وضع داكن
21-11-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 011 - حديث ما ظنك باثنين الله ثالثهما – جوهر التوكل – صور من مواقف أبي بكر رضي الله عنه1.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

 

تمهيد :


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع دروس الحديث النبوي الشريف، وننتقل إلى بابٍ جديد: هو باب التوكُّل، والتوكل موضوعٌ خطير، حينما فهم أجدادنا التوكُّل فهماً صحيحاً، رفرفت راياتُهم في المشرقين، وحينما فهمنا التوكل فهماً مغلوطاً، غُزِينا في عُقر دارنا.

أيها الإخوة الأكارم؛ التوكل أن تأخذ بكل الأسباب، حتى لن يظن أن النجاح كله في الأسباب، وبعد ذلك تتوكل على رب الأرباب.

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ, قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا, وَنَحْنُ فِي الْغَارِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ, أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

هنا سؤال، هذا السؤال دقيق جداً: كلكم يعلم أن سيدنا عمر رضي الله عنه, هاجر جهاراً، وفي النهار، وتحت سمع الناس وبصرهم، ووقف بين كفار قريش، وقال:

من أراد أن تثكله أمه, فليحقني إلى هذا الوادي

  وهاجر، هذه هجرة، والنبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق, وحبيب الحق، أشجع الناس، صاحب الرسالة، من وعده الله بالعصمة, قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾

[ سورة المائدة ]

لماذا هاجر سراً؟. 

لماذا اختفى؟. 

خرج من خوخةٍ لأبي بكر، خرج ليلاً، اتجه جنوباً، اختبأ في غار ثور، عيَّن شخص يتقصى له الأخبار، وعيَّن شخص يمحو له الآثار، وعيَّن شخص يأتيه بالزاد والماء، وعيَّن سيدنا علي يسَّجى في فراشه، ويرتدي بردته، لمَ كل هذه التدابير والاحتياطات، وهو النبي العظيم، وهو الرسول الكريم، وهو الشجاع، وهو الذي لا يخشى في الله لومة لائم؟ أيكون عمر أشجع من النبي؟ أيكون عمر أكثر جرأةً من رسول الله؟ لماذا؟.

هنا وقف العلماء وقفةً دقيقة فقالوا: 

إن سيدنا عمر, حينما هاجر جهاراً, كان يمثِّل نفسه، هذا موقف شخصي، سيدنا عمر ليس مشرعاً، لا تُتَّخذ سيرته شرعاً من بعده، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام, هاجر كما هاجر عمر، لظن أن هذا هو الواجب, أن تلقي بنفسك في الخطر، ولكان هذا تشريعاً من بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولألقى الناس بأنفسهم في التهلكة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

النبي عليه الصلاة والسلام, ما كان ليفعل كما فعل عمر, لأنه مشرِّع، ولأن هذه الحياة الدنيا, بُنيت على أسباب ومسبِّبات، فكل إنسان أراد أن يتأدَّب مع الله عزَّ وجل, عليه أن يأخذ بالأسباب, فهذا هو السر. 


فقال يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟.


هناك نقطة مهمة جداً ساقني إليها هذا الحديث: 

لو أن النبي عليه الصلاة والسلام, اتخذ كل هذه الإجراءات, وتلك الاحتياطات بدافعٍ من خوفٍ, لفقد تماسكه حين أحدق بها المشركون في غار ثور، ولكنه ما فعل كل هذه الإجراءات، وما فعل كل تلك الاحتياطات إلا تعليماً لنا، أما هو فمتوكلٌ على الله عزَّ وجل، والدليل أن سيدنا الصديق رضي الله عنه, حينما فزع، وخاف على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ, لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ, نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ, أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ )) نظر إلى النبي, فإذا هو كالبحر الساكن، فإذا هو كالجبل الراسخ، فإذا هو واثقٌ من نصر الله عزَّ وجل (( قال له: يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ )) هذا الذي بيده كل شيء، والذي إذا قال لشيءٍ: كن فيكون، زل فيزول، إذا كان معك أتخشى أحدا؟.

فهذا الحديث يبيِّن لنا: أن النبي عليه الصلاة والسلام, ما فعل كل هذه الاحتياطات, إلا تعليماً لنا, لأنه مشرِّع، وهو أشجع الشجعان، وكان يقول أصحابه عنه:

كنا إذا حمي الوطيس لُذنا برسول الله

مرة سمع أهل المدينة أصواتًا مخيفة، فخرجوا من بيوتهم لتقصي الخبر، فإذا النبي قد سبقهم إلى الخطر، وعاد ممتطياً جواده ويقول:

(( لَنْ تُرَاعُوا, لَنْ تُرَاعُوا ))

[ أخرجه البخاري ]

ما كان أحدٌ أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيدنا أبو بكر, له مقام وصل إلى نهايته، لما رأى أقدام المشركين بدت له, وهو في الغار، وأن القضية قضية حياء أو موت، وأن الإسلام سينتهي، وأن أحدهم لو نظر إلى موطئ قدمه لرآنا، استبد بقلبه الفزع, لأنه ليس نبياً, وليس رسولاً, إنه صديق، فقال ((يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ )) هذا التوكل. 

أريد أن يفهم الإخوة الحاضرون ...

أن التوكل في جوهره أخذٌ بكل الأسباب، سدٌ لكل الثغرات، تغطيةٌ لكل الاحتمالات، توقعٌ لكل المفاجآت، اعتناءٌ بكل المقوِّمات، سلوكٌ في كل الطرق، وبعد ذلك إلى أن يظن المراقب, أن هذه الأسباب هي كل شيءٍ في النجاح، وبعدها تتوكل على رب الأرباب.

 

حقيقة التوكل :


أيها الإخوة الحاضرون؛ أصحاب المصالح التجارية، أصحاب المصالح الزراعية، الصناعية، الموظفين، الأطباء، القضاة، الأطباء، المحامون، المهندسون، إن المسلمين ما فتحوا المشرقين إلا بفهمهم الصحيح للتوكل، وما تخلفوا إلا بفهمهم المغلوط.

التوكل الآن عند بعض المسلمين: قعود, خمول، تقصير، خلل، كسل، ليس هذا هو التوكل، فأبسط شيء: يأكل تفاحة من دون غسيل، ويقول لك: سمِّ بالله وكل، أهذا مؤمن؟ من قال لك: أن الإيمان يقول لك: كل الفاكهة من دون غسيل؟ من قال لك ذلك؟ وقد روي:

من أكل التراب, فقد أعان على قتل نفسه

  فإذا أكل فاكهة لم يغسلها, فقد أعان على قتل نفسه، من قال لك: إن المسلم أموره سائبة, لا يأخذ بالأسباب، لا يحتاط؟ من قال لك ذلك؟ هذا فهمٌ أوردنا ما أوردنا، هذا فهمٌ للتوكل سقيم, أتاح لأعدائنا أن ينتصروا علينا في غفلةٍ من الزمن، نحن سادرون في غفلتنا، وفي تكاسلنا، وأعداؤنا يصنعون ويخترعون حتى تفوقوا علينا، ففرضوا علينا إرادتهم، فأصحاب الأسلحة ذات التدمير الشامل الآن, لهم سيطرة على العالم كله، أليس كذلك؟ فلذلك ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[ سورة الأنفال ]

  ولكل عصرٍ له قوته، وكأن قوة هذا العصر هي العلم، فإذا أردت أن تؤثر في الناس, ينبغي أن تكون عالماً في العلوم العصرية التي يعظمها الناس.

 

 يا براء إذا أويت إلى فراشك فقل.....


إليكم تفسير هذا الحديث: (( إذا أتيت مضجعك.....))

عن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ' يا فلان 

-وهناك رواية فيها: يا براء بن عازب- 

(( إذا أوْيتَ إلى فراشك ، فقل : اللَّهمَّ أسْلَمْتُ نَفْسي إليك ، ووجَّهْتُ وجهي إليك ، وفوَّضْتُ أمْري إليك ، وألجَأْتُ ظَهْري إليك ، رَغْبة ورَهْبة إليك ، لا مَلْجأ ، ولا مَنْجَا منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ ، فإنكَ إنْ مُتَّ في ليلتك مُتَّ على الفِطْرَةِ ، وإنْ أصبحتَ أَصَبْتَ خيراً ))

[ أخرجه البخاري ]

وفي روايةٍ في الصحيحين.

(( عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ, فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ وقل - وذكره نحوه - ))

أول شيء في هذا الحديث: أنك إذا أويت إلى مضجعك, فاضطجع على شقك الأيمن، وهذه هي السنة.

وقال بعضهم: الأغنياء يضَّجعون على شقهم الأيسر، والعلماء يضجعون على شقهم الأيمن, والملوك يضجعون على ظهورهم, والشياطين يضجعون على بطونهم.

وقرأت مقالة تقول: إن الهضم للذي يضجع على شقه الأيمن, يكون أسرع بكثير، وأن الذي يضجع على ظهره, ربما دخل الهواء من فمه، فإذا استنشق الهواء من فمه، تراجعت لثَّته، وأصيب بأعراض أمراض البرد المزمنة، أي أن سبب تراجع اللثة أحياناً، وسبب الرشحات المزمنة, هذا الذي يضجع على ظهره، ويستنشق الهواء من فمه، لأن الهواء حينما يدخل في الأنف، يمر بين صفائح متداخلة ساخنة، فالهواء يدخل من فتحتي الأنف بدرجة صفر في الشتاء أو خمسة، ويصل إلى مقدَّم الرغامى بدرجة سبعة وثلاثين، لأن سطوح الأنف, فيها خاصَّة تنفرد بها، وهي أن الشرايين لها عضلات عَرضية تتوسع.

فالإنسان في البرد, لو نظر في المرآة, لرأى أنفه أحمر اللون, فالشرايين في داخل الأنف تتوسع بفعل عضلات دائرية، وتأخذ كمية دم كبيرة جداً، والدم ساخن بدرجة ثمانية وثلاثين، لذلك الهواء الذي يستنشقه الإنسان في الشتاء، يمر بين سطوح ساخنة.

هذه السطوح مغطاة بطبقة مخاطية لزجة، فكل شيء في الهواء المستنشق من غبار، من هباب، من أجسام غريبة, يعلق على هذه السطوح، ولو تصورنا ذرةً مع الهواء, استطاعت أن تنجو من هذه السطوح, فتمر في الفراغات فقط، فإن الأشعار التي خلقها الله في الأنف تصطادها.

عندنا سطوح ساخنة ولزجة، وفي عندنا أشعار بمثابة الشبكة، والهواء يصل إلى الرغامى بدرجة حرارة سبعة وثلاثين، لذلك أغلب أنواع نزلات البرد المزمنة، هؤلاء الذي يضطجعون على ظهورهم, ويتنفسون من أفواههم، وفوق هذا وذاك, يحدثون غطيطاً, يُزعج الآخرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أن نضجع على شقنا الأيمن، هذا بعض توجيهات الحديث (( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ, فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ )) .

الآن يقول لي واحد: 

نحن بدأنا على الشق الأيمن، لكن بعد ذلك الله أعلم، الإنسان محاسب على الوعي، ساعة وعيه, بدأ على شقه الأيمن، بعد ذلك تقلب، لكن ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)﴾

[ سورة الكهف ]

إذا كان ونقلبهم فقط، يقلب من على السرير، لكن من رحمة الله بنا, قال: ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) أخذ عشرين سنتيمترًا, قال تعالى: ( وَذَاتَ الشِّمَالِ ) أرجعهم، فبقي على السرير طوال الليل، وبعضهم يرى أن الإنسان يتقلب أكثر من ثمان وثلاثين مرة في الليلة الواحدة، سبحان الله في أجهزة معقدة جداً، هذه الأجهزة اسمها: نهايات عصبية تتحسس بالضغط، فإذا الإنسان وضع يده على جسم صلب وضغط، يشعر أن هذا الجسم صلب، فكيف يشعر به؟ إذا الإنسان وضع يده على وسادة طرية، يشعر أنها طرية، وضعاه على سطح خشبي قاس، يحس كذلك، من أشعره أن هذا السطح صلب, وهذا مرن؟ أعصاب أودعها الله في كل أنحاء الجسم تتحسس بالضغط.

فعندما ينام الإنسان, يضغط هيكله العظمي على عضلاته، الهيكل له وزن، واحد له وزن معين، فصار هيكله العظمي، والعضلات التي فوق الهيكل العظمي, تضغط على العضلات التي تحت الهيكل العظمي، هذا الضغط يسبب انضغاط للأوردة الدموية، هذا الانضغاط يسبب ضعف بتروية العضلات، فلما يستمر الإنسان ساعة على وضع معيَّن، هذه النهايات العصبية التي أودعها الله في العضلات, تخبر الدماغ، وأنت نائم، فترى وأنت نائم المرج حشيشًا مزروعة، تخبر الدماغ أن هناك انضغاط على العضلات الفلانية، الدماغ يعطي أمر للعضلات, فالنائم يغير نومته، وأنت لا تشعر, الدماغ يقظ، الدماغ لا ينام.

لذلك عندما يكون مع الإنسان مرض الثبات، أو معه شلل، دواؤه الوحيد التقليب، وإلا يتآكل لحمه، هذا المرض اسمه بالطب: قرحة السرير.

أول أمر من طبيب للمرض أو الممرضة, لمعالجة مريض مصاب بالشلل أو بالثبات، التقليب وإلا يتآكل لحمه، ينزع لحمه عن عظمه، يموت فلا توجد تروية، لذلك يعد قوله تعالى في سورة الكهف من إعجاز القرآن العلمي: ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) لو الله لم يقلبهم، لما استطاعوا العيش ثلاثمئة سنة، ولا عاشوا سنة، ولا شهر، شهر ينتهي الإنسان، فلو استلقي على ظهره ينتهي، يتفتت لحمه كله، فمن إعجاز القرآن العلمي قوله تعالى: ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ )

إذاً السُنة: 

أنك إذا أويت إلى مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة, ثم اضطجع على شقك الأيمن.

فإذا أكل الإنسان أكثر مما يجب, لا يرتاح إلا على شقه الأيسر، لأنه مكان المعدة، أحضر كرة, ضع فيها قطعة رصاص من داخلها، ودحرجها، أين تستقر؟ محل الرصاص, فكل إنسان, عليه تطبيقها, فهذه من السنة.

 

يَا فُلانُ, إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ, فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ...


فمعنى أسلمت نفسي إليك: أي جعلتها منقادةً إليك، فالإنسان الذي يطيع الله عزَّ وجل, في كل أحواله، في كل حركاته, وسكناته، في كل وقت، في كل مناسبة، في كل موقف، في كل عمل، هو مسلم، المسلم من سَلَّم قياده إلى الله عزَّ وجل, قال تعالى:

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)﴾

[ سورة البقرة ]

قل أسلمت نفسي إليك: أي يا رب, ليس لي اختيار خلاف شرعك، وكما قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به  ))

 يجب أن يتوافق هوى نفسك مع شرع الله عزَّ وجل، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

(( طوبى لمن وسعته السنة, ولم تستهوه البدعة ))

أي إذا كان الواحد منا, يشتهي شيئا لم يسمح الله به، يتمنى شيئا لم يقره الله، فهذه بادرة خطيرة جداً، يحتاج إلى جهد كبير, إلى أن تنطبق رغباته، ومشاعره، وطموحاته على الشرع الشريف، هل تحب أن تقضي وقتاً فيما لا يرضي الله؟ لا والله، لكن هل تحب أن تقضي وقتك في العمل الصالح؟ نعم، بارك الله بك، هل ترى نفسك في المسجد كالسمك في الماء أم كالعصفور في القفص؟ المؤمن يرى نفسه في المسجد كالسمك في الماء، هذا مكانه الطبيعي، يألف للمسجد.

فقل قبل أن تنام أسلمت نفسي إليك: 

إذا الواحد لم يطبق الشرع, وقال بلسانه: أسلمت نفسي إليك, هذا كلام غير صحيح، هذا كلام ليس له معنى، لا يعبر عن شيء، لا يسمى، لا يكون الإنسان صادقاً فيما يقول, إلا إذا كان واقعه مؤكداً لقوله.

 

ووجَّهْتُ وجهي إليك ، وفوَّضْتُ أمْري إليك.....


 ( وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ) أي يا رب, أنا أتوجه إليك، أقبل عليك، أتصل بك، وهذا مقياس دقيق، إذا لم يكن لأحدنا وجهة إلى الله عزَّ وجل، ليس عنده إمكانية يتوجَّه إلى الله، إذا جلس أحدنا في غرفة وحيداً، وضاق ذرعاً بهذه الوحدة، أيضاً هذه بادرة خطيرة، الإنسان يجب أن يكون له وجهة إلى الله عزَّ وجل، يا ترى لك مع الله خلوة؟ هل تأنس بالله؟ لو سافرت في طريق طويل, ليس لك رفيق بالطريق، هل أنت تستأنس بذكر الله عزَّ وجل؟ هل تأنس بقراءة القرآن؟ توجه إلى الله عزَّ وجل (( أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ )) مستسلم.

هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا       فَلَيسَ لي معدل عنهم وإن عدلوا

اني وان فتنتوا في حبهم كبدي         باق عَلى ودهم راض بما فعلوا

*****

كُن عن هُمومِك معرِضَا     وكِلِ الأمورَ إلى القَضَا 

وأبشِرْ بخيرٍ عاجلٍ           تنسى به ما قد مضى 

فلَرُبّ أمرٍ مُسخِطٍ          لك في عواقِبِه رِضا 

ولربّما اتّسع المَضيــــقُ     وربّما ضاق الفَضَا 

الله يفعل ما يشا          فلا تكن متعرِّضا 

الله عوّدك الجميلَ          فقِسْ على ما قد مضى

*****

دعاء جميل، الإنسان دعا هذا الدعاء قبل أن ينام، لعل الله سبحانه وتعالى يجعل نومه قطعةً من السعادة، قد يأتي في النوم كوابيس، يقول لك: استيقظت مذعورًا، لأنه رأى حية في نومه، أو رأى نفسه منقولا إلى منطقة نائية، يمكن أن يستيقظ, يشعر بانزعاج ليس له حدود، وكل واحد يرى منامًا بحسب مخاوفه.

فهذه المنامات: إما أنها كوابيس من الشيطان تسحق الإنسان، وإما أن تمضي هذه السويعات، وكأنك في الجنان، لذلك الإنسان إذا أقبل على الواحد الديان قبل أن ينام, كأنه في الجنان، هذا الدعاء حبذا لو يحفظ, ويكتب, ويقرأ قبل أن ينام ((أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ )) وكَّلت محاميًّا, بيده مقاليد السموات والأرض، فأصبحت لا تخاف، إن الله يدافع عن الذين آمنوا، يا رب كما تريد، كن لي كما تريد عبدي، أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد، ولا تُعلمني بما يصلحك.  

  

وألجَأْتُ ظَهْري إليك .....


يقولون: فلان له ظهر، أما المؤمن ألجأت ظهري إليك, ليس ظهر من البشر, قد يكون ضعيفًا، قد يكون مستضعفًا، ولكنك إذا ألجأت ظهرك إلى الله, فأنت أقوى الناس، إذا أردت أن تكون أقوى الناس, فتوكل على الله.

ما لي سوى فقري اليك وسيلة           و بالافتقار اليك فقري أدفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة            فلئن طردت فأي باب أقرع

و من الذي أدعو و أهتف باسمه          ان كان فضلك عن فقير يمنع

أتحب أن تكون أقوى الناس؟ تذلل إلى الله عزَّ وجل، قل: اللهم لا علم لي إلا ما علمتني، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما شاء لم يكن.

اخرج من بيتك قل:

اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ؛ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ, أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ, أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ, أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ

[ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ]

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80)﴾

[ سورة  الإسراء ]

حينما تدعو الله عزَّ وجل بهذه الأدعية، وتعلن عن افتقارك إليه، وتعلن عن ضعفك أمامه، وعن فنائك في حضرته, فأنت تصبح أقوى الناس، لأن الله يخلق من الضعف قوةً (( أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ )) ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي، فتكيده أهل السموات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، يقول لك: هذا رقم تلفوني، بأي لحظة أنا جاهز، تدق له فإذا هو مشغول، أين هو؟ لا نعرف أين هو؟ وأن تريده الآن، ليس موجودًا، لأنك اعتمدت عليه، وتركت الواحد الديَّان، فالإنسان يجعل كل ثقته وكل اعتماده على الله عزَّ وجل (( أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ, مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ )) أي على ما يرضي الله عزَّ وجل، على وضعٍ سليم، وإذا شئتم أمليه عليكم مرة ثانية بالسرعة الإملائية (( يَا فُلانُ, إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ, وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ, رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ, لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ, آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ, فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ, مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ, وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا )) وفي روايةٍ في الصحيحين عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ, فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ, وقل: وذكر نحوه, كما قال قبل قليل, ثم قال: واجعلهن آخر ما تقول)) .

 

صور من مواقف أبي بكر رضي الله عنه.


والآن إلى سيرة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.

الآن ننتقل إلى معركة بدر: 

ففي يوم بدر, نزلت قريشٌ بجيشها اللجب, عند العدوة القصوى من الوادي، مسلحةً بكبريائها وبأسها، وخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعِدَّتهم يوم ذلك ثلاثمئة, لا يملكون من سلاحٍ المقاومة إلا نذراً يسيراً، ويلتقي الجمعان، وتتلظى أرض المعركة فجأةً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في عريشه، حيث توسَّل إليه أصحابه, ألا يغادر خيمته, مهما تدر رحى الحرب، وأبو بكرٍ معه.

بَصُرَ النبي عليه الصلاة والسلام بالمعركة المحتدمة الحافلة، ورأى أصحابه, وهم قليلون, يكادون يذوبون وسط الخضم الوثني المجنون، وكلما رأى شهيداً يسقط, طار معه قلبه حناناً وأسى، وبلغ القتال ذروته الفاصلة، ولم يعد يسمع إلا صليل السيوف متوهجةً, تعزف لحن الموت والدم، وأحس النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مقدَّرات الدين, قد صارت في الكفة المرجوحة، لا الكفة الراجحة, وخرج من خيمته صلى الله عليه وسلم, باسطاً إلى السماء ذراعيه, مثل شراعي سفينة, داهمها موجٌ عنيدٌ عتيد، وراح يناجي ربه في ابتهالاتٍ عالية ويقول:

(( اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ  ))

معنى العصابة: أي الجماعة على الخير، هذه الكلمة لها تاريخ، الكلمات كالكائن الحي؛ تولد، وتَشِب، وتهرم، وتموت، فالكلمة في الماضي لها معنى، معنى العصابة الجماعة، مُطلق الجماعة.

الآن تقول: هذه عصابة، أي قتلة، سارقون، قطَّاع طرق، فكلمة عصابة إذا وردت في السنة المطهرة: فتعني الجماعة، قل لواحد الآن: أنت جرثوم هذا المجلس، ألا يغضب منك، معنى جرثوم في اللغة: أصل الشيء، قام شاعر مدح خليفة عظيمًا, وقال له: أنت جرثومة الدين, والإسلام, والحسب, فكافأه.

لو قال واحد لإنسان: أنت جرثوم الصف مثلاً، يقوم بضربك، فجرثوم لها معنى، وكلمة عصابة لها معنى، يجب أن ينصرف ذهنك لا إلى المعنى المستعمل الآن، بل إلى المعنى المستعمل قديماً، فكلمة الاستعمار لها معنى ثقيل: قوة مغتصبة، معتدية، تنهب الثروات، تقهر الإرادة، تقتل الشباب، أما ربنا قال:

﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)﴾

[ سورة هود ]

الاستعمار عمارة الأرض، إذا كان نحن استعمرنا أرض باللغة, أي أقمنا المستشفيات، والمدارس، والجسور، والطرقات، والمتنزهات، والمعامل، والمصانع، والمرافئ, والموانئ هكذا، هذا معنى الاستعمار، أي أنك عمرت الأرض، فالكلمات تأخذ معنى من خلال التاريخ.

فهذه كلمة عصابة: إياكم ينصرف ذهنكم إلى المعاني التي تستعمل بها الآن، فقال عليه الصلاة والسلام:

اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي, اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي, اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ, لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ .قال: توالت ابتهالاته، وبُحت نبراته، وتهدَّجت دعواته -أي بكى اللهم صل عليه- وسقط رداؤه من فوق منكبه.وهنا اقترب أبا بكرٍ رضي الله عنه في هدوء، فرفع رداء الرسول عليه الصلاة والسلام، وأعاده إلى مكانه فوق المِنكبين اللتين تحملان أعظم أعباء الحياة

أعباء نشر الدين، فهي معركة فاصلة، يسمونها معركة حاسمة، يسمونها الآن معركة مصيرية، قد ينتهي الدين بها.

فقال رضي الله عنه مخاطباً رسول الله: يا رسول الله, كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك

سؤال صغير: لماذا في الغار سيدنا الصديق فزع، استبد الفزع بقلبه، والنبي طمأنه؟ ولماذا هنا العكس؟ سؤال دقيق.

قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر, أخذ كل الأسباب، انتهت مهمته، بقي الحفظ الإلهي، وهو واثق من هذا الحفظ، أما الآن: فقلقه أن يكون, قد قصَّر في إعداد الأسباب، هنا القلق، ليس خائفاً من أن يخلف الله وعده، لا، واثقٌ من نصر الله، ولكنه خاف الآن أن يكون الإعداد غير كافٍ، لم يكن مع الله طائعاً مئة في المئة، فكان إعداد غير كافٍ، فلذلك هنا في خوف من التقصير، أما في الغار فقد أعد كل شيءٍ عدته، وانتهى الأمر، وبقي التوكل.

لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في شكٍ من نصر الله، فقُبيل المعركة قال لأصحابه:

سيروا على بركة اللّه، فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم

ولكن مسؤوليته مباشرة عن أصحابه, وعن الدين، الحقيقة: العبودية تعني أنك لا تستطيع التنبُّه بالغيب.

النبي عليه الصلاة والسلام, دخل على بعض أصحابه الذين توفوا, أبو السائب عثمان بن مظعون, كشف عن وجهه الرداء وقبله، سمع صوت من وراء الستار، ويبدو أن الصوت صوت امرأته، تقول له:

هنيئاً لك أبا السائب, لقد أكرمك الله، - سكوت النبي إقرار، هذا كلام غير صحيح - فقال عليه الصلاة والسلام: ومن أداركِ أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه -هكذا قولي- فقال عليه الصلاة والسلام: وأنا رسول الله, لا أدري ما يفعل به

أخي أنا أعرف النتيجة، أنت مخطئ, فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، تأدب مع الله عزَّ وجل، الله وعده بالنصر، ولكنه خائف، لأنه مسؤول، مسؤولية كبيرة جداً، لذلك شعوره بالمسؤولية جعله يقلق. 

الموقف الأخير: 

قال: ومن شاء أن يرى إيمان أبي بكر في أحسن ساعاته، من شاء أن يرى الإيمان العلوي الموصول بقيّوم السموات والأرض، فليرَ هذا الإيمان يوم دعي الرسول إلى الرفيق الأعلى، هذا أخطر موقف وقفه سيدنا الصديق، فأجاب ورحل عن الحياة والأحياء، يوم تلفت المسلمون فجأةً, فلم يروا بينهم الأب الذي كان يملأ حياتهم حناناً، والنور الذي كان يملأ وجودهم ضياء, أين رسول الله؟ توفي، لم يكن أحداً منهم مستعد أن يقبل الخبر إطلاقاً، يومئذٍ تكشَّف جوهر هذا الإيمان، إيمان رجلٍ أعطى الله موثقه مع محمد، فإذا اختفى محمد بالموت, فإن هذا الإيمان لا يضعف بل يتفوق، ولا يجزع بل يحتشم، ولا ينوء تحت وقع الضربة، بل ينهض رشيداً ثابتاً، هكذا وقف سيدنا الصديق.

وقف إيمان أبي بكر، يوم وفاة رسول الله وقفةً, ما كان يقدر عليها سواه، ما كان واحدٌ من أصحاب رسول الله, يقدر أن يقف وقفته, إلا هذا الصديق.

يومئذٍ وبعد أن صلى بالمسلمين، عاد الرسول إلى حجرته، وعاده أبو بكرٍ في حجرته -أي زاره- واستأذنه في أن يغيب عنه بعض الوقت، وذهب إلى داره بالعالية في أقصى المدينة، ومضى وقتٌ ليس بالطويل, قضى فيه بعض حاجات أهله، وإذ هو يتهيَّأ للعودة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا الناعي يقطع الأرض إليه وثباً، ويلقي عليه النبأ الذي يهدُّ الجبال، ماذا فعل؟.

قال: فحمد واسترجع، إنا لله وإنا إليه راجعون. 

هكذا السنة، واختلطت دموعه الهاطلة بكلماته، وهو يقول: 

إنا لله وإنا إليه راجعون، وأغزا السير.

أي أسرع بالسير.

رابط الجأش، قوي الجَلَد إلى بيت رسول الله.

لم يكد يقترب من المسجد, حتى رأى الفاجعة الكبرى، فقدْ فقَدّ المسلمون صوابهم، حتى إن عمر بن الخطاب القوي الراسخ، وقف بين الناس شاهراً سيفه صائحاً: إن رجالاً من المنافقين, يزعمون أن رسول الله مات، وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، والله ليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجالاً, زعموا أنه مات، ألا لا أسمع أحداً يقول: إن رسول الله مات, إلا فلقت هامته بسيفي هذا؟

هذا سيدنا عمر اختل، تلك كانت حال عمر، فكيف كانت حال من سواه؟!.

خبر صاعق لم يتحمله المسلمون إطلاقاً، لقد كان موت الرسول مفاجأةً تامةً للمسلمين, على الرغم من سابق مرضه، كأنهم لم يتصوَّروا أبداً, أن يقال لهم ذات يومٍ: مات الرسول، هذه فوق احتمالهم.

 فلما أنفذ الله أمره، واختاره لجوار رسوله، وكتب على الناس: أن يسمعوا في لججٍ من الهول والأسى, كلمة الموت مقترنة بكلمة الرسول، طار منهم صوابهم، ولقد كان أبو بكرٍ أحق الناس بأكبر قدرٍ من الأسى والذهول، فهو صديق العمر لمحمد منذ طفولة الحياة وشبابها، وهو الصديق، صديقه وصدّيقه منذ أول أيام الوحي والدين، وهو قد أحبه حباً, وآخاه مؤاخاةً تجعل الصبر على فراقه فوق طاقة البشر، لكن أبا بكر كان يبدو وكأنه لا تحركه طاقاتٌ بشرية، بل طاقةٌ إلهية حلَّت به، ولندع شاهد عيان يصف لنا ثبات أبي بكر عند الصدمة الأولى.

أقبل أبو بكرٍ يكلم الناس، فلم يلتفت إليه أحد، ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو مسجَّى في ناحية البيت، عليه بردةٌ حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم قبَّله، وقال: بأبي أنت وأمي, طبت حياً وميتاً، إن الموتة التي كتبها الله عليك قد متَّها، ثم ردَّ الثوب على وجه رسول الله، ثم خرج, وعمر يكلم الناس، فدعاه للسكوت، فأبى عمر أن يسكت، إلا أنه ظل مسترسلاً، فلما رآه أبو بكرٍ لا ينصت، أقبل على الناس يكلمهم، فلما رأوه، وسمعوه يتكلم, أقبلوا عليه منصتين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس, -انظروا إلى التوحيد- من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, -نحن لا يوجد عندنا وثنية أبداً، ديننا دين توحيد، حتى النبي- ومن كان يعبد الله, فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا هذه الآية: 

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾

[ سورة آل عمران  ]

قال: فو الله كأن الناس لم يسمعوا بهذه الآية من قبل، كأن هذه الآية لا يعرفوها، وكأنهم سمعوها من سيدنا الصديق أول مرة في حياتهم، أما عمر, فلما سمع الآية, أيقن أنه مات، فوقع على الأرض مغشياً عليه، حين علم من كلمات أبي بكر, أن الموت حق في هذه اللحظة المذهلة، والفاجعة المزلزلة, يكون مثل هذا الثبات، من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله, فإن الله حيٌ لا يموت، إن أقصى ما كان ينتظر من سيدنا الصديق كلماتٌ توصي بالصبر، منح العزاء، ولكنه قرر كلمات التوحيد، الله حيٌ لا يموت.

لقد فعلت صيحة أبي بكر في نفوسهم فعل القدر، فقاموا إلى الجسد الكريم المسجى، وأدَّوا إليه تحية الوداع ممزوجةٌ بالعزم الأكيد, الذي سيستقبلون به تبعات الساعات التالية.

يقول بعض العلماء: لو لم يكن هناك أبو بكر, ماذا حصل؟ ما كان في أصحاب النبي إلا واحدٌ, هو هذا الصديق العظيم, الذي كانت له أعصابٌ تحمل الصدمة، واستوعبها، ولم يختل إيمانه، ولم يقع تحت وقع الخبر المذهل، ولم يقل إلا الحق.

إن الأمر ليبدو كما لو أن الله عزَّ وجل, حينما اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام ليكون رسوله إلى الناس، اجتبى معه في اللحظة نفسها أبا بكر رضي الله عنه, ليكمل دور النبي، لذلك المؤرخون يقولون: هو المؤسس الثاني للإسلام.

في عندنا مواقف مع المرتدين مشرفة جداً، ومع الجيش الذي أرسله إلى الشام وسط الارتداد، ووسط الفتن، ولو لم يكن هذا الصديق في هذا العزم الأكيد، وهذا الإيمان الراسخ, لانهار الإسلام من بعده، هذه بعض المواقف.

أجمل شيء في هذه القصة، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، لا تربط إيمانك بإنسان، أنت آمنت بالله، لا تصحب إلا من ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله، الإنسان مشرع، موضح، مبين، لكن الله سبحانه وتعالى هو الحي الباقي على الدوام.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور