- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
غزوة بدر الكبرى :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام في أعقاب غزوة بدرٍ الكبرى ، التي نحن نُقارب ذكراها ، توجَّه إلى أهل القَليب ، والقليب هو البئر ، قتلى المشركين الذين دفنوا في القليب ؛ توجَّه إليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
(( يا عتبة بن ربيعة ـ سمَّاهم بأسمائهم ـ يا شيبة بن ربيعة ، يا أمية بن خلف ، يا جهل بن هشام هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ، لقد كذَّبتموني وصدَّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فقال المسلمون : يا رسول الله أتنادي قوماً جيَّفوا ؟! ـ أي أصبحوا جيفاً ـ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ))
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
تدور الأيّام ، يزول الباطل ، وفي النهاية الغَلَبَةُ للمؤمنين ، والعاقبةُ للمؤمنين ، والفوزُ للمؤمنين ، والنجاحُ للمؤمنين ، والتفوّق للمؤمنين ، والفلاح للمؤمنين ، فهنيئاً لمَن كان مع صَف المؤمنين ..
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في معركة بدرٍ الكُبرى أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يمتحن معنويّات جُنده ، أراد أن يستعرض قواته ـ بالتعبير الحديث ـ وأراد أن يعرف إلى أيّ حدٍ هم معه ، فسأل الأنصار وقال لهم :
ما ترون يا معشر الأنصار ؟ .
فوقف سيدنا سعد بن معاذ قائلاً :
واللهِ لكأنك تريدنا يا رسول الله .
قال : أجل .
فقال هذا الصحابي الجليل الذي يعدُّ رأس الأنصار ، أي أمير الأنصار ، فقال : يا رسول الله لقد آمنا بك وصدَّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامضِ يا رسول الله لما أردت ، فنحن معك .
اليهود قالوا :
﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾
أما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، قال له : فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر لخطَّه لخضناه معك ، ما تخلَّف منا رجلٌ واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنَّا لصبرٌ في الحق ، صدقٌ عند اللقاء ، فصِل حبال مَن شئت ، واقطع حبال مَن شئت، وعادي مَن شئت ، وسالم مَن شئت ، وخذ مِن أموالنا ما شئت ، واعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت لنا ، فلعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك ، فسر على بركة الله .
ما الهدف من هذه الخطبة ؟
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ ما علاقتنا بهذه الخطبة ؟
هل لك مع الله موقف كهذا الموقف ؟
هل عاهدته على السمع والطاعة ، وصَدَقْتَهُ فيما عاهدته عليه ؟
هل أنت ثابتٌ على طريق الإيمان في السرَّاء والضراء ؟
في إقبال الدنيا وإدبارها ؟
في الغنى والفقر ؟
في الصحة والمرض ؟
في البحبوحة والضيق ؟
في الهموم وفي الأفراح ؟
هل أنت كذلك ؟
هذا نموذجٌ مِن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ، هذا نموذجٌ مِن أصحاب رسول الله الذين رضي الله عنهم ..
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾
هل عاهدت الله كهذا العهد ؟
هل عاهدت الله على أن تطيعه في السراء والضراء ؟
أن تنفق مِن مالك على كل محتاجٍ ومسكين ؟
أن تهب إمكاناتك وقدراتك في سبيل الله ؟
أن تسخِّر علمك لخدمة الخلق ؟
أن تسخر خبرتك لمصلحة المسلمين ؟
هل أنت كذلك ؟
هذا نموذج ، بمثل هؤلاء انتصر النبي عليه الصلاة والسلام ، بمثل هذه النماذج مِن أصحاب رسول الله كان النصر المُؤَزَّر .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ روى أحمد في مسنده ، عن عبد الله بن مسعود قال :
(( كنا يوم بدرٍ كل ثلاثةٍ على بعير ـ أي يتعاقبونه ويتناوبونه ـ وكان أبو لبابة وعليّ بن أبي طالب زميليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت نوبة رسول الله في السيْر فقالا له : نحن نمشي عنك يا رسول الله ـ ليظل راكباً ، وهو قائد الجيش ، وهو قمة المجتمع الإسلامي ـ فقال : لا ما أنتما بأقوى مني على السير ، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر ))
هذا نموذجٌ مِن قيادة النبي عليه الصلاة والسلام ، وذاك نموذجٌ مِن جُند النبي عليه الصلاة والسلام .
شيءٌ آخر أيها الإخوة المؤمنون ؛ الخنساء امرأة ، شاعرة ، أدركت الجاهلية والإسلام ، لها ديوان شعرٍ كله بكاءٌ على أخيها صَخْر ، حينما دخلت الإسلام ، وذهب أربعةٌ مِن أبنائها إلى القادسيّة ، وبُلِّغت بنبأٍ واحد : أنهم قد استشهدوا جميعاً . ما زادت عن أن قالت :
الحمد لله الذي شرَّفني بقتلهم ، وأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقرِّ رحمته .
أهذه امرأة ؟ أهكذا نساؤنا ؟ هذا نموذجٌ من الجنود ، وهذا نموذجٌ من الأمهات ، وذاك نموذجٌ من القيادة ، فَحُقَّ للمسلمين أن ينتصروا في هذه المعركة التي كانت حاسمةً .
النبي عليه الصلاة والسلام عرف أنها حاسمة ، فدعها ربه قائلاً :
(( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَد بعدها اليوم في الأرض ))
وجعل يرفع يديه إلى السماء ، ويدعو بلهفةٍ ورجاء ، حتى سقط الرداء عن منكبيه الشريفين ، فتقدّم أبو بكرٍ رضي الله عنه يسوي عليه رداءه ، ويقول له : بعض مناشدتك ربك إن الله ناصرك يا رسول الله .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يبيِّن لنا نماذج من هؤلاء المسلمين الأوائل ، الذين استحقوا نصر الله عزَّ وجل ..
عُمَيْر بن حمام الأنصاري رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، يقول حين دنا المشركون يوم بدر :
قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض .
فقال : يا رسول الله جنةٌ عرضها السماوات والأرض ؟! .
قال : نعم .
فقال : بخ بخٍ .
فقال النبي عليه الصلاة والسلام : وما يحملك على قول : بخ بخ ؟
قال : لا واللهِ يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها .
فأخرج تمراتٍ من قرنه ـ أي من جعبته ـ فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه إنها إذاً لحياةٌ طويلة ، فرمى ما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قُتِل .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ سيدنا خالد رضي الله عنه ، بهرت عبقريته الحربيّة قوّاد الروم ، وأمراء جيشهم ، مما حمل أحدهم ، واسمه " جُرْجَة " على أن يدعو خالداً إلى البروز إليه ، في إحدى فترات الراحة بين القتال ، وحين يلتقي القائد الروماني بسيدنا خالد ، يقول له :
يا خالد أصدقني ولا تكذبني ؛ فإن الحُرّ لا يكذب ، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً مِن السماء فأعطاك إياه ، فلا تسلُّه على أحدٍ إلا هزمته؟
قال خالد : لا .
قال القائد الروماني : فبمَ سُمِّيت سيف الله ؟ .
قال خالد : إن الله بعث فينا رسوله فمنا مَن صدَّقه ، ومنا مَن كذَّب، وكنت فيمن كذب ، حتى أخذ الله قلوبنا إلى الإسلام وهدانا برسوله ، فبايعناه ، فدعا لي الرسول وقال لي : أنت سيفٌ مِن سيوف الله . هكذا سُمِّيت سيف الله .
قال القائد الروماني : وإلامَ تدعونِ ؟
قال خالد : إلى توحيد الله ، وإلى الإسلام .
فقال القائد الروماني : هل لمَن يدخل اليوم في الإسلام مثل ما لكم مِن المثوبة والأجر ؟
قال خالد : نعم ، وأفضل مِن ذلك .
فقال الرجل : كيف وقد سبقتموه ؟ كيف أنتم تفضلونه وقد سبقتموه ؟
قال خالد : لقد عِشنا مع رسول الله ، ورأينا آياته ، وحُقَّ لمَن رأى ما رأينا ، وسمع ما سمعنا أن يُسْلِم في يسر ، أما أنتم يا مَن لم تَرَوْه ، ولم تسمعوه ، ثم آمنتم بالغيب ، فإن أجركم أجذل وأكبر إذا صدقتكم الله في سرائركم ، ونواياكم .
وصاح القائد الروماني ، وقد دفع جواده إلى ناحية خالد ، ووقف بجواره وقال : يا خالد عَلِّمني الإسلام .
وأسلم ، وصلَّى ركعتين ، ولم يصلِّ سواهما ، فقد استأنف الجيشان القتال ، و جرجة الرومي في صفوف المسلمين ، يقاتل مع المسلمين ، مستميتاً في طلب الشهادة ، حتى نالها وظفر بها . ركعتان لم يصلِ سواهما .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه نماذج مِن الرَعيل الأول ، مِن السلف الصالح ، مِن أجدادكم الذين أعزَّهم الله بالإسلام ، الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، الذين دَوَّخوا أكبر دولتين على وجه الأرض..
﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ﴾
بشرط :
﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ معركة بدر معركةٌ حاسمة ، معركةٌ فاصلة ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يتحدّث عن الحربِ في سورة الأنفال فيقول :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
مِن خلال هذه الآية يتضح أنَّ النصر مُعادلةٌ رياضية ، في حالة قوة الإيمان ؛ الواحد مِن المؤمنين يغلب عشرةً مِن الكفار ..
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
وفي حالة ضعف الإيمان ؛ الواحد مِن المؤمنين يغلب رجلين مِن الكفار ، وفي حالة انعدام الإيمان ؛ الحديث عن القوة وحدها ، إذا تداخل الإيمان ضعف شأن القوة ، مع أن الله عزَّ وجل أمرنا أن نُعِدَّ لأعداء الأمة الإسلامية من القوة ومن رباط الخيل ، ولكن الإعداد للقوة لا يلغي دَوْر الإيمان .
نماذج من الصحابة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه بعض اللقطات مِن معركة بدرٍ الكبرى ، ومِن بقية المعارك ؛ تعطيكم نماذج لأجدادكم ، وأسلافكم ، وأصحاب رسول الله الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال :
(( علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ سيّدنا خُبَيْب بن عدي وقع أسيراً في يد الكفار ، فساوموه على إيمانه ، ولوَّحوا له بالنجاة إذا هو كفر بمحمد ، صلى الله على محمد ، وكان إيمان خبيب كالشمس قوةً وبعداً ، وناراً ونوراً ، وما محاولتهم في رَدِّه عن إيمانه إلا كمَن يقتنص الشمس برمية نبلٍ ، فلما يئسوا مما يرجون ، قادوا خُبَيْبَاً البطل إلى مصيره المحتوم ، وخرجوا به إلى مكانٍ في أطراف مكّة يسمى
حيث يكون هناك مَصرعه ، وما إن بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين ، فأذنوا له ، فصلَّى في خشوعٍ وسلام ، وإخبات ، وتدفَّقت في روحه حلاوة الإيمان ، فودَّ لو ظلَّ يصلي ، ولكنه التفت إلى قاتليه ، وقال :
والله لولا أن تحسبوا أن بي جزعاً من الموت لازددت صلاةً .
ثم أعدوا له العدة لقتله ، فشدّوه مِن أطرافه إلى جذع نخلةٍ ، واستعدوا لرميه بالسهام والنِبال ، وهنا اقترب مِنه أبو سفيان ، وقال له :
يا خبيب أتحب أن يكون محمدٌ مكانك وأنت سليمٌ معافىً في أهلك ؟
وهنا صاح خبيب بهم ، رضي الله عن خُبَيب :
والله ما أحب أن أكون في أهلي ، وولدي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة .
عندها قال أبو سفيان وقد أخذه العجب العجاب ، وهو يضرب كفاً بكف : واللهِ ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمدا .
وكان سعيد بن عامر رضي الله عنه تأخذه الغشية ، أي يغمى عليه بيْن الحين والحين ، فلما سأله عمر رضي الله عنه عن هذه الغشية؟ قال : لقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة ، وقد بَضَعَت قريش لحمه ، وحملوه على جذعةٍ ، فكلَّما ذكرت هذا المشهد غشيني ما غشيني لأنني لم أنصره وقتها .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه نماذج من أبطال المسلمين الذين قيَّد الله لهم النصر المؤزَّر العزيز .
زكاة الفطر :
نعود إلى موضوعٍ وعدتكم به قبل أسبوعين وهو : أن صيام المسلم لا يُرفع إلى الله عزَّ وجل إلا إذا دُفعت زكاة الفطر .
وزكاة الفطر أيها الإخوة المؤمنون فُرِضَت طُهْرةً للصائم ، كيف؟ طهرةً للصائم مما قد بَدَرَ مِنه مِن زلةٍ في السلوك ، أو نظرةٍ غير مقصودةٍ ، أو صغيرةٍ تاب منها .
فُرِضَت زكاة الفطر ، أو زكاة الرأس ـ كما يسميها الفقهاء ـ فرضت طهرةً للصائم وطعمةً للمسكين ، طهرةً مما بدر مِنه مِن لغوٍ في الحديث ، أو زلةٍ في السلوك عن غير قصدٍ مِنه ، لأنه لا صغيرة مع الإصرار ، وفرضت عوناً للفقراء والمُعْوِذين ، وإغناءً لهم عن السؤال .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ صدقة الفطر ، أو زكاة الرأس تجب على كل مسلم عنده قوت يومه ، مَن كان يملك قوت يومه تجب عليه زكاة الفطر . قوت يومه فقط ، وجبة طعام واحدة ، ذكراً كان أو أنثى ، صغيراً كان أو كبيراً ، فقيراً كان أو غنياً ، وعلى المسلم أن يدفع هذه الصدقة عَن نفسه أولاً ، ثم عن كل فردٍ يمونه ـ أي يطعمه ـ أو يلي عليه ـ أي له عليه حق الولاية ـ كزوجته ، وأولاده إن كانوا صغاراً ولا مورد لهم ، وعن أمه وأبيه ، وإخوته وأخواته إن كان ينفق عليهم أو يتولَّى أمرهم ، وتجب على المولود الذي يولَد قبل صلاة العيد ، وبعضهم يتطوَّع تقرباً إلى الله عزَّ وجل فيدفع عن الجنين الذي لم يولد بعدُ .
وأما مقدارها فهي نصف صاعٍ مِن بُر ، أو صاع مِن شعير عن كل فردٍ ، ويجوز دفع قيمتها بالنَقد المتداول ، وقد قدِّر بخمسة عشرة ليرة كحدٍ أدنى ، أما أن ترفع هذا الحد ، فالله سبحانه وتعالى يتقبَّل منك، ويجزيك أضعافاً مضاعفة ، الحد الأدنى خمسة عشر ليرة سورية للفرد الواحد ، وأما الحد الأعلى فبحسب السعة ، هناك مَن يعطي عن كل فردٍ مئة ليرة ، إذا كنت في بحبوحة ، هناك مَن يعطي عن كل فردٍ مئتي ليرة ، إن كنت في سعةٍ وبحبوحة ، وهذا موسم العطاء ، وهذا موسم العمل الصالح . قال تعالى :
﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وتدفع للفقراء والمساكين ، وأبناء السبيل المُنقطعين ، والغارمين ـ أي من عليهم دين تعذَّر أداؤه ـ ويجوز أن تعطى لمسكينٍ واحد أو لعدّة مساكين ، والأقربون مِن المستحقين أولى مِن غيرهم ، وأهل الإيمان والصلاح أولى مِن غيرهم مِن أهل الفجور والنفاق ، أهل الإيمان والصلاح أقرب مِن غيرهم ، والقرابة أولى مِن غيرها ، والأشد فقراً أولى مِن غيرهم .
الأقربون أولى بالمعروف قاعدة مؤدَّاها : " الأقربون فقراً ، والأقربون نسباً ، والأقربون إيماناً " . أنت وازن ، إذا تساوى طرفان رجِّح الطرف الثاني ، إن تساوى الطرفان في المستوى المعاشي رجِّح أهل الإيمان ، إن تساوى الإيمان رجِّح الأفقر ، إن تساوى الفقر رجح الأقرب ، والأقربون أولى بالمعروف ؛ نسباً ، وإيماناً ، وفقراً .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ جاء في الحديث الشريف :
(( إن صوم رمضان معلقٌ بين السماء والأرض ولا يرفع إلا بزكاة الفطر ))
والإمام الشافعي ؛ يجيز أن تدفع زكاة الفطر مِن أول رمضان ، فإن لم تدفع ففي هذه الأيام وقتها المُناسب ، ليتمكّن مَن يأخذوها مِن تأمين حاجات العيد .
أيها الإخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمداً وعلى آله وصحابته الطيبين الكرام .
الدم محرمٌ أَكْلُه :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ القرآن الكريم بنصِّه الصريح حرَّم الدم. فالدم محرمٌ أَكْلُه ، رأي العلماء في ذلك : ثبت من التحليلات أن الدم يحوي نسبةً كبيرةً جداً من حمض البول أي
وهو مادةٌ سامَّة تضرُّ بالصحة لو استعُمِلَت غذاءً ، وهذا هو السر في الطريقة الخاصة التي أمر بها القرآن في ذبح الحيوانات .
والذبح في المصطلح الإسلامي : هو الذبح بطريقةٍ معيَّنة بحيث يخرج سائر الدم مِن جسم الحيوان ، ولا يتمُّ ذلك إلا بقَطْع الوريد الرئيسي فقط ، وأن يمتنع الذابح عن قطع الأوردة الأخرى حتى تستمر العلاقة بين المخ والقلب .
القلب ينبض ، بهذا النبض يدفع الدم كله إلى خارج الجسم ، إذا بقيت علاقةٌ بين المخ وبين القلب ، فالقلب يستمر في النبض ، وإذا استمر القلب في النبض ، دفع الدم كله إلى خارج الجسم ، وإذا دفع الدم كله فقد صار الحيوان المذبوح طاهراً مطهَّراً .
إلى أن يموت الحيوان ، لئلا يكون سبب موته الصدمة العنيفة التي وجِّهت إلى أحد أعضاء الحيوان الرئيسة ؛ كالدماغ ، أو القلب ، أو الكبد ، بقطع الوريد الكبير الرئيسي يخرج الدم كله مِن جسم الحيوان ، لأن القلب ينبض حتى يصفي الدم كله ، هذه هي الطريقة المثلى في ذبح الحيوان .
لذلك ؛ أما إذا ذبح على غير هذه الطريقة ، يبقى الدم في العروق والشعريات ، ويسري هذا الحمض السام الذي يؤذي الإنسان في أجزاء جسم الحيوان ، وبهذا يتسمَّم اللحم كلُّه ، وبوجود حمض البول في الدم ، ووجود الدم في اللحم ، يسري هذا إلى الإنسان ، لذلك أكثر ما يعاني الإنسان الذي يأكُل لحماً في بلادٍ غير إسلامية ، ذُبِحَ بطريقةٍ غير إسلامية ، يعانون مِن التهاب المفاصل ، ومِن آلام المفاصل لأن هذا الحَمْض ـ حمض البول ـ يترسَّب في المفاصل ، لذلك زكاة الذبيحة ـ أي طهارتها ـ بخروج الدم منها ، حينما حرم ربنا سبحانه وتعالى علينا الدم فلأن فيه مادةً سامة ، لذلك هو حمض البول .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هكذا يبدو لنا أن كل شيءٍ حرَّمه الله علينا ، إنما حرَّمه علينا لعلمه ، وخبرته ، ولأنه خلقنا وهو أدرى بما ينفعنا ، فمن خالف أمر الله عزَّ وجل فعليه أن يدفع الثمن .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تُهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
اللهم اقسم لنا مِن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومِن طاعتك ما تبلغنا بها جنَّتك ، ومِن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا مبْلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين .
اللهم بارك لنا في شهر رمضان ، وأعنا فيه على الصيام والقيام ، وغض البصر وحفظ اللسان ، وأدخلنا الجنة بسلام ، مولانا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .