- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات .
التصنيف الدنيوي الخاطئ للإنسان :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يصنَف الناس في هذا العصر ، وفي ظل القيم المادية ، والمذاهب الوضعية إلى أغنياءَ وفقراءَ ، أقوياء وضعفاء حكام ومحكومين ، منتجين ومستهلكين مستغِلين ومستغَلين ، مدنيين وقرويين ، أقاربَ وأباعد إلى ما هنالك من تصانيفَ أخرى لا مجال لذكرها كلها في هذا المكان .
هذا التقسيم أيها الإخوة ؛ لا يصل إلى جوهر النفس ، ولا يبلغ أعمق مافيه ، بل إن هذا التصنيف ليعمق الهوة بين الإنسان وأخيه الإنسان وربما أورث حقداً وكراهية ، وربما فتت المجتمع ، وأضعف قوة صموده أمام العدو الخارجي ، بل إن وجود هده التقسيمات ظاهرة اجتماعية مرضية ولو طُبق الإسلام حق التطبيق لاختفت هذه الفوارق ولتلاشت هذه التصانيف لأنها بنيت على قيم مادية ، زائفة وزائلة ، كالمال والسلطان .
والإسلام حينما لا ينكر وجود بعضها يستنكر أشد الاستنكار أن تُتخذ أساساً لتقييم الإنسان .
ولو استعرضنا كتاب الله لنرى كيف صُنِّفَ فيه البشر وقُسِّم الناس لا نجد أساساً للتصنيف والتقسيم سوى قيم أخلاقية تناسقت مع قيم عقلية .
فالناس في القرآن يعلمون أولا يعلمون ، يعقلون أو لا يعقلون , مؤمنون أو كافرون ، طيبون أو خبيثون ، صالحون أو مفسدون ، منافقون فاجرون , أو مستقيمون مخلصون ، مقسطون أو ظالمون ، عصاة أو طائعون ، أخيار أو أشرار ، يعملون الصالحات أو يجترحون السيئات .
قال تعالى :
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
وقال أيضاً :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
وقال أيضاً :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
القيم الحقيقية لدين الإسلام :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ القرآن الكريم جعل الإيمان والكفر أساساً لتقييم الناس ، حتى لو كان ذلك على حساب علاقات القرابة والنسب ، قال تعالى :
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
أيها الإخوة ؛ إن أساس التقسيم في القرآن قيمٌ أخلاقية خالدة ، تنبع من أعماق النفس فتسمو بها ، وبالمجتمع وتشد الإنسان إلى أخيه الإنسان ، وتزيد من انتماء الفرد إلى الجماعة ، وتعمق فيه مشاعر التضحية ، والبذل ، وتنمي فيه روح التعاون والمؤاثرة ، وتجعل من المجتمع قوةً متماسكة ، يصعب النيل منها .
قال عليه الصلاة والسلام :
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))
عن أبي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ))
" المؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون ولو ابتعدت منازلهم ، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ولو اقتربت نازلهم "
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا , الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ , ولا يَحْقِرُهُ , التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ))
عن حبيب بن خراش العصري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( المسلمون أخوة ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ))
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( الخلق كلهم عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ))
هذه أيها الإخوة ؛ المبادئ النظرية والأدلة النقلية في الإسلام في شأن وحدة المجتمع ، وتماسك أفراده ، وتعاونهم ، وتذويب الفوارق الاجتماعية المبنية على أسس زائغة زائلة بينهم، وبنائه بناءً محكماً على أسس أخلاقية عقلانية .
وأما التطبيقات العملية ، فهي وحدها التي تحيي هذه المبادئ ، وتجعلها تخلد في كل عصر ومصر .
لقد هزَّ المسلمون العالم حينما طبقوا تعاليم دينهم ، وهزهم شذاذ الآفاق وشراذمة الشعوب حينما اكتفوا بالحديث عن دينهم ، وتركوا تطبيق تعاليمه .
سيدنا عمر بن الخطاب القرشي الحرّ كان يقول إذا ذُكر أبو بكر رضي الله عنه ؛ هو سيدنا وأعتق سيدنا ، يعني بلالاً ، الحبشي الأسود العبد .
حين اعتق سيدنا الصديق بلالاً رضي الله عنه ، تأبط ذراعه رمزاً لأخوة الإيمان ، وغاظ ذلك أمية بن خلف سيده السابق ، فقال لسيدنا الصديق : خذه فو اللات و العزى لو أبيت إلا أن تشتريه بدرهم لبعتكه (أي لبعتك إياه) فأجابه الصديق حفاظاً على مشاعر بلال أخيه الجديد : والله لو أبيتم أنتم إلا مائة أوقية لدفعتها لكم " .
أيها الإخوة الكرام ؛ قولوا بربكم هل بلغت دول العالم التي تدعي بأنها متمدنة من الرقي في إذابة الفوارق بين البيض والسود هذا المبلغ الذي وصل إليه الإسلام قبل ألف ونيف من الأعوام .
وقف أبو سفيان زعيم قريش بباب عمر رضي الله عنه ساعات طويلة فلم يؤذن له في حين أن صهيباً الرومي وبلالاً الحبشي يدخلان ويخرجان دونما استئذان ، فحزَّ ذلك في نفس أبي سفيان ، وعاتب بذلك عمر رضي الله عنه حينما قابله ، فما كان من عمر إلا أن قال لأبي سفيان :
" أنت كبلال وصهيب ؟ " .
جَبَلة بن الأيهم آخر ملوك بني غسان في الشام ، أسلم في عهد عمر رضي الله عنه ، وفي أثناء طوافه بالبيت ، داس بدوي طرف ثوبه فلطمه جَبلة لطمةً هشمت أنفه ، فاشتكى هذا البدوي الجريح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاستدعى عمر جبلة ، وسأله :
أصحيح يا بن أيهم ؟ أصحيح ما ادعى هذا الجريح ؟
فقال جبلة : لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً ، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي .
فقال له عمر : أي حق يا بن أيهم ؟ .. عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم ، نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها ، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً .
ثم قال : أرض الفتى ، لابد من إرضائه ، أو يُهشمن الآن أنفك وتنال ما فعلته كفك ..
فقال جبلة : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ، وهو سوقة ، وأنا صاحب تاج .
فأعاد عمر على مسامعه : نزوات الجاهلية ورياح العنجهية دعك من هذا وجنبني اللجاجة ، أنتما ندان في ظل الرسالة .
قال تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
أيها الإخوة ؛ احفظوا هذه الآيات وطبقوها واقرؤوها في صلواتكم فهي قواعد أخلاقية في علاقاتكم الاجتماعية .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وصلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .