَّا قد أعطينا في كل درسٍ من دروس الأحد, قصَّةً من قصص الصحابة، فأتينا على ذكر سبعين صحابيَّاً في كل درسٍ من دروس الأحد، وكنَّا نُنهي الدرس بقصَّةٍ عن صحابيّ جليل، والآن ننتقل إلى قصصٍ عن بعض التابعين، هؤلاء الذين كانوا مُثلاً عُليا في الدين والحياة.
في السنة السابعة والتسعين للهجرة, شدَّ الخليفة سليمان بن عبد الملك الرحال إلى الديار المقدَّسة, ملبياً نداء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ومضت ركائبه, تحثُّ الخُطى من دمشق عاصمة الأمويين إلى المدينة المنوَّرة التي وصلها، وجلس فيها لاستقبال علمائها، وأعيانها، وعَلِيَّةِ قومها، ولمَّا فرغ سليمان بن عبد الملك من استقبال المُرَحِّبين به قال لبعض جلسائه:
إنَّ النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن, إذا لم تجد من يذكِّرها, الفينة بعد الفينة، ويجلو عنها صدأها.
فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: أما في المدينة رجلٌ, أدرك طائفةً من صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم, يُذَكِّرنا؟.
قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.
ــــــ لو قالوا: نعم أي لا يوجد، نعم: تفيد إثبات النفي، لكن بلى: تفيد نفي النفي، ونفي النفي إثبات، في القرآن الكريم:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لو أنهم قالوا: نعم, لكفروا، لو أنهم قالوا: نعم, أي لست ربنا ــــــ.
فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين، ها هنا أبو حازمٍ الأعرج.
فقال: ومن أبو حازم الأعرج؟.
فقالوا: عالِم المدينة, وإمامها، وأحد التابعين, الذين أدركوا عدداً من الصحابة الكرام.
فقال: ادعوه لنا, وتلطَّفوا في دعوته, فلمَّا أتاه، رحَّب به، وأدنى مجلسه، وقال له معاتباً: ما هذا الجفاء يا أبا حازم؟.
فقال: وأي جفاءٍ رأيت مني يا أمير المؤمنين؟.
فقال: زارني وجوه الناس ولم تزرنِي.
فقال: يا أمير المؤمنين, إنَّما يكون الجفاء بعد المعرفة، وأنت ما عرفتني قبل اليوم، ولا أنا رأيتك، فأي جفاءٍ وقع مني؟.
عندئذٍ قال الخليفة لجُلسائه: والله أصاب الشيخ في اعتذاره، وأخطأ الخليفة في عِتابه، ثمَّ التفت إلى أبي حازم، وقال: إنَّ في النفس شؤوناً, أحببت أن أُفضي بها إليك يا أبا حازم.
فقال: هاتها يا أمير المؤمنين, والله المستعان.
ـــــ إذا سألك واحد سؤالا, فاستعن بالله، إذا شعرت أنه بإمكانك, أن تجيبه عن سؤاله, وأنت واثقٌ من علمك، فهذا هو الجهل بعينه، لأن الله عزَّ وجل يقول: ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) إذا سألك واحد سؤالا, فعوِّد نفسك هذه الطريقة، استعن بالله بقلبك، يا رب أعن على أن أجيبه، لا تخزن أمامه، علِّمن أن أجيبه ــــــ.
فقال الخليفة: يا أبا حازم لِمَ نكره الموت؟.
فقال أبو حازم: لأنكم عمَّرتم الدنيا، وخرَّبتم الآخرة.
ـــــ فهو جوابٌ واضحٌ كالشمس، عمَّرتم الدنيا، زخرفتموها، بنيتم البيوت الفخمة، فرشتموها بالأثاث الوثير، جعلتم أعمالكم فيها أبَّهة وعظمة، كوَّنتم مكاناً اجتماعياً، ودخلاً كبيراً، فوالله الموت صعب جداًـــــ.
فقال: صدقت، ولكن يا أبا حازم, ما لنا عند الله غداً؟.
ـــــ ما مكاننا؟ ما موقعنا؟ ما رُتْبَتُنا؟ـــــ.
فقال: اعرض عملك على كتاب الله عزَّ وجل, تجد جواب ذلك.
قال: وأين أجد في كتاب الله تعالى؟.
قال: تجده في قوله تعالى:
ـــــ كلامٌ واضحٌ كالشمس ، قال تعالى:
فقال: يا أبا حازم إذاً: فأين رحمة الله؟.
فقال أبو حازم: إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين.
فقال: يا أبا حازم, ليت شعري, كيف القدوم على الله تعالى؟.
فقال أبو حازم: أمَّا المحسن فكالغائب يقدم على أهله.
ـــــ تصوَّر إنسانًا, يدرس في بلد أجنبي، وله أهل في بحبوبة كبيرة، ويحبّونه حُبَّاً جمَّاً، وعلموا أنه سيأتي بعد أسبوعين، فيصبح البيت كلُّه عيد، تصنع له أمُّه أَلَذَّ الأكلات، تهيىء له غرفةٌ فيها ما لَذَّ وطاب, أما المحسن فكالغائب يعود إلى أهله ـــــ.
فقال: وأما المسيء, فكالعبد الآبق يُساق إلى مولاه.
ـــــ العبد الهارب، أُلقي القبض عليه، واقتادوه إلى مولاه, ليلقى جزاء عمله، لذلك قال الله تعالى:
فبكى الخليفة حتَّى علا نحيبه، واشتدَّ بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم, كيف لنا أن نصلح؟.
فقال: تدعون عنكم الصَلَف، وتتحلَّوْنَ بالمروءة.
فقال الخليفة: وهذا المال، ما السبيل إلى تقوى الله فيه؟.
فقال أبو حازم: إذا أخذتموه بحقِّه، ووضعتموه في أهله، وقسَّمتموه بالسويَّة، وعدلتم فيه بين الرعيَّة.
فقال الخليفة: يا أبا حازم, أخبرني عن أفضل الناس؟.
فقال: أهل المروءة والتُقى.
فقال: وما أعدل القول؟.
قال: كلمة حقٍ يقولها المرء عند من يخافه، وعند من يرجوه.
قال: ما أسرع الدعاء إجابةً؟.
قال: دعاء المحسن للمحسنين.
قال: ما أفضل الصدقة؟.
قال: جُهْدُ المُقِل - المقل هو قليل المال - يضعه في يد البائس من غير أن يتبعه مَنَّاً ولا أذى.
فقال: من أكيس الناس؟.
قال: رجلٌ ظَفِرَ بطاعة الله تعالى، فعمل بها، ثمَّ دلَّ الناس عليها.
فقال: فمن أحمق الناس؟.
قال: رجلٌ انساق مع هوى صاحبه، وصاحبه ظالمٌ، فباع آخرته بدنيا غيره.
فقال الخليفة: هل لك أن تصحبنا يا أبا حازم فتصيب منَّا، ونصيب منك؟.
فقال: كلا يا أمير المؤمنين.
قال: ولِمَ؟.
قال: أخشى أن أركن إليكم قليلاً, فيذيقني الله ضعف الحياة, وضعف الممات.
قال: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم، فسكت ولم يجب.
فأعاد عليه قوله: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم, نقضها لك مهما كانت.
فقال: حاجتي أن تنقذني من النار، وأن تدخلني الجنَّة.
فقال: هذا ليس من شأني.
فقال: إذاً ليس لي إليكَ حاجة.
فقال: ادع لي يا أبا حازم.
فقال: اللهمَّ إن كان عبدك سليمان من أوليائك, فَيَسِّره إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك, فأصلحه واهده إلى ما تحبُّ وترضى.
فقال رجل: بئس ما قلت منذ دخلت على أمير المؤمنين، فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله وآذيته.
قال أبو حازم: بل بئس ما قلت أنت، فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق, بأن يقولوا كلمة الحق, فقال:
فقال الخليفة: صدقت، زدني من موعظتك يا أبا حازم، فما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فمه منك.
فقال: إن كنت من أهل الاستجابة, فقد قلت لك ما فيه الكفاية، وإن لم تكن من أهلها, فما ينبغي لي أن أرمي عن قوسٍ ليس لها وتر.
فقال الخليفة: عزمت عليك أن توصيني يا أبا حازم.
فقال: نعم سوف أوصيك، وأوجز، عَظِّم ربَّك، ونَزِّهه أن يراك حيثُ نهاك، وأن يفتقدك حيث أمرك، ثمَّ سلَّم وانصرف.
فقال الخليفة: جزاك الله خيراً من عالمٍ ناصح.
وما كاد أبو حازم يبلغ بيته, حتَّى وجد أن أمير المؤمنين, قد بعث إليه بصرَّةٍ, مُلئت دنانير، وكتب إليه يقول: أنفقها، ولك مثلها كثيرٌ عندي، فردَّها، وكتب إليه, يقول: يا أمير المؤمنين, أعوذ بالله أن يكون سؤالك إيَّاي هزلاً، وردي عليك باطلاً، فو الله ما أرضى ذلك لكَ, فكيف أرضاه لنفسي؟.
يا أمير المؤمنين, إن كانت هذه الدنانير لقاء حديثي الذي حدَّثتك به، فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أَحَلُّ منها، وإن كانت حقَّاً لي من بيت مال المسلمين, فهل سَوَّيت بيني وبين الناس جميعاً في هذا الحق؟.
هذا أحد التابعين الأكارم، واسمه أبو حازم، اسمه الأصلي سلمة بن دينار.
إن شاء الله تعالى إلى أمدٍ, إن أحيانا الله ليس بقصير، في كل درس أحد, نُلقي على مسامعكم, قصَّةً عن أحد التابعين, الذين كانوا مثلاً أعلى في العلم, والورع, والنُصح.
و الحمد لله رب العالمين