- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا ، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الحياة الدنيا فرصة للفوز بالجنة لمن يعمل من أجلها
أيها الإخوة الكرام ؛ قد يسأل سائل ، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلقنا ليسعدنا
فلماذا خلقنا في الدنيا ؟ لمَ لم يخلقنا في الجنة مباشرة ؟ .
الإجابة عن هذا السؤال ، قول الله سبحانه وتعالى ، في آخر سورة الزمر ، حينما قال :
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
الجنة ليست مكاناً ولكنها مقام .
لولا الأرض لما كانت جنة ، كيف تقبل عليه ؟ الجنة ليست مكاناً ولكنها مقام ، والمقام يحتاج إلى عمل .
كيف تقبل عليه إن لم تنفق مالك في سبيله ؟ كيف تقبل عليه إن لم تضبط شهواتك في الدنيا وفق شرعه ؟ كيف تقبل عليه إن لم تخالف هواك وتتبع رضوان الله عز وجل ؟ كيف تقبل عليه ؟
هذه الآية تنبئنا أننا خُلقنا في الدنيا من أجل الجنة ، فإذا منح الله العبد صحة فمن أجل أن يقوى بها على طاعة الله ، إذا منحه مالاً فمن أجل أن ينفقه في طاعة الله ، إذا منحه قوةً من أجل أن يستخدمها في معاونة الخلق ، إذا منحه علماً فمن أجل أن ينفع به عباد الله ، الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله .
لو عرفنا حقيقة الدنيا ما غمضت لنا عين ، ولو عرفنا حقيقة الدنيا وكيف أنها فرصة لا تعوض لسعادة أبدية .
فحينما يستيقظ أحدنا صباحاً وقد منحه الله حياةً ؛ لأن النوم موت مؤقت ، أحد أنواع الموت هو النوم ، فإذا استيقظ الإنسان صباحاً فقد منح فرصة ليتقرب بها إلى الله عز وجل ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله علماً ، ولا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله قرباً ))
بمعنى هذه الأيام التي نحياها هي أيام لا تعوض ، وفرصة لا تعوض ، وفرصة لحياة أبدية ، فهذا السمع ، وهذا البصر ، وهذا الفؤاد ، كل أولئك كان عنه مسئولاً ، منحت العين لترى خلق الله عز وجل ، هل رأيت الشمس والقمر ؟ هل نفذت من خلالهما إلى الله عز وجل ، هل رأيت مكونهما ؟ هل رأيت الأنعام التي تأكل منها ، قال تعالى :
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾
خلق الله لك العين لترى خلق الله ، فإذا رأيت خلق الله واستخدمت الفكر الذي مع العين عرفت الله عز وجل .
خلق الله لك الأذن لتستمع إلى الحق ، هل استمعت إلى آيات الله ؟ ، هل استمعت إلى وعظ من داعية مخلص ؟ هل استمعت إلى الحق ؟ هل استمعت إلى تفسير كتاب الله ؟ هل استمعت حديث رسول الله ؟ هذه الأذن سوف تحاسب عليها ، هل استمعت إلى الغناء وغرقت في ملذات سخيفة ؟ أم استمعت إلى الحق ؟
هذه العين هل رأيت بها عورات المسلمين ، هل رأيت بها ما لا يحل لك ، أم نظرت بها إلى ملكوت السماوات والأرض ؟
هذا الفكر الثمين ، الذي هو أثمن ما في الكون ، هل أعملته لمعرفة الله أم أعملته لجمع الدرهم والدينار ؟ هذا الفكر سوف تُسأل عنه .
هذه القوة مشيت برجليك إلى أين ؟ إلى طاعة أم إلى معصية ؟ .
طاعة الله ثمن الجنة ، إنفاق المال ثمن الجنة ، حضور مجالس العلم ثمن الجنة ، خدمة الناس ثمن الجنة ، تحري الحلال ثمن الجنة قال تعالى :
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
لولا الأرض لما كانت جنة ، كيف تقبل عليه ، إذا قدمت في هذه الدنيا خدمة جليلة لإنسان كبير ، وقلت لآذن على الباب ، وقل له فلان لفتح لك الباب فجأة ، وقال لك تفضل هو في انتظارك ، فإذا لم تكن بينك وبين هذا الإنسان العظيم آية علاقة ، ولا آية خدمة ، كيف تدخل عليه .
ربنا سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى جاء بنا إلى الدنيا كي نتقرب إليه بالعمل الصالح ، لذلك يكاد العمل الصالح يكون أثمن ما في الأرض ، والدليل قوله تعالى :
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
لو كنت أغنى خلق الله قاطبة ، لو كنت أقوى خلق الله قاطبة ، لو كنت أعلمهم بالدنيا قاطبة ، وليس لك عمل صالح خالص لوجهه الكريم فهذا الإنسان خاسر وأي خاسر .
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
حياتك يجب أن تكون معرفة وعمل ودعوة وصبر
حياتك يجب أن تكون معرفة وعمل ودعوة وصبر ، فإذا خلت حياتك من هذه الأشياء الأربعة فأنت في خسارة وأية خسارة ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً﴾
الأخسرين ، جمع أخسر ، والأخسر اسم تفضيل ، يعني أشد الناس خسارة .
لا تقل يا أخي لمَ لم يخلقنا الله عز وجل في الجنة مباشرة ، كيف تسعد في الجنة وليس لك عمل ، كيف تقبل عليه ؟ كيف تتقرب منه قال تعالى :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
أعمالهم في الدنيا أهلتهم أن يكونوا في مقعد صدق .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ من طلب الدنيا بلا عمل فهذا الطلب ذنب من الذنوب ، لو وضع المسلمون نصب أعينهم أن العمل الصالح هو كل شيء في الدين قال عليه الصلاة والسلام :
(( رأس الدين الورع ))
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾))
(( لأن أعين أخي المؤمن على حاجته أحب إلي من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ))
جوهر الحياة أنك جئت إلى الدنيا وسوف تخرج منها والعمر قصير ، جئت إلى الدنيا وأعطاك الله صحة ، أعطاك الله سمعاً وبصراً وفكراً وقلباً وقوةً وحركة ومالاً وزوجة وأولاداً وخبرةً وحرفة وعلماً ، هذا كله يجب أن تستخدمه في التقرب إلى الله عز وجل ، فإذا انقضت الرحلة وأعلن نهاية الحياة ، رأيت أنك قد كسبت الدنيا كلها ، وأنك في طريقك إلى سعادة أبدية لا تنتهي ، لذلك يُعد الخاسر من خسر الدنيا ويُعد الرابح من عرف الله عز وجل وآمن باليوم الآخر ، قال تعالى :
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً﴾
الله سبحانه وتعالى يهدينا إلى سواء السبيل .
جوهر الدين
أيها الإخوة المؤمنون ؛ جوهر الدين أن لا يكون بينك وبين الله حجاب ، وكل مخالفة حجاب ، وكل معصية حجاب ، قال تعالى :
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
أعماله السيئة كانت حجباً كثيفة بينه وبين الله ، قال تعالى :
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
هم في شقاء ، شقاء البعد ، والمؤمنون في سعادة ، في سعادة القرب والدنيا زائلة ، والدنيا مؤقتة
عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال :
(( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ))
إذا قرأتم هذه الآية :
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
معنى ذلك أنك في الأرض وأبواب التوبة مفتحة ، وأبواب العمل الصالح مفتحة ، فما عليك إلا أن تعلم وتعمل ، وتأكد يا أخي ، أنه ليس في الأرض عمل أهم أو أخطر أو أقرب إلى مصلحتك ، أو إلى سعادتك من أن تعرف الله أولاً ، وأن تستقيم على أمره ثانياً ، وأن تتقرب إليه ثالثاً بالعمل الصالح ،
أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق ))
الخلق الرفيع ، عمل صالح كبير ، النبي صلى الله عليه وسلم وصف في القرآن الكريم بأنه على خلق عظيم ، قال تعالى :
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية :
أيها الإخوة الكرام ؛ الموضوع الذي بدأته في الخطبة الأولى أتابعه ولكن من خلال خطبة فريدة للإمام علي كرم الله وجهه ، يقول الإمام علي كرم الله وجهه :
أما بعد فإن الدنيا أدبرت وآذنت بوداع .
تفسير خطبة الإمام علي : الإعداد لليوم الموعود
يعني إذا بلغ أحدنا أربعين ، أغلب الظن ، الذي بقي من حياته أقل من الذي مضى ، كيف مضت الأربعون عاماً ؟ وهذه العشرون الباقية ، أو العشر الباقية ، أو الثلاثون الباقية ، تمضي سريعاً كما مضت الأربعون ، لذلك الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت .
قال الإمام علي كرم الله وجهه :
" أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وأن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع "
يعني تزوج الإنسان ، وأنجب أولاداً ، وزوج أولاده ، وسكن وتنزه وأكل من كل أنواع الطعام ، ودُعي إلى حفلات ، وتنزه ، وفعل ما شاء ماذا بقي عليه ؟ بقيت الآخرة ، ليس أمامه إلا الآخرة .
الدنيا أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة أقبلت وأشرفت باطلاع ، ألا وإن اليوم المضمار ، وغداً السباق .
الإعداد اليوم ، الدنيا إعداد للآخرة ، الدنيا مزرعة الآخرة ، الدنيا تشبه العام الدراسي ، العام الدراسي كله إعداد ودراسة وبحث وتلخيص وحفظ وتأدية واجبات ، وفي الامتحان يظهر كل طالب على حقيقته .
" ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيته "
كل منا ليفحص نفسه ، هل يقيم على معصية ؟ هل في بيته معصية ؟ هل عند بناته معصية ؟ وهو مسؤول عن بيته ، هل زوجته عاصية ؟ هل فيه ما يغضب الله عز وجل ؟ هل في عمله معصية ؟ هل في طريقة تعامله مع الناس معصية ؟ هل كسبه حلال ؟ هل بضاعته التي يعمل بها مشروعة ؟ .
ليس في الحياة أهم من ذلك ، أن تفحص أمورك كلها ، هذا كلام خطير ، ليست الخطبة أن تستمع إلى كلام وتقول تباركنا والله الخطبة جيدة ، هذا لا ينفعك منها شيئاً ، الذي ينفعك أن تأخذها مأخذاً جيداً الذي ينفعك أن تستمع إلى الخطبة وتبدأ متاعبك الكثيرة ، لأن الخطيب وضعك أمام مسؤولياتك ، وضعك أمام حقيقة مرَّةٍ ، أن الموت لا بد منه .
" أفلا تائب من خطيئته قبل منيته "
إذا قال أحدكم لا أستطيع أن أتوب فهذا القول مردود عليه ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾
أي إن التكاليف التي شرعها الله عز وجل هي في وسع الإنسان وفي إمكانه .
" ألا تائب من خطيئته قبل منيته ، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه"
ما هو يوم البؤس
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾
بعضهم يذهب لشراء القبر ، فإذا دفع ثمن القبر أو كان يملك قبراً قبل وفاته ، يذهب الحفار ليحفر القبر ، هذا يوم البؤس ، كنت في النعيم ، كنت في بيت فخم كنت تنام على فراش وثير ، كان لك أهل وأحباب ، لك زوجة وأولاد تأكل ما لذّ وطاب ، لك شأن في الحياة .
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾
" ألا عامل لنفسه قبل يوم أجله ، ألا وإنك في أيام أمل من ورائه أجل ، فمن عمل في أيام أمله ، قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ولم يضره أجله "
هذه أيام الأمل ، وغداً الأجل ، فمن عمل في أيام أمله نفعه عمله ولم يضره أجله ، إلى الله نحن راجعون .
﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
الغنى والفقر بعد العرض على الله ، ليس الآن ، قد يكون الغني في هذه الدنيا أفقر الورى ، وقد يكون رجل فقير أغنى أغنياء الدنيا الغنى غنى العمل ، والفقر فقر العمل ، وسيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لما سقى للفتاتين ، قال :
﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
أنا مفترق إلى عمر صالح يا رب .. هذا هو الغنى والفقر والغنى والفقر بعد العرض على الله .
" فمن عمل في أيام أمله ، قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ولم يضره أجله ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر علمه وضره أجله "
يعني إذا اجتهد أثناء العام الدراسي نفعه الاجتهاد ، ولم يضره الامتحان ، بالعكس رفعه الامتحان ، أما إذا قصر أيام العام الدراسي فقد دراسته ، وجاء الامتحان فكشفه على حقيقته .
" ومن قصَّر في أيام أمله لم ينفعه عمله وضره أجله "
يقول الإمام علي كرم الله وجهه :
" ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة ، ألا وأني لم أر كالجنة نام طالبها ، ولم أر كالنار نام هاربها "
الإنسان لا ينام إذا عُرض عليه بيت بسعر رخيص أو معتدل في منطقة جيدة ، يقول لك لم أنم البارحة من فرحي ، كيف ينام المرء والجنة فيها ما لذَّ وطاب ، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، كيف ينام طالبوا الجنة ، سبحان الله .
ألا وأني لم أر كالجنة نام طالبها ، ولم أر كالنار نام هاربها ..
ألا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ، لا يوجد حالة وسط ، لا يوجد حالة حيادية ، إما أن تكون مهتدياً وإما أن تكون ضالاً ، إما أن ينفعك الحق ، وإما أن يضرك الباطل حالة ثالثة ما في بالإسلام ، إما أن تكون مؤمناً فتسعد ، وإما أن يكون الرجل غير مؤمن فيشقى ألا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ، ومن لا يستقيم به الهدى يجره الضلال إلى الردى إما أن يقودك الهدى فتسعد ، وإلا فلا بد للضلال من أن يجرك .. لذلك ؛ إما أن تحضر مجلس علم فتعرف الحق ، وإلا فلا بد من أن يكون في العمل انحرافاً ، لأن مجلس العمل يوضح لك الحقائق يعرفك بالله عز وجل ، بكتابه الكريم ، بسنة نبيه العظيم ..
" ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن "
السفر يعني ، السفر هو الموت ، السفر الذي لا إياب فيه .
" ودُللتم على الزاد "
السفر لابد منه قطعي ، والزاد معروف .
" وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان ، اتباع الهوى وطول الأمل فتزودوا في الدنيا من الدنيا "
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
كل نعيم الجنة بسبب أنك كنت في الدنيا ، وأنك أنفقت مالك وغضضت بصرك ، وتحريم دخلك ، وأحسنت إلى والديك ، وكنت مستقيماً ، وكنت نافعاً .
" ألا وقد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، فإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان ، اتباع الهوى وطول الأمل ، فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً "
هذه خطبة للأمام عليك كرم الله وجهه ، توضح حقيقة الدنيا ، والحقيقة أنك يجب أن تعرف حقيقة الدنيا ، والخطبة يجب أن تقتصر على موضوع الدنيا ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك
اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ، ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك .
اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء .
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين .
اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام والمسلمين ، وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .