الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله سبحانه وتعالى حينما كلَّف الإنسان حمل الأمانة جعله مخيراً:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثانية والأربعين بعد المئة وهي قوله تعالى:
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ في هذه الآية نقاطٌ كثيرة، من أبرز هذه النقاط أن الله سبحانه وتعالى حينما كلَّف الإنسان حمل الأمانة جعله مخيراً:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾
وقال:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
وقال:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
تؤكد هذه الآيات كلها أن الإنسان مخيَّر، وإذا سعد الإنسان بهذا الاختيار فلأن الله شاء له أن يختار، إذا سعد الإنسان بهذا الاختيار، إذا اختار طاعة الله عز وجل والتقرب منه استحق دخول الجنة.
الإنسان مخير في حدود ما كُلِّف:
لولا أن الله سمح له أو أذن له أن يكون مختاراً لما اختار، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)﴾
لولا أن الله شاء لكم أن تكونوا أصحاب مشيئةً حرة لما شئتم، إذاً لأن الإنسان حمل الأمانة، وكُلِّف طاعة الله عز وجل، كان مخيراً من أجل أن يثمن عمله، ولكن الله طليق الإرادة، أي شيءٍ يعطيك إيَّاه يأخذه منك في أية لحظةٍ، فالإنسان في الأساس مُسيِّر حينما يولد، مُسيّر في أمه وأبيه، وعصره وزمانه، ومكانه وقدراته، وما إلى ذلك مما ليس له اختيارٌ فيه، وهذه الأشياء التي سُيِّرت فيها هي أكمل شيءٍ إليك، ليس في إمكانك أبدعُ مما أعطاك، ثم أنت مخيَّر في حدود ما كُلِّفت.
يوجد دائرة أنت فيها مخير دائرة التكليف افعل ولا تفعل، أمرك أن تصلي، بإمكانك أن تصلي وألا تصلي، أمرك أن تكون صادقاً، بإمكانك أن تصدق أو أن تكذب، أمرك أن تغض البصر، بإمكانك أن تغض وأن تُطْلق، أنت مخير في حدود ما كُلِفت، ولكن ولأن الله رب العالمين من أجل أن يربيك تربيةً تقيك دخول النار، لو أنك اخترت اختياراً غير صحيح لأدبك الله عز وجل.
مع التأديب يُسْلَب الإنسان اختياره ليؤدَّب أو ليكافأ:
كيف يؤدبك الله؟ يأخذ من كل ذي لبّ لبَّه ثم يسوقه إلى مصيبة، أنت الآن مُسيّرٌ لدفع ثمن اختيارك، فكنت مسيراً حينما ولدت، من قِبَل أمك وأبيك، كونك أنت ابن فلانة وابن فلان، أنت فيهما مسيراً، وولدت في دمشق مثلاً، وفي عام كذا، أنت فيه مُسيّر، وقدراتك كذا وكذا أنت فيه مسيّر، ثم حُمِّلْتَ الأمانة، وحُمِّلت أن تكون مُخيراً فيما كُلفت، حينما تستخدم هذا الاختيار بشكلٍ غير صحيح يأتي التأديب رحمةً بك، مع التأديب يُسْلَب الإنسان اختياره ليؤدَّب أو ليكافأ، الآن لماذا حوِّلت القبلة الآن من مكة المكرمة إلى بيت المقدس؟ لأن قريش قالت: هذه الكعبة ليست بيت الله إنها بيتنا وبيت آبائنا وأجدادنا، والأصنام من حول الكعبة، فلحكمةٍ أرادها الله عز وجل أمر بتحوّل القبلة من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، فقال اليهود: يعارض ديننا ويتَّجه إلى قبلتنا، أراد الله عز وجل أن يكون الإسلام شاملاً لكل الأديان، فتوجه إلى بيت الله الحرام:
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)﴾
ثم أمر بالتوجه إلى بيت المقدس، المكان الذي جاءت فيه نبَّوات سيدنا موسى وعيسى، ثم حُوّلت القِبلة إلى مكة المكرمة ثانيةً، فهؤلاء الذين رأوا أن القبلة حوّلت من مكان إلى مكان هم عند الله سُفَهاء، عَلِم الله عز وجل أنهم سيقولون، قال: ﴿سَيَقُولُ﴾ حينما نزلت هذه الآية هل قالوا؟ لم يقولوا، هناك سين استقبال: ﴿سَيَقُولُ﴾ وهؤلاء الذين سيقولون وصفهم الله عز وجل بأنهم سفهاء.
من هو السفيه؟ السفيه هو الذي يُبدد ماله أو قدراته بلا جدوى، أوضح مثل لو أن إنساناً أمسك ألف ليرة وأحرقها أمامك بلا سبب، وبلا هدف، هو سفيه، وأنا مضطر أن أسوق الموضوع إلى فرع ثم أعود إلى أصل الموضوع، مُرَكَّب في الإنسان أن الوقت أثمن من المال، بدليل أن الذي لا سمح الله ولا قدَّر يصاب بمرضٍ عضال، وهناك عملية جراحيةٌ في بلدٍ بعيد، ربما أمدت في عمره بحسب قول الأطباء سنواتٍ معدودات، يبيع بيته وكل ما يملك ليُجري هذه العملية التي يأمل أن يعيش من خلالها سنواتٍ معدودات، ما معنى ذلك؟ أن الوقت أثمن من المال، فالذي يُبدد المال يُتَّهم بالسفَه، والذي يُبدد الوقت هو أشدّ سفاهةً.
هذا الذي يجلس يُمضي ساعاتٍ وساعات وراء المسلسلات التي لا طائل منها، هذا الذي يُمضي ساعاتٍ وساعات في حديثٍ فارغٍ لا جدوى منه، هذا الذي يُمضي ساعاتٍ وساعات في لعب النرد، هذا يُعَدُّ أشد سفهاً من الذي يبدد المال لأنه يبدد الوقت الذي هو أثمن من المال، السفيه إنسان غير عاقل، إنسان يُتلف الجوهر ويبحث عن الفحم، هذا السفيه، يُهمل اللؤلؤ ويأخذ الأصداف، السفيه لا يلتفت إلى النفيس ويتَّجه إلى الخسيس، هذا سفيه.
ثم إن الإنسان حينما يرفض شيئاً يُعبِّر عن احتقاره له، إن رفضت بيتاً فلأنه صغير، أو لأنه في منطقةٍ ليست مناسبة، أو لأن اتجاهه نحو الشمال، إن رفضت عملاً فلأن دخله قليل، إن رفضت فتاةً فلأن أخلاقها لا تُعجبك، إنك حينما ترفض تحتقر هذا المرفوض، إلا في شيءٍ واحد حينما ترفض الدين فإنك تحتقر نفسك:
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾
فالسفيه هو الذي يردُّ النفيس ليأخذ الخسيس، هو الذي يَردّ الثمين ليأخذ الرخيص، هو الذي يزهد في الآخرة ليأخذ الدنيا الفانية، هذا سفيه، وكل إنسانٍ ما عرف الله سفيه ولو كان أذكى الأذكياء، ولو حمل أعلى الدرجات، السفاهةُ أن تعرض عن النفيس وتتبع الخسيس.
إذا كان الإنسان مع الشيطان فهمُّه الانتقاد:
هؤلاء الذي أشركوا، والذين ابتعدوا عن الله، والذين شردوا عنه، والذين غرقوا في المعاصي والآثام، هؤلاء عند الله سفهاء، والسفيه دائماً يعترض، وينتقد، ويطعن.
اجلس في أي مجلس تجد أن همّ الناس الوحيد أن يطعنوا بالدعاة إلى الله، أن يطعنوا بالمؤمنين، ليس له هَمّ، لأنه حينما يطعن يتوهم أنه يستعيد توازنه، هو حينما خرج عن منهج الله، وحينما عصى الله عز وجل، وخالف قوانين فطرته اختلّ توازنه الداخلي، فحينما يَتَّهم المؤمنين الصادقين باتهاماتٍ باطلةٍ لا أصل لها هو يستعيد توازنه، فهؤلاء السفهاء رأوا أن القِبلة تحوَّلت من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم إلى مكة المكرمة: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ لماذا رجعوا إلى مكة المكرَّمة؟ بربكم لو أن هؤلاء الناس الذين وصفوا بأنهم سفهاء، وأنهم سيقولون كذا وكذا، لو سكتوا ماذا فعلوا؟ لو سكتوا لأبطلوا القرآن، من أجل أن تعلم أن إرادة الله طليقة، يفعل ما يشاء، وصفهم الله مُسبقاً بأنهم سفهاء، وأنهم سوف يقولون كذا وكذا، وبالفعل هكذا قالوا: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ إذا كان الإنسان مع الشيطان يكون همُّه الانتقاد، لسانه لا يَفْتُر، ينتقد دائماً، يجد متعةً في النقد، عمل تخريبي، عمل شيطاني، عمل فيه أذى، ليس له هَمٌّ ثان إلا أن ينتقد زيداً وعبيداً وفلاناً وعلاناً، هو لا يُقدم شيئاً ولا يفعل شيئاً، هذا النموذج قذر، مُنحط، نموذج يكرهه الله عز وجل، ماذا قدَّمت؟ لا يقدِّم شيئاً، ينتقد كل شيء، من هذا القبيل: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ .
ليس هناك مكان مقدس لذاته إلا أن يقدَّسه الله عز وجل:
ليس هناك مكان مقدَّس بذاته، هذه نقطة مهمة جداً، ليس هناك مكان مقدس لذاته إلا أن يقدَّسه الله عز وجل، الله عز وجل أمر الإنسان وهو سيِّد المخلوقات أن يُقبِّل الحجر الأسود، والتسلسل كما تعلمون؛ جماد، نبات، حيوان، إنسان، أمر الله أشرف مخلوق أن يُقبّل أقل مخلوقٍ رتبةً، وفي منسكٍ آخر أمره أن يرجم حجراً في الجمرات التي هي رمزٌ لإبليس، لا يوجد مكان مقدس، الله عز وجل يقدس شيئاً أو يهدر كرامة شيء، فلذلك سواء توجَّه المسلمون إلى بيت المقدس أم إلى مكة المكرمة هم يتوجَّهون إلى الله عز وجل، وليس هناك مكان مقدس في ذاته.
﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يهديه الله عز وجل إلى طريقٍ مختصر، المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، يهدي من يشاء مرضاة الله عز وجل، من يشاء رحمة الله، من يشاء محبة الله، من يشاء الفوز بالجنة والنجاة من النار، ﴿مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .
أيها الإخوة؛ لو أن الله عز وجل قال: تحوَّلوا عن مكة المكرمة للعلة الفلانية، وتوجهوا إلى بيت المقدس للعلة الفلانية، هذا الأمر فقد قيمته التعبُّدية، أنا حينما أعطيك أمراً لمصلحتك الواضحة الصارخة أقول لك: افعل كذا من أجل كذا، أنت الآن تُقبل على تنفيذ هذا الأمر، لا حباً بالآمر ولكن حباً بذاتك، فَقَد الأمر قيمته المعنوية، وقيمته التعبُّدية.
يقول لك أحدهم: أنا أصلي لأنني قرأت مقالة أن الصلاة فيها رياضة، ليس له أجر فيها، ولا قيمة لهذه الصلاة إطلاقاً، أو يقول: أنا أصوم لأنني شعرت أن الصيام أريح لجسمي، أحس براحة، أحس بخفة، وأجد أمعائي تحسنت، ونشاطي ازداد، أنا أصوم والحمد لله، هذا ليس صيام تعبُّد، هذا صيام رجيم، هذا صيام مصلحة.
لو أن الأمر الإلهي جاء معللاً لفقد قيمته التعبُّدية، توجهوا إلى مكة المكرمة للعلة الفلانية، إلهٌ عظيم يُحب أن يرى انصياعنا لأمره، لذلك قال علماء الأصول: علة كل أمرٍ أنه أمر.
لا أنسى هذا الموقف الذي وقفه إنسان غربي أسلم بعمق، التقى بعالمٍ من علماء دمشق، وطُرح موضوع لحم الخنزير، وهذا العالم أفَاض وأفاضَ، وشرح وأطال وأطنب في مضار لحم الخنزير، فابتسم هذا الإنسان الغربي المسلم قال: كان يكفيك يا أستاذ أن تقول لي: إن الله حرمه، كلام الله، إلهٌ عظيم، هو العلم، والخبرة، والرحمة، والحكمة، هو الخالق، يقول لك: لا تفعل هذا، انتهى الأمر.
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ليس للأمكنة قداسةٌ بذاتها، إلا أن يأمرك الله أن تَشُدّ الرحال إليها، أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى أن نشُدَّ الرحال إلى مكة المكرمة ، وإلى بيت المقدس، وإلى المدينة المنورة:
(( عن أبي هريرة: لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى. ))
ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يُتاح لنا في القريب العاجل أن نزور المسجد الأقصى.
لذلك لا يوجد مكان مقدس لذاته أمرنا الله عز وجل أن نَشُدّ الرحال إليه، فالتقديس هو لأمر الله، أمر الله هو المقدس، فقال الله عز وجل: دعوا مكة لأن قريشاً يقولون: إنها بيتنا وليست بيت الله، إنه بيتنا وبيت آبائنا وأجدادنا، وفيها ما لا يحصى من الأصنام، لذلك قال الله عزَّ وجل: دَعَوا مكة المكرمة واتجهوا إلى بيت المقدس، ولعل في هذا الاتجاه الجديد حكمةً بالغة ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان، أو خاتم الشرائع إن صح التعبير، وأن هذا الدين يستوعب كل الشرائع السابقة، فلذلك نحن نُقدس بيت الله الحرام، ونُقدس بيت المقدس، هو مَهبِط الرسالات السماوية، ومسرى نبينا عليه الصلاة والسلام.
لكن هذه الآية فيها إعجاز، أي الله عز وجل طليق الإرادة، وفي أية لحظةٍ يسلب ما أعطاك إياه، فلو فكر هؤلاء الناس السفهاء لحظة، وصفوا بأنهم سفهاء، وسوف يقولون هكذا وكذا، لو سكتوا لأبطلوا القرآن، لكنهم لا يستطيعون.
مخاطبة الله عز وجل الأمة العربية:
قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)﴾
يخاطب الله الأمة العربية: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ هذا الموضوع يحتاج إلى بعض التفصيل، أمةً وسطاً أي وسطاء بين الله وخلقه، وسطاء بين الله عز وجل وبين خلقه، وهذا تكريمٌ عظيم.
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)﴾
وقال:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾
من أدق معاني كلمة ﴿كُنْتُمْ﴾ في هذه الآية، أي أن كلمة "كنتم" في هذه الآية تعني أصبحتم، أي حينما جاءتكم هذه الرسالة على رسول منكم من هذه الأمة العربية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ .
عِلَّة الخيرية أنكم: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فلو أن هذه الأمة تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعادت بشراً ممن خلق الله عز وجل:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
أشرف مرتبة تنالها الأمة العربية أنها أمة وسط:
حينما نعصي، وحينما يهون أمر الله علينا نهون على الله، وهذا ما ترونه وكأن الله تخلَّى عنا، لأن أمر الله هان علينا فهنا على الله:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي أنتم وسطاء بين الله وبين خلقه:
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي﴾ أي أنتم وسطاء، أي كما هديتكم كونوا هداةً للخلق، وهذه أشرف مرتبة تنالها الأمة العربية، أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسانٍ عربيّ مبين، وجعل هذه الأمة وسطاً، أو وسطاء بين الله وبين خلقه، لـذلك قيل لسيدنا سلمان الفارسي: يَا سَلْمَانُ لا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَبْغَضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: تَبْغَضُ الْعَرَبَ فَتَبْغَضُنِي.
ديننا يأمرنا أن نعيش الواقع بقيَمٍ مثالية:
يجب ألا يسترسل الإنسان في تعداد مثالب هذه الأمة، ليس هذا مقبولاً عند الله، نرجو الله أن يصلح الناس جميعاً، وأن نكون وسطاء لله بين الله وبين خلقه، وأن نعيد لهذه الأمة مجدها، لأن النبي عليه الصلاة والسلام جاء في الجاهلية إلى أمة كانت تأكل الميتة، وتعبد الأصنام، وتسيء الجوار، وتقطع الرحم، وتكذب، وهي غارقة في الخمور، وغارقة في الزنا، عشرة أنواع من الانحرافات في الزواج، والربا متفشٍّ فيها، كما قال سيدنا جعفر:
(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ))
[ اسناده صحيح أخرجه أحمد (1740) باختلاف يسير، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115) مختصراً ]
إذاً ﴿أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي وسطاء بين الله وببن خلقه، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ هناك أممٌ آمنت بآلهةٍ متعددة، وهناك أممٌ أنكرت وجود الله، ونحن المسلمون آمنا بلا إله إلا الله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ هناك أممٌ غرِقت في المادة إلى قمة رأسها، وهناك أممٌ عاشت مثاليةً خياليةً غير واقعية، هؤلاء تطرَّفوا، وهؤلاء تطرَّفوا، أما نحن والحمد لله فديننا دين الواقع، ودين الفطرة، بل إن ديننا يأمرنا أن نعيش الواقع بقيَمٍ مثالية، قال عليه الصلاة والسلام:
(( سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول :جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال :أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ))
ديننا دين الفطرة والوسطية:
نحن ديننا دين الفطرة، دين الوسطية، الإنسان مأمور أن يعبد الله، وأن يسعى لرزق يومه، ما من شهوةٍ أودعها الله فينا إلا فتح لها قناةً نظيفة تسري خلالها، دين وسطي، بل إن التطرف في العالم الآن عادوا إلى الإسلام مكرهين، الآن عادت إلى وسطية الإسلام بضغطٍ من الواقع السيئ الذي نتج عن هذا التطرُّف، لا عن تعبُّدٍ ولكن عن رجوعٍ إلى مصالحها.
مثلاً الاتحاد السوفيتي حرم الخمر قبل أن ينهار، أبداً، كثير من القوانين الآن تصدر، منعت بعض الجامعات في أمريكا الاختلاط، لأنهم وجدوا أن عدد اللقطاء في الحدائق أصبح لا حدود له، الآن الشعوب المتطرفة يميناً أو يساراً عادت إلى الإسلام لا عن تعبُّدٍ، ولا عن طاعةٍ لله، ولكن عن مصلحةٍ، فديننا دين وسطي.
هناك من لا يعمل وهو زاهدٌ في الدنيا، وهناك من يعمل وينسى كل شيء، نحن لا، أُمرنا أن نعمل وأن نعبد الله وأن نصلي خمس صلواتٍ كل يوم، في أي موضوع الإسلام وسطي، والوسط دائماً مركز دائري، المركز في الوسط والمحيط يساوي الأطراف، فالإسلام في الوسط مكان تقاطع الأفكار، لا يوجد تقاطع في التطرف، أما الوسط فيه تقاطع، هذا المعنى رياضي أيضاً، الشمس لا تكون في أشدّ سطوعٍ إلا وهي في وسط النهار، الوسط اعتدال، والوسط قوة، والوسط عَدْل، والوسط توسط بين شيئين متطرفين، هذه كلها من معاني الوسطية: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ .
ديننا متوازن، بين عدم الزواج كلياً، وبين الزنا من دون قيد أو شرط، نحن عندنا زواج، وفي حالات خاصة مسموح بثانية وثالثة ورابعة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ ترك العمل تطرُّف، والانغماس بالعمل تطرف: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ وقال:
﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾
﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ تشهدون لهم الحق.
أعظم داعية هو الذي يتكلم من خبرات يعيشها:
﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ أرسل الله عز وجل هذا النبي الكريم الذي هو سيِّد الأنبياء والمرسلين لهذه الأمة المباركة، وكلَّف هذه الأمة كما أن النبي شهد لها بالحق أن تشهد للناس بالحق، الذي يرى ويتكلم كلامه بليغ جداً، أما الذي سمع، إذا شخص لم يذهب إلى بيروت إطلاقاً، وقلنا له: صف لنا بيروت؟ يقول: والله قرأت عنها أنها على الساحل، قرأت عنها أنها محاطة بجبال خضراء، ما أدري مبلغ هذا الكلام من الصحة، أما لو إنسان يعيش في بيروت قلت له: صف لنا بيروت؟ يتكلم بطلاقة، وبوضوح، وبقوة تأثير عجيبة، ينقل لك خبراته، فلذلك إذا أراد الإنسان أن يدعو إلى الله لا تتكلم بشيءٍ لست قانعاً به، لا تتكلم بشيءٍ لست واثقاً منه، لا تتكلم بشيءٍ لا تراه رأي العين، حينما تشهد اشهد، لذلك أعظم داعية هو الذي يتكلم من خبرات يعيشها، من حقائق يلمَسها، من أفكار هو قانعٍ بها، هذه هي الدعوة.
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ فهذه الأمة العربية التي شرّفها الله وكرَّمها، ونقلها من رعاة الغنم إلى قادة الأمم، وأمرها أن تكون وسطاً بين الله وبين خَلقه، لذلك أنت حينما ترى واقع الأمة المؤلم الذي قد يؤلم تتألم، لماذا؟ أين كنا وأين أصبحنا؟ بعض المسلمين أو أكثرهم فُتنوا بالغرب، فعاشوا حياة الغرب، ونسوا دينهم، والأمانة التي حملهم الله إيَّاها، وعاشوا في انفصامٍ في شخصيتهم، يعتزون بدينهم وبماضيهم، ويذوبون في هذه الحضارة المتوهِّجة التي نسوا فيها أوامر ربهم، هذه حالة صراع، وحالة انفصام شخصية، تصيب كل إنسان لم يُقوِّ إيمانه بحيث يتجاوز كل هذه العقبات والصوارف، بل جعله إيماناً وسطاً، إيماناً ضعيفاً اجتذبته هذه القوى من يمينٍ أو من شمال.
التحول للقبلة امتحان عبودية:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي التحول للقبلة امتحان عبودية، إذا كان الأب جالساً على المائدة، والطعام نفيس، وابنه جائع، ولهذا الأب يدٌ طولى في تربية ابنه، وفي إكرامه، قال له: يا بني لا تأكل، فإذا كان هذا الابن يعرف قدر أبيه، وحكمة أبيه، ومحبة أبيه، ورحمة أبيه ينصاع للأمر ولو لم يفهم الحكمة، بطولتك أن تنصاع للأمر ولو لم تفهم الحكمة، لماذا؟ لأن الحكمة إذا توضَّحت تماماً فقد الأمر قيمته التعبُّدية، وأقبلت عليه طمعاً بمصلحتك الشخصية، لكن الله يُريدك عبداً له، لذلك من حين لآخر تأتي أوامر قد لا تفهمها أنت: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ الإنسان غير المهتدي، المتعلق بالتقاليد والعادات لا يحتمل، أخي هذه الكعبة بيت الله، لماذا انصرف عنها المسلمون؟! ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
زوال الكون أهون عند الله من أن تدع شيئاً لله دون أن تأخذ شـيئاً أثمن منه:
الله عز وجل خلقنا ليسعدنا، وخلقنا لنصل إليه، وخلقنا كي نعرفه، فهل يعقل أن يكون من أفعال الله ما يُبعدنا عنه؟ مستحيل، أب همه الأول أن يكون ابنه متعلماً، معقول أن يمنعه يوم الامتحان من تقديم الامتحان؟ هذا يتناقض مع هدف الأب كلياً: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ .
والله أيها الإخوة؛ زوال الكون أهون على الله من أن تتودد إلى الله ثم يُضيّعك، من أن تؤثر جانب الله على مصالحك ثم يُضيّعك، زوال الكون أهون عند الله من أن تدع شيئاً لله دون أن تأخذ شـيئاً أثمن منه:
(( عن ابن عمر: ما ترك عبد لله أمراً لا يتركه إلا لله إلا عوضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه. ))
هذا كلام مستحيل، مستحيل أن تخاف من الله وأن يخيفك من أحد، مستحيل وألف مستحيل أن تقلق على مصيرك في الآخرة وأن تضيّع الآخرة: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ هذه ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ﴾ أيها الإخوة أشدّ أنواع النفي في القرآن، أنا مثلاً أسأل إنساناً: هل سرقت هذا المبلغ؟ إذا قال لك: لا، هو قد يكون سارقاً، أما هذا المبلغ ما سرقه، أما إذا قال لك: ما كان لي أن أسرق، إذا قلت له: هل أنت جائع؟ يقول لك: لا، الجوع ليس عاراً، أما إذا قلت له: هل أنت سارق؟ يقول لك: كلا، أداة ردعٍ ونفي، أو ما كان لي أن أسرق، أي هذا ليس من شأني، ولا من طبيعتي، ولا من مكانتي، ولا من رغبتي، ولا أرضاه، ولا أفعله، ولا أفكر فيه، ولا أُقرّ عليه، هناك تقريباً عشرة أفعال منطوية في كلمة: ومـا كان الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ .
مستحيل أن تستوي حياة المؤمن مع حياة الشارد عن الله لأن هذا يتناقض مع وجود الله:
لا تخف، ما دمت تطلب الحقيقة، ما دمت تخطب ودّ الله عز وجل لن يُضيّعك الله عز وجل، وهناك آلاف القصص عن إنسان آثر جانب الله فكسب الدنيا والآخرة، من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ تُقبل عليه، تخطب وده، تصطلح معه، تطيعه، تخدم له عباده، تخاف من سخطه، تخاف أن تعصيه، ويعاملك مثل الناس؟! والله هذا يتناقض مع وجود الله:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
أي حياتك كحياة الشارد عن الله؟! مستحيل، حياتك، عملك، صحتك، زواجك، سمعتك، مستقبلك، مكانتك، مستحيل، أي أن يستوي هؤلاء مع هؤلاء هذا يتناقض مع وجود الله: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ .
مستحيل أن يعامَل المؤمن كالكافر:
قد يقول قائل: مستحيل بالآخرة فقط، لا، لا، في الدنيا، والدليل: ﴿سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ هذه الآية وحدها أيها الإخوة والله تملأ قلبكم أمناً وطمأنينة، تملأ قلبكم ثقةً بالله عز وجل، من سابع المستحيلات، مستحيل وألف مستحيل أن يُعامَل المؤمن كالكافر، المستقيم كالمنحرف، الصادق كالكاذب، الأمين كالخائن، المحسن كالمسيء، مستحيل: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ ..
أيها الإخوة الكرام؛
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
وقال:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
وقال:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
عدم استواء المحسن مع المسيء:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ شخص يسكن بأطراف المدينة ركب أول سيارة، وثاني سيارة، وأمضى ساعة على الطريق، وبقي ساعة جالساً على ركبتيه في المسجد، لا يوجد كأس من الشاي، ولا يوجد ضيافة، ولا يوجد أي شيء، ثم يعود إلى البيت، استهلك من وقته ثلاث ساعات، هل يستوي مع إنسان يجلس وراء جهاز اللهو يتابع المسلسلات؟ هذا كهذا؟! هل يستوي من يأتي إلى مجلس علم مع لاعب النرد حتى الساعة الثانية مساءً معقول؟ إنسان يجلس في مسجد في بيت من بيوت الله يستوي مع إنسان في جلسة مختلطة؛ نساء كاسيات عاريات وغمز ولمز ومزح هذا مع هذا؟ إنسان يخشى المال الحرام، يركل بقدمه مئات الألوف لشُبهة فيها، وهناك إنسان يأخذ المال من أي طريق وبأي طريقة! هذا كهذا؟ مستحيل، والله لو استويا لكان الدين كله باطلاً، مستحيل وألف مستحيل أن يستوي المحسن مع المسيء، إنسان يغض بصره عن محارم الله كالذي يملأ عينيه من الحرام؟ هذا كهذا عند الله عز وجل؟ إن توهَّمت أنهما متساويان أنت بهذا تُشكك في عدل الله، وفي رحمة الله، وفي حكمة الله، مستحيل، كن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ .
النبي الكريم منصاع لأمر الله لكنه يتمنى أن تكون القبلة في مكة المكرمة:
امرأة تخشى الله، تحجبت محبةً لله، هذه قال: لا أحد يخطبها؛ والتي تَعْرض مفاتنها على الناس قال: هذه التي تُخطب، هذا كلام؟ هذا كلام إبليس أساساً، امرأةٌ طائعةٌ لله ترجو الله واليوم الآخر هذه لها عند الله مكانة كبيرة جداً، هذه يهيِّئ الله لها من يكرمها، ومن يحفظها، ومن يقودها إلى الجنة، هناك كلام شيطاني، إذا لم نعمل معصية نخسر، هذا كلام الشيطان بعينه، إذا لم يكن هناك اختلاط لا تُخْطَبُ هذه البنت، هكذا عند الناس، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾ ، وقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
النبي عليه الصلاة والسلام كان يقلِّب وجهه في السماء منتظراً الوحي:
النبي عليه الصلاة والسلام منصاع لأمر الله، لكن عواطفه كانت أن تكون القبلة في مكة المكرمة:
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)﴾
أي ينتظر الوحي من السماء، يا رب أنت حوَّلت القبلة إلى بيت المقدس هل من عودةٍ إلى بيت الله الحرام؟ كان عليه الصلاة والسلام يُقلِّب وجهه في السماء منتظراً الوحي: ﴿قَدْ نَرَى﴾ نرى فعل مضارع، الآن: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ تتفق مع عواطفك، لما خرج من مكة المكرمة، قال عليه الصلاة والسلام: اللّهُمَّ إِنَّكَ أخْرَجْتَني مِنْ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي في أَحَبِّ الْبِلاَدِ إلَيْك، فسكن في المدينة المنورة، فمكة المكرمة من أحب البلاد إلى رسول الله، ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ هذه القبلة تجمع المسلمين في اتجاهٍ واحد، أينما ذهبت؛ إلى بلاد أمريكا، إلى أوروبا، إلى آسيا، إلى اليابان، يجب أن تتوجه نحو بيت الله الحرام.
مكة المكرمة هي الوسط الهندسي لليابسة:
بالمناسبة مكة المكرمة وسط هندسي لليابسة، لو أخذنا العالم القديم رسمناه على الخارطة وأخذنا أبعد مُدن هذا العالم جعلناها نقاطاً على محيط العالم، ووصلنا بين هذه المدن فكانت أقطاراً، أقطار العالم القديم تتقاطع في مكة المكرمة، أي مكة تبعد عن أقصى مدينة في آسيا، وأستراليا، وأوروبا، وإفريقيا ثمانية آلاف كيلو متر، فلو ضممنا العالم الجديد أمريكا الشمالية والجنوبية فجعلنها خارطة مسطحة، وأخذنا أقطار العالم الجديد مع القديم لتقاطعت هذه الأقطار في مكة المكرمة، فمكة تبعد عن أطراف العالم القديم مع الجديد ثلاثة عشر ألف كيلو متر بالضبط، يوجد بحث قُدِّم للجامعة حول أن مكة المكرمة هي الوسط الهندسي لليابسة، ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ لكن ليست القبلة هي الكعبة بالذات، جهة الكعبة، بالجهة تحل مليون مشكلة، أما لو أن القبلة هي الكعبة بالذات لاحتجنا في كل مسجد إلى قياس دقيق جداً، وقد تختل القبلة زاوية درجة أو درجتين، أما القبلة فهي خط، خط مكة المكرمة، فهي نحو الجنوب، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ ورد في التوراة أنه سيأتي نبي للمسلمين هو محمدٌ بن عبد الله، وسوف تتحول القبلة عن مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وتعود إلى مكة المكرمة، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ .
إن أراد الإنسان أن يؤمن فأي شيءٍ يدلُّه على الله:
أيها الإخوة؛ هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، والذين عرفوا من خلال كتابهم المقدَّس أن القبلة سوف تتحول إلى بيت المقدس، ومع ذلك أنكروا على النبي الكريم أن يتجه إلى قبلتهم، فقالوا: تُعارِض ديننا وتتجه إلى قبلتنا، ومشركو مكة المكرمة أنكروا على النبي لأن هذه الكعبة بيت آبائهم وأجدادهم.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ إنسان يعلم الحقيقة ويتكلم خلافها هذا مجرم، الذي تكلم بلا علم آثم، أما الذي يتكلم بخلاف ما يعلم فهذا مجرم.
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)﴾
لمن الآيات؟ لمن يريد أن يؤمن، أما حينما لا يريد الإنسان أن يؤمن، لو التقى بالأنبياء جميعاً واحداً وَاحداً، وشاهد كل معجزاتهم واحداً وَاحداً لا يؤمن، الإنسان يؤمن إذا أراد أن يؤمن، إن أراد أن يؤمن أي شيءٍ يدلُّه على الله، وإن رفض أن يؤمن لو جلس بأكبر قاعدة في الفضاء الخارجي، ورأى المجرَّات المئة ألف مليون مجرة بشكل مدهش لا يؤمن، لو رأى الخلايا في جسم الإنسان تحت مجهر إلكتروني لا يؤمن، لو رأى الآيات التي لا تُعد ولا تحصى لا يؤمن، لأنه هو آلة بالغة التعقيد، آلة تصوير، لكن لا يوجد فيها فيلم، فمهما لقطت هذه العدسة من مناظر رائعة، هو لم يرد الحقيقة، لا يوجد عنده فيلم، لا يظهر شيء، وأصغر آلة تصوير وأرخص آلة تصوير مع الفيلم تلتقط صورة، فالقضية قضية أن تريد الحقيقة أو لا تريدها، إن أردتها وجدتها في كل شيء، وإن عزفت عنها لن تجدها في أكبر شيء.
الكون بحدّ ذاته معجزة فإن لم تؤمن به في وضعه الراهن فلن تؤمن إذا خُرقت نواميسه:
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي الذين شاهدوا البحر صار طريقاً يبساً، هل هناك من آيةٍ أعظم من ذلك؟ فلما خرجوا من اليم قالوا:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)﴾
الذين رأوا الناقة تخرج من الجبل، الذين رأوا إبراهيم في النار لم يحترق، هناك معجزات ومع ذلك لم يؤمنوا، الكون بحدّ ذاته معجزة، فإن لم تؤمن به في وضعه الراهن الطبيعي لن تؤمن إذا خُرقت نواميسه.
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ مستحيل ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ هناك أشياء متناقضة كيف نجمعها؟ يقول لك: وحدة الأديان، هذه لا تصح، أشياء كلها متناقضة: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ هذا كلام الله عز وجل.
الآيات التالية تخاطب أمة محمد عليه الصلاة والسلام:
﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ طبعاً مستحيل أن يتبع النبي أهواءهم، ولكن هذه الآية لأمته من بعده، أي يا أمة محمد ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ هوى الكافر أن تكون على شاكلته، هوى الكافر أن تكسب المال الحرام، هوى الكافر أن تكون المرأة مُتعةً للجميع، هوى الكافر أن تعيش الدنيا فقط، هوى الكافر أن تتكتل تكتُّلات مصلحية، ليست على حق، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي يا أمة محمد إياكم أن تتبعوا أهواء الكفار، لا يقودوكم إلا إلى الشر، إلا إلى الضياع، إلا إلى التفتُت، إلا إلى التشرذم، إلا إلى الفقر.
﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)﴾
بعض علماء التفسير قال: يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، وبعض علماء التفسير قالوا: يعرفون تحوّل القبلة كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك أنكروا، ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ كتم الحق جريمة:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)﴾
الممترين أي من المتشككين.
الملف مدقق