الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
للمُفَسِّرين في تفْسير هذه الآيات مذاهب شَتى وهذه المذاهب مُتكاملة ولَيْسَت مُتناقِضَة:
أيُّها الإخوة المؤمنون: سورة اليوم هي سورة البلد وهي تبدأ بِقَوله تعالى:
بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)﴾
يقول الإمام عليٌّ كرَّم الله وجْهَه: "القرآن حمَّال أَوْجُه" ، لذلك للمُفَسِّرين في تفْسير هذه الآيات مذاهب شَتّى، وهذه المذاهب في التفْسير مُتكاملة ولَيْسَت مُتناقِضَة.
الله سبحانه وتعالى إمّا أنْ يُقْسِم وإمّا أنْ لا يُقْسِم:
فقد مرَّ بنا من قبل أنَّ الله سُبحانه وتعالى إمّا أنْ يُقْسِم، فيقول:
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)﴾
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1)﴾
﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾
وإمّا أنْ لا يُقْسِم فيقول:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)﴾
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)﴾
فهو سبحانه وتعالى إمّا أنْ يُقْسِم وإمّا أنْ لا يُقْسِم.
الله تعالى لا نِهائي ولا حُدود لِقُدْرته وقُوَّتِه وعظَمَتِه أمّا الكَونُ فمحْدود:
فإذا أقْسَم فهناك معْنىً عظيم من قَسَمِهِ، وإنْ لم يُقْسِم هناك معنىً عظيمٌ آخر من نفْيِ القَسَم، فهذا الشيء مهما بدا لنا عظيماً وكبيراً ومُعْجِزاً بالنِّسْبة إلى الله فهو من خَلْقِهِ، ومن إبْداعه، والله مُحيطٌ به، وهو ذَرَّةٌ من خلْق الله، ولذلك إذا أراد الله عزَّ وجل أنْ ينْسِبَ الأشْياء إليه يقول: (فَلَا أُقْسِمُ) ، (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) .
هناك بين مَجَرَّتَين ثمانية عشر ألف مليون سنة ضَوْئِيَّة، هذه المسافات التي يصْعُبُ على العقْل تَصَوُّرها، قال الله عزَّ وجل: لا أُقْسِمُ بها، لأنَّ الله تعالى لا نِهائي، ولا حُدود لِقُدْرته وقُوَّتِه وعظَمَتِه، والكَونُ محْدود، والله غيرُ محْدود، فإذا أراد الله تعالى أنْ ينْسِبَ هذه الأشْياء إليْنا يقول: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) .
مَن أنْتُم أمام الشَّمْس، سِتَّة آلاف درجة على سطْحها، وفي أعْماقِها الدرجة بالملايين،
فلو أُلْقِيَت الأرضُ في الشمْس لَتَبَخَّرَتْ في ثانِيَةٍ واحدة، أكبر من الأرض بِمِلْيون وثلاثمئة ألف مرَّة، والشَّمْس نجْمٌ مُتَوَسِّط، هناك كازارات يزيدُ حجْمُها عن حجْم الشَّمْس بِملايين المرات، وهناك نجْمٌ اسمهُ قَلْبُ العَقْرَب تدْخُل فيه الشَّمْس والأرض مع المسافة بينهما.
إذا أقْسَمَ الله بِبَعْض الآيات فَهُوَ ينْسِبُها إلى الإنسان وإذا لم يُقْسِمْ فهو ينْسِبُها لعظمته هو:
فإذا قال الله عزَّ وجل: (وَالشَّمْسِ) أيْ اُنْظر أيُّها الإنسان إلى عِظَم هذه الآية، ومن أنت أمامها؟
﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)﴾
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2)﴾
﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)﴾
أصبح واضِحاً أنَّ الله تبارك وتعالى إذا أقْسَمَ بِبَعْض الآيات فَهُوَ ينْسِبُها إلى الإنسان، وإذا لم يُقْسِمْ فهو ينْسِبُها إلى عَظَمَتِهِ هو، فَرَبُّنا عزَّ وجل قال: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
هناك معْنىً ثالث يُسْتَنْبط من هذه الآية: أنَّ هذا الشيء إنْ رأيْتُموهُ عظيماً جداً فهو بالنِّسْبَة إليَّ صُنْعُهُ يسير، فأحْياناً حامِلَة النَّفْط، كيفَ صَنَعوها؟! تحْملُ ثلاثمئة ألف طنّ، ومن أيِّ معْدَنٍ صُنِعَتْ؟ وما سُمْكُ المعْدن؟ وما قُوَّةُ مُحَرِّكِها؟ مئة وعشرون حِصاناً قُوَّةُ مُحَرِّك دفتها فقط، تحْريك الدَّفَّة! فلمّا يكون الإنسان أمام طائِرةٍ ضخْمَة، فالله تعالى يقول: إنَّ صُنع هذا الشيء الذي بدا لك عظيماً، هو يسيرٌ عَلَيَّ، إذاً لا أُقْسِمُ به، صُنعه يسير، المعْنى الأوَّل: إنَّني أعْظم منه، أمّا المعنى الثاني: صُنْعُهُ عَلَيَّ يسير.
عدة وجوه لفهم وتفسير الآيات التالية:
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) بعضُ المُفَسِّرين قال: البلد هي مكَّةُ المُكَرَّمة، البلد الحرام، فإذا تابعنا الآيات وَجَبَ أنْ نسير في تَتِمَّة هذه الآيات وهو من روح التفْسير، (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) أيْ البلد الحرام (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد) ومما يزيدُ حُرْمَتَهُ أنَّك فيه، حُرْمَةٌ على حُرْمَة، (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) سيدنا إبراهيم وابنه إسْماعيل، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أيْ في مَشَقَّةٍ وضَعْف.
وإمّا أنْ نفْهَمَ الآيات فهْماً آخر، نأخذ بِعُموم اللَّفْظ، البلد هي الأرض وما فيها، فالصَّحْراء غير المدينة، ترى في البلْدَة الطعام والشراب والفاكِهة والفنادق وبائع الزهور وبائع السِلع وتحْتاج إلى حقائِب، مِن معاني البلد المكان الذي تتوافر فيه حاجات الإنسان، فأكبرُ بلدٍ هي الأرض، فيها معادن قاسِيَة نسْتعْملها لِقَسْوَتِها، وأُخرى نسْتَعْمِلُها لِمَتانَتِها، وفرْقٌ بين القساوة والمتانة، القساوة تَحَمُّل قِوى الضَّغْط، والمتانة تحمُّل قِوى الشدّ،
وهناك معادن ثمينة تسْتعْملها كَقِيَمٍ للسِلع، مثل الذَهب والفِضَّة، وهناك معادن تسْتخْدِمها لِبَعْض الصِّناعات كالرصاص والنحاس، وهناك أشْباه المعادن، هناك التربة والجبال، الأنهار والبُحَيْرات، الأزهار والأطْيار، الأسْماك، جميع حاجات الإنسان في الأرض، الحشائش مصادر الأدوية،
الجبال الشاهقة أماكن للمتعة والاصطياف، البحار وسائل للأمطار، الجبال رواسي وأوتاد،
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) فكل حاجات الإنسان متوفرة في الأرض، الحيوانات بِأنواعِها اللبونة والأليفة، تذليل الحيوانات،
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) العناصر وحْدها بالمِئات، لِكُلِّ عُنْصُرٍ خواص كيميائِيَّة وفيزْيائِيَّة، لها تواجد في الطبيعة بشكلٍ مُعيّن، فلزات مشوبة بالتراب، وفلزات غير مشوبة بالتراب، وكُلُّ معْدنٍ له طريقة للحُصول عليه وتصْنيعِهِ وتطْريقه، ليسَت الأرضُ كما يتوَهَّمُ الناس كَوْكَباً اِنْشَقَّ عن الشَّمْس بِحُكْم سُرْعة الدَّوران، الأرضُ فيها بُذور بِكُلِّ أنواع النباتات،
نباتات زينة، أشْجار حدودية، أشجار للزينة، أشجار للثِّمار، أشجار للأخْشاب، أخشاب متينة مثل الزان، أخشاب جميلة مثل السنديان، أخشاب سهْلة التَّصْنيع مثل الحور والشوح، فالأخْشاب مُنَوَّعة، والأشْجار مُنَوَّعة، والثِّمار مُنَوَّعة، هناك محاصيل وأشجار وشُجَيْرات وهناك غابات، عالم النبات، هناك نبات للمُتْعَة كالوُرود والأبصال وهي أنواعٌ مُنَوَّعة،
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
1 ـ المعنْى الأول لِكَلمة البلد يشْملُ الأرض وما فيها :
المعنْى الأول لِكَلمة البلد يشْملُ الأرض وما فيها، وبعضُ المُفَسِّرين قالوا: وما عليها وما يتَّصِلُ بها، فالشِّمْسُ لها علاقةٌ بالأرض فلولا الشمس لما قامتْ حياةٌ على سطح الأرض، والقَمَرُ له علاقةٌ بالأرض، فلولاه لما قامت حياةٌ على سطْح الأرض، الهواء مُتصلٌ بهذا البلد، الحرارة وعلاقتُها ودرجتُها وتَوَزُّعُها، والرِّياح والسحاب والأمْطار، إذاً كلُّ ما حوْل الأرض وكل ما على الأرض وما في باطِنها من ثَرَواتٍ ومياهٍ وطاقةٍ ومعادن وفلزات وأشباه معادن (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
هذا المعْنى أخذهُ المُفَسِّرون لمُطْلق الآية، البلد مكانٌ في الأرض تتوافر فيها حاجاتك، الأرض بِأكْمَلِها، فالصحْراء ضرورِيَّة لحياة الإنسان، فلوْلاها لما عاش الناس على السواحل، لأنَّ الصحْراء تسْتقبل المُنْخَفَضات، فمن تباين الحرارة والبُرودة تنْشأ الرِّياح، وينْشأ معها السحاب والأمطار والثلوج والنبات والحيوان ويعيش الإنسان، فالصحراء جُزْءٌ أساسِيٌّ من هذا البلد،
القُطْبين جُزْءان أساسِيَّاْن من هذا البلد، المنْطقة الاسْتِوائِيَّة والمَدارِيَّة والباردة والمُعْتَدِلَة جُزْءٌ من هذا البلد،
كَوْنُ الأرض كُرة من صُنْع الحكيم العليم جُزْءٌ من هذا البلد، ودَوْرتها حول نفْسِها بِسُرْعةٍ حكيمة جُزْءٌ من معنى قوله تعالى:
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
هناك رُخامٌ لا يتأثَّر بِأَشِعَّة الشَّمْس، لو سُلِّطَتْ عليه أشعة الشمْس عشْر ساعاتٍ مُتواصِلة، ثمَّ مَشَيْتَ عليه لرأيْتَهُ بارداً!
مَن الذي خلق هذا الرُّخام؟ هناك موادٌ حَساسة إذا وقع عليها الضوء انْطَلَقَ منها إلِكْترون وهي تُسْتَخْدَمُ للتَّصْوير، فَمَن خلق هذه المادة؟ الجراثيم، الفَيْروسات، العُصيّات، البكْتيريات، الأحْياء الدقيقة، وحيدة الخَلِيَّة، الحيوانات الهُلامِيَّة الفِقَرِيَّة والثَّدْيِيَّة واللَّبونة والأهْلِيَّة والذَّلولة والمُتَوَحِّشَة، الضبع له وظيفة،
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) هل هناك حاجةً من حوائج الإنسان ناقصة في هذا البلد؟! من طعامٍ إلى شرابٍ إلى مُتَعٍ، المُكَسَّرات هل هي أشياءٌ أساسِيَّة؟ لا، ولكنَّها كمالٌ في الخلق، وكذلك الأزْهار والتوابل والمناظر الجميلة كمالٌ في الخلق
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
2 ـ المعْنى الثاني البلد هو البيْتُ الحرام :
المعْنى الثاني: البلد البيْتُ الحرام، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)﴾
ما معْنى قِياماً؟ الخَيْمَة، هل تقوم بدون عمود؟! قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة عماد الدِّين من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين) .
(( الصلاةُ عمادُ الدينِ ))
فالإنسان قِيامُهُ الحقيقي ليس بسلامة أعضائه، وليس بِهَيْكَلِهِ العَظْمي، ولا بعضَلاته المفْتولة والمشْدودة، ولا بالغِذاء الجيِّد الذي يتناوَلُهُ، ولا بالراحة التي يأخذها، ولا بِدَخْلِهِ الكبير، ولا بِبَيْتِهِ الفخْم، ولا بِمَرْكَبه الوطيد، قِيامُ الإنسان بِمَعْرِفَة الله عزَّ وجل، لأنَّ هذا العطاء ينْفُذ ويُنهيه الموت، كُنْ من شِئْتَ فلا بُدَّ من الموت، والموتُ إنْهاءٌ لِهذا العطاء، كُنْ أغْنى الأغْنِياء يأتي الموت فيُنهي هذا الغِنى، كُن أقْوى الأقْوِياء يأتي الموت فيُنهي هذه القوّة، كُن رفيع الشأن في الحياة يأتي الموت فينهي هذه الرِفعة، إذاً قيامك ليس بِدَخْلك، ولا بِصِحَّتِك ولا بِكثْرَة أوْلادك ولا بِبَيْتِك ولا بتِجارتك ولا بسُمعتِك، إنما هو بِمَعْرِفَة الله التي تُتيح لك الخُلود إلى الأبد، إمّا أنْ تعْرف الله فَتَخْلُد إلى الأبد، وإمّا أن تغرق في الدنيا فَتَشْقى إلى الأبد.
الحكمة من اتخاذ الله بيْتاً له في الأرض :
ربنا عز وجل قال: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ) أي تقوم بها سعادتهم، طبْعاً إذا ذَهَبَ الناس إلى البيْت الحرام سِياحَةً لا يشْعرون بِشَيْء! ذهب أحدهم فقال: سبحان الله! والله ما شَعَرْت بِشَيْء، الله عزَّ وجل تَعَبَّدَنا بهذه الأوامر، أوامرٌ غير معْقولة! طواف وسعْي وتقْبيل للحجر وحلْقُ الشَّعْر ولُبس لباس الإحْرام، ما شَعرنا بشيء والله!! كذلك يقول سبحان الله، على جهْله! الله عزَّ وجل تَعَبَّدَنا بهذه الأوامر، الله عزَّ وجل يقول: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) .
هل هناك آيةً أوْضَحُ من هذه الآية؟ الكعْبة والشهْر الحرام والهَدْي والقلائد، ذلك إنَّما شُرِّعوا لِتَعْلموا أنَّ الله يعْلمُ، حتى يحْصل لكم العِلمُ بالله عزَّ وجل، هذه حكمةُ أنَّ االله سبحانه وتعالى اتخذ لنفسه بيْتاً في الأرض.
السَّعْي له معنى وكذلك الطواف وتقبيل الحجر الأسود له معنى:
معنى البيْت الحرام: أنَّ هذه البُقْعَة ليْست لهذه الدولة أو تلك، هذه بيْتُ الله، مثلاً السفارة إذا دخلها الإنسان يُعَدُّ لاجِئاً إلى الدولة صاحبة السفارة، لأنَّ أرض السفارة تُعَدُّ جزءاً من أرض الدولة التي تُمَثِّلُها، وكذلك البيْتُ الحرام - مع الفارق - هذا بيْتُ الله، هذه الأرض التي أنت عليها ليْسَتْ لِزَيْدٍ أوْ عُبيد، ولا لهذه الجهة أو تلك الجهة، إنها لله هذا بيْتُهُ، لذلك الإنسان إذا بَدَتْ له ملامحُ مَكَّة، عليه أن يقول: "اللهمَّ إنَّ هذا البلد بلَدُك، وهذا الحرَمَ حَرَمُك، وهذا الأمْنَ أمْنُك، اللهمّ أنا عبْدك وابن عبْدك، ناصِيَتي بِيدك عدْلٌ فيَّ قضاؤُك، جارٍ فيَّ حكمك" .
(( ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزَنٌ فقال اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمَتِك ناصيَتي بيدِك ماضٍ فيَّ حُكمُك عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو أنزلته في كتابِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حُزني وذهابَ هَمِّي إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزْنَه وأبدله مكانه فَرَجًا قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلمُها فقال: بلى ينبغي لِمَنْ سمِعها أنْ يتعلمَها ))
[ أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني ]
فربنا عزَّ وجل اتَّخَذ في الأرض بيْتاً له، فإذا أردْتَ أنْ تتَّصِلَ به اِتِّصالاً مُكَثَّفاً ومُحْكَماً، فاذهب إليه، فهذا معْنى من معاني البيت الحرام، وأنت هناك تُحسّ أنَّ الله يسْمعُكَ، الله يسْمعك في كُلِّ مكان، وهذا لا شكَّ فيه، لكن إحساسك وأنت هناك إحْساسٌ آخر ومُتَميِّز، إنْ قُلْتَ له يا رب: اِهْدِني واهْدِ بي، تُحِسّ أنَّ الله سبحانه وتعالى اِسْتَمَع إلى هذا الدُّعاء لأنَّك في بيْتِه، وليس بيتُهُ قريباً من بيتك فقد قطعْت الأمْيال الكثيرة حتى وصَلْتَ إليه.
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) أيْ بِالكعْبة المُشَرَّفَة، بالبَيْت الحرام، ببيْتُ الله، لماذا يصْطَفُّ الناس لِيُقَبِّلوا الحجر الأسْود؟! النبي عليه الصلاة والسلام قَبَّلَهُ وبكى كثيراً فقال له سيّدنا عمر: يا رسول الله أَتَبْكي؟! قال له: يا عمر، هنا تُذْرف العَبَرات.
(( الحَجَرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ ، فمن صافحَهُ أو قَبَّلَهُ فكأنما صافحَ اللهَ وقَبَّلَ يمينَهُ ))
[ أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية ]
الإنسان أحْياناً تكون والِدَتُه في خاطِرِه دائِماً، لكنَّه إذا أكَبَّ على يدَيها وَقَبَّلَها يحْصل شيئان: المعنى الحاصِل و الاتصال المادي، وهذا يزيد المعنى وُضوحاً وجلاءً وعُمْقاً، حينما تطوف حول الكعْبة وتدْعو بالأدْعِيَة المأثورة أو بأيِّ دُعاءٍ شِئتَ ماذا تشْعر؟ أنَّك تطوف حول البيت، الطواف قبل العكوف، أحْياناً تطوف إلى أنْ تسْتقِرّ على الحقيقة فَتَعْكُفُ عليها، فالسَّعْي له معنى، والطواف له معنى وتقبيل الحجر الأسود له معنى، (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا)
إذا علِم الإنسان أنّ الله يعْلم فقد انْتهى المقْصود :
لكن سبحان الله حينما كان الذهاب إلى الحج مشْياً على الأقْدام، تعْلمون كم في المشْي من الشام إلى مكَّة المُكَرَّمة من مشَقَّةٍ، أشْهُر، وكانوا يرْكبون على الجِمال، ويبْدو أنّ الثواب على قدْر المَشَقَّة، فهذا الذي مشى شهْرين حتى وصل إلى البيت الحرام بماذا يشْعر هناك؟ شُعورهُ يكون أضْعافاً مُضاعفة على من رَكِبَ طائِرَةً ولم يشْعر بِشَيء، لذلك فالله سبحانه وتعالى جعل الثواب على قدْر المشَقَّة، اِلْبِس ثَوْبَ الإحْرام، لا تعْرف قيمة المخيط من الثِّياب حتى تلْبسهُ! قِطْعَتان من القِماش، تُحِسُّ بِقيمَة الثَّوْب، وتُحِسُّ أنَك والناس في مُسْتوى واحد، لا فضْل لأحَدٍ على أحَد، الناس كُلُّهم في هذا البيت، ليس هناك رُتَبٌ ولا ألْقاب ولا حُظوظ اجْتِماعِيَّة، ولا درجات ولا دَرَكات، العِباد في بيْت الله، ربنا عزَّ وجل قال: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) .
فإذا علِمْتَ أنّ الله يعْلم انْتهى الأمر، فلماذا يكذِب الإنسان؟ لِقِلَّة عِلْمِه أنَّ الله يعْلم، لماذا يعْتدي الإنسان على عرض أخيه؟ لِقِلَّة عِلْمِه أنَّ الله يعْلم، ولماذا يعْتدي على مال أخيه؟ لِقِلَّة عِلْمِه أنَّ الله يعْلم، فإذا علِمَ أنَّ الله يعْلم انتهى الأمر.
(( الإيمانُ قيَّدَ الفتكَ لا يفتِكُ مؤمنٌ ))
[ أخرجه أبو داوود و وابن أبي عاصم ]
إذْ لا يُعْقَل للمرء وهو على مرْأى من رِجال الأمن، أن يرْتَكب مُخالفة للقانون، فليس من المعقول أن تقود سيارة وأمام الشرطي تتجاوَز الإشارة الحمراء، فإذا علمت أنَّ هذا الشرطي يراقبك، وإذا تجاوزت الإشارة فسوف يُنظِّم في حقِّك ضبْطاً قد يكون مُتْعِباً لك، سواءً مادِياً أو معْنَوِياً، فليس من المعْقول الإقْدامُ عليه، (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) .
إذا كان الحج حصَل بِشَكْلٍ كما رسمهُ الله عزَّ وجل، تعود من هذا البيت الحرام وقد علمت أنَّ الله يعْلم.
الكعْبة مكانٌ وفيها تَجَلِّياتٌ خاصَّة :
لن تسْتطيع أنْ تقْتَرِفَ إثْماً ولا أنْ تعْصِيَ ولا أنْ تُخالف ولا أنْ تُقصِّر (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾
من دخلها صادِقاً مُخْلِصاً تجلّى الله على قلبه بِبَعْض هذه التَجَلِّيات بِحَسَب إخْلاصه وإنابَتِهِ وشَوْقِهِ، ومُلَخَّصُ المُلَخَّص: أنَّ الذي تُحَصِّلُهُ في بلدك من اسْتِقامةٍ وعملٍ صالح، تجده هناك حاضِراً وجاهِزاً، فإذا كان للإنسانِ إساءات كثيرة، يطوف بالبيت ولا يُحِسّ بِشَيْء، أنا شَبَّهْتُهُ تماماً كالسائح، أدْخَلْناه إلى قلعة أثرية، مأخوذٌ بما يرى من فخامة وترتيب ونظافة، فإذا كان هناك تقصير وإهْمال بالواجِبات الدِّينِيَّة أو إساءةٌ للناس، هذا الإنسان إذا ذهب إلى الكعْبة البيت الحرام، فهو بِمَثابة سائِحٍ لا أكثر ولا أقلّ، وإذا كان مُسْتقيماً على أمر الله فإنه يشْعُر براحَةٍ وطُمأنينة، أمّا إذا كان له عملٌ صالحٌ وتضْحِيَةٌ كبيرة، وبذل جزءاً كبيراً من وقته وماله وصِحَّتِه في سبيل الله، يرى الجزاء هناك، وكأنَّ الله يسْتقْبِلُه، هناك لا يُضافُ شيء ولكنَّ هذا البيْت العتيق يكشف لك عمّا عندك من أشياء، ليس كيساً مملوءاً يُفْرَغُ في خزائِنِك، ولكنَّهُ مِصْباحٌ يكْشِفُ لك ما عندك، هذا معنى من معاني هذه الآية.
هذا البلد الذي جعله الله للناس قِياماً يزيدُهُ قُدْسِيَّة وحُرْمَةً أنَّ النبي الكريم فيه:
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) اسْتُنبِط من هذه الآية شيْئان: مكَّة تُمَثِّلُ قُدْسِيَة الله عزَّ وجل، جلال فإذا ذَهَبْتَ إلى المدينة فالجمال، وليس معْقولاً أنْ تقِفَ أمام قبْرٍ وتُخاطِب صاحب القبْر، وتُحِسُّ أنَّهُ يسْمعك، لكِنَّك إذا ذَهَبْتَ إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام وقُلْتَ له: السلام عليك يا سَيِّدي يا رسول الله، السلام عليك يا سيّد الرسل والأنبياء، يا من وصفك الله بالخُلق العظيم، أي كلُّ ما تعْرفه من أوصافٍ لِهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قُلْها في هذا الوقت، فمعْرِفَتُك لِرَسول الله تبْدو في هذه اللحْظة، إذا كنت تمْتَلِك هذه المشاعر وأنت في بلَدِك ربما تقْطع عليك العَبَرات لِسانك، أشْهَد أنَّكَ بلَّغْت الرِّسالة وأدَّيْتَ الأمانة ونصَحْت الأمة وكَشَفْتَ الظُلمة وأزَلْتَ الغُمَّة وجاهَدْتَ في الله حقّ الجِهاد ، الذي يتضِّح من هذه الآية (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) فأنت دَخَلْتَ في ضِيافته صلى الله عليه وسلَّم، هَل يُعْقل أنْ تخرُجَ من مقامه صلى الله عليه وسلّم كما دَخَلْتَ؟ ليس هذا معْقولاً على الإطْلاق.
(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) أي هذا البلد الذي جعلته للناس قِياماً، يزيدُهُ قُدْسِيَّةً وحُرْمَةً أنَّك فيه، آيةٌ أُخرى عن البيت الحرام
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾
هذا الكلام هو كلامُ الإله، الله عزَّ وجل يقول: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) فما الذي بدا لك من آياته البيِّنات؟! هذا سؤال، دفعت مبالغ، هناك أشْخاصاً على قَدر ما حصَّلوا في بلدهم من معرفةٍ وعِلم، وجدوا هناك من الآيات البيِّنات.
ديننا دينٌ معْقول وعِباداتنا مُعلّلة وليْسَتْ طُقوساً:
أيُّها الإخوة الأكارم: القَضِيَّة تبْدأ من هنا، من بلَدِك تبدأ، هناك لا يُضافُ شيءٌ، ولكن هناك يُحَرِّكُ لك ما في نفْسك، عَمَلِيَّة كشْف مخْزونك، أمّا هناك لا يُضاف شيئاً، إلا في حالات نادرة، إذا انعقدت التوبة هناك، إذا حصل خُشوعٌ وانعقدت التوبة يُضافُ لهذا العمر الثالث صفْحَةٌ جديدة، كأنَّ الله تبارك وتعالى قَبِلَ التوبة وتاب عليك وقال: سَنَنْظُر ماذا ستَفْعَل! هناك معنى من المعاني التي أخَذَتْ لُبِّي، إذا كان هناك طالبٌ بالحِضانة عَلَّموه أنْ يَعُدّ إلى العَشَرة، وأخذه أبوه إلى ِدَوْلَةٍ أجْنَبِيَّة في العطلة الصِّيْفِيَّة، ودخلا إلى متْحَفٍ فيه أكبر عالم بالرِّياضِيات في الأرض - أينشتاين - وَدَخَلْتَ لِغُرْفَتِهِ الخاصَّة، ومِقعده وراء الطاوِلَة وسُبورته، وأخَذْنا هذا الطِّفْل الصغير وأجلسناه على هذا الكُرسي هل تزْداد معْلوماته؟! يبْقى هذا الطِّفل الصغيرُ طفلاً صغيراً، ويبقى هذا العالم الكبير عالماً كبيراً، لكن متى يسْتفيد هذا الطِّفل من هذا العالم؟! إذا اقتدى بِسيرَتِه، وعكف على الكُتب فقرأها ودَرَسها وحَلَّلها، وسَهِرَ الليالي، إذا سار هذا الطِّفْل بِسيرة هذا العالم يسْتفيدُ منه.
أحدهم ذهب للكعبة المُشرّفة و قبَّل الحجر الأسود، فإذا قبّلت الحجر الأسْود، فما الذي حصَل؟ هذا التَّقْبيل رمْزٌ وخَلْفَ هذا الرمز معنىً كبير! أنت عاهَدْتَ الله عزَّ وجل على طاعَتِهِ، فإذا حصل العهْدُ والتوبة وأصبحتْ هناك صفْحةٌ جديدة، فأنت والله قد قَبَّلْتَ، فإذا الإنسان عاهَدَ على أنْ يستقيم وأنْ يفتح مع الله صفْحةً جديدة، وما تمَكَّن أنْ يُقَبِّل الحجَر فكأنَّهُ قبَّلَهُ، وإنسانٌ آخر زاحم بِمِنْكَبيْه الناس وآذاهم حتى قبَّلَ الحجر، ورجع كما جاء فو الله ما قَبَّلَهُ! ديننا دينٌ معْقول، وعِباداتنا مُعلّلة، ليْسَتْ طُقوساً! تدخل إلى الحرم النبوي الشريف فتجد المِحْراب الذي صلّى فيه رسول الله، مكْتوبٌ في أعْلاه هذا مصُلّى رسول الله، يُمكِنُ أنْ يُتاحَ لك أنْ تُصَلّي فيه ركْعتين وذلك في أوْقاتٍ مُعَيَّنة، صلِّ، ماذا حصل؟ لا شكَّ أنَّهُ مكانٌ مُقَدَّس، لكن لو صَلَّيْتَ ألف ركعةٍ في هذا المقام وأنت مُقيمٌ على بعض المُخالفات بقيتَ أنت أَنت والنبي هو النبي.
فلا بُدّ أنْ نُحَرِّرَ عُقولنا من الأوْهام، وقد تجد من يقول: أنا صَلَّيْتُ بِمُصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فإذا كنت تتَّبِع سُنَّتَهُ في حياتك فَهَنيئاً لك، أمّا إذا كنت مُخالِفاً لِسُنَّتِهِ ومُتَّبِعاً لِهَواك صلِّ في مُصلّاه ألف ركعةٍ لن تزيدك عند الله شيئاً، كان يجْلس إلى جانب النبي الكريم كبير المنافقين! فلما حَضَرَتْهُ الوفاة قال: (أعْطوني قميص رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: هذا قميصي أعْطوه إياه، وما يُغني عنه قميصي من الله شيئاً، الآن اسْتَقَرَّ في جَهَنَّم حجرٌ كان يهْوي فيها سبعين خريفاً!) .
(( هذا حجَرٌ رُمِيَ بهِ في النارِ مُنذُ سبعينَ خرِيفًا ، فلَهُوَ يَهوِي في النارِ، الآنَ حِينَ انْتهَى إلى قعْرِها ))
نحن حتى نأخُذ الدِّين بفهمٍ عميق، إذا صَلَّيْتَ في مُصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وطبّقت سُنَّتَهُ في حياتك فَهَنيئاً لك، هناك صحابي طلب قميص رسول الله، فأعطاه النبي الكريم قميصه وهنأه به، فقيل لهذا الصحابي لما طلبت القميص؟ فقال: إذا جاءَني الملكان في القبر وقالا لي من ربُّك أقول لهم: الله ربي، وما دينك؟ أقول: ديني الإسلام، ومن نَبيُّك؟ أقول: هذا قميصُه! ممكن أن تُصلّي بمُصلّى رسول الله ونقول لك هنيئاً لك، ممكن أن تُصلّي بمُصلّى رسول الله ونقول لك لن ينفعك هذا المُصلّى شيئاً، ممكن أنْ تقف على بُعد متر من مقام النبي وتخْشع وتبكي وتُحِسّ أنَّك ذبتَ كالشَّمْع ولا تمْلك عبراتك ولم تمسّ شباك النبي، وقد يأتي إنسان ويقترب من هذه النافذة ويُقَبِّلُها ويظُنُّ أنَّهُ نال كُلَّ شيء، فهذا نحاس! وبركَةُ النبي باتِّباع سُنَّتِهِ كما فعل هؤلاء الصحابة الكرام.
المؤمن المُتَأدِّب مع الله عزَّ وجل يعلم أن هناك طلبات لا بُدّ لها من موجِبات:
هناك حديثٌ مرَّ معي يقول فيه عليه الصلاة والسلام:
(( خيرُ الصحابةِ أربعةٌ وخيرُ السرايا أربعمائةٍ وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ ولا يُغْلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ ))
[ أخرجه أبو داوود والترمذي ]
فإذا كان من أُمَّة محمد، اثنا عشر ألف مؤمن من نمط الصحابة الكرام، لن تستطيع دُوَل الأرض أنْ تقف في وَجْهِهِم، حينما تُقام الصلاة في المسجد الحرام، فهناك أكثر من نِصْف مليون مُصلّي في كُلِّ صلاة، هاتوا لي رِجالاً كأصْحاب النبي، وخُذوا كُلَّ ما وعد الله به عباده المؤمنين، وَعَدَهم بالنَّصْر
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾
هذا وعْدٌ.
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
الاسْتِخْلاف والتَّمْكين والطُمأنينة والنَّصْر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾
فالقَضِيَّة أنَّ الله هو هُو، وعوده وقوانينه وآياته هي هِي، لم يحصل أي شيء، لا تبديل ولا تغْيير ولا تجْديد، آياته مطبّقة، كُنْ في مُستوى هذه الآيات وخُذ ثِمارها، لذلك الدعاء الذي يُؤثِّرُ في نفْسي:
(( اللهم إني أسألُكَ مُوجِباتِ رحمتِكَ، وعزائمَ مَغْفِرَتِكَ، والسلامةَ من كلِّ إثمٍ، والغنيمةَ من كلِّ بِرٍّ والفوزَ بالجنةِ، والنجاةَ من النارِ . ))
[ أخرجه الحاكم والبيهقي ]
أبٌ ملِكٌ قال لابنه: اُطْلب وتمنّى! قال: أُريد سيارة، وطائِرَة خاصَّة وقصراً مُنيفاً، فقال الأب: كلُّ هذا سهْلٌ، فقال الابن: اِجْعَلْني رئيس الجامعة، فقال الأب: هذه تحْتاج إلى جُهْدٍ منك، خُذْ الدُكْتوراه وخُذْ عهْداً مني أنْ تكون رئيس الجامعة، ليس كُلُّ طَلَبٍ يُنَفَّذ، هناك طلبات لا بُدّ لها من موجِبات، فالمؤمن المُتَأدِّب مع الله عزَّ وجل يقول: (اللهم إني أسألك موجِبات رحْمتك وعزائِمَ مغْفِرَتك) هذا من الدعاء المأثور.
آياتٌ أُخْرى مُتَعَلِّقَة بهذا البلد الذي فَسَّره العلماء بِمَكَّة المُكَرَّمة:
آياتٌ أُخْرى مُتَعَلِّقَةٌ بهذا البلد الذي فَسَّره المُفسّرون بِمَكَّة المُكَرَّمة
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾
المثابة: يعني العودة ، ثاب إلى رُشْدِهِ أيْ عاد، فالإنسان إذا دخل إلى الكعبة، هل يُحسّ أنه عاد إلى الله، رجع إليه تائِباً ومُنيباً وخاشعاً، هذا الشعور أيَحُسّ أنَّهُ قد حصل؟ إنسان يتكلَّف ويدفع ويغادر ويتجشَّم مشاق السّفر، وهذه الآيات أمامك، هذه الآيات كلام ربِّ العالمين، إنْ حَصَلَ لك نصيبٌ منها نقول لك: هنيئاً لك، هل رأيْتَ آياتٍ بيِّنات؟ وهل حَصَلَ لك العِلْمُ أنَّ الله يعْلم؟ هل كان هذا البيت لك مثابَةً، عَوْدَةً وإنابةً ورَجْعَةً، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) هذه المعاني كُلُّها مُسْتَوْحاةٌ من قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
آيةٌ أُخْرى مُتَعَلِّقة بِالبَيْت الأمين :
هناك حاجاتٌ مادِّيَّة للناس، يحتاجون للماء، فالله عزَّ وجل جعل الأنهار والينابيع والبِحار والأمطار والثُّلوج والوِدْيان والبُحَيْرات، والرؤوس والخُلجان، والناس بحاجة الهواء فجعل الهواء بِنِسَبٍ ثابِتَة،
يحتاجون الطعام والشراب، فَجَعَلَ نباتات من محاصيل وخضْراوات وأشْجار مُثْمِرَة وفواكِه، الناس بِحاجة إلى نَسْل فَجَعَلَ نظام الزواج، وجعل الذَّكَر والأُنْثى وجعل الطُّفولة، ونِظام الطُّفولة ونظام الخلق، هذه كُلُّها حاجات، وهناك حاجاتٌ عقْلِيَّة وحاجاتٌ روحِيَّة، جعل الله الكعْبَةَ البيْتَ الحرام تَلْبِيَةً لهذه الحاجات الروُّحِيَّة، قيام الحياة الدِّينِيَّة عن طريق هذا البيت، لذلك وأنت في مُصَلّاك يجب أن تتجِهَ إلى هذا البيت، لأنَّهُ بيت الله تعالى، وهذا البلد بلد الله، وهذه الكعْبة رمْزٌ من رُموز الله عزَّ وجل في الأرض.
آيةٌ أُخْرى مُتَعَلِّقة بِالبلد الأمين
﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)﴾
منافع، وقد لفَت نظري كلمة (أَجَلٍ مُّسَمًّى) ، فالإنسان إذا سُرَّ كثيراً هناك فلمَ لا يُقيمُ بالبَيْت الحرام دائماً؟! خطر بِبالي شُعور، هو أنه إذا زار مُوَظَّفٌ صغير المُدير العام، واتَّفَقوا على خُطَّة عَمَل، وقال له: أنت عليك مآخذ؟ فقال له: ما هي؟! قال: كذا وكذا، فقال له: أُعاهدك أن أتركها، فقال: عليك واجبات، قال له: أُعاهدك على القيام بها، وأدَعْ هذه المآخذ، ارجِعْ إلى بلدك حتى تُنفِّذ العهد، الإنسان في بلده مجال العمل الصالح، كل إنسانٍ في بلده له عملٌ صالح، له عملٌ يقتات منه، يستطيع أن يجعله عملاً صالحاً، وليس هناك حرفةً في الأرض تستعصي على العمل الصالح، طبيب، مهندس، محامي، مدرِّس، صيدلي، خبير، تاجر، عامل، مزارع، فإذا نصحت المسلمين في كل ما تُسأل عنه، إذا كنت طبيب وتعلم أن هناك طبيباً مختصّاً بهذا المرض، وإنك لن تُفيد هذا المريض، تقول له: يا أخي اذهبْ إلى فلان، فهو أخبَر مني بمرضك، بهذا يكون الطبيب قد قلب مهنته إلى عملٍ صالح، المحامي لا يتسلَّم دعوى إلا إذا قنِع أنَّ موكِّله على حق، ففي سبيل إحقاق الحق له عند الله أجرٌ كبير، المُدرِّس إذا علَّم الطلاب ووجَّههم وغرس فيهم حُبَّ الحق والفضيلة، قلب مهنته إلى عملٍ صالح، التاجر إذا باع الناس سِلعاً جيِّدة بأسعارٍ معقولة، ولبَّى حاجاتهم ووفَّر لهم هذه الخدمات، فقد قلب هذه المهنة إلى عملٍ صالح، فهذا العهد واللقاء مع الله عزَّ وجل، وهذه التجلِّيات وهذا الخشوع وهذا البكاء وهذا التوسُّل وهذا الترجِّي وهذه الرحمات التي يتجلَّى الله بها على قلب المؤمن إلى أجلٍ مُسمّى، الآن وقت التنفيذ، انطلق ونفِّذ الذي عاهدت الله عليه، وكل إنسانٍ بعمله، فربنا عزَّ وجل لمّا جعل هذه الزيارة والحج، فهو لقاءٌ من أعلى مستوى مع الله عزَّ وجل، وعهد وتوبة وصفحة جديدة وعزيمة وطموح، ويعود المرء إلى بلده ليُنفِّذ بنود هذا العهد بنداً بنداً، وفقرةً فقرةً.
معانٍ يستقيها الإنسان من سورة البلد:
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) هذه الشعائر.
﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)﴾
التقْوى: هذا النور الذي يُقْذَفُ في قلوب الحُجَّاج والمُعْتمرين، ربنا عزَّ وجل قال:
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) ، بعضهم قال: البلد هي الأرض ولك أنْ تمْشي في هذا الطريق إلى مسافاتٍ شاسِعَة، أصابك التعب وهناك بلدةً أمامك، وأنت عطشان ستجد فيها الماء، أو كنت جائعاً ستجد فيها الطعام، أو كنت نعْسان ستجد فيها فندق، أو تحتاج لإصلاح سيارتك ستجد فيها محل لإصلاح السيارات، فالبلد هو المكان الذي تتوافر فيه حاجاتك، الأرض بلدٌ كبير، فالصحْراء في خِدْمَتِك وكذلك الجبال في خدمتك،
والقُطْبَين في خدمتك، والحرّ في خدمتك، زرتُ بلدةً باردة، وتذوقت العنب فيها فوجدته حامضاً، فسألت أحد المزارعين؟ فقال لي: عندنا لا يحلو طعم العنب، لأنه لا يوحد عندنا حرّ، فقلت سبحان الله! يعني الحرّ في خدمة الناس من أجل إنضاج فاكهتهم.
فلكَ أنْ تفْهَمَ البلد الأرض وما توافر فيها من حاجاتٍ أساسِيَّةٍ وفَرْعِيَّةٍ إلى أقْصى الحُدود، ولك أنْ تفهم البلد أي بَلد الله الحرام والكعبة المُشَرَّفة، وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى جعلها قِياماً للناس وأمْناً.
﴿ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)﴾
وشَهِدوا منافع لهم منها، وكانت سَبَباً لِعَوْدَتِهم إلى الله عزَّ وجل، وسبباً في عِلْمِهم أنَّ الله يعْلم، هذه المعاني التي يسْتقيها الإنسان من كلمة: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
الملف مدقق