وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 28 - 32 الولاء والبراء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الحادي عشر من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثامنة والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿ لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةًۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ (28)﴾

[ سورة آل عمران  ]


لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ 


1 ـ الولاء والبراء:

 يا أيها الإخوة الكرام، هناك أصلٌ كبير من أصول الدين، وهو الولاء والبراء، فما لم تُوالِ المؤمنين، وما لم تتبرَّأ من الكفار والمنحرفين، فأنت لست من الله في شيء، هذا الموضوع خطير جداً، لأنه قد يقول لك المسلم: أنا لا أسرق، ولا أزني، ولا أشرب الخمر، ولكن قلبه معلقٌ بالكفار؛ يحبهم، ويصِلهم، ويعتزّ بهم وهو لا يدري، وقد ضيَّع أصلاً كبيراً من أصول الدين.
 هذه الآية الكريمة أصلٌ فيما يسميه العلماء الولاء والبراء، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

((  ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: -من هذه الثلاث- أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. ))

[  متفق عليه  ]

 أنت لك أصحاب، لك أصدقاء، لك جيران، لك معارف، لك أقران، لك أخدان، هؤلاء إن لم يكونوا مؤمنين فالمودة معهم، والصلة بهم، والمحبة لهم خطيرةٌ على دينك دون أن تشعر، ما الذي ضيَّع المسلمين؟ أنهم ذابوا في مجتمعات الكفر، إلى أن أصبحت حياتهم مشابهةً للكفار؛ أعيادهم، وأفراحهم، وطريقة تفكيرهم، وأنماط سلوكهم، هذه كلها مطابقةٌ لما هو عند الكفار، وقد تجد إنساناً يسافر إلى بلد غربي، ويعود، فيثني عليهم ثناءً لا حدود له، يتعامى عن كل نقائصهم، وعن كل انحلالهم، وعن كل انغماسهم بالملذَّات القذرة، ويُشيد بأبنيتهم، وشوارعهم، ونُظُمهم، وحقوق الإنسان عندهم، هذا الذي لا يرى من الصورة إلا وجهاً واحداً، أو يتعمَّد إغفال الوجه السلبي، هذا معنى ذلك أنه موالٍ لهم، 

(( فمن هوي الكفر فهو مع الكفرة ولا ينفعه عمله شيئًا.  ))

[ الطبراني في الأوسط بسند ضعيف ]

 على كلٍ، نحن أمام قرآنٍ كريم، نحن أمام كلام خالق البشر، نحن أمام كلامٍ لا يعلو عليه كلام، يقول الله عز وجل: ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ﴾

2 ـ مَن هو الولي ؟

 مَن هو الولي؟ إنسان تحبه، إنسان تصله، إنسان تستنصحه، إنسان تهتدي برأيه، تُصغي إلى كلامه، هذا هو الولي؛ محب، مُناصر، قريب، موصول، فما قولك بمؤمنٍ بالله ورسوله يدع المؤمنين ويبتعد عنهم، ويلتصق بالكفار، ويصلهم، بل ويحبهم؟ ما قولك أن هذا العمل يسلَخك من الإيمان، وينزع عنك الإيمان، ولو كنت صائماً مصلياً؟ هكذا يقول الله عزَّ وجل: ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ﴾ قال بعض العلماء: من دون المؤمنين استقلالاً أو مشاركةً؛ لك أصحابٌ من المؤمنين، ولك أصحابٌ من الكفار والمشركين، ومع كِلا الفريقين تمضي سهرةً ممتعةً، ويبتسم وجهك، وينطلق لسانك، وتَمْحَضهم النصيحة، وتستهديهم، وتسترشدهم، وتأخذ رأيهم، وتقيم علاقاتٍ متينةً معهم، وتهنئهم في أفراحهم، وتعزيهم في مصائبهم، وكأنك واحدٌ منهم، بل وتحتفل بأعيادهم، بل وتفعل في بيتك ما يفعلونه هم في أعيادهم. 

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ 


1 ـ الولاء والبراء من علامات الإيمان:

 قال: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾ علامة إيمانك أنك توالي المؤمنين، ولو كانوا فقراء وضعفاء، وتتبرَّأ من الكفار والمشركين، ولو كانوا أقوياء وأغنياء، من علامة إيمانك أنك تودُّ المؤمن، ولو أساء إليك، وتبغض الكافر، ولو منحك عطاءً كبيراً، هذا هو الإيمان، القضية قضية ولاء وبراء.
 أنت مع مَن؟ أنت مع المؤمنين، إذاً تتألَّم لآلامهم، تشقى لشقائهم، تفرح لسعادتهم، تسرُّ بنصرهم، تحزن بتأخرهم، هذه علامة إيمانك، فإذا كنت توالي أهل الكفر والشرك، وتشيد بانتصاراتهم، وأنت معجب بقوتهم، وجبروتهم، وأنت راضٍ عن انحرافهم وانحطاطهم، ولا يضيرك أن تقلدهم فيما يفعلون، فاعلم علم اليقين أنه لا ذرة إيمانٍ في قلبك، والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾ فإذَا دعاك غنيٌ أو قويٌ ولو كان متفلِّتاً من الدين لبيت دعوته‍! أما إذا دعاك قريبٌ لك فقيرٌ من أطراف المدينة فإنك تعتذر؛ الوقت ضيق، ومشغول، فتلبية دعوة المؤمنين من عمل الآخرة، وتلبية دعوة الأغنياء والأقوياء من عمل الدنيا، من مُتَع الدنيا، فانتبه لو أنك لم تشرب الخمر، ولم تزنِ، ولم تقتل، ولم تسرق، لمجرد أن توالي الكفار والمشركين، وأن تحبهم، وأن تعظّمهم، وأن تشيد بتفوقهم، وأن تتحدث عن حضارتهم فهذا شيء خطير.

1- هذا شرك فاحذره :

 أيها الإخوة، هذا الموضوع خطيرٌ جداً، ذلك أن الله سبحانه وتعالى له امتحانات عديدة في أفعاله، ففي حينٍ يقوِّي الكفار، يقويهم إلى درجة مذهلة، فيبدو للناظر أن كلمتهم هي العُليا، يبدو للناظر أنهم يفعلون ما يريدون، وأنهم أقوى قوةٍ في الأرض، وأنه لابد من موالاتهم، وإلا لا ننال شيئاً، هذا كلام يُطرَح، لابد من موالاة هذه الدولة القوية، وإلا لا نصل إلى شيء، ومهما تنازلت، ومهما خضعت، ومهما صغرت لا تأخذ شيئاً إلا مزيداً من السلب والقهر.
 هذه مشكلة كبيرة، حينما ترى أن جهةً غير الله بيدها كل شيء فهذا شرك كبير، والله هذا يكاد يكون شركًا أكبر، حينما ترى أن جهةً قويةً جداً بيدها كل شيء، ولا بد من موالاتها، ولا بد أن تقيم معها علاقةً طيبة وإلا سحقتك، هذا هو الشرك بعينه، أين الله؟ 

﴿ ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ ۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(257)﴾

[  سورة البقرة ]

 هذه الآية أيها الإخوة من أخطر الآيات في حياة المؤمن، أنا لا أقول لك: أن تناصبهم العِداء، لا أقول لك: إن أية علاقة معهم محرَّمة، علاقات العمل مشروعةٌ ولا شيء فيها، أنا أبعدك عن علاقاتٍ حميمة، عن شراكةٍ اندماجية، عن صحبةٍ متينة، عن نزهةٍ طويلة، عن سهراتٍ مختلطة، هؤلاء لهم قيَمهم، ولهم طريقتهم في الحياة، يعيشون للدنيا وحدها، لا يعبؤون بقيم الدين، ولا قيم الآخرة، كيف تنسجم معهم؟ وكيف تصفو العلاقة بينك وبينهم؟ هذا مستحيل إلا أن يكون هذا الذي يواليهم على شاكلتهم.

2 ـ شخصية المؤمن لها سمات غير سمات الكافر:

 أيها الإخوة الكرام، شخصية المؤمن لها سمات، وشخصية الكافر والمشرك لها سمات، فحينما يندمجان فلابد أن تعتقد يقيناً أن سمات المؤمن كاذبة، وليست صحيحة، لو أنها حقيقية لما انسجمت مع سمات الكافر، إنها مزوَّرة، إنها مُدَّعاة، يدعي أنه كذا، وهو ليس كذلك، فشيءٌ خطير أن تركن إلى كافر، أن تستسلم له، أن تصغي إليه، أن تمحضه الود، أن تحبه، أن تتعلق به، أن تعظِّمه، أن تكبره، أن تراه قوياً، أن تراه يعيش حياةً راقية، أين هو الرقي؟

لا توازن بين شيئين إلا بميزان الآخرة


 أيها الإخوة الكرام، أتمنى عليكم شيئًا، جرِّب ألا توازن بين جهتين، ولا بين أمتين، ولا بين شعبين، ولا بين دولتين، ولا بين رجلين، ولا بين حرفتين، جرّب ألا توازن بين جهتين إلا إذا أضفت الآخرة إلى كلٍ منهما، قد تجد مطعمًا دخله فلكي، لكنه يبيع الخمر، وقد تجد مطعمًا في قرية غلته لا تزيد على مئتي ليرة في اليوم، لكنه يبيع بإخلاص، ويقيم شرع الله، ففي الموازنة الظاهرة شتان بين المطعمَين، أما في الموازنة الحقيقية إذا أضفت الآخرة إلى كلٍ منهما وجدت أن هذا المطعم المتواضع، الذي دخله لا يكفي مصروف صاحبه، هو أرقى على المدى البعيد من صاحب هذا المطعم الأول، وقس على هذا كل شيء.

(( دخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على حصيرٍ قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، وإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحوَ الصَّاعِ، وقَرظٍ في ناحيةٍ في الغرفةِ، وإذا إهابٌ مُعلَّقٌ، فابتدرت عيناي، فقال: ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي! وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك. قال: يا بنَ الخطَّابِ أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا. ))

[ المنذري ]

وفي رواية ثانية:

(( أوَ في شكٍّ أنت يا ابنَ الخطابِ؟ أولئكَ قومٌ عُجِّلَتْ لهم طَيِّبَاتُهم في الحياةِ الدنيا. ))

[ صحيح الجامع ]

 الدنيا لا قيمة لها، وأساساً قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ(44)﴾

[  سورة الأنعام ]

 فأضِف إلى أركان دينك الولاء والبراء، ينبغي أن توالي المؤمنين، وأن تتبرأ من الكفار والمشركين، أنا لا أقول لك: أن تناصبهم العِداء، قد لا تقوى عليهم، لا أقول لك: أن تشتمهم في وجههم، لا، لا، ولكن تبرأ منهم، ابتعد عنهم، علاقات العمل مقبولة، علاقات العمل أنت مضطرٌ أن تعاملهم ولا شيء عليك، أما العلاقات الحميمة، السهرات الطويلة، الصلات المتينة، السفر، النزهات، الشراكة الاندماجية بينك وبين كافرٍ أو مشرك، كيف تنسجم معه؟ كيف تقبل قيمه؟ كيف ترضى عن تفلته؟ كيف تستسيغ نفاقه؟ لابد من أنك على شاكلته، فكلما اقتربت من أهل الكفر ابتعدت عن أهل الإيمان، وكلما واليتهم كان جفاءً لدينك، ولقيمك، ولمبادئك. 

3 ـ الموالاة على الكفر كفرٌ ، وعلى الفسق فسقٌ:

 ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ ﴾ هناك بعض التفصيلات؛ أنواع الموالاة: لو أنك واليتهم على كفرٍ فموالاتك كفر، لو أنك واليتهم على كفرٍ، هم كفار، وأنت مدحتهم، أو أثنيت عليهم، أو أقررتهم على ما هم فيه، إذا واليتهم على كفرهم فموالاتهم كفرٌ، وإن واليتهم على فسقٍ فموالاتهم فسقٌ، وإن واليتهم على حرب المؤمنين فموالاتهم كفرٌ، بل هو أشد أنواع الكفر أن تستعين بكافرٍ على مؤمن، العبرة أن تكون مع المؤمنين، وفي خندق المؤمنين، ومع أهل الحق، ولكن قد تجد في هذا صعوبة لأن الكفار أقوياء، وعندهم أشياء مغرية جداً لكنهم في النهاية لن يعطوك شيئاً.
 أنا أقول كلمة واحفظوها: المسلم إذا والى كافراً، وأعانه على كفره، أو أعانه على ظلمه، أو أعانه على فسقه، بمثابة منديلٍ مُسِحَت به أقذر عمليةٍ، ثم أُلقِي في سلة المهملات، هذا هو المسلم إذا أعان كافراً على كفره، أو على فسقه، أو على انحرافه، أو على فجوره، وأشاد به، وأثنى عليه، وعظَّمه، وقدَّره، حاوِل أن تكون مع المؤمنين لأن الله معهم، وإذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمَن معك؟  
﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ﴾  من دونِهم، لأن الكفار دونَهم، الحقيقة حينما يُكشَف الغطاء تُعرَف الحقائق، قد تجد مؤمناً بسيطاً، مستقيماً، فقيراً، متواضعاً، مهمَّشاً في الحياة، لكنه يخاف الله ورسوله، هذا المؤمن يوم القيامة تجده علماً من أعلام الآخرة، وقد تجد كافراً متألِّقاً، مشهوراً، معروفاً، معزَّزاً، مكرَّماً، مُبجّلاً، لو رأيت مقامه في الآخرة لرأيته في أسفل سافلين، فالعبرة أن هذه المراتب في الدنيا لا قيمة لها، قال تعالى: 

﴿  انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا(21)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 من يعرفني؟ إذا كنت مع الله فالله معك، وإذا كان الناس لا يعرفون فضلك، فالله يعرف مكانتك، والله يعاملك معاملةً يشعرك أنه يحبك، وأنك عنده بمكان.
 فيا أيها الإخوة الكرام، هذه آيةٌ من أخطر الآيات، لأن عدم تطبيقها قد يكون سبباً لانسلاخك من دين الله، والدليل: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ


 ليس له موالاةٌ مع الله إطلاقاً ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ﴾ لأنه في المنطق لا يُقبَل أن توالي رجلاً، وأن توالي عدوه، مستحيل، لا يجتمع موالاة جهةٍ وجهةٍ معاديةٍ لها، من هم أصدقاؤك؟ قال: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك، من هم أعداؤك؟ عدوك، وصديق عدوك، وعدو صديقك، فلا يجتمع أن توالي كافراً ، وأن توالي مؤمناً، إنهما متناقضان، إلا أن يكون منافقاً. 

﴿  وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14)﴾

[  سورة البقرة  ]

 هذا المتلون منافق، ولا شأن له عند الله، وقال تعالى:

﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلْأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾

[ سورة النساء  ]


لا تستحِ بدينك ، فإنّ الله ناصرُه: 


 شيء رائع جداً أن يكون لك هوية، أنت مسلم، فلا تستحِ بدينك، قُدِّمت لك ضيافةٌ في رمضان فلا تقل: معي قرحة، لا بل قل: أنا مسلم، وصائم، لا تخف، الذي أنزل هذا الدين هو الذي يحميك، فإذا كنت ترى أن الله لا يحميك فلماذا تعبده؟ إن كنت ترى أن جهةً يمكن أن توقع بك سوءًا، واللهُ لا يتدخل، فلماذا تعبد الله؟ هذا كلام منطقي؛ أنت مع أقوى الأقوياء، أنت مع خالق الأرض والسماء، أنت مع رب العالمين، أنت مع من بيده ملكوت كل شيء، أنت مع من أمره هو النافذ.

﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (82)﴾

[  سورة يس  ]

 أنت مع مَن؟ مع مَن يفعل ما يريد، العالم كله، المجرات كلها في قبضته، الأقوياء جميعاً في قبضته، فأنت مع الله، فلا تخشَ مع الله أحداً. 

﴿ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىٓ أَزْوَٰجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا(37)﴾

[   سورة الأحزاب  ]

 فيا أيها الإخوة، حينما توالي أهل الكفر والطغيان، معنى ذلك أنك لا تعرف الله، وأن ليس لك ولاءٌ مع الله إطلاقاً، لا يُعقَل أن تواليَ عدواً لله، لا يعقل أن توالي مَن يرفض دين الله، لا يعقل أن توالي من يستهزئ في عباداتك، لا يعقل أن توالي من يريد أن يطفئ نور الله.
 دقق في هذه الآية، بربك لو رأيت إنساناً يتِّجه نحو الشمس، وينفخ في قرصها ليطفئها، بمَ تحكم عليه؟ بالجنون، ماذا يقول الله عزَّ وجل؟ 

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ(8)﴾

[  سورة الصف  ]

 إذا كانت أشعة الشمس، أو لهب الشمس لا يمكن أن يُطفَأ بنفخةٍ من فم إنسان، فهل يعقل أن يستطيع الكفار -ولو اجتمعوا- أن يُطفِئوا نور الله بأفواههم؟ كم من أمةٍ قام فيها من يريد إلغاء الدين، بأماكن عديدة في العالم، ما الذي حصل؟ هؤلاء الذين أرادوا إطفاء نور الله هم انطفؤوا، وبقي نور الله ساطعاً.
 لذلك لا تقلق على هذا الدين، إنه دين الله، وإذا شاء الله عزَّ وجل نصرَ دينه بالرجل الفاجر، وهذا من حكمة الله عزَّ وجل، ولكن اقلق على شيءٍ واحد، ما إذا سمح الله لك، أو لم يسمح أن تنصر دينه، وإنه لشرفٌ عظيم أن تكون جندياً من جنود الحق، فلابد أن تكون مع المؤمنين؛ بقلبك، وقالَبك، بمشاعرك، وعواطفك، وقد يكون المؤمنون ضعافاً، عندهم فوضى، وعندهم تقصير، لكنهم طيبون، طيبون مقصرون، هؤلاء الذين يعجبونك خبثاء، خبثاء مجرمون.
 يا أيها الإخوة، لكن القوي مسموع الكلمة، والضعيف لو تكلم لا يُسمَع صوته، أنت مؤمن، لابد أن تكون هذه الآية أحد أركان عقيدتك ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ﴾ لا يتخذهم استقلالاً، أي أنه ترك جميع المؤمنين ووالاهم، أو مشاركةً؛ والى بعض المؤمنين، ووالى بعض المشركين، والولاء لا يقال له ولاء، لكن الحب، والود، والنصيحة، والتقليد، تقلدهم في حياتهم، في أعيادهم، في أفراحهم، في أتراحهم.

استثناء مهمّ : فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ


 لكن العلماء استثنوا، قال تعالى:

﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۖ فَمَا ٱسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ  ﴾

[  سورة التوبة ]

 عاملك إنسان غير مسلم معاملة طيبة، أنت من واجبك أن تعامله معاملةً طيبة ﴿فَمَا ٱسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾ إنسان غير مسلم لم يقاتلك، ولم يتآمر عليك، ولم يطعن بك، ولم يسئ إليك، قال تعالى: 

﴿ لَّا يَنْهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوٓاْ إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ(8)﴾

[  سورة الممتحنة  ]

 فلا شيء، إنسان ليس مسلماً، أراد أن يزورك، ويسمع منك، قال تعالى: 

﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُۥ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ(6)﴾

[ سورة التوبة ]

 استقبله، ورحِّب به، وضيفه، وتكلم الحق أمامه، فأي لقاء يتم بين مسلم وغير مسلم أنا أرحب به، وأرحب به كثيراً، بشرط أن يُتاح للمسلم أن يعرض أفكاره، ودينه أمامه فقط، فإذا كان بإمكانك أن تعرض ما عندك فاجتمع مع أي إنسان، وكُن بشوشاً، لطيفاً، الإسلام واقعي، لكن شخصًا لا يعبأ بدينك، ولا يقيم له وزناً، ويحتقر منهجك، لكنه قوي، أو غني، فأنت تزوره، وتتذلل إليه، وتتضعضع أمامه ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾ .

تهديد إلهيٌّ :


 هل بعد هذا التهديد من تهديد؟ ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾ أحياناً يقول الأب لابنه: إن صاحبت فلاناً فلست ابني، فهل بعد هذا التهديد من تهديد؟ إن صاحبت هذا الشاب الفاسق فأنت لست ابني، ولن أعترف بك، هذا أعلى أنواع التهديد ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾ لكن: ﴿إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةًۗ﴾ 

إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة 


هذه رخصة من الله:

 فإذا كان هذا الكافر قوياً جداً، لدرجة أنك إن لم تُشعِره أنك قريبٌ منه سحقك، أو أنهى حياتك، في مثل هذه الحالات هناك رخصةٌ اسمها التَقِيَّة، لكن هذه تُقدَّر بقدرها، ولا يُتوَسّع فيها كثيراً، فإذا هُدِّدت حياتك، يمكن أن تظهر له بعض المودة اتقاءً لشره، كإنسان له لقب معين، فإن لم تنادِه بهذا اللقب نشأت مشكلةٌ لا قِبَل لك بها، تناديه بهذا اللقب، النبي الكريم كتب: "من محمدٍ رسول الله إلى عظيم الروم" ، هل كان قيصر عنده عظيماً؟ لا، ولكن هذا لقبه، ففي حالات يكون المؤمن حكيمًا، والشرع دقيق جداً، فلان له لقب معين أناديه بلقبه، هذا لا يزيد، ولا يُنقِص، فحينما تخاف شر إنسانٍ ظلومٍ، جبارٍ، لا يخاف الله، تناديه بلقبه، أو حينما تظهر بعض المودة في حالاتٍ نادرةٍ جداً، في حالاتٍ تُهدَّد فيها كل مصالحك، فهذا سمح الله به، لأن الشرع يسع كل الأحوال، وكل الظروف، ففي ظروف نادرة جداً إن لم تظهر له مودةً فعل بك ما فعل، وهذا الشيء واقع، إذاً أنا أتقي شره بهذه الكلمة، أو بهذه الابتسامة.
 لكن لو وافقت غير مسلمٍ، أي لو وافقت كافراً أو مشركاً على عملٍ مباح، فلا مانع، كأن نريد أن نلغي الظلم في هذه الجهة، فتعاونا، النبي استعان بمشركين لإزالة ظلم، هذه المعاهدات التي جرت بينه وبين القبائل، فقال العلماء: يجوز أن تستعين بكافر لرد ظُلامةٍ، أو لتحقيق مصلحةٍ للمسلمين، طبعاً من دون أن نخسر شيئاً، دقق، من دون أن يكون هذا على حساب ديننا، ولا على حساب شرعنا، ولا على حساب مصالحنا، مجرد جهة بعيدة تريد أن ترفع عنها الظلم، فتعاونا كدولتين فلا في مانع، هذا الشيء مشروع، هذا من الاستثناءات المتعلقة ﴿إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةًۗ﴾ .

وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ


 ويقول الله عزَّ وجل: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ ﴾ ويحذركم الله ذاته العليَّة، أي إياك أن تظهر شيئاً، وأن تخفي شيئاً. 

﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 ويحذركم الله ذاته العلية أن تجترئوا عليه، وتوالوا أعداءه، حينما قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[  سورة الأنفال ]

 فيجب أن يكون عدوكم هو نفسه عدو الله، هذه الآية دقيقة جداً، لا يمكن أن تحارب إلا من كان عدواً لله، يجب أن يكون عدوكم، وعدواً لله في وقتٍ واحد، أما إذا كان عدوكم، ولم يكن عدواً لله، فيا لطيف! هذا الذي يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم إلى أبد الآبدين، يجب أن يكون هذا الذي تقاتله عدواً لك، وعدواً لله في وقتٍ واحد، وإلا فأنت مجرم في حق المؤمنين ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

هذا واقع المسلمين للأسف الشديد:


 ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ﴾ سوف تعودُ إلى الله، وترجعُ إليه، وسوف يحاسبك عن هذه الموالاة، وهذا الانحياز.
 صدقوني أيها الإخوة، إنك لو دققت في حياة المسلمين بعمق، وجدت ولاءهم لغير المسلمين، فيتفنن المسلم أحياناً كيف يُوقع بك الأذى، ويعلم أنك مسلمٌ مثله، فإذا جاء مع غير مسلم كان لطيفاً إلى درجةٍ لا تصدَّق، أليس هذا ولاءً لهم؟ 
 هذا الأخ المؤمن، وتعلم أنه مظلوم، تتفنن في إيقاع الأذى به؟ وهذا القوي غير المسلم تتفنن في ملاطفته، وفي البحث عن حلٍ لمشكلته، وفي بيان سبيلٍ لنجاته؟ كيف تواجه الله يوم القيامة؟ هذا الذي جاءك ضعيفاً، توقع به أشد أنواع الأذى، وأنت مرتاح، وهذا الذي جاءك قوياً، تفكر له عن حلٍ لمشكلته دون أن تشعر، هذا والله ولاءٌ، وأيّ ولاء! وبراءٌ من المؤمنين، وأيّ براء! لو دققت في حال المؤمنين، فيكفي أن توالي هؤلاء، وأن تحبهم، وأن تدافع عنهم، وأن تشيد بهم، وأن تتحدث عن براعتهم، وعن كفاءتهم، وعن تفوّقهم وأنت لا تدري، أنت واليتهم وأنت لا تدري.
 هذا درسٌ مهم جداً، أيها الإخوة، حتى يرضى الله عنا، وحتى ينصرنا، وحتى ينظر إلينا بالعطف فلابد أن نكون مع المؤمنين، وأن يكون ولاؤنا للمؤمنين، ومحبتنا للمؤمنين، وقد لا يعجبك المؤمن، عنده تقصير، تخلف، جهل أحياناً، تجاوز، هؤلاء قدرنا، واحد عنده أولاد، فأولاده قدره، شاء أم أبى، أولادنا قدرنا، والمؤمنون قدرنا، لكن محبتنا لهم، وعطفنا عليهم، وقوتنا لهم، وحرصنا عليهم، وخبرتنا في خدمتهم.

نماذج حية من الولاء والبراء :


 أيها الإخوة، أضع بين أيديكم نموذجًا للولاء والبراء: طبيب مقيم بأمريكا، وله دخلٌ فلكي، ويعيش حياةً ماديةً تفوق التصوُّر، لكنْ في أعماقه شعور بالذنب؛ أن كل علمي، وكل خبرتي، وكل تفوقي لغير المسلمين، فعاد إلى بلده، وافتتح عيادةً، لا شك أن الموازنة بين بلده، وبين بلد غربي متقدم فيها بونٌ شاسع، لكنه أسرّ لي وقال: شعرت براحةٍ لا توصف، لأنني أعالج المسلمين، وأضع علمي في خدمتهم، هذا شاهد.
 قبل أيام زارني أخ وُلِد في أمريكا، طبيب، ولكنه متخصص في الأطراف الصناعية، وأراني بعض إنجازاته، شيءٌ مذهل، طفل صغير قُطِعت رجله من أعلى الفخذ في حادث، بعد تركيب طرف صناعي صار يمشي، قدَّم خدمات، قال لي: أنا والله أتمنى أن آتي إلى الشام في العام ثلاث مرات كي أعالج هؤلاء المصابين بتكلفةٍ فقط من دون أي ربح، والرقم رمزي جداً، شعر أن كل خبرته لغير المسلمين، شعر بضيق.
 أنت مسلم، إن تعلمت في هذا البلد الطيب فلحمك من خير هذا البلد، فصرت لغير المسلمين بكل خبراتك، وكل قدراتك، كل إنسان يخدم غير المسلمين على المدى الطويل يشعر باختلال بتوازنه، هؤلاء المسلمون هم الذين رفعوك وجعلوك طبيباً، أيعقل أن يكون علمك لغيرهم؟ فمن الوفاء لدينك ولأمتك أن تكون خبراتك العالية في خدمة أهل بلدك وأهل دينك، هذا من الولاء والبراء، أما قد يصفو العيش لبعض المسلمين في بلادٍ بعيدة، فيستقرون إلى نهاية الحياة، ويدفعون ثمناً لا يتحمَّله أحدٌ من المسلمين، أولادهم، أولادهم هم الثمن، يشعر أنه دفع ثمناً لا يستطيع تحمله، وهذا الواقع، وهذا من الولاء والبراء ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ﴾
ثم يقول الله تعالى:

﴿ قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ قَدِيرٌ (29)﴾

[ سورة آل عمران ]


قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّه 


1 ـ هذه الآية تهديد لهؤلاء المتلوِّنين في الولاء والبراء:

 أحياناً بذكاءٍ من المنافق يبدي ولاءً للمؤمنين، ويخفي ولاءه للكفار إذا كان مع المؤمنين، أما إذا كان مع الكفار ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ هؤلاء المنافقون المتلوّنون.
قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ قَدِيرٌ﴾ هذه الآية تهديد لهؤلاء المتلوِّنين، الذين يظهرون ولاءً للمؤمنين في حضرتهم، وولاءً للكفار في حضرتهم، هؤلاء عند الله منافقون، والعبرة لذلك اليوم الذي لا تخفى على الله فيه خافية، قال تعالى: 

﴿ يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٍ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدًاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ (30)﴾

[ سورة آل عمران ]

 بينها وبين عمل السوء ﴿أَمَدَۢا بَعِيدًاۗ﴾ وأعاد الله التحذير مرةً ثانية ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾

2 ـ تحذير ممزوج برحمة:

 هذا التحذير رأفةً بكم، محبةً لكم لأن المصير مخزٍ، حينما يكون ولاؤك لغير المؤمنين فالمصير مخزٍ تماماً، والله لا يرضى لك أن تكون مَخزيّاً يوم القيامة ﴿وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾ ما جاء التحذير مرةً ثانية إلا بسبب رأفة الله بالعباد. 

﴿ قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]


قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 


دعوى المحبة لابد لها من دليل الاتباع :

 إنّ الله جلَّ جلاله ما قبل دعوى محبَّته إلا بالدليل، والدليل القاطع على محبَّة الله اتباع رسول الله، وإلا فهي دعوى فارغة لا قيمة لها، كلٌ يدَّعي أنه يحب الله، الفيصل في هذه الدعوى أن تكون متبعاً لرسول الله.

أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِين


 من أقام في بلاد المشركين يقول: هناك غير حياة، وإذا جاء إلى بلده زائراً يتصيَّد العيوب، أحياناً تضجر منه، الطرقات سيئة، والنظام سيئ، فماذا تريد غير ذلك؟ ارجع مكان ما كنت، يشمئز ويُشمأَز منه، لذلك قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
 آخر آية قال تعالى:

﴿ قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ (32)﴾

[ سورة آل عمران ]


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ 


 أنت لك منهج، في حالات نادرة جداً يمكن أن تبدي المودة للكفار، حينما تشعر يقيناً أنك مهددٌ في حياتك، يمكن أن تتقي منه تقاة، أن تتقي من هذا الكافر الشرير ما تقيم به أمر الله عزَّ وجل، أن تبقى في بيتك مع أولادك، حالات نادرة جداً حينما تُهدَّد في حياتك، أو في كل مصالحك دفعةً واحدة، أما إذا أخذ فكرة، فليأخذ خمسين فكرة، هذه قضية سهلة، ليس فيها شيء، أنت معك استثناء لكن كما قيل الضرورة تُقدَّر بقدرها، كيف؟
كاد شخص يموت جوعاً، فله أن يأكل لحم الخنزير، حالات نادرة، لكنه يأكل لقمتين فقط، لئلا يموت، فالضرورة تُقدّر بقدرها، هذه قاعدة، هذا الاستثناء نحن لا نوسعه لكل شيء، كأن نقول: من لا تقيَّة له لا دين له، وُسِّع في درجة أنك لا تستطيع أن تحاورهم إطلاقاً، كل شيء يُقال خلاف ما يعتقدون، انتهى الأمر، وهذه حالات نادرة جداً.
﴿قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾ أنت مؤمن معك منهج، ينبغي أن تطيع الله ورسوله فقط، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، والأمور بخواتيمها، والعبرة للآخرة، والغنى والفقر بعد العرض على الله، إذا والى المسلم الكفار، وأقام معهم، تفلت أولاده، ولن يكونوا مسلمين إطلاقاً، بل كانوا في أشد أنواع الانحراف، فهذا حينما يرجع إلى الله يوم القيامة ماذا يجيب الله عزَّ وجل؟ الرفاه الذي كان يعيشه انتهى، وبقيت المسؤولية، والذي والى المؤمنين، وبقي في بلادهم، المتاعب انتهت، وبقي الثواب، هذه قاعدة عامة، المتاعب تنتهي، ويبقى الثواب، والميِّزات تنتهي، ويبقى العقاب، العقاب أبدي، والثواب أبدي، أما المتاعب والميزات فهي مؤقتة، المتاعب من موالاة المؤمنين مؤقتة، والميزات من موالاة الكفار كذلك مؤقتة، ماذا يبقى بعد ذلك؟ إما في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور