وضع داكن
22-11-2024
Logo
الدرس : 50 - سورة البقرة - تفسير الآيات 154-155 إمتحان الله للمؤمن ولوازمه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الأموات أحياء بكل معاني هذه الكلمة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخمسين من سورة البقرة، ومع الآية الرابعة والخمسين بعد المئة: 

﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)﴾

[ سورة البقرة ]

أحياءٌ بكل معاني هذه الكلمة، بكل خصائص الحياة، بكل أبعاد الحياة، بكل أسباب الحياة، بكل ثمار الحياة، أحياء، لذلك الخطأ الشنيع أن تقول: فلان فقيد، لم يُفقد، هو هو بكيانه، بخبراته، بمعنوياته، بذاكرته، لكن الذي يختفي وعاؤه الذي كان فيه، هذا الجسد، تماماً لو خلع أحدكم ثيابه وارتدى ثياباً جديدة، هل يُفْتقد؟ هو هو بجسمه، وشـحمه، ولحمه، وعظمه، ودمه، وحواسه، وعقله، وفكره، ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أنتم ماذا ترون؟ ترون الجسم قد فَنِي، ترون اللحم قد تفسَّخ، ترون القوام قد وضع في القبر، ولكن هل ترون نفسه؟!! 

حالة الإنسان بعد الوفاة:


النبي عليه الصلاة والسلام عقب معركة بدر، نادى كبار المشركين الذين قتلوا: 

(( لمَّا سمِع المسلمونَ النبيَّ [ صلَّى اللهُ عليه وسلم ] وهو ينادي على قَليبِ بدرٍ يا أبا جهلٍ، يا عُتبةَ بنَ ربيعةَ، يا شيبةَ بنَ ربيعةَ، يا أميةَ بنَ خلفٍ-بأسمائهم واحداً وَاحداً-هل وجدتُم ما وعدَكم ربُّكم حقًّا؟ فإني وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًّا، قالوا: يا رسولَ اللهِ تنادي قومًا قد جيَّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمعَ لِمَا أقولُ منهم ولكنَّهم لا يستطيعونَ أنْ يجيبوا. ))

[ مسلم عن أنس بن مالك ]

يسمعونني.
والذين درسوا حالة الإنسان بعد وفاته، هناك في العالم حالات نادرة جداً، إنسان توقف قلبه لدقائق ثم عادت له الحياة، التقوا به، هذا الذي مات مؤقتاً قال شيئاً لا يصدق: "رأينا نفوسنا فوق أجسامنا محلقةً في الهواء، وتذكَّرنا كل أعمالنا، وقيَّمناها كلها بمقدار خدمة الناس" .
أي أن مئات من الناس الذين ماتوا موتاً مؤقتاً على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وأعراقهم وأجناسهم أقروا بالحقائق التي جاء بها الأنبياء، الموت حق. 

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

 

الخيار مع الإيمان خيار وقت:


الأدق من ذلك أن الذي يُعدّ أكفر كُفَّار الأرض الذي قال: 

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾

[ سورة القصص  ]

هذا نفسه قال عندما جاءه الموت: 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

الخيار مع الإيمان خيار وقت، إما أن تؤمن قبل فوات الأوان فتنتفع بإيمانك، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان فلا تنتفع بإيمانك، أما بالنهاية لابد من أن تؤمن، ولكن متى؟ البطولة أن تؤمن وأنت حيّ ترزق، والغباء والحمق أن تؤمن بعد فوات الأوان.
 

البطولة أن تضحك أخيراً:


ما قولكم بطالب أدى امتحاناً فنال صفراً في المواد كلها ورسب، رجع إلى البيت، وقرأ أجوبة كل الأسئلة، وتقدّم بطلب إلى وزير التربية: أنه يرجى إدراجي مع الناجحين، لأنني عرفت كل الأسئلة وأجوبتها بالتمام والكمال، متى عرفتها؟ بعد الامتحان، مستحيل، فالخيار مع الإيمان خيار وقت: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ دقق في كلام سيدنا علي: يا بني مات خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
ذكرت أن الإنسان حينما يولد كل من حوله يضحك وهو يبكي وحده، مفارقة، هو يبكي، وكل من حوله يضحك فرحاً بقدومه، أما حينما يموت كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده، ومن يضحك أخيراً يضحك كثيراً، ومن يضحك أولاً يبكي كثيراً.

﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾

[ سورة المطففين ]

﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)﴾

[ سورة المؤمنون ]

في آية أخرى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ .
 

لا تستقيم على أمر الله إلا بالإيمان:


﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ .
أيها الإخوة؛ المشكلة أنك إن لم تؤمن باليوم الآخر، وإن لم تؤمن بهذه الحياة الأبدية التي لا نهاية لها، لا موت، إن لم تؤمن بهذه الحياة، وإن لم تؤمن بيومٍ يدفع الإنسان ثمن كل أعماله، إن لم تؤمن بيوم الحساب، إن لم تؤمن بيوم الجزاء، إن لم تؤمن بيوم الدينونة، إن لم تؤمن بيوم القيامة، إن لم تؤمن بيوم الفَصل، إن لم تؤمن بالحاقَّة، إن لم تؤمن بالقارعة، إن لم تؤمن بيوم الطامَّة الكبرى، لا تستقيم على أمر الله.
إذا آمن الإنسان المواطن أنه لابد أن يحاسب في موضوعٍ ما ينضبط، إذا أيقن أنه لا تخفى على واضع القانون خافية، ولابد من أن يضبطه، وأن ينزل به أشدّ العقاب، يستقيم، فكيف مع الله عز وجل؟!
 

الابتلاء امتحان وليس شرّاً:


أيها الإخوة؛ الآية الثانية: 

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾

[ سورة البقرة ]

لابد من كلماتٍ بين يدي هذه الآية، الابتلاء ليس شراً، كيف أن الناس يفهمونه شراً لا أدري، الابتلاء امتحان، ما هو الشر؟ أن تسقط في هذا الامتحان، إذا نال شخص أعلى شهادة، ويتربَّع على أعلى منصب بسبب شهادته، وله دخلٌ خيالي بسبب شهادته، هذه الأيام العصيبة التي دخل فيها الامتحان هل يراها شراً؟ لولا هذا الامتحان لما نال هذه الشهادة، ولما كان في هذا المنصب، ولما كان له هذا الدخل الكبير، هل يَعدّ هذا الإنسان الامتحانات التي خاضها شراً؟ أعوذ بالله، خيرٌ محض.
الابتلاء هو الامتحان، لماذا الامتحان؟ من لوازم الإعداد الابتلاء، إنك إن تُعِدّ طالباً ليكون طبيباً لابد من أن تمتحنه، إنك حينما تُعِد إنساناً ليكون قائداً عسكرياً لابد من أن تمتحنه، إنك حينما تُعِد إنساناً ليكون محامياً لابد من أن تمتحنه، كلمة إعداد من لوازمها الامتحان.
 

الامتحان من لوازم الإعداد:


نحن في حياةٍ دنيا، أهم ما في هذه الحياة أنها إعداد لحياة عليا، هذه الحياة الدنيا المحدودة القصيرة المفعمة بالمتاعب هي إعداد لحياة عُليا أبدية لا نغص فيها ولا نصب، إذاً لابد من الامتحان.
أول نقطة بالدرس: الامتحان من لوازم الإعداد، وما دمنا نُعَدُّ في هذه الحياة لليوم الآخر، لجنة عرضها السماوات والأرض إذاً لابد من أن نمتحن، والدليل قوله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾

[ سورة المؤمنون ]

هذا من سنن الله في خلقه، إيَّاكم أن تتوهموا أنه يمكن أن تعيشوا حياةً مديدة من دون ابتلاء، أبداً، كل إنسانٍ له مادة امتحان مع الله، قد تمتحن بالخير:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)﴾

[ سورة الأنبياء ]

وقد تُمتحن بالشر، قد تُمتحن بالعطاء وقد تُمتحن بالأخذ، قد تُمتحن بالغنى وقد تُمتحن بالفقر، قد تُمتحن بالصحة وقد تُمتحن بالمرض، قد تُمتحن بالوسامة وقد تُمتحن بالدمامة، قد تُمتحن بالقوة وقد تُمتحن بالضعف، لابد للمؤمن من مادة امتحانٍ مع الله، إما أن تُمتحن فيما أعطاك، وإما أن تمتحن فيما سلبك، على كل امتحان: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ .
 

آيات من الذكر الحكيم تبين أن الإنسان ممتحن في كل أطوار حياته:


﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾

[ سورة آل عمران ]

إذاً يجب أن توطِّن نفسك على أنك مُمتحن في كل أطوار حياتك.
 

الامتحان من خصائص الحياة الدنيا:


أيها الإخوة؛ يجب أن نؤمن جميعاً أن الامتحان من خصائص الحياة الدنيا، أبداً، كما يجب أن يؤمن أي طالب في العالم أن الامتحان من خصائص المدرسة، هل رأيتم أو سمعتم في العالم كله جامعة بلا امتحان؟ مستحيل، هل هناك جامعة تنتسب إليها وبعد مضي وقت محدد تُمنح الدكتوراه من دون امتحان؟ أنت قدمت طلباً هذه الدكتوراه، مستحيل، من لوازم التعليم في العالم كله الامتحان، والإعداد في العالم كله من لوازمه الامتحان، فإذا كانت الدنيا دار ابتلاء، دار إعداد للآخرة فمن لوازمها الامتحان: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ الامتحان ليس شراً ولا خيراً، حيادي، خير إذا نجحت فيه وشر إذا رسبت فيه، حيادي، أنت مخير، لا خير ولا شر، كما قلت قبل قليل: إنسان يَنْعم بدخل فلكي، لأن معه شهادة نادرة، لأنه دخل امتحانات صعبة ونجح فيها، هل يُعدّ الامتحان شراً له؟ بالعكس، كل هذه المكانة مع كل هذا الدخل لأنه نجح في الامتحان، وإنسان رسب في الامتحان، الامتحان شرّ له، فالامتحان مطلقاً لا خير ولا شر، ليس خيراً ولا شراً، أما الامتحان شر إذا رسبت فيه، وخير إذا نجحت فيه.
 

المؤمن رابح في جميع الأحوال:


قد تبتلى بالخير:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)﴾

[ سورة الأنبياء ]

وقد تُبتلى بالشر، قد تُبتلى فيما أعطاك وقد تُبتلى فيما منعك، لذلك ورد في بعض الأدعية: "أن يا رب ما رزقتني مما أحبّ فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني ما أحبّ فاجعله فراغاً لي فيما تحب" . في الحالتين المؤمن رابح: 

(( عن صهيب: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))

[  أحمد: صحيح ]

قال بعض العلماء: بستاني في صدري، فماذا يفعل أعدائي بي؟ أي سعادتي من داخلي، أما أهل الدنيا فسعادتهم من مركباتهم، من بيوتهم، من دخلهم، من صحتهم، سعادة أهل الإيمان تنبع من داخلهم، والسعادة مستقرة ومستمرة ومتنامية، واللذائذ مؤقتة، ومتدنية، ومتلاشية، أبداً، لذلك جعل الله عز وجل من خصائص الحياة الدنيا الابتلاء، قد تُعطى المال وتُسلب منك بعض الصحة، ماذا تقول؟ تُعطى الصحة ويُؤخذ منك المال، تُعطى الصحة والمال ولك زوجةً لا ترضيك، تُعطى زوجةً ترضيك وأولاداً ليسوا كما تريد، أولادٌ كما تريد الدخل لا يعجبك، الدخل يعجبك هناك مشكلات بالصحة، الصحة طيبة ولكن هناك مشكلات بالعمل: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ .
 

حياة المؤمن فيها تأديب وابتلاءٌ وإكرام:


حينما توطِّن نفسك على أن هذه الدنيا دار ابتلاء تسعد بها، فإذا وطَّنت نفسك على أن هذه الدنيا دار نعيم تشقى بها، إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وإن أشقاهم فيها أرغبهم فيها: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ سئل الإمام الشافعي: يا إمام أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ قال: لن تُمَكَّن قبل أن تبتلى.
حياة المؤمن لا تخلو من تأديب إذا أخطأ، ولا تخلو حياته من ابتلاء إذا هو استقام، مستقيم ويُبتلى، ماذا يقول؟ ولا تخلو حياته من إكرام إذا هو صبر في الابتلاء، أي الله أدبه فتاب، تاب واستقام، ابتلاه فصبر الآن إكرام، كأن حياة المؤمن فيها تأديب وابتلاءٌ وإكرام، بمراحل ثلاثة متداخلة أم متمايزة.
لماذا الابتلاء؟ هنا السؤال دقيق، هذه الآية دقيقة جداً، هذه الآية خاصةٌ بالمؤمنين، هذه الآية خاصةٌ بمصائب المؤمنين، مصائب الكفار مصائب ردعٍ، أو مصائب قصمٍ، لكن مصائب المؤمنين مصائب دفعٍ إلى الله، ورفعٍ في الدرجات، دفع ورفع، هناك فرق.
 

مثال يبين أن مصائب المؤمن مصائب دفع ورفع ومصائب الكافر مصائب قصم وردع:


أنا أذكر قصة أحد إخواننا الأطباء في مستشفى، جاء مريض مصاب بورم خبيث في الأمعاء، يقول لي الأخ الطبيب: ما رأيت في حياتي مريضاً راضياً عن ربه متفائلاً صابراً شاكراً كهذا المريض، كلما دخل عليه زائر يقول له: اشهد أنني راضٍ عن الله، يا رب لك الحمد على هذا المرض، قال لي: إذا قرع الجرس يتنافس الأطباء على الدخول عليه والممرضون في خدمته، إذا دخلت عليه ما سمعوه يتأوه ولا يتألم وآلام هذا المرض لا تحتمل، بل رأوه صابراً مستبشراً، قال لي: والله عشنا عدة أيام ونحن في جنة مع هذا المريض المصاب بورم خبيث في الأمعاء، ثم توفاه الله عز وجل، قال لي: لحكمةٍ بالغةٍ بالغة، ولدرسٍ بليغ أراد الله أن يلقنه لمن في المستشفى جاء مريض آخر بالمرض نفسه ورم خبيث بالأمعاء، قال لي: لم يبقَ هناك نبي لم يسبه، كلمات الكفر لا تخلو من شفتيه، أبداً، رائحته نتنة، عصبي المزاج، هرب الممرضون من خدمته، تحاشى الأطباء أن يدخلوا عليه، ومات، هذا مرض واحد، المرض نفسه، شخص كان مبعث جذب للناس، مبعث راحة لهم، وكان متفائلاً ومستبشراً، والآخر بالعكس.
أما الشيء الذي لا يُصدق قرأت بحثاً علمياً عنوانه: بوابَّات الألم، الآلام التي نُحسّ بها تبدأ من الأعصاب الخارجية أعصاب الحس، وتصل هذه الأعصاب تجتمع إلى النخاع الشوكي، فإلى قشرة الدماغ، هناك بوابات على هذا الطريق الطويل طريق الآلام، من يتحكم بهذه البوابات؟ لو أن هذه البوابات أُغلقت لانقطع الألم، قال العلماء: يتحكم بهذه البوابات الحالة النفسية للمريض، فإذا كان مؤمناً قد لا يتألم أبداً.
 

العطاء أحد أكبر أعمال المؤمن في الحياة:


السؤال الآن: لماذا الابتلاء؟ نحن كما تكلمنا قبل قليل يحتاج التعليم إلى امتحان، يحتاج الإعداد إلى امتحان، الدنيا إعداد للآخرة إذاً لابد لها من الامتحان، لكن هناك معنى آخر نحن بحاجة إليه: المؤمن جاء إلى الدنيا ليعمل عملاً صالحاً -كلام دقيق-طبعاً حينما يؤمن بالله، ويستقيم على أمره، ليس هناك في حياته شيءٌ يعلو على عملٍ صالحٍ يفعله ليكون ثمن الجنة، ماذا فعلت يا عبدي؟ ما الثمن الذي دفعته لدخول الجنة؟ هو عمل صالح، هو الإنفاق، قال تعالى:

﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

[ سورة البقرة ]

أي أحد أكبر أعمال المؤمن في الحياة العطاء، الكافر الأخذ، لدى النملة جهاز ضخ وجهاز مص، فإذا التقت بأختها النملة الجائعة، عندها جهاز ضخ، يضخ لأختها النملة الجائعة خلاصة الغذاء، ولدى النملة الجائعة جهاز مص، النملة تأخذ وتعطي، تمص وتضخ، الكافر يمص فقط، لا يضخ أبداً، لا يضخ إطلاقاً، فلماذا الابتلاء؟ لأنك أنت مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، ثمنها العمل الصالح. 
 

المعركة بين الكفر والإيمان أزلية أبدية:


هناك في الأرض مؤمن وكافر، ما معنى مؤمن وكافر؟ أي هناك معركة بين الكفر والإيمان، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، معركة أزلية أبدية من آدم إلى يوم القيامة، فقد يقوى الكفار أحياناً، فالمؤمن يجوع، أحياناً تكون المُقدَّرات بيد الكفار لحكمةٍ أرادها الله، المال بيدهم، الأعمال بيدهم، والمؤمن لا يعصي الله عز وجل، طاعة الله فوق كل شيء، فإذا كان المؤمن في حياته الدنيا بحسب معركة الحق والباطل الأزلية الأبدية فقد يحتاج إلى أن يجوع، فإذا ما ابتلاه الله عز وجل بالجوع كيف يواجه هذه المعركة الشرسة؟ مثلاً: إنسان دخله كبير، ممكن فجأةً يتلاشى دخله، فإذا عوَّد أهله على الحياة الخشنة من حين لآخر، والدخل قلّ، يعيش حياة خشنة، أما إذا لم يُعوِّد نفسه ولا أهله على الحياة الخشنة، ماذا يفعل؟ 
أي وطن نفسك على الجوع، إذا كنت بموقف صعب خُيِّرت بين أن تبيع دينك وبين أن تعيش حياة راقية، لا، لا أبيع ديني، أعيش حياة خشنة وأحافظ على ديني، الله عز وجل أثنى على الأقوياء، والأقوياء هم الأغنياء، والأقوياء بالمعنى الدقيق والعلماء، لكن إذا كان طريق القوة المالية أن ترتكب الحرام، لا، الفقر وسام شرف، وإذا كان طريق الغنى أن تفعل الحرام، الفقر وسام شرف، الضعف وسام شرف، والفقر وسام شرف.
 

الحكمة من وجود معركة بين الحق والباطل:


المشكلة أن المؤمن مخلوق لعملٍ صالحٍ جليل يجعله في جنة ربه إلى أبد الآبدين، هذا العمل الصالح يقتضي أن تخوض معركة الحق والباطل. 
لماذا هيأ الله أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وحبيب الحق؟ لو خلق الله أعداء النبي بأمريكا مثلاً لكان أريح، كلهم هناك في قارة بعيدة، لا يوجد إلا أصحابه، دعا إلى الله فآمنوا به، وذابوا محبةً به، وانتهى الأمر، لا يوجد هجرة، ولا يوجد بدر، ولا يوجد أحد، ولا يوجد الخندق، ولا يوجد منافقون، لا يوجد شيء أبداً، لكن لا يوجد جنة، إذا لم يكن هناك  معركة لا يوجد جنة، إذا لم يكن هناك خصومات لا يوجد جنة، من الذي يرقى بالمؤمن؟ الطرف الثاني يعاكسه فيرقى المؤمن. 

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾

[  سورة الأنعام ]

حكمةٌ بالغة، فأولاً: المؤمن لأنه في حياة إعدادية لحياة أخرى، ولأنه في مدرسة، ولأنه لابد من أن يخوض معركة الحق والباطل، مستحيل، لابد من أن تخوض معركة الحق والباطل، إذاً أراد الله عز وجل أن يهيِّئك لهذه المعركة فابتلاك بشيءٍ من الخوف، أحياناً يهددك إنسان، يلوح لك شبح مصيبة تخاف، قد تخاف على صحتك، وقد تخاف على دخلك، وقد تخاف على سلامتك، وقد تخاف على زوجتك وعلى أولادك، فالخوف جزء من حياة المؤمن.
 

الخوف بيد الله وإزالة أسبابه يكون بالتوحيد والإيمان:


﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ قد يأتي عدوٌ لك فيتهددك، هو بيد الله، فربنا عز وجل أراد أن تقوى معنوياتك، وأن تتدرب على تحدي الخوف، وعلى أن تُزِيل أسبابه بالتوحيد والإيمان، فربنا عز وجل قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ هذا الخوف ينتهي من حياتك: 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[ سورة المعارج ]

المتصل لا يخاف، المتصل أقوى إنسان لأنه مع الواحد الديَّان، المتصل بالله أقوى إنسان لأن الله عز وجل قال: 

﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)﴾

[ سورة غافر ]

معركة بين سيارات كهربائية، ألعاب الأطفال بالأعياد، يوجد مع المشرف حركة، إذا قطع الكهرباء وقف كل شيء، فإذا أنت علاقتك مع هذا المشرف، اقترب خصم منك قطع الكهرباء جمد بأرضه.
علاقة المؤمن طيبة مع ربه، هو ربَّاني، مُستجاب الدعوة، فأكبر خصم له في قبضة الله، "فإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟"  
 

علاج الخوف الصبر حتى يحكم الله:


يجب أن نؤمن أن الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات هذه إعدادات وتدريبات على خوض معركة الحق والباطل، الصحابة الكرام أكلوا ورق الشجر في أثناء القطيعة التي فرضها عليهم المشركون، والآن ترون دولاً قوية جبارة طاغية تجعل شعباً محروماً من كل شيء، فالمعركة شرسة، يجب أن توطِّن نفسك على أن الحق والباطل يتصارعان دائماً، فأنت داعية، وأنت مؤمن، وأنت لك باع طويل في خدمة الخلق، فقد تحتاج إلى أن تكون صابراً، قد تخاف، علاج الخوف أن تصبر حتى يحكم الله: 

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾

[ سورة آل عمران ]

 

الخوف والجزع نقاط ضعف لصالح إيمان المؤمن:


يدربك الله على أن تخوض معركة الحق والباطل، وأن تنجح في هذه المعركة، فيعطيك شيئاً من خوف، مثلاً لابد من التوضيح: قد يهجم جرثوم على جسم فيفتك به، وينهي حياته، نحن حتى نهيئ الجسم إلى مقاومة هذا الجرثوم نعطيه جرثوماً مضعفاً، خفيفاً، فالأجهزة المناعية تهيئ مصلاً مضاداً لهذا الجرثوم، فإذا كان هجمة شرسة قوية السلاح جاهز، ماذا فعلنا؟ دربنا الجسم على صنع مصل مضاد لهذا الجرثوم حينما حقنّا تحت الجلد جراثيم مضعَّفة ضعيفة.
وكذلك الله عز وجل يخوفك، حتى إذا جاء الخوف الحقيقي تكون صامداً، لا تنهار، وأساس الإنسان أنه يخاف، يخاف لمصلحته، لأن أمنه عند الله، فإذا خاف يلجأ إلى الله، الإنسان سريع العطب، شديد الخوف، هكذا قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ قلبه مقطوع، كثير الجزع: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ هذه نقاط ضعف لصالحه، لصالح إيمانه.

التخويف من الله عز وجل علاج:


الإنسان يخاف لاح له شبح مصيبة فأكبَّ على أعتاب الله، أقبل على الله، لاح له شبح مصيبة فالتجأ إلى الله، لو كان لا يخاف لا يلتجئ، فالخوف سبب لجوئه إلى الله، كل السعادة عند الله، حتى يجلبك الله لعنده خوّفك.
قال لي إنسان: كان الموسم جيداً جداً، بالضبط وضعت خمسمئة ألف لكي أقضي شهراً بأمريكا لأتمتع على مزاجي، ولا يوجد عندي شيء حرام، هكذا قال لي بالضبط، وصل إلى هناك، شعر بآلام في الظهر راجع طبيباً، قال له: سرطان بالنخاع الشوكي فانهار، قطع رحلته، وعاد إلى بلده، يتردد من جامع إلى جامع، وتاب توبة نصوحاً، ثم تبين بعد ذلك أن التشخيص خطأ وأنه ليس مصاباً بشيء، الله عز وجل خوَّفه، لو أن الإنسان لا يخاف لا يتوب، هذا التخويف من الله عز وجل علاج، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ هذا خوف لمصلحتك، تماماً كآلة غالية جداً، ثمنها ثلاثون مليوناً، والكهرباء مضطربة، يقول لك: والله نحن الكهرباء تأتي عندنا مئتين وعشرين، تأتي أحياناً مئة وخمسين، أحياناً تأتي مئة وعشرة، أحياناً قد تأتي مئتين وسبعين فتحرق جميع الآلات، لذلك تجدهم يضعون في الآلات يسمونه الفيوز، عبارة عن وصلة ضعيفة جداً، إذا كان التيار شديداً تنصهر، تقطع الكهرباء، تحمي الآلة، ثلاثون مليوناً حفظتهم بهذا الفيوز، الإنسان هكذا بالضبط، يوجد عنده فيوز هو الخوف، متى ما جاءه شبح مصيبة ينهار رأساً ينقطع، يريد الله عز وجل، يتوب لله، لو لم يخف لا يتب.
 

الخوف يرقى بالمؤمن:


صدقوني أيها الإخوة ولا أبالغ، إذا دخلت جامعاً ورأيت فيه خمسة آلاف شخص، أربعة آلاف منهم أتوا إلى الله بعد مشكلة، بعدما خوفهم الله عز وجل، خوفهم ركضوا لعنده، أحبّ أحدهم مرة أن يداعبني فقال لي: ما ملخص دعوتك؟ قلت له: كلها عبارة عن كلمتين إما إن تأتيه ركضاً لوحدك، أو أن يأتي بك ركضاً، بمصيبة: 

(( عن أبي هريرة: استضحكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: عجبتُ لأقوامٍ يُقادونَ إلى الجنةِ في السلاسلِ وهم كارهونَ. ))

[ السلسلة الصحيحة:  خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد: وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) ]

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ يكون الإنسان خائفاً على صحته يأخذ احتياطات، يعتني، فحص تام، النبض، الضغط، فجأة يأتيه شيء من حادث سير، ما كان يخطر بباله، كلما أخذت أمناً، أخذت احتياطات ونسيت الله، تفاجأ من باب لم تكن تحسبه، كلما أخذت احتياطاً من جهة تجد أن عند الله خيارات كثيرة، تأتي مشكلة لم تحسبها أبداً من جهة ثانية، ممكن على أتفه سبب يُدمر الإنسان، ممكن على أتفه سبب الإنسان يرقى.
فيا أيها الإخوة؛ هذه آية المؤمنين، هذه مصائب المؤمنين، الخوف هذا الذي يرقى بك، وهناك كذلك خوف أرقى من هذا، ورد: رأس الحكمة مخافة الله، حينما تخاف أن تنقطع صلتك بالله، فتتمسك بأهداب الشرع هذا خوف راقٍ جداً، ليس خوفاً من مصيبة، بل خوفاً من أن تنقطع عن الله، حريص على هذه الصلة مع الله، هذا الخوف الذي يرقى بك إلى الله عز وجل.
 

الله يعرف مأخذ كل إنسان وما يزعجه:


على كل الخوف طبيعي، سيدنا موسى خاف:

﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)﴾

[ سورة القصص ]

كان جالساً مرتاحاً في قصر فرعون لا يوجد عنده أية مشكلة، يريد أن يرقى، فتورط مع القبطي، وكزه فقضى عليه: 

﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)﴾

[ سورة القصص ]

خَوَّفه الله عز وجل، ركض إلى سيدنا شعيب، استقبله، وزوّجه ابنته، وعاد إلى فرعون رسولاً معه آيات، هذا الرُقي القفزة العالية جداً سببها الخوف، لو لم يخف لما خرج من قصر فرعون، أبداً.
ارتقى سيدنا يوسف بالسجن، لماذا ارتقى؟ لأنه مكث بالسجن، قال لي أحدهم: خلوة مع الله، ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن حبسوني فحبسي خلوة، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، إن قتلوني فقتلي شهادة.
هناك شخص يهزه الخوف، أخبرني أحدهم عنده سيارة ركبها أخوه حطمها في حادث، ثمنها عدة ملايين -القصة قديمة-لغناه الشديد لم يتنازل أن يراها، قال لهم: بيعوها، إذا محصن ضد المال لا يهمه، لكن الله عز وجل خوّفه من موضوع ثانٍ، قابل شخصاً، قسا عليه بالكلام، فشعر بوخزة في قلبه، ركض لعند الطبيب، قال له الطبيب: الوضع غير طبيعي في التخطيط!! من أين أخافه الله؟ من قلبه، الله يعرف من أين مأخذك، يعرف مفتاح كل واحد منا، هناك إنسان مفتاحه المال، إذا أضاع راتبه يجن، هناك إنسان مفتاحه معنوياته، إذا أهانه أحدهم ينهار، هناك إنسان معنوياته مزرعته، إذا أتتها موجة صقيع خسر كل الموسم ينهار، فربنا عز وجل قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ الله يعرف كل إنسان من أين مأخذه، ما الذي يزعجه، هذه اسمها مصيبة تصيب الهدف.
 

الجوع يؤدب الإنسان:


﴿وَالْجُوعِ﴾ الذي يسرف في الطعام والشراب أو يشتري طعاماً لا حاجة له به وهناك أناس يموتون من الجوع يرتكب جريمة، الذي يلقي بالطعام في القمامة هذا مجرم، لأن هذه النعمة ثمينة جداً هناك من يشتهيها، عندما يجوع الإنسان يعرف ما معنى الجوع.
رجل أسلم في أمريكا، وصام أول رمضان، وكان الصيام صعباً جداً عليه لأنه كان ملحداً، فأسلم وحسن إسلامه، فجلس أول يوم في رمضان في بعض البلاد شمال أمريكا النهار يقرب من ست عشرة ساعة، وكان الحر شديداً في أيام الصيف، حوالي الساعة الثانية عشرة لم يستطع إكمال اليوم، ترك الجامعة وعاد إلى البيت، استلقى على الفراش حتى المغرب، يقول بكتابه -كان يتفرج على الرائي، وفيه أخبار عن شعوب بنجلاديش والفقر هناك-فقال هذه الملاحظة: أنا جعت لكني سآكل الآن، أما هذا الذي يجوع ولا طعام عنده؟! ألا ترون هؤلاء الجياع في السودان، في الصومال، يموتون من الجوع، فالجوع يؤدب الإنسان، تجد شخصاً في رمضان، شخصية مهمة جداً، عالم جليل مثلاً، تاجر كبير، بمنصب رفيع، صام أول يوم الدنيا صيف، الساعة الثانية عشرة ظهراً كل خواطره كأس من الماء، كأس شراب، عرق سوس، أين عظمة الإنسان؟ كل خواطره على كأس ماء، إذا رأى شراباً بارداً تذوب نفسه له لأنه صائم، الصيام يُعرفك بحجمك، أنت عبد ضعيف، تتوقف كل مشاعرك على كأس ماء تشربه، وإذا جاع الإنسان أيضاً كذلك يحس بألم الجوع.
 

الامتحان يفرز الناس إلى مؤمن وغير مؤمن:


إخواننا الكرام؛ هدف الامتحان أحياناً الفرز، عند إخواننا المهندسين قاعدة اسمها: التحميل، مثلاً شرفة فيها خطوط تُشْعر أن الصبة غير صحيحة، ماذا يفعل المهندس؟ يُحملّها، يأتي بعشرين برميلاً يملؤهم بالماء، فإذا وقعت يبني مكانها، فإذا صمدت معنى هذا أنها جيدة، عملية فرز، فأحياناً ربنا عز وجل يعمل امتحاناً، الإنسان إما أن يسقط وإما أن يرقى، وكل فترة فيها امتحانات، حتى الصحابة امتحنوا، بالخندق: 

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾

[ سورة الأحزاب ]

قال أحدهم: أيعدنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، كأنه كفر.

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾

[ سورة الأحزاب ]

فأما الذين آمنوا قال بعضهم:

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 لكن: 

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

نحن ممتحنون، والامتحان يفرزنا جميعاً، مرة قال لي أخ كان بمصر: حدث زلزال في القاهرة، الأطباء بالمستشفيات امتحنوا، بعضهم ركب سيارته إلى الإسكندرية لا علاقة له بالزلزال إطلاقاً، وبعضهم عمل الوقت كله في المستشفى لخدمة المصابين، انظر لهذا الزلزال فرز الأطباء فرزاً كاملاً، واحد أظهر أنانيته طلبه للسلامة، وابتعد عن مكان الزلزال، والثاني بقي في المستشفى ليلاً نهاراً بشكل مستمر يعالج المصابين من الزلزال، يرسل الله مصيبة فيفرز الناس.
 

الله عز وجل يدربنا على أن نواجه الباطل بقوة وصبر:


لذلك أيها الإخوة؛ البطولة بالامتحان، في الرخاء الآن المركبة من أي نوع، من أي جنس، في الطريق الهابط تمشي بطلاقة حتى من دون محرك، أما في الصعود فلا تصمد إلا المركبة القوية، فكيف تمتحن المركبات؟ بالصعود، هل سمعت إنساناً امتحن مركبة بالنزول؟ يكون مجنوناً، لابد من الصعود حتى يُمتحن المحرك تماماً، قد يمتحن الله عز وجل أناساً بالرخاء، كلهم شاكرون، يقول لك التاجر: الله ذو فضل عظيم، ما دامت الغلة جيدة، أما إذا وقف السوق وعليه دفع، ماذا يتكلم يا ترى؟ هل يرى هذا من الله؟ هل يقول: يا رب لك الحمد؟ سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبة قال: "الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلهمت الصبر عليها" .
أرجو الله سبحانه وتعالى في درسٍ قادم أن نتابع هذه الآية، هذه آية المصائب، مصائب المؤمنين بالذات، الله عز وجل يُدربنا على أن نواجه الباطل بقوة، بصبر، لو جعنا يوجد جوع، لو خوفونا يوجد خوف، يوجد خوف ويوجد جوع: ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أحياناً إنسان يملك بستاناً يقول لك: لا أقبل ضمانه أقل من مليونين، تأتيه موجة صقيع خلال أربع ثوان يصبح كله أسوداً. 

﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)﴾

[ سورة القلم ]

يا ترى أيهما أغلى عليك هذه الغلة أم الله عز وجل؟ إذا كان البستان أغلى من الله يكفر الإنسان، إذا كان الله غالياً عليك تقول: يا رب لك الحمد، أنا راضٍ بما فعلت بي.

هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا           فليس لي عنهم معدلٌ وإن عدلوا

والله وإن فتتوا في حبهم كبـدي           باقٍ على حبهم راضٍ بما فعلــوا

[ البرعي ]

* * *


الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات تدريب على العمل الصالح:


يقول سيدنا علي: الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، وكل إنسان يصبر، والله هناك آية قرآنية يقرؤها الإنسان فيقشعر جلده:

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾

[ سورة ص ]

قد تكون مؤمناً مستقيماً، دخلك لا يكفيك عشرة أيام، وأنت صابر، تضغط المصروف، هذه بطولة، وترى أحدهم كتلة كفر ومعه ملايين، لم تتأثر إطلاقاً، هذه الدنيا تغر وتضر وتمر، كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله:

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]

أنت راضٍ، هذا الخوف، والجوع، والنقص في الأموال والأنفس والثمرات تدريب على العمل الصالح، تدريب للنجاح في الحياة الدنيا، تدريب للفوز بالآخرة. 
وفي درسٍ آخر نتابع هذا الموضوع.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور