- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً بمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم سيد الخَلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذُريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهمَّ ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير .
الإيجاز بالموعظة من البلاغة
أيها الإخوة الأكارم ؛ سورةٌ قصيرة في الجزء الثلاثين من كتاب الله ، قلَّما يلتفتُ إليها الناس ، مع أنَّ أعرابياً جاء إلى النبيَّ عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله عِظْني وأوجز . فقال عليه الصلاة والسلام :
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
فقال : قد كُفيت . فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال :
(( فَقُهَ الرجل ))
شطرٌ من آية من سورةٍ قصيرة ، من الجزء الأخير من كتاب الله تلاه النبي على هذا الأعرابي وقال : قد كفيت . ومالِ هذا الإنسان في هذه الأيام يقرأ القرآن كلَّه ، ويسمع تفسيره كلَّهُ ، ولا يزال مُنحرفاً عن خَطِّه ، قد كفيت .
أعرابيٌ آخر جاء النبي عليه لصلاة والسلام فقال : يا رسول الله عظني وأوجز ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( قل آمنت بالله ثم استقم ))
فقال : يا رسول الله أريد أخفَّ من ذلك . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( إذاً فاستعد للبلاء ))
ما دُمْتَ لا تريد الاستقامة التامَّة استعد لعلاج الله عز وجل ، استعد للبلاء .
تفسير سورة الزلزلة .
سورة اليوم سورة الزَلْزَلَة :
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
لماذا أَقرَّت هذه السورة هذه القاعدة التي سوفَ يُحاسب الناس في ضوئها ؟ لأن اليهود قالوا :
﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
زاغت عقيدَتُهم ، انحرفوا ، بعُدوا عن الحَق ، ظنّوا أنهم شعبُ الله المختار ، لن تمسَّهم النار إلا أياماً معدودة ، وقالوا :
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
أهل الكتاب ..
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
يتولَّون عن كتاب الله ، يديرون له ظهورهم ، ينحرفون عنه ، لماذا انحرفوا عنه ؟
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
التمني
واللهُ سبحانه وتعالى يخاطبُ كُفَّار قُرَيْش :
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾
الضلالُ البعيد ، الضلالُ المبين أن تتعلق بأمانٍ لا تتحقق ..
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً﴾
آيةٌ رابعة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾
هل من آيةٍ أوضح من هذه الآية ؟
﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾
كل هذه الآيات التي رَدَّ اللهُ بها على اليهود ، وعلى أهلِ الكتاب ، وعلى الذين آمنوا حينما انحرفوا ، وعلى الذين ظنّوا أن الأمرَ بالأماني والتمنيات ، هذه الآيات كلها ، جاءت سورة الزلزلة لتقرر الحقيقة الأزلية..
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
عن شداد بن أوس رضي الله عنه : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
النبي عليه الصلاة والسلام قال : " يا فاطمة بنت محمد ... " لمَ وصفها بأنها بنت محمد بالذَّات ، محمد أبوها ، سيد الخلق أبوها ، وليس من قرابةٍ أشدَّ من قرابة البِنُوَّة ز
(( فاطمة بضعةٌ مني من أكرمها فقد أكرمني ، ومن أبغضها فقد أبغضني ))
هل من علاقةٍ أمتن من علاقة البنوة ؟
(( يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسكِ من النار أنا لا أغني عنكِ من الله شيئا ، يا عباس عم النبي أنقذ نفسك من النار ، أنا لا أغني عنكِ من الله شيئاً لا يأتيني الناس غداً بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه ))
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
حقيقة يوم القيامة
أيها الإخوة المؤمنون ؛ متى جاءت هذه الآية ؟ ولماذا قدَّم الله لها؟ قال :
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾
لا شك أننا في الدنيا نسمع بالزلازل ، ولكن الزلازل الموْضعية في بقعةٍ معينة ، في اليابان ، في الصين ، في الهند ، في بعض الدول ، في بعض القارَّات ، في شمال الأرض ، في جنوب الأرض ، في شرقها ، في غربها ، تبقى الزَلْزَلة التي نراها في الدنيا ، أو نسمع بها محدودة ، ولكن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾
فكأن الأرض حينما خُلِقَت وعِدَت بزلزلةٍ عامَّة تضطرب لها اضطراباً ، وتهتزُّ لها اهتزازاً .
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾
وقد تكون الزلزلة في الدنيا ضعيفةً فلا تنهدم البيوت ، ولا تتداعى الأسقف ، ولكن الزلزلة التي وصفها الله عز وجل قال :
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾
لك أن تصف زلزالها العظيم ، ولك أن تصف زلزالها الشديد ، ولك أن تصف زلزالها الأخير ، آخرُ زلزلةٍ ، وأعظمُ زلزلةٍ ، وأشدُّ زلزلةٍ ..
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾
من أثقالها ؟ بنو آدم .
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾
﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾
أيها الإخوة المؤمنين :
﴿ أثقالها ﴾
أكرم من فيها ، وأكرم من عليها ، والتي خُلِقَت الدنيا لأجلهم ، وسُخِّرَت السماوات والأرض لأجلهم ؛ هم بنو آدم الذين عاهدوا الله في الأزل أن يأتوا إلى الدنيا ويستنيروا بنوره ، ويتعرَّفوا إليه ويطيعوه .
﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾
ما الذي حصل ؟ لِمَ هذه الزَلْزَلَة ؟ ربنا سبحانه وتعالى في آياتٍ أُخْرَى يقول :
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾
كان في الدنيا إذا سمع عن الدار الآخرة ، لم يحمل هذا الكلام محمل الجِد ، كان لا يُبالي ، كان يبالي بالدُنيا ، كان يعنيه المال ؛ الدرهم والدينار ، تعس عبد الدرهم والدينار ، تعس عبد الفَرج ، تعس عبد البطن، تعس عبد الخميصة ، كان يعنيه من الدنيا مالُها ، ونساؤها ، وخَيْراتها ، وبُهرجها ، ومنافعها ، ومكاسبها ، ولا يهتم لأمرِ الآخرة ، لذلك :
﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾
ما الذي حصل ؟ أهذا الذي وعدنا به من قبل ؟ أهذا الذي ورَدَ في القرآن الكريم ؟ أهذا الذي حدَّث به النبي الكريم ؟ أهذا هو اليومُ الموعود ؟ أهذا هو يوم الدين ؟ أهذا يومُ القارعة ؟ أهذا يومُ الزلزلة ؟
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾
الأرض ، هذا الذي اقترف السيئات يختم على فمه ربنا سبحانه وتعالى ، والأرضُ تحدثه بما صنع ، يومئذٍ تحدث الأرض أخبار الإنسان ماذا اقترف من آثام ؟ ماذا فعل من شرور ؟ ماذا تركَ من آثارٍ سيئة ؟.
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾
أوحى لها أن تحدَّثي أيَّتها الأرض ، حدثينا عن هذا الإنسان الذي كرَّمناه ، حدثينا عن هذا الإنسان الذي رفعنا شأنه ، حدثينا عن هذا الإنسان وماذا صنع ؟ الذي خلقت السماوات والأرض من أجله ، حدثينا عنه ؛ حدثينا عن معاصيه ، عن جرائمه ، عن موبقاته ، عن انحرافاته ..
﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ...
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
أيها الأخُ الكريم ؛ اعْلَم عِلْمَ اليقين أن لك من الأرض في الدنيا حافظٌ ورقيب ، وأنها في الآخرة يوم القيامة ناطقٌ وشهيد ، هي في الدنيا حافظٌ ورقيبٌ على أعمالِك ، وهي في الآخرةِ ناطقةٌ وشهيدةٌ على سوءِ تصرُّفاتك .
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً﴾
متفرقين ، قل لي بربك إذا قُرِعَ جرس الامتحان هل يفكر الطالب وقلبه يخفِقُ بزميله ، أو بأمه وأبيه ، أو بأخيه ؟! يدخل في عالم جديد ، قل لي بربك إذا دُعي المتهم إلى قوس المحكمة هل يأتي في خاطره أولاده ؟ لا، حينما ينطق القاضي بالحكم يرجفُ قلبه ، يغيب عن الناس كلهم ، حينما ينفَّذ فيه الحُكم ، ربنا عز وجل يقول :
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً﴾
متفرقين .
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ﴾
ينسى الابن أباه ، ينسى الأب ابنه ، لو وقعت عين الابن على أمه لا يعرفها .
السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة ؟ . قال : نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواضع ؛ إذا نفخ في الصور ، وإذا الصحف نشرت ، وعلى الصراط .
في هذه المواضع الثلاثة لا يعرف بعضنا بعضاً وفيما سوى ذلك قد تلتقي الأم بابنها تقول له : يا بني جعلت لك بطني وعاءً ، وصدري سقاءً ، وحِجري لك غِطاءً ، فهل من حسنةٍ يعود عليها خيرها ؟ أيْ هل تعطيني حسنة من حسناتك ؟ فيقول الابن : ليتني أستطيع ذلك يا أُمَّاه إنني أشكو مما أنتِ منه تشكين .
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا ))
فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أهكذا يحشرون عراة رجالاً ونساء !! . فقال : يا عائشة الأمر أفظع من أن يعنيهم ذلك .
أن هذه امرأةٌ أمامه لا يستُرها شيء ، أفظع من أن يعنيهم ذلك ..
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً﴾
متفرِّقين ، لا أنساب بيْنهم ، لا يعرفُ بعضهم بعضاً .
﴿ لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾
التي فعلوها في الدنيا ، هل تجاوزوا الحدود ؟ هل ظلموا ؟ هل ظلم الزوج زوجته ؟ هل ظلم صاحب العَمل أجيره ؟ هل ظلم الجار جارَه ؟ هل ظلم الابن أباه ؟ هل ظلم الأخ أخاه ؟ هل اعتدى على حقِّه ؟ هل اعتدى على عِرضه ؟ ماذا فعل ؟ هل بنى مجده على أنقاض الآخرين ؟ هل بنى غناه على فقرِهم ؟ هل بنى أمنه على خوفهم ؟ .
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
ما هي الذرة ؟ قال إذا دخلت الشمس على غرفة أحدكم ، لا بد أن ترى في جوّ الغُرفة ذراتٍ متناهيةٍ في الصغر تحلق في جو الغرفة ، لو فعلت خيراً بهذا الحجم لما ضاعَ عليك ولرأيته يوم القيامة ، ولو فعلت شراً بهذا الحجم لما أُعْفيت منه ولرأيته يوم القيامة ، لا يكفي أن تراه بل تُحاسب عليه ..
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
شابٌ يركب مركبةً عامة ، صعد إلى المركبة شيخٌ كبير في السن ، فقام هذا الشاب من مجلِسِهِ وأقعد الشيخ الكبير .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ ))
إذا أطعمت لقمةً واحدة ، إن كان في صحن الطعام قطعة لحم فأطعمتها لزوجتك ، أو أطعمتها لابنك ما قيمتها ؟ هذا العمل سوف تلقاه يوم القيامة ، وأن تضع اللقمة في فمِ زوجك هي لك صدقة ، وأن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ هو لك صدقة ، وأن تميط الأذى عن الطريق هو لك صدقة ، وأن تُفرغ دلوك في دلو المُستَسقي هو لك صدقة ، إذا أنقذت فراشةً ، إذا أنقذت نملةً كادت تغرق في ماءِ الحوض ، هذا العمل سوف تلقاه يوم القيامة بنَصِّ الآية ، ألَمْ يَقُل هذا الأعرابي : قد كفيت ، كفيت يا رسول الله ، فقال : فقه الرجل ، قال : عظني وأوجز . قال :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
قال : قد كفيت . قال : فقه الرجل .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ سورة قصيرة في الجُزء الأخير من كتاب الله ، لا يلتفت إليها الناس ، لو فهموها حق الفهم ، لو عرفوا أبعادها ، لو صَدَّقوها ، هم يقولون : صدق الله العظيم ، ولكن أعمالهم لا تصدقها ، لسانهم يُصَدِّقها ، ولكن أعمال الناس اليوم لا تصدِّق هذه الآية ، إن كان مثقال ذرةٍ خيراً يره ، وإن كان مثقال ذرةٍ شراً يره ، فكيف يفعل الإنسان السيئات الكبيرة ؟ كيف يعتدون على الناس ؛ على حقوقهم ، على أموالهم ، على أعراضهم ؟
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أَتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهم صلي وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين .
قصة زيد الخير
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في الجاهلية رجلٌ اسمه زيد الخيل ، كان ملء السمع والبصر ، وكان من أجمل خَلق الله ، ومن أطولِهِم قامةً ، ومن أصبحهم وجهاً ، هذا الرجل بلغته أخبار النبي عليه الصلاة والسلام ، ماذا فعل ؟ أعدَّ راحلته ودعا كُبراء قومه إلى زيارة المدينة المنورة ، ليلتقي بهذا النبي الذي بلغته من أخباره ما بلغت ، فركب زيد الخيل مع وفدٍ من طيئ ، وفيهم زيد بن سدوس ، ومالك بن جُبَير ، وعامر بن جوَيد ، وانطلقا إلى المدينة المنورة ، ودخلا على المسجد النبوي فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يخطبُ في أصحابه .
هالهم استمعاهم إليه ، وأدبهم الشديد ، وإنصاتهم العَميق . وقف زيد الخيل في صدر المسجد ، يستمعُ إلى خطبة النبي عليه الصلاة والسلام ، النبيُّ عليه الصلاة والسلام لَمَحَ أن وفداً جاء إلى المسجد يستمعُ الخُطبة ، فلم ينسَ النبي الكريم أن يَخُصَّ هؤلاء الوفد بكلمةٍ تعنيهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني خيرٌ لكم من العزى ، وخيرٌ لكم مما تعبدون ، إني خيرٌ لكم من الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله .
فيفهم من هذا القول أن الجمل الأسود كان مالاً نفيساً ، وفي كل عصرٍ أموالٌ نفيسة منقولةٌ وغير منقولة ، كأن النبي الكريم كنَّى بالجمل الأسود عن هذه الأموال النفيسة التي يعبدها الناس من دون الله .
فما كان من زيد بن سدوس وقد استمع إلى النبي الكريم إلا أن قال : إني لأرى هذا الرجل يملك رقاب العرب ، والله لا أُمكنه من أن يملك رقبتي . ثم توجه إلى بلاد الشام ، وحلق رأسه ، وتنصَّر .
وأما زيد الخيل ومن معه وكبراء قومه ، فحين انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من خُطبته ، وكان كما قُلت قبل قليل من أجمل الناس ، وأتمهم خلقةً ، وأطولهم قامةً ، قال : يا محمد أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( من أنت يا رجل ؟ ))
قال : أنا زيد الخيل بن مُهَلْهِل .
فقال :
(( بل أنت زيدُ الخير لا زيد الخيل ، الحمد لله الذي جاء بك من سهلِكَ وجبلِكَ ورَقَّقَ قلبك للإسلام ))
ثم مضى به النبي الكريم إلى بيته إكراماً له ، وطرح له متَّكأً ليتَّكئ عليه ، فعظم عليه ، لم يمضِ على إسلامه ربع ساعة ، عظم عليه أن يتكئ في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، فعظم عليه أن يتكئ في حضرة النبي وردَّ المتكئ ، وما زال النبي يعيده ، وهو يردُّه ثلاثاً ثم قال :
(( يا زيد ما وصف لي رجلٌ قط ثم رأيته إلا كان دون ما وصف لي إلا أنت ، إن فيك لخصلتين يحبُّهما الله ورسوله ))
قال : وما هما يا رسول الله ؟
قال :
(( الأناةُ والحلم ))
قال زَيد : الحمد لله الذي جعلني على ما يحبُّ الله ورسوله ، يا رسول الله أعطني ثلاثَ مئة فارس وأنا كفيلٌ لك أن أغير بهم على بلاد الروم وأنال منهم .
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( لله درُّك يا زيد أي رجلٍ أنت ؟!! ))
ثم أسلم مع زيد كل من كان معه ، وتوجَّه إلى قومه ليُسلِمَهُم ومات في الطريق إليهم ، أيْ أنَّه أسلم ولقي الله عز وجل قبل أن يبلغ بلاده ، أو موطن قبيلته .
أيها الإخوة المؤمن ؛ لحظة تفكيرٍ واحدة إذا عرفت الله انتهى كل شيء ، إذا تُبت زال عنك كل شيء ، إذا أخلصت إليه أسعدك كل شيء ، هكذا كان الصحابة .
سيدنا خالد ، رضي الله عن سيدنا خالد ، حينما أسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً ))
أنت مفكِّر لماذا تأخَّرت إلى الآن ؟ وكل إنسان وهبه الله فكراً يستطيع به أن يرى الخير من الشر ، ماذا تنتظر؟ كيف تقيم على هذه المعصية ؟ ما الذي يحْجُبُكَ عن الله عز وجل ؟ من الذي يعيقك عنه ؟ .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ، ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك .
اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء .
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين .
اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام والمسلمين ، وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .