- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير .
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا .
عبدٌ وقف بين يدي ربه يناجيه ، فقال : يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني . فوقع في قلبه أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟
هذا الذي يعصي الله ويظن أن شيئاً لم يُصبه مِن جرّاء هذه المعصية ، لقد فاته أنه ضيّع على نفسه الشيء الكثير ؛ أن لذة القرب فاتته ، أن لذة المناجاة فاتته ، أن لذة السعادة في الإقبال على الله ذويت عنه .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمَن جحد به وكفر .
قال الله تعالى في كتابه الكريم :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وصفيّه وخليله ، أدى الأمانة ، وبلَّغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغُمَّة ، وجاهد في الله حق الجهاد .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، الطيبين الطاهرين ، الهداة المهديين ، الذين أحبّوه حباً ما أحبه أحدٌ لأحد .
قال أبو سفيان : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وتولى أمرنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
حقائق المصائب :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في سورة القصص آيةٌ بليغة المعنى ، دقيقة المؤدّى ، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يُسْتنبط مِن هذه الآية حقائق عِدَّة .
1- ما من مصيبة تقع إلا بما قدمت أيدي الناس :
الحقيقة الأولى : أنه ما مِن مصيبةٍ تقع في الأرض إلا بما قدَّمت أيدي الناس ..
﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾
﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾
(( إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا ))
﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
أول استنباط مِن هذه الآية :
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾
المصيبة لا تقع في الأرض إلا بذنوب العباد ..
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
ما أصاب عبداً مصيبةٌ إلا بإحدى خُلَّتَيْن ؛ بذنبٍ لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة ، أو بدرجةٍ لم يكن الله ليبلِّغها إيّاه إلا بتلك المصيبة ، هذا هو الاستنباط الأول :
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾
2- المعاتب :
الاستنباط الثاني : لو أن الله سبحانه وتعالى لم يرسل هذه المصيبة ، لم يضيِّق هذا التضييق ، لم يبعث بهذا المرض ، لم يشدد في دخل الإنسان ، لو كان في بحبوحة ، وكان في صحة ، وكان غارقاً في ملذّاته ، وكان منحرفاً ، ولم يسق الله له شيئاً ؛ لا نفسياً ، ولا جسمياً ، ولا مادياً ، ولا معنوياً ، وبقي في بحبوحةٍ ، وبقي في يسرٍ ؛ وظلّ غافلاً عن الله عز وجل ، وظل غارقاً في لذّته ، وظل تائهاً في سيرته ، وظل على هذه الحال إلى أن وافته المنيّة ، ما موقف هذا العبد من الله عز وجل ؟ إنه موقف المُعاتب ، إنه يعاتب ربه ، يقول : يا رب كنت تائهاً ، كنت ضالاً ، كنت جاهلاً ، كنت غائطاً في شهواتي ، لمَ لمْ تذكرني بمصيبةٍ ، لمَ لمْ تنبهني بمشكلةٍ ، لمَ لمْ تضيّق عليّ ، أنت العليم الحكيم ، أنت أرحم الراحمين ، لولا أن تصيب الناس مصيبة بما قدمت أيديهم لكان لهم عتاباً يوم القيامة ، وهاهو ذا العتاب ..
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾
لو أن ابناً اختار طريقاً غير صحيح ، والأب وافقه على هذا الطريق ؛ ولم ينصحه ، ولم يَرْدَعْهُ ، ولم يبيّن له ، ولم يضيّق عليه ، ولم يعنّفه ، ولم يزجره ، ولم يضربه ، إذا كبر هذا الطفل وصار شاباً ، ورأى زملاؤه في مراتب عليّة وهو في أدنى السلم ، عندئذٍ ينشأ في نفسه عتابٌ كبيرٌ كبير ، يقول لأبيه : يا أبتِ ، أنت أعلم مني لمَ لمْ تنصحني ، لمَ لمْ تزجرني ، لمَ لمْ تردعني ، لمَ لمْ تضيق عليّ ..
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾
لولا ذلك :
﴿ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾
بعض العلماء جعل هذه الآية حُجَّةً على أن الفكر الذي وهبنا الله إيّاه يكفي لمعرفة الحق مِن الباطل ، وأن هذه المصائب ما هي إلا نوعٌ مِن التنبيهات ، ما هي إلا رُسلٌ من نوعٍ آخر تخاطب عقل الإنسان ، تقول : يا إنسان الله غنيٌ عن تعذيبك ، ما هذا التعذيب إلا تذكيرٌ ، إلا حَضٌ ، إلا إثارةٌ ، إلا لفت نظرٍ ..
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾
لم يقل الله عز وجل :
ربنا لولا أرسلت إلينا مصيبةً .
بل بدل المصيبة بالرسول .
بمعنى أن المصيبة نوعٌ مِن أنواع الرُسُل ، إنه بالمرض يذكِّر العبد ، إنه بالفقر يذكِّره ، إنه بالضيق المادي يبعث في نفسه التذكير ..
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ﴾
يؤكّد هذه الآية قوله تعالى :
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾
أي تقتضي رحمة الله الواسعة ألاَّ يردَّ بأسه عن أولئك الذين لا عمل لهم ، أولئك الذين غرقوا في المعاصي ، أولئك التائهون ، أولئك الشاردون ، أولئك الغافلون ، لا يقع واقعٌ في الأرض إلا بحكمةٍ بالغة ، وتقديرٍ دقيق ، وكان أحد العارفين بالله كلّما أصابته مصيبةٌ يقول : ذلك تقدير العزيز العليم .
لا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل ، فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان .
إتباع الهوى :
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
إن لم يستجيبوا لك ويتوبوا إلى الله ، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ، وليس في الأرض رجلٌ أشد ضلالاً ممّن جعل إلهَهُ هواه ، وليس في الأرض رجلٌ أشد ضلالاً ممن قادته نفسه الأمّارة بالسوء ، ممن كان مُنْقاداً لنفسه ، ممن جعل هواه هدفاً كبيراً في حياته .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ إشارةٌ دقيقة في هذه الآية :
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
فهل هناك اتباع للهوى بهدىً مِن الله ؟
بعضهم قال :
حينما يختار الإنسان الطريق الشرعيّ في الزواج ، هذا عملٌ مشروع .
وحينما يكسب الإنسان المال مِن طريق مشروع ، فالله يرضى عنه .
ولكن الانحراف أن تميل مع الهوى مِن دون هدىً مِن الله سبحانه وتعالى .
أن تميل مع الهوى على حساب الآخرين .
أن تميل مع الهوى وتعتدي على حقوق الآخرين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ آيتان من سورة القصص :
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
إذاً لو كشف الغطاء لاخترتم الواقع ، ولو كشف الغطاء لا يزداد المؤمن يقيناً ، بل يقينه قبل كشف الغطاء ، كيقينه بعد كشف الغطاء .
﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
والرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ، وعلامة الهدى الاستجابة ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
* * * * *
السنة المطهرة :
أحاديث تبدأ بـ لو تعلمون......... :
أيها الإخوة الأكارم ؛ إلى السُنَّة المطهّرة ، أحاديث شريفة عدَّة تبدأ بقوله عليه الصلاة والسلام :
(( لو تعلمون .......... ))
النبي عليه الصلاة والسلام أعلم البشر بالله عز وجل قال :
(( أخشاكم لله أنا ))
أوتي من العلم ما لم يؤت أحدٌ مِن العالمين ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
لو تعلمون ما ادخر لكم بعد الموت ، لو تعلمون ما ادخر لكم من نعيم مقيم ، من جنّاتٍ عرضها كعرض السماوات والأرض ، لو تعلمون ما ادخر لكم مما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، لو تعلمون طبيعة الجنة ، وما فيها من سعادة أبدية ، لو تعلمون مقدار الطمأنينة والسرور الذي يحصِّله المؤمن بعد الموت .
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
زوي عنه المال فهو في غَمٍ وحَزَن ، إنه جاهل ، لو يعلم ما عند الله من سعادة لما حزن على فوات المال ، لقد فاتته المرأة الصالحة ، أو فاتته المرأة التي تروق له ، فهو يندب حظّه ليل نهار .
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
فاتته هذه الشهادة فلم يحصّلها ، حصلها زملاؤه وارتقوا في مراتب اجتماعيةً عليّه ، دائماً في حزنٍ شديد .
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
لم يرزقه الله أولاداً ذكوراً ، فهو في غمٍ مستمر .
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
لم ينجب أولاداً البتَّة ؛ كان عقيماً ، قلبه يكاد يتفطّر ألماً .
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
يسكن بيتاً صغيراً ، دخل إلى بيتٍ واسع فأصابه حزنٌ شديد ، لهذا البيت القميء الذي يسكنه .
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
لو عرفت ما في الآخرة مِن نعيم مقيم ، لو عرفت مقعد الصدق عند مليكٍ مقتدر ، لو عرفت المكان الكريم الذي يحتلّه المؤمن يوم القيامة، لو عرفت العطاء الذي يعدك الله به ، لو عرفت ما عند الله ، ما ندمت على شيءٍ فاتك مِن الدنيا .
وسيدنا الصديق ، رضي الله عن الصديق ، قرأت عنه كلمةً تركت في نفسي أثراً بليغاً ، قرأت عنه : أنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط . أبداً لأن الدنيا زائلة ، عرضٌ حاضر يأكل منه البر والفاجر ، كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو كأنك عابر سبيل ، كن في الدنيا كأنك مسافر ، ما لي وللدنيا .
مر النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه بشاةٍ ميتة ، فقال لأصحابه الكرام :
(( أترون هذه الشاة هينة على أهلها ؟ قالوا : من هوانها ألقوها . قال : والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ))
إن الله يعطي الدنيا لمَن يحب ولمَن لا يحب ..
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾
يفرحوا بالعمل الصالح ، ليفرحوا بالقربى مِن الله عز وجل ، ليفرحوا بالاستقامة على أمر الله ، ليفرحوا بطاعة الله ، أما إذا فرحوا في الدنيا فهم مِن أصحاب الأفق الضيِّق ..
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ﴾
الذين كفروا :
﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾
قال :
﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ ﴾
هذه مصيبة ..
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون :
(( لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم ))
لو تعلمون ما بعد الموت ، لذلك قال سيدنا علي كرم الله وجه :
الغنى والفقر بعد العرض على الله .
والغنى والفقر مطيتان إلى الله ، لا أبالي أيهما امتطيت .
الغنى يوصلك إلى الله عز وجل بتواضعك ، وسخائك ، وفعلك المعروف ، والفقر يوصلك إلى الله عز وجل بصبرك ، وعفَّتك ، وتجمُّلك ، مطيّتان إلى الله عز وجل .
(( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ))
(( لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاماً على شهوةٍ أبداً ، ولا شربتم شراباً على شهوةٍ أبداً ، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به ، ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم وتبكون على أنفسكم ))
لو تعلمون ..
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
لو تعلمون الذي يحاسِب على كل صغيرةٍ وكبيرة ما خرجتم عن أمره قيد أنملة .
رجلٌ اغتصب درعاً ، فتأمَّله ، فرأى عليه بيتين من الشعر :
إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أســــرف في القضاء
فويلٌ ، ثم ويلٌ ، ثم ويلٌ لقاضي الأرض من قاضي الســــماء
* * *
وقع مغشياً عليه ، وذهب إلى مكة المكرّمة ليطوف بالبيت ، وجعل يقول : ربي اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل ، فقال مَن سمعه : يا هذا ما أشد يأسك من رحمة الله ؟! قال : ذنبي عظيم .
لو تعلم الذي يحاسب دقة حسابه ، ما خرجت عن أمره قيد أنملة ، ولكنه الجهل ..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾
الشيطان يقول لك : لن يحاسبك ، يقول لك كلاماً يؤدّي إلى أن تبقى على معصية الله .
(( لو تعلمون ما في الصف الأول ما كانت إلا قرعة ))
في الخُطَب ، وفي مجالس العلم ، وفي المساجد ، وفي الصلوات الخَمْس ، لو تعلمون ما في الصف الأول مِن الخير ما كانت إلا قرعة .
(( لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها ))
لأنها تغر ، وتضر ، وتمر ، الدنيا دار مَن لا دار له ، ولها يسعى مَن لا عقل ، خذ مِن الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً ، مَن أخذ مِن الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر .
(( لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحدٍ يسأله شيئاً ))
(( لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب به خيرٌ له من يسأل الناس أعطوه أو منعوه ))
كان الصديق رضي الله عنه يركب راحلته وكان خليفة المسلمين ، وقع ذمام الناقة على الأرض فنزل وأخذه ، عاتبه أصحابه : يا خليفة رسول الله نكفيك ذلك . قال : أمرني حبيبي عليه الصلاة والسلام ألا أسأل الناس شيئاً .
(( لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحدٍ يسأله شيئاً ))
(( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ))
يظهر النفاق ، وترتفع الأمانة ، وتقبض الرحمة ، ويتهم الأمين ، ويؤتمن غير الأمين هكذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن بعض أشراط الساعة .
لو تعلمون قدر رحمة الله عز وجل لاتكلتم عليها ، ولكن الله سبحانه وتعالى يريكم مِن شدته ورحمته في وقتٍ واحد ، لعلكم ترغبون وترهبون ، لعلكم تحبون وتخشون .
سيدنا أبو ذر لقي سيدنا عمر رضي الله عنه قال :
يا خليفة رسول الله هاب الناس شدتك .
فقال :
يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي مِن الرحمة لأخذوا عباءتي هذه .
ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى .
* * * * *
زيد بن حارثة :
أيها الإخوة الأكارم ... إلى قصةٍ قصيرةٍ قصيرة تنبئكم عن حقيقة الإيمان .
كلكم يعلم أن سيدنا زيد بن حارثة كان غلاماً عند النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد قدَّمته السيدة خديجة له ، وفي موسمٍ مِن مواسم الحج قصد البيت الحرام نفرٌ مِن قومٍ زيدٍ ، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق إذا هم بزيدٍ وجهاً إلى وجه ، فعرفوه وعرفهم ، وسألوه وسألهم ، ولما قضوا مناسكهم ـ هذا قبل الإسلام وقبل بعثة النبي العدنان ـ وعادوا إلى ديارهم أخبروا حارثة والده ، بما رأوا وحدّثوه بما سمعوا ، وقال زيد رضي الله عنه لهم : أخبروا أبي أنني مع أكرم والد ، هكذا النبي كان يعامله .
فما أسرع أن أعد حارثة راحلته ، وحمل معه المال ما يفدي به فلذة كبده وقرة عينه ، وصحب معه أخاه كعباً ، وانطلقاً معاً ، باتجاه مكة ، فلما بلغاها ، دخلا على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة ، قبل أن يكون نبياً ـ وقالا له :
يا عبد المطلب أنتم جيران الله تفكون العاني ، وتطعمون الجائع ، وتغيثون المَلْهوف ، وقد جئناك في ابننا الذي عندك ، وحملنا إليك مِن المال ما يفي به ، فامنن علينا وفاده بما شئت مِن المال .
فقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم : ومن ابنكما الذي تعنيان ؟
فقالا : غلامك زيد بن حارثة .
فقال : وهل لكما فيما هو خيرٌ من الفداء ؟
فقالا : وما هو ؟
قال : أدعوه لكم ، وأخيره بيني وبينكم ، فإن اختاركم فهو لكم بغير مال ، وإن اختارني فما أنا والله بالذي يرغب عما يختاره .
فقالا : لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف . من دون مال ، من دون فدية .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وقال :
من هذان ؟ هذا الاحتياط ، وهذا الذكاء ؟
فقال : هذا أبي حارثة بن شَرَحْبيل ، وهذا عمي كعب .
فقال : قد خيَّرتك إن شئت أقمت معهما وإن شئت أقمت معي .
فقال من غير إبطاءٍ ولا ترددٍ : بل أقيم معك ، وما أنا بالذي أختار عليك أحداً ، أنت الأب والعم والأم .
فقال أبوه : ويْحك يا زيد أتختار العبودية على أبيك وأمك ؟!
فقال زيد : إني رأيت مِن هذا الرجل شيئاً ، أنساني أبي وأمي ، وما أنا بالذي يفارقه أبداً .
عندئذٍ خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى السوق وقال : اشهدوا أن زيداً ابني حقاً ، أرثه ويرثني .
وعندها صار يسمى سيدنا زيد : زيداً بن محمد ، إلى أن جاءت آية التبني وألغت التبني ، فعاد اسمه زيد بن حارثة ، كان حِبَّ رسول الله ، وعرف أصحاب النبي أنه يحبّه حباً جَمَّاً ، فقد غبطه على هذه المحبة أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين .
الطيور وإمكاناتها:
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قرأت في موسوعةٍ عن الطيران جملةً اهتزّت لها مشاعري ، موسوعة علمية عن الطيران ، عن الطائرات ، مكتوبٌ في هذه الموسوعة :
أنه ما مِن طائرةٍ صنعها الإنسان ، ترتقي إلى مستوى الطير ، أو تجرؤ على أن تقترب منه .
فالطيور التي خلقها الله سبحانه وتعالى ، هكذا قال :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾
فالطيور ، مِن أكثر مخلوقات الله جمالاً ، ومِن أجملها نغماً ، ومِن أكثرها استحواذاً على الإعجاب ، توجد في كل بقعة من بقاع العالم ، في أطراف المناطق القُطبية ، إلى قمم الجبال الشامخة ، إلى أكثر البحار هيجاناً ، إلى أكثر الغابات ظلمةً ، إلى أكثر الصحارى عُرياً ، إلى أكثر المدن ازدحاماً ، في أي مكانٍ على وجه الأرض ، تجد الطيور .
عَدّ العلماء حتى هذا التاريخ مِن أنواع الطيور ما يزيد عن تسعة آلاف نوعٍ ، تسعة آلاف نوع من أنواع الطيور ، وقد زوّد الله سبحانه وتعالى الطير بوزنٍ خفيف ، يعينه على الطيران ، وأكياسٍ هوائية ، منتشرة في كلِّ أماكن جسمه ، تخفف مِن وزنه ، وتبرِّد عضلاته الحارة ، من شدة الخَفَقان ، وجعل عظامه مجوَّفة ، وجعل ريشه ، لا وزن له ، ليعينه على الطيران ، وجعل الطير يتمتَّع بميزاتٍ يحتاجها في طيرانه .
فهو يتمتَّع بقوة البصر ، بل إن قوة بصر بعض الطيور تزيد عن قوة إبصار الإنسان ، ثمانية أضعاف ، إن بعض أنواع الطيور ، يرى فريسته على بعد ألفين مِن الأمتار . والعين عند الطائر أيها الإخوة الأكارم أكبر حجماً مِن مخِّه ، وتستطيع أن ترى عينه دائرةً تامّة ، الإنسان يرى مئة وثمانين درجة ، حينما يدير وجهه ورأسه تتسع هذه الدرجات ، لكنَّ الطائر مزوَّد بعينين جانبيتين ، تمسحان الدائرة بأكملها .
والطائر أيها الإخوة ؛ له سرعةٌ تزيد عن مئةٍ وثلاثين كيلو متراً في الساعة ، وبعض أنواع الطيور يقطع ستة آلاف كيلوا متر مِن دون توقُّف ، ستة وثمانين ساعة طيران بلا توقّف يقطعها الطير ، أية طائرةٍ تقطع هذه المسافة ، ستة وثمانين ساعة من دون توقّف ؟ ومِن دون تزوُّد بالوقود ، أو بالطعام ، أو بالشراب ؟
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .