وضع داكن
25-11-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة التكوير - تفسير الآيات 15-29 ، الإنسان مخلوق مكرّم ومكلَّف
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الله عز وجل يلفتنا إلى خلقه العظيم وإلى كونه الذي صنعه بيده :
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني من سورة التكوير، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿  وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ(11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14)﴾

[ سورة التكوير  ]

 وآيات اليوم، قوله تعالى:

﴿  فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)﴾

[ سورة التكوير ]

 إلى آخر الآيات.
 أيها الإخوة الكرام، الشيء الذي يُستنبَط من تسلسل آيات السورة الواحدة أن ربنا جل جلاله من حين إلى آخر يلفِتنا إلى خلقه العظيم، إلى كونه الذي صنعه بيده من أجل أن يكون هذا الكون الذي هو صنعُ اللهِ عز وجل، والذي أتقنه وسيلةً لمعرفة الله.

إذا أقسم الله بشيء من خلقه فليلفت نظرنا إلى قيمته وخطورته:


 الله عز وجل حينما يقول:

﴿  وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)﴾

[  سورة الشمس ]

 أي يقسم، فالواو واو القسم: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ وقال تعالى:

﴿  وَالْفَجْرِ(1) ولَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشّفْعِ وَالْوَترِ(3)﴾

[  سورة الفجر ]

 هذه الصيغة صيغة قسم، والمُقسِم دائماً يقسم بشيء عظيم، فهذه الآيات الكونية التي هي من خَلقِ اللهِ عز وجل، كيف يقسم الله بها وهو خالقها؟ هناك من يقول: إن هذه الواو إذا جاءت في القرآن الكريم ليست واو القسم، إنما هي واو لفت النظر، لأن الله عز وجل هو الأعظم، وهو الذات الكاملة، وكل شيء دونه، فإذا أقسم الله بشيء من خلقه فلِيلفتَ نظرنا إلى قيمته، وإلى خطورته، وإذا قال الله عز وجل:
﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ هذا الشيء من خلقه، كن فيكون، وهناك معنى ثالث لطيف جداً هو أنه إذا قلت لإنسان، والشمس في كبد السماء ساطعة، قلت له: أتقسم أن هذه الشمس ساطعة؟ يقول لك: هذه حقيقة صارخة لا تحتاج إلى قسم، شيء طبيعي جداً أن الشمس ساطعة، وأن كل الناس يرونها ساطعة، فهذا شيء بديهي مُسلَّم به، لا يحتاج إلى قسم.
الآيات الكونية الصارخة الدالة على عظمة الله لا يحتاج إلى أن يقسم الله بها :
 على كلٍّ لك أن تحمل قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أي هذه الآيات الكونية الصارخة الدالة على عظمة الله لا يحتاج إلى أن يقسم الله بها: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ وقال بعضهم: "لا" زائدة، أي أقسم، وعلى كلٍّ هذه الآية الكونية، إنْ قال الله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ فلأنها من خلقه، وإن أقسم بها فليُلفِتَ نظرنا إليها، ولتكونَ أداة لمعرفة الله، وإن لم يقسم بها فلأنها من خلقه.
 الخُنَّس: النجوم، وكلكم يعلم أن في الكون، طبعاً الرقم التقريبي الآن مئة ألف مليون مجرة، والعدد المتوسط في المجرة الواحدة مئة ألف مليون نجم، هذا ما علمه الإنسان اليوم، قال تعالى:

﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[ سورة الإسراء ]

 وقال تعالى:

﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾

[ سورة البقرة ]


ربنا عز وجل وصف النجوم كلها بصفة واحدة :


 يكفي أن أنقل لكم أن في برج العقرب نجماً أحمر اللون متألقاً يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، وبينهما مئة وستة وخمسون مليون كيلومتراً، وهذا النجم المتألق الصغير يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، فيكفي أن أقول لكم: إن مجرتنا درب التبّانة عدد نجومها يقترب من مئة ألف مليون، والمجموعة الشمسية التي نحن فيها هي هذه النجوم التي نتحدث عنها؛ المريخ والزهرة وعطارد والمشتري وبلوتو وغيرها، هذه النجوم كلها لا تزيد أقصى مسافة فيها على ثلاث عشرة ساعة، بينما طول مجرتنا مئة وخمسون ألف سنة ضوئية، هناك مجرة اسمها المرأة المسلسلة أكبر من مجرتنا بثمانية وعشرين ضعفاً، وتبدو نجماً واحداً لأنها بعيدة عنا بعداً شديداً، مليونا سنة ضوئية تبعد عنا، بينما أقرب نجم ملتهب إلى الأرض يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، فلو أن هناك طريقاً إليه وركبنا مركبة أرضية لاحتجنا إلى خمسين مليون سنة كي نصل إلى أربع سنوات ضوئية، فكيف بنجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية، فكيف إلى المرأة المسلسلة مليونا سنة، فكيف إلى أحدث مجرة تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية، هذا معنى قوله تعالى:

﴿  فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾

[ سورة الواقعة ]

 أما لماذا سميت الخُنَّس؟ لأنها تخنس وتتراجع، قال تعالى:

﴿  قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)﴾

[ سورة الناس ]

 فربنا عز وجل وصف النجوم كلها بصفة واحدة.

لولا حركة الكون لأصبح الكون كله كتلة واحدة:


 قال تعالى:

﴿  وَالسَّمَاء ذَاتِ الرجع(11)﴾

[  سورة الطارق ]

 أي أنّ كل نجم في السماء يدور في مسار مغلق، والمسار المغلق دائرة أو شكل بيضوي، معنى مغلق أي أن هذا النجم ينطلق من هذا المكان ويرجع إلى المكان نفسه، صفة عامة شاملة مُضطَّرِدة في نجوم الكون كلها، أنها تدور في مسار مغلق، وما دام المسار مغلقاً أي أنها تعود إلى مكان انطلاقها النسبي، فالخنس تنطلق وترجع، تظهر وتختفي، تقترب وتبتعد، وهذه الخصيصة في الكون دقيقة جداً، ذلك لأن هناك في الكون قانون الجاذبية، هذا القانون أن كل كتلة تجذب الكتلة الأصغر إليها، وهذا الجذب متعلق بمربع المسافة بين النجمين، متعلق بالكتلتين ومربع المسافة بينهما، لو أن هذه النجوم واقفة لوجَبَ أن يصبح الكون بأكمله كتلة واحدة، فما الذي يجعله مجرات ونجوماً وكواكب وأقماراً وكازارات ومذنبات؟ ولماذا الكون على وضعه الراهن؟ لأنه متحرك، والحركة ينشأ عنها قوة نابذة عكس القوة الجاذبة، فما دام هناك حركة فهناك قوة نبذ، امسك دلواً من الماء وأدِره هكذا، حينما يكون الدلو أو هذا الوعاء في الأعلى وفتحته نحو الأسفل، وقانون الجاذبية يدعو الماء إلى أن يسقط لماذا لا يسقط الماء؟ لأنه في أثناء الدوران نشأت قوة نابذة عكس القوة الجاذبة، وهذا مبدأ المجففات، كيف تجفف قماشاً؟ عن طريق التدوير السريع، فبهذا الدوران السريع الشيء ينطلق إلى المحيط، إذاً لولا حركة الكون لأصبح الكون كله كتلة واحدة، قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ أي هذه النجوم التي تسير في مسار مغلق، فبينما هي أمامك تختفي لأنها تسير، ثم تعود إلى مكان انطلاقها النسبي، هذا معنى كلمة "الخنس".

الشيطان ليس له على الإنسان سلطان إلا الوسوسة:


 الشيطان بالمناسبة ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ لمجرد أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أبعدت عنك الشيطان، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى ۖ فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم ۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ ۖ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

 إنّ الشيطان ليس له على الإنسان سلطان إلا الوسوسة، أنت بمجرد أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ تُبعِد عنك الشيطان، فلا تحتاج إلى وسيلة أخرى، لا إلى إنسان يفك لك هذا السحر، ولا إلى شيخ يخرج منك هذا الجنيِّ، هذه كلها خزعبلات وضلالات وتُرُّهات ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى:

﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ(36)﴾

[  سورة فصلت ]

 وقال تعالى:

﴿  إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)﴾

[  سورة الأعراف ]


النجوم من أضخم الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل:


 قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ النجوم من أضخم الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل، والأرض نجم صغير جداً، والشمس تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض، هناك نجوم حجمها أضعاف الشمس بمئة ألف مرة، واللهِ هناك أرقام -أيها الإخوة- لا يمكن أن يستوعبها العقل، وهي حقائق مبرمة، حقيقية.
 وهذه النجوم ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ تجري، والحركة تحتاج إلى طاقة، تحريك سيارة يحتاج إلى طاقة، والطاقة غالية جداً، فهذه الحركة المذهلة، من يحرك هذه النجوم؟ هناك مجرات تزيد سرعتها عن مئتين وأربعين ألف كيلومتراً في الثانية، مجرات ضخمة جداً، من يحركها؟ من يعطيها هذه القوة؟ نحن عندنا في الفيزياء مبدأ العطالة، الأجسام ساكنة، فإذا تحَّركتْ معنى ذلك أنها تلقَّت قوة دافعة، فما هي هذه القوة التي دفعت النجوم إلى الحركة؟ الله عز وجل، الأجسام المتحركة ترفض السكون، والأجسام الساكنة ترفض الحركة، فهذا يحتاج إلى قوة كبيرة جداً، إطفاء الشمس يحتاج إلى قدرة هائلة، وتألقها يحتاج إلى قدرة فائقة، الآن تحريكها يحتاج إلى قوة كبيرة جداً، والشمس تجري لمستقر لها، فمن أعطاها هذه الحركة؟ أنتم أحياناً تستمعون في الأخبار إلى أن مركبة أُطلقت، قد يقول قائل: لمَ لا نطير إلى هذا الكوكب بطائرة عادية؟ لأن أقصى سرعة للطائرة لا يمكن أن تجعلها تخرج عن جاذبية الأرض، إلا في حالة نادرة جداً، أن يكون هناك وقود سائل، وأن يشتعل الوقود، وأن ينشأ عن الاحتراق ردُّ فعل عالٍ جداً، وأن تتجاوز السرعة كذا كيلومتر في الثانية، حتى تستطيع هذه المركبة أن تنْعَتِق من جاذبية الأرض، فحتى يتمكن الإنسان من إخراج مركبة من جاذبية الأرض فتحتاج إلى سرعة كبيرة جداً جداً، وهذه السرعة لا تكون إلا بمحرك يقوم على الفعل وردّ الفعل، والاحتراق الشديد يولد قوة مندفعة بعكس جهة الاحتراق، وهذا ما يكون في المركبات الكبرى، من أجل أن نخرج من جاذبية الأرض، فإذا خرجنا من الجاذبية ينعدم الوزن، فمعنى ذلك أن الوزن من آيات الله العظيمة، شيء له وزن، هذا الكأس تضعه فيستقر، قال تعالى:

﴿ أَمَّن جَعَلَ ٱلْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنْهَٰرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)﴾

[  سورة النمل ]


أن تكون الأرض مستقرة وهي متحركة وبلا صوت فهذا من فعل الله تعالى:


 من جعل هذه الأشياء تستقر على الأرض؟ بفعل الجاذبية، لولا الجاذبية لانعدم قرار أيّ شيء، ورائد الفضاء قد يستيقظ في منتصف الليل فإذا هو في سقف المركبة، لأنه لا وزن له، ومن أصعب الأشياء استخدام الحاجات، يريد أن يأخذ فرشاة الأسنان فإذا هي في السقف، أنت في الأرض تضع حاجاتك على مكان فتستقر فيه، فهل مِن معقول أن يجد الإنسان حاجاته في السقف؟‍ هذا ما يحدث في أماكن انعدام الجاذبية فيما بين الأرض والقمر، لذلك قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾ أيْ مَن جعل هذه الأشياء تستقر على سطح الأرض؟ إنه الله عز وجل، بل مَن جعل هذه الأرض مستقرة استقراراً دقيقاً، والدليل الزلازل، زلزال بسبع درجات على مقياس ريختر تهدّمت معه المدينة، وأصبحت ركاماً بعضُها فوق بعض، إذاً أن تكون الأرض مستقرة وهي متحركة وبلا صوت، فهذا من فعل الله تعالى، قال تعالى:

﴿  وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88)﴾

[ سورة النمل ]


الكون مظهر لأسماء الله الحسنى ومظهر لعلمه ولقدرته ولقوته سبحانه:


 بلا صوت، محرك ماء بسيط يعكِّر على المتنزهين نزهتهم، مركبة بسيطة، حفر طريق أحياناً، يأتون بآلات تخرج الإنسان من جلده من ضجيجها، وتخريشها لطبلة الأذن، وهذه الأرض تسير بسرعة ثلاثين كيلومتراً في الثانية، وتدور حول نفسها بسرعة ألف وستمئة كيلومتراً في الساعة، ومع ذلك من دون ضجيج، فالطائرة من أجل أن تطير وعليها ثلاثمئة راكب لها ضجيج يُصِمّ الآذان، بل إن مستوى ضجيجها يفوق الحدّ المقبول في الأذن، مئة وخمسة وعشرون ديسيبل، هذا لإقلاع الطائرة، والإنسان لا يحتمل فوق خمسة وسبعين ديسيبل، لذلك الذين يسكنون إلى جوار المطارات يصابون بضعف في السمع، فهذه الأرض المتحركة بلا صوت من نِعم الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ .
 أيها الإخوة، الكون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى، مظهرٌ لعلمه، مظهرٌ لقدرته، مظهرٌ لحكمته، مظهرٌ لرحمته، مظهرٌ لقوته، قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ*الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ تجري، والشمس تجري، والقمر يجري، والنجوم تجري، ولكن الجريان بحكمة بالغة، فالقمر يجري ويدور حول الأرض، وهناك تفاضل بسيط بين دورته ودورتها، ولولا هذا التفاضل لرأى الناسُ القمرَ بدراً كل حياتهم، أمّا أنْ يكون محاقاً ثم هلالاً ثم بدراً، فما الذي جعله بهذه المنازل؟ لأن هناك تفاضلاً طفيفاً بين دورته حول الأرض وبين دورة الأرض، فهذا التفاضل بقدرة قادر، وحكمة حكيم، وعلمِ عليم.

الله عز وجل اختار اللغة العربية لغة لكلامه:


 قال تعالى: ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ الكنس، أي تختفي، لذلك حينما ينظر الإنسان إلى قبّة السماء، كل فصل في برج، ألم يقل الله عز وجل:

﴿  وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾

[  سورة البروج ]

 هذه الأبراج الاثنا عشر التي نراها في كل فصل هي أبراج تظهر في فصل وتختفي، فهذا معنى الكُنَّس، نجوم تظهر ونجوم تختفي، قال تعالى:
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ دقِّقْ في هذه الصيغة، "السين" تفيد معنى الشيء الداخلي، تقول: همس، حس، أُنْس، لمس، وكل كلمة فيها السين فيها معنى الأُنس، والشيء اللطيف الداخلي الذاتي، كل كلمة فيها راء فيها معنى التكرار، جرَّ، مرَّ، كرَّ، كل كلمة فيها قاف فيها معنى الصدم، طرق، لصق، كل كلمة فيها غين فيها معنى الغيبوبة، غاب، غرب، غيبة، غموض، شيء داخلي، طبعاً هذه الخاصة مما امتازت به اللغة العربية، أي هناك معانٍ لحروفها، ومن أطرف ما قرأت في هذا المقام أن الغريق الذي يغرق "غرق" فالغين غاب عن الأنظار، فوُضعت الغين، وتتالى سقوطه فوُضعت الراء، ثم وصل إلى القاع فوضعت القاف، وهذا من أسرار اللغة العربية، لأن الله عز وجل اختارها لغة لكلامه.

اتساع العربية في التعبير :


 في اللغة العربية تنوع عجيب في المفردات، هذا يُعبَّر عنه بمقولة: اتساع العربية في التعبير، فكلمة "نظر" معروفة عندكم، لكن رأى تفيد معنى آخر، قد تكون النظرة ليست مادية، إنها رؤية قلبية، تقول: رأيت العلم نافعاً، أما (نظر) شزراً، فهناك احتقار مع النظر، نظرت إلى السارق شزراً، أمّا (شَخَصَ) فهناك خوف مع النظر، قال تعالى:

﴿ وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَٰخِصَةٌ أَبْصَٰرُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَٰوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَٰلِمِينَ(97)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 هكذا، أما إذا تمطّى، نقول: استشرف، نظر وتمطى، أما إذا أمسك بيده قماشاً، نقول: (استشفَّه)، أما إذا اتّسعت حدقة العين نقول: (حدّق)، أما إذا ظهر ما تحت الجفن من لون أحمر نقول: (حملق)، ظهر حِملاق عينه، أما إذا نظر مع المحبة، نقول: (حدّج)، وروي عن ابن مسعود أَنه قال: 

(( حدِّث القوم ما حَدَجوك بأبصارهم. ))

[ البيهقي ]

أمّا إذا كان مع النظر سرور نقول: "رنا"، رنوت إلى المنظر، أما الشيء ظهر و اختفى نقول: "لاح"، أما إذا نظرت وأعرضت، أُمِرتَ بغض البصر، رأيت الباب مفتوحاً، ووراءه امرأة فغضضت بصرك نقول: لَمَحَ، إذاً لاح، وحدّج، ورنا، وبحلق، حملق، حدق، استشرف، استشف، نظر، رأى، نظر شذراً، شَخصَ هذه كلها كلمات دقيقة جداً تعبِّر عن حالات النظر، لذلك قال العلماء: العربية واسعة جداً في التعبير، فهناك: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ هذا يُسمى في اللغة ثنائيّ مضعَّف، مثل: زلزل، وعسعس، وقلقل، ودمدم، هذه دمدم، وعسعس وزلزل صيغتها ثنائي مضعف يفيد التكرار، زلزل، عسعس، أي يختفي تدريجياً، وقال بعض العلماء: يأتي تدريجياً.

الليل والنهار آيتان دالتان على عظمة الله عز وجل:


 قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ تكون في ظلام دامس لا ترى شيئاً، قبيل الفجر أو مع الفجر ترى خطاً أبيض في الأفق، هذا الخط يمتد ويزداد إلى أن ترى الأشياء أمامك، ثم الشمس ساطعة، 

(( سبحانَ اللهِ ! أين الليلُ إذا جاء النهارُ! ))

[ ضعيف الجامع ]

قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ الليل والنهار آيتان دالتان على عظمة الله عز وجل، هناك نقطة دقيقة، وهي أن الإنسان عندما فحصوا أجهزته، وجدوا أن لها برنامجاً ليلياً، وبرنامجاً نهارياً، ضربات القلب، ضغط الدم، إفراز الهرمونات، اتساع الأوعية والشرايين، عملية الهضم، كل الأجهزة الدقيقة لها برنامج ليلي وبرنامج نهاري، لأن الله جعل النهار معاشاً، وجعل الليل لباساً، فلا داعيَ أن تكون ضربات القلب مئة في الليل، بل هي في الليل خمس وستون، وأحياناً ستون، الرياضيون خمس وخمسون في الليل، القلب مرتاح، في النهار ثمانون، مئة وعشرة، الضغط في الليل أقل من الضغط في النهار، فالإنسان إذا سافر تختل ساعته البيولوجية، فهو في أمريكا وقد وصلها لتوه فهو مبرمج على سورية، هذا الوقت في سورية ليل، فهو في النهار في أمريكا يميل نحو النوم، وفي الليل يستيقظ، ويسميها العلماء: الساعة البيولوجية، فلا بد له من يومين أو ثلاثة أيام حتى يبدأ برنامجاً جديداً يتأقلم مع نهار وليل أمريكا، فالله جعل الليل لباساً، وجعل النهار معاشاً، وأشياء دقيقة جداً في خلق الإنسان، فإذا أدخلتَ إنساناً إلى مغارة لا يرى فيها شيئاً، وفحصت أجهزته، لها نظامان، إذا كان خارج المغارة نهاراً فهناك نظام لأجهزته، وإذا كان الليل خارجها، فهناك نظام، مع أنه في ظلام دامس، فهذا من عظمة خلق الإنسان، مبرمج برنامجين؛ برنامج نهاري فيه نشاط، وحيوية وتيقّظ، وتنبه، وضغط، وضربات قلب، وإفراز هرمونات، وهناك نظام ليلي يعتمد على الراحة والسكون، وما إلى ذلك، بل إن من ألطف ما قرأت عن آلية النوم أن الأعصاب في الليل تتباعد، فالأصوات إذا مشت في هذه الأعصاب ترى فجوة لا تستطيع تخطيها، فالنائم لا يسمع شيئاً، كما لو أنك كنت تمشي في بستان فرأيت ساقية عرضُها أعرضُ من قفزتك، فأنت لا تمشي، أما لو أن وحشاً يتبعك تقفزتها، فإذا كان الصوت شديداً يستيقظ النائم، ومع الأصوات العادية لا تقفز، أما الصوت غير الطبيعي فيستجيب له ويستيقظ النائم.

الليل فيه حبْسُ نَفَس وفي الصباح يتنفس الإنسان :


 قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَس*َوَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ الحقيقة هنا يوجد جمال رائع جداً في التعبير: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ*الْجَوَارِ الْكُنَّسِ*وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ*وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ ظهر الصبح، كأن الليل فيه حبْسُ نَفَس، وفي الصباح يتنفس الإنسان: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ هذه التي أقسم الله بها أو لم يقسم أو أراد أن يلفت نظرنا إليها، قال عن هذا القرآن: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ سيدنا جبريل رئيس الملائكة، مقرب إلى الله، لا يعصي اللهَ ما أمره، ويفعل ما يؤمر، هذا الرسول الكريم، ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾

الضغوط على المؤمن تنقله من حال إلى حال ومن مرتبة إلى مرتبة:


 يقول لك: حجر كريم، ألماس، الياقوت، صافٍ، نقي، غالٍ، قلت لواحد البارحة: ما أصل الماس؟ قال: تفضل، قلت له: الألماس أساسه فحم، ومن شدة الضغط وشدة الحرارة أصبح ألماساً، قلت له: وكذلك المؤمن، كلما جاءته ضغوط شديدة وانفعل انفعالاً شديداً يزداد إيمانه، حتى يصبح كالألماس، فالإنسان المؤمن لا يتألم من شدة الضغط، فالضغوط تجعل قطعة الفحم ألماساً، بل إن الماس الصناعي يأتون بالفحم ويضغطونه ويضعونه في حرارة عالية جداً فيغدو ألماساً، لكن ليس كالأصلي، أنا رأيت ألماسة في متحف في اسطنبول، قالوا: ثمنها خمسة عشر مليون دولار، أو مئة وخمسون مليون دولار فيما أذكر، كالبيضة تماماً، كأنها شعلة، ائتِ بقطعة مشابهة لها من الفحم، كم ثمنها؟ ليس لها ثمن، فالضغوط على المؤمن تنقله من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن مرتبة إلى مرتبة، ومن حيِّز إلى حيِّز، فرسول كريم كالحجر الكريم، صافٍ، نقي، غالٍ، والمؤمن غالٍ على الله كثيراً:

((  لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))

[  الترمذي، ابن ماجه  ]

 لِهوانها على الله أبى أن تكون عقاباً لأعدائه، أو إكراماً لأوليائه، فقد تجد مؤمناً فقيراً، لأن الله عز وجل يحبه، وفي الحديث:

(( إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يحمي عبدَهُ المؤمِنَ من الدُّنيا كما يحمي أحدُكُم مريضَهُ الطَّعامَ والشَّرابَ. ))

[ السخاوي ]

((  إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤمِنَ كَمَا يَحْمِي الرَّاعِي الشَّفِيقُ غَنَمَهُ مَرَاتِعَ الهَلَكَةِ. ))

[ ضعيف الجامع ]

 قال تعالى:

﴿  فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)﴾

[ سورة الفجر ]

 هذه مقولته هو، وقال تعالى:

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)﴾

[ سورة الفجر ]


المرء يُبتلى على قدر دينه وإيمانه :


 هذا كلام غير صحيح:

﴿  كَلَّا بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)﴾

[ سورة الفجر ]

 أداة ردع ونفي، أي: يا عبادي ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء، فالإنسان المؤمن إذا كان دخله قليلاً فلا ينبغي أن يشعر أنه هيِّن على الله، لا، أو إذا كان يعاني من مرض، أو عنده مشكلة اجتماعية، أو مشكلة أسرية، فإنّ الله اختارها له، قضاء وقدراً، وليس من تقصيره، فلا ينبغي أن تجعله يتطامن، ويخجل، ويشعر بهوانه على الله أبداً:

(( أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسَبِ دينِه. ))

[ الألباني ]

 المرء يُبتلى على قدر دينه وإيمانه، والابتلاء يعطي الإنسان قوة دافعة إلى الله، فما من محنة إلا ووراءها منحة من الله، وما من شِدّة إلا ووراءها شَدَّة إلى الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ هو سيدنا جبريل، هذا كتاب كريم، كتاب:

﴿ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ(42)﴾

[ سورة فصلت ]


كتاب فيه حق صِرف.


﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ إنّ الله عز وجل أعطاه قوة ليتلقى هذا الكلام منه عز وجل، وأن يوصله إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أمين وحي السماء، ومما يُسمَّى به سيدنا جبريل: أمين وحي السماء، فدينك ليس من اجتهاد الناس، ولا من تأملاتهم، ولا من تصوراتهم، ولا من ثقافاتهم الأرضية، دينك من عند الله، لذلك فإنّ الطرف الآخر يحلو لهم أن يسمّوا الدين تراثاً، ليس تراثاً، التراث من صنع البشر، والتراث ثقافة أمة، وعاداتها، وتقاليدها، ذاك هو التراث، أما ديننا فهو وحي السماء، والشيء المعصوم هو الوحي فقط.

العلم التجريبي يصيب ويخطئ أما الوحي الإلهي فحقٌّ صرف:


 أضرب لكم مثلاً؛ أنت أمَام مذياع قديم، فتحتَ داخله فإذا فيه "لمبات" نزعت واحدة فانقطع الصوت، فقلت: هذه للصوت، هذا اسمه علم تجريبي، هي ليست للصوت، ولكنها وُضعت على طريق الصوت، فلما نزعتها وانقطع الصوت توهَّمتَ أنها للصوت، إنها على طريق الصوت، فعلمُ الإنسان علم تجريبي، يصيب ويخطئ، أما لو أنك توجّهتَ إلى مخترع هذا الجهاز وسألته عن هذه اللمبة لقال لك: هذه لسبعة عشر هدفاً، هي هكذا، فحينما تأخذ الحقيقة من الله مباشرة، هذا هو الوحي، وحينما تأخذ الحقيقة من التجارب، هذا اسمه علم تجريبي، فالعلم التجريبي يصيب ويخطئ، أما الوحي الإلهي فحقٌّ صِرف، الحقيقة قد نصل إليها عن طريق التجربة، وقد نعرفها عن طريق الوحي، لكن مع الوحي هناك عصمة وصواب مطلق، أما مع التجربة فهناك خطأ وهناك صواب، وأحيانا التجربة لا تسمح لك أن تستفيد من هذا الخطأ، أنت أمام كرة حديدية يا ترى أهي قنبلة؟ لا، ليست قنبلة، كرة أم قنبلة؟ احترت، تعال نجرِّب، لو أمسكتها وانفجرت خلال عشر الثانية لعرفتَ أنها قنبلة، ولكن لم يبقَ لك في الحياة وقت تنتفع بهذا الدرس، وهذا ما حصل للعالَم الآن، فقد تركوا الدين، وانفلتوا، وانهاروا في إباحية واختلاط وزنى وشذوذ، وأصبح هذا الانحراف جزءاً من حياتهم، وبعدما عرفوا الحقيقة المرة لم يعودوا يستطيعون الخروج منها، فليس كل مَرة تستفيد من التجربة، في معظم الحالات التجربة مُرّة، لن تسمح لك أن تستفيد منها، أما حينما تكون مع الوحي، فالوحي كله واضح، إنّه واضح وتعلُّم من دون ثمن.
 أيها الإخوة، فالوحي حق مطلق، وعصمة مطلقة، أما التجربة ففيها خطأ وفيها صواب، نصيب ونخطئ، فإذا أصبنا قد لا نستطيع أن ننتفع من هذه التجربة، لذلك فعظمةُ هذا الدين من عند خبير، قال تعالى:

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾

[  سورة فاطر ]


الوحي معصوم من الخطأ وهو يقدِّم لنا خبرات خالق الكون:


 الخبير أنزل هذا القرآن، فأنت حينما تتبع هذا الكتاب فلن تخطئ، ولن تقع في شرّ عملك، ولن تقع في مطبٍّ، ولا تحتاج إلى أن تدخل محاكم، لأنه كتاب وقاية، وكتاب هداية، وكتاب منهج، فالوحي عِصمة مطلقة، أما العلم فخطأ وصواب، مثلاً؛ في العالم الشرقي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بسنتين أو ثلاث حُرّمت الخمر، بعد أن شعروا أن أربعة أخماس طاقاتهم ومواردهم تذهب إلى الفودكا، إلى الخمر، فحُرِّمت الخمر بعد تجربة مُرّة، والتحريم كان شكلياً، وبعد أن تغلغلت في دم شاربيها لم يستطع القانون أن يمنع هذه المعصية، فمثلاً في بعض بلاد الغرب الانحراف بلغ درجة غير معقولة، الآن بعض الدول في أوروبا تعطي المخدرات وتوزعها في الطرق مجاناً على مدمنيها من أجل أن يأخذوا هذه المخدرات بحقن معقمة، لئلّا تنتقل إليهم الأمراض، فالإدمان بلغ درجة مخيفة، ففي أمستردام قبل سنوات سارتْ مظاهرة تُعدُّ أكبر مظاهرة في العالم، مئات الألوف كلهم شاذّون يطالبون بحقوقهم المدنية، فحينما أطلقنا للإنسان شهواته لو عرفنا بعدها الحقيقة فليس هناك طريق إليها، والآن الغرب يقتنع بانتهاء مجتمعه، ومجتمع الغرب في طريق الانحلال، والذين يقومون بإدارته نخبة من الجيل السابق، أما إذا ابتعد هذا الجيل السابق عن مراكز القيادة فالجيل اللاحق جيل مُنحلّ، حتى في البلاد التي تتحكم في العالَم، فالذين يتحكمون في العالَم ليسوا من أبناء هذه البلاد، بل هم ممّن هاجر إليها، وهم ذوو إمكانات عالية جداً، فالوحي معصوم عن الخطأ، والوحي يقدِّم لك خبرات خالق الكون، خبرات عالية جداً، إنه الخالق، قال تعالى: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ أما التجربة فقد تصيب وقد تخطئ، فإن أصابت فقد لا تنتفع بها، وهناك نقطة دقيقة جداً، الإنسان حينما يخطئ قد يتوهم أنه في أي لحظة يتوب، ثم لا تستطيع أن تتوب بعدئذ، وهناك معاصٍ لها قوة جذب قوية جداً، فحينما تنهار في هذه المعصية، وأنت تعلم علم اليقين أنك تنهار، وأنها مُهلِكة لا تستطيع أن تبتعد عنها، فما كل تجربة نافعة، مثلاً؛ في أمريكا قال رئيسها: تواجه أمريكا خمسة أخطار مدمرة فأصغيتُ إلى أن سمعت بقية الخبر، تصورت خطر اليابان مثلاً، أو خطر أوروبا المتحدة، أو خطر الصين فرضاً، لا، ولكنه خطر المخدرات، وخطر تفكك الأسرة، والانحلال الأخلاقي، وشيوع الجريمة، هذه هي الأخطار، لأننا تركنا منهج الله عز وجل تفلَّت المجتمع، ولما قُطعت الكهرباء عن نيويورك؛ طبعاً هناك المجتمع منضبط إلكترونياً وليس أخلاقياً، تَمَّتْ مئتا ألف سرقة في ليلة واحدة، سُرق بليونا دولار في ليلة واحدة، فلما انقطعت الكهرباء انتهت الرقابة كلُّها، وكل شيء اسمه حاسوب أو قاعة مراقبة أو طريق مراقب، لم يعد له فائدة.

قانون الله عز وجل لا يعدل لأنه من عند خبير :


 أيها الإخوة، الوحي معصوم، والوحي من عند خبير، أما التجارب الإنسانية فتصيب وتخطئ، وحينما تصيب ربما لا ننتفع من صوابها، لأن صوابها جاء متأخراً، وهذا حال العالَم اليوم، فقد جاء الصواب متأخراً، والآن يفكرون في العالَم الغربي بأن يخصِّصوا للطلاب جامعات، وللطالبات جامعات، بعد أن أصبح عدد اللقطاء يفوق حد الخيال، وبعض الشعوب في أوروبا أربعون بالمئة من اللقطاء، هذا إنسان وُلد في المستشفى ليس له أب ولا أم، عنده حقد على المجتمع، مريض نفسياً، هذا دَرَسَ وتعَلَّم وصار في منصب عالٍ جداً، وهو بهذه النفسية، فخاصِّية الوحي أنه معصوم، لكن العلم التجريبي يصيب ويخطئ، فكم من نظرية جاء بها العلماء ثبت بُطلانها بعد التجربة، لذلك فلن تجد تعديلاً لقانون الله عز وجل، لأنه من عند خبير، وخبرة الله قديمة، قال تعالى: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ*مُطَاعٍ﴾ سيدنا جبريل يأمر ملائكة دونه، وهو مطاع في أمره، مكين، قال تعالى: ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ أي أمين على وحي السماء، فليس هناك كلمة زائدة، قال تعالى والكلام موجَّهٌ للنبي:

﴿  وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾

[ سورة الحاقة ]


المجنون مَن عصى الله عز وجل :


 قال تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ مَن هو صاحبكم؟ هو رسول الله، نشأ بينكم، تعرفون صدقه وأمانته وعفافه واستقامته ونسبه، وحينما عرف ربه واستقام على أمره ودعا إليه لم يكُ هذا جنوناً، لأنّ المجنون مَن عصى الله عز وجل، قال تعالى:

﴿  وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ(23)﴾

[ سورة التكوير ]

 رأى جبريل عليه السلام ملء الأفق، هكذا يقول بعض المفسرين، قال تعالى:

﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)﴾

[ سورة التكوير ]

 هذا الوحي الذي ينقله جبريل ما هو متَّهم عليه لأنه أمين، قال تعالى:

﴿  وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)﴾

[ سورة التكوير ]


الإنسان مخيّر والنبي الكريم ليس مسؤولاً عن عدم هدايته:


 إذا أصيب إنسان فرضاً بمرض شديد، وأمامه مستشفى، وعلاجه في هذه المستشفى، تركها وذهب، نقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ إلى أين؟ هنا العلاج، هنا الدواء، فالإنسان عندما ينصرف عن الدين نقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ إلى المتع، إلى الملاهي؟ هناك موت، وحساب، وعذاب، هناك جنة إلى الأبد، أو نار إلى الأبد، فإلى أين أنت ذاهب؟ فالإنسان حينما ينصرف عن الدين، عن درس علم، عن معرفة الحقيقة، عن طاعةٍ لله، عن صلوات، إلى أين ذاهب؟ انظر إلى السيارات يوم الجمعة وقت صلاة الجمعة، متجهة أرتالاً إلى المصايف، هذا وقت صلاة جمعة، وقت فريضة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَهَاوُناً بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ. ))

[ أخرجه الترمذي  ]

 قد نقول: إلى أين أنتم ذاهبون؟ إلى نزهة، إلى منظر جميل، إلى تناول طعام، تركتم فريضة الجمعة، قال تعالى:

﴿  فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27)﴾

[ سورة التكوير ]

 تذكرة، لأن الإنسان مخيّر، تذكرة، فأنت مخيّر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال الله له:

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)﴾

[ سورة القصص ]

 لأن الإنسان مخيّر، وقال تعالى:

﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾

[ سورة البقرة ]

 كما أنك لست مسؤولاً عن عدم هدايتهم.

الاختيار لولا أن الله شاءه للإنسان لما كنت مختاراً:


 قال تعالى:

﴿  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)﴾

[ سورة التكوير ]

 أنت إذا شئت أن تستقيم فكل شيء ميسّر أمامك، وإن أردت الحقيقة فكل شيء يدلّك عليها، إن أردت الوصول إلى الله فالطرائق إلى الخالق بعَدَد أنفاس الخلائق، إنْ أردت أن تستقيم فكل شيء ميسّر، دروس العلم، والدعاة إلى الله، والعمل الصالح، والتوفيق إن أردت الاستقامة، فكل شيء ميسّر لك، قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ لكن:

﴿  وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)﴾

[ سورة التكوير ]

 إياكم أيها الإخوة ثم إياكم ثم إياكم أن تفهموا هذه الآية فهماً جبرياً، افهموها فهماً تفضُّلياً، كيف؟ كل مكانتك أيها الإنسان لأنك مخيّر، ولولا الله شاء لك أن تختار لما كنت مختاراً، وكل ما تصل إليه من سعادة أبدية في جنة عرضها السماوات والأرض لأنك مخير، واخترت الحق على الباطل، والهداية على الضلالة، وطاعة الله على معصيته، هذا الاختيار لولا أنّ الله شاءَه لك لمَا كنت مختاراً، لو كنت كالجماد، كالحيوان، كالصخر، كالجُلمود، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ أي ما كان لكم أن تشاؤوا لولا أن الله شاء لكم أن تشاؤوا، هذا المعنى.
 فهذه الآية قد تُفهَم فهماً جبرياً، وهذا الفهم الجبري عقيدة فاسدة، ما أرادها الله عز وجل، وقد تُفهم فضلاً تفضُّلياً، أي أن الله تفضل علينا ومنحنا حرية الاختيار: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ .

الإنسان مكرّم وهو المخلوقُ الأولُ المكلَّفُ:


 إنّ أبواب الجامع مفتوحة، وأبواب الملاهي مفتوحة، لك أن تصلي ولك أن تذهب إلى ملهى، لك أن تصدق، ولك أن تكذب، لك أن تتقن، ولك أن تهمل، لك أن ترعى، ولك أن تسيِّب، لك أن تكون مخلصاً أو أن تكون خائناً، لك أن تتعرف إلى الله ولك أن تتعرف إلى الشياطين، إلى شياطين الإنس والجن، لك أن تقرأ عن أصحاب رسول الله ولك أن تقرأ عن الفنانين والفنانات الأحياء منهم والأموات، كل ذاك ممكن، أنت مخير، فلك أن تذهب إلى مسجد، ولك أن تذهب إلى ملعب، هذه أبواب الملاهي مفتوحة، وأبواب المساجد مفتوحة: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ هذه المشيئة التي تنعمون بها، والتي هي سبب سعادتكم الأبدية، إن هذه المشيئة شاءها الله لكم، وتفضّل عليكم، وشاءها لكم، ولولا هذه المشيئة الإلهية لمَا شئتم، ولكنتم كمخلوقات في درجة دنيا، هناك مخلوقات كثيرة، هو مخلوق، ولكن ليس له هذه المكانة العالية، قال تعالى:

﴿  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70)﴾

[  سورة الإسراء ]

 فالإنسان مكرّم، وهو المخلوقُ الأولُ المكلَّفُ، قال تعالى:

﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾

[  سورة الذاريات ]


النص مدقق
والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور