- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تحدث الله جلَّ جلاله عن ذاته بضمير المُفْرَد:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الرابع عشر من سورة الزُّمَر ومع الآية الواحدة والأربعين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41)﴾
تعلمون أيها الأخوة أن الله جلَّ جلاله إذا تحدَّث عن ذاته تحدَّث بضمير المُفْرَد.
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
أما إذا تحدث الله جلَّ جلاله عن أفعاله فيتحدث بضمير الجَمْع، لأن أفعاله فيها كل أسمائه، كل فعلٍ من أفعاله، فيه القدرة، وفيه الحكمة، وفيه العلم، وفيه الخبرة، وفيه الرحمة، وفيه اللطف، أفعاله فيها كلّ أسمائه.
القرآن الكريم حبل الله المتين من تمسك به نجا ومن تركه هلك:
قال تعالى:
من تعامل مع الله عزَّ وجل فلن يضلَّ أبداً:
على كلّ ماذا تعني كلمة بالحق؟ قالوا: لابسَ الحق نزولَه، المقصود من كلمة الحق الحقّ الشيء الثابت الذي لا يتغيَّر، ولا يتبدَّل، ولا يتحوَّل، ولا يتعدَّل، ولا يُلْغى، ولا يُجَدَّد، الشيء الثابت هو الحق، فالله عزَّ وجل واجب الوجود هو الحق، كلامه هو الحق، أوامره هي الحق، نواهيه هي الحق، الحلال هو الحق، الحرام هو الحق، أي الحق أن يحَرَّم، فكل ما جاء في القرآن الكريم حقّ من عند الله عزَّ وجل، الإنسان حينما يتعامل مع المتغيرات يقع في مطبات كثيرة، الأنظمة الوضعية، والنظريات الوضعية، والمبادئ الوضعية، والمذاهب الوضعية، هذه كلها متغيرة، فإذا تعاملنا معها ففي حياتنا مفاجآتٌ كثيرة، ومطبات خطيرة، ومنزلقاتٌ مهلكة، لكنك إذا تعاملت مع الحق، مع الله عزَّ وجل، ومع كلامه، مع قوانينه، مع تعليماته، مع أوامره، مع نواهيه، فإنك لن تضلَّ أبداً، ألم تقرؤوا قول الله عزَّ وجل:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فهل هناك ثمرة أو نتائج أطيب من هذه النتائج؟ ألا يضل عقلك، وألا تشقى نفسك.
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
هل هناك من آيةٍ تَبُثُّ في النفس الطمأنينة أكثر من هذه الآية؟ الماضي مغطَّى والمستقبل مغطَّى، لا خوفٌ عليه، لا يخشى مما هو آت في المستقبل، ولا يندم على ما فات، إذاً هذا الحق.
القرآن الكريم خطاب الله عزَّ وجل للناس كافةً:
المؤمن الموفق، العاقل، الحكيم، هو الذي يسأل هذا الخالق العظيم، الذي يدل خلقه على قدرته، ويدل خلقه على علمه، ويدل خلقه على كماله، أيعقل أن يدع الناس من دون منهجٍ يسيرون عليه؟ من دون تعليماتٍ، من دون أمرٍ ونهيٍ، من دون تبشيرٍ وتحذيرٍ، من دون بيانٍ لما سيكون، لما بعد الموت، من دون بيانٍ لما كان قبل أن يأتوا إلى الدنيا، لابُدَّ، وهذا القرآن خطاب السماء إلى الأرض، خطاب الله عزَّ وجل للناس كافةً،
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
مخلوق كي يسعدك الله عزَّ وجل، جاء بك إلى الدنيا كي تكون الدنيا إعداداً للآخرة، جعلك في دنيا، في حياةٍ دنيا إعدادية لحياةٍ أخرى أبدية، فكلمة الحق أي ما جاء في هذا القرآن منذ ألفٍ وخمسمائة عام لا يمكن أن يتبدل، ولا أن يتغير، ولا أن يطرأ عليه أي تعديل لأنه حق، والحق الشيء الثابت.
هناك أمثلةٌ كثيرة؛ لو أن جداراً بني بالحق، أي بُنِي على الشاقول، وحفرت له أساساتٌ عميقة، ووضعت مواد بنسبٍ ممتازة، هذا الحائط لا يقع، لأنه بُنِي بالحق، بُنِي ليبقى، أما إذا بُنِي من دون أساس له فلابُدَّ من أن ينهار، أما إذا بني دون شاقول فغالباً ما ينهار، أما إذا بُنِي بمواد ليست جيدة فأغلب الظن أنه ينهار، لأنه بُنِي بالباطل، يوجد خطأ في بنائه، خطأ في الأساسات، أو خطأ في الشاقول، أو خطأ في المواد إذاً لابد من أن ينهار، أما إذا بُني وفق أسس صحيحة لا ينهار، يبقى، الحق الشيء الباقي، كم أتى على الإسلام من مذاهب واجتياحات من الشرق ومن الغرب! كم ظهرت من نظريَّات! كم ظهرت من مبادئ! كم ظهرت من مذاهب! هو كالطود الشامخ لأنه حق، ما من آيةٍ في القرآن الكريم يمكن أن يأتي وقتٌ ينقضها العلم، بالعكس كلما تقدم العلم اقترب من القرآن الكريم، كلما تقدم العلم توافقت الآيات القُرآنية مع المنجزات العلمية الحقَّة.
القرآن يعبِّر عن الحقيقة والحقيقة التي جاءت في القرآن الكريم حقٌّ ثابت:
إذاً كلمة
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ
﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾
أيها الإخوة الأكارم؛ هل من سعادةٍ تملأ قلب المؤمن أكثر من أن يعتقد اعتقاداً صحيحاً مهما امتد الزمان، مهما ظهرت العوامل الخارجية يبقى دينك شامخاً، تبقى عقيدتك صحيحةً، يبقى تصوُّرك عن الكون والحياة والإنسان مطابقاً للواقع، والحقيقة العلم ما طابق الواقع، هذا كأس ماء إذا قلت عنه: إبريق ماء، فقد خالفت الواقع، إذا قلت: هذا كأس ماء فهذا علم لأن هذا الكلام مطابقٌ للواقع، وتعريف الجهل هو الكلام الذي يخالف الواقع، فكل دعوةٍ باطلةٍ تخالف الواقع، كل دعوةٍ موهومةٍ مزعومةٍ تخالف الواقع، الواقع هو الشيء الثابت، فالقرآن يطابق الحق، ويطابق الواقع، ومرة ذكرت لكم أم الحق ما وافق الواقع، وما وافق العقل، وما وافق الفطرة، وما وافق النقل، يجب أن تعتقد حول كل شيء اعتقاداً مطابقاً للنقل، مطابقاً للعقل، مطابقاً للفطرة، مطابقاً للواقع، إذا تخلفت الفطرة فليس حقاً، إن تخلف الواقع فليس حقاً، إن تخلف النقل اعتقدت اعتقاداً يخالف النقل الصحيح فليس حقاً، نقلُ وعقلُ فطرةٌ وواقعٌ، إذا اجتمعت هذه العوامل الأربع فأنت في دائرة الحق.
الناس في الدنيا مخيَّرون:
لذلك:
دعوة النبي دعوة حق لكن الاستجابة لها ليست بيده بل بيد الناس:
لذلك في آيات أخرى:
﴿
﴿
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
دعوتك حقّ، لكن الاستجابة لها ليست بيدك بل بيد الناس، فإما أن يستجيبوا وهم مخيرون، وإما ألا يستجيبوا، إن استجابوا فلأنفسهم، وإن لم يستجيبوا فعليهم:
الإسلام ألغى كل الانتماءات إلا انتماءً واحداً هو انتماء الحق:
عم سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام "أبو لهب" لم يؤمن.
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾
أما سلمان، قال: سلمان منَّا أهل البيت، نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، الإسلام ألغى كل الانتماءات إلا انتماءً واحداً هو انتماء الحق، فإذا انتميت إلى الحق فكل من ينتمي للحق أخوك في الدين، فالإسلام أداة جمعٍ لا أداة تفريق، كل من تعرَّف إلى الله عزَّ وجل، وعرف منهجه، وطبَّق منهجه، تشعر أنه أخوك وأقرب الناس إليك، لأن نقاط اللقاء بينك وبينه كثيرة؛ العقيدة المشتركة، والقيّم المشتركة، والأهداف المشتركة، والمبادئ المشتركة، والسلوك المشترك، والأهداف والوسائل كلها قواسم مشتركة توحِّد بين المؤمنين.
من الوكيل إذاً؟ الله جلَّ جلاله، أي أمرك بيده، هو الوكيل،
الله سبحانه وتعالى مَلَّكَ الإنسان نفسه تمليكاً مؤقتاً فعليه تزكيتها لا تدنيسها:
﴿
معنى يتوفَّى، توفَّيت الدين أي أخذته بعد أن منحته، تمنح حاجة ثم تتوفَّاها أي تسترجعها، إذاً من كلمة:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
أنت حامل أمانة، ما هي الأمانة؟ الأمانة نفسك التي بين جَنْبَيْكَ، هذه النفس إن زكَّيتها سعدت بها إلى أبد الآبدين، وإن دنَّستها شقيت بها إلى أبد الآبدين، هي الآن ملكك، وباختيارك، وتحت تصرُّفك، لكن الله جعل النوم استيفاءً لهذه النفس مؤقتاً، وجعل الموت استيفاءً لهذه النفس استيفاءً نهائياً، لذلك شعور الإنسان حينما يستيقظ، أنت كنت ميِّتاً بالتعبير القرآني، لكن الله سبحانه وتعالى ردَّ لك نفسك، لذلك ما من يومٍ ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، النبي عليه الصلاة والسلام من أدعيته النبوية الشريفة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ:
الإنسان إذا أوى إلى فراشه لينام عليه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى وهو نائم يستوفي نفسه أي يسترجعها، موتٌ مؤقَّت، النوم موت مؤقَّت، فإذا كتب الله على هذه النفس الموت، لا يردُّها إليك في صبيحة اليوم التالي، آلاف الحوادث، لم يستيقظ على صلاة الفجر، خير إن شاء الله، الساعة الثامنة لم يستيقظ، الساعة التاسعة أيقظوا والدكم وجدوه ميتاً، مات بالليل، معنى هذا الإنسان عندما ينام هذا نوم مؤقت، فإما أن يستمر هذا النوم أو الموت، فهو الموت الحقيقي، وإما أن تسترد النفس لتعيش يوماً جديداً، ما من يومٍ ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد.
الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه:
الإنسان العاقل عندما يستيقظ يقول:
الإنسان فوق الأربعين أغلب الظن الذي بقي أقل مما مضى، لأنه من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة.
إخواننا؛ عندما يعمل الإنسان نزهة، لو فرضنا ستة أيام، أول يوم والثاني والثالث والرابع التفكير إيجابي، لكن بالخامس والسادس التفكير سلبي؛ جمع الأغراض، تأمين العودة، القطع في السيارة، الأربعاء والخميس يهيئ للعودة، فإذا دخل الإنسان في الأربعين الأكمل أن يهيئ لملاقاة الله عزَّ وجل، كيف يلقى الله؟ أي ما رأيت إنساناً أشد خسارةً ممن تخطى الأربعين وهو مقيمٌ على معصية لله عزَّ وجل، هذا الذي يجلس في المقاهي يلعب النرد، وهو في الخمسين أو الستين، يا ربي ماذا أبقى لآخرته؟! كيف سيلقاك هذا الذي لا يصلي؟ هذا الذي يطلق بصره في الحرام؟ هذا الذي يكسب مالاً حراماً؟ هذا الذي يكذب؟ هذا الذي يحتال على الناس ليأكل أموالهم بالباطل وهو فوق الأربعين، ماذا بقي له؟ كيف سيلقى الله عزَّ وجل؟
بطولة الإنسان أن يتهيأ للساعة التي لابدّ منها:
إذاً:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.
الموت أكبر درس للإنسان:
كان من الممكن أن يأتي الناس إلى الدنيا دفعةً واحدة، وأن يغادروها دفعةً واحدة، عندئذٍ لا يتَّعظ بعضنا ببعض، لكن الموت أكبر درس بين أيدينا، ما الموت؟ هذا الذي جمعته في سبعين عاماً، هذا الذي حصَّلته في ستين عاماً، هذا البيت الذي اشتريته، وهذا الأثاث الذي اقتنيته، وهذه المزرعة التي اعتنيت بها، وتلك السيارة التي ركبتها، وهذه الزوجة والأولاد الذين تعيش معهم، تفقدهم جميعاً إذا توقَّف نبض القلب، كل هذه الآمال مبنيةٌ على حركة القلب، فإذا توقف القلب كنت إنساناً فأصبحت خبراً، أصبح نعوة على الجدران، لذلك:
فيا أيها الإخوة؛ ما رأيت إنساناً موفقاً وفالحاً وسعيداً إلا جعل هذه الساعة التي لابُدَّ منها، طالت أو قصرت نصب عينيه، ندخل إلى المسجد كثيراً لنصلي ولابُدَّ من أن ندخله مرةً واحدةً ليُصلى علينا، ندخل قائمين وسوف ندخل منبطحين، نخرج من بيتنا آلاف المرَّات إلا خروجاً واحداً لا عودة إليه، أهل الميِّت لا يقولون مساءً لمَ لم يعد فلان؟ دفنوه انتهى الأمر، ولن يعود، هذه الساعة التي لابُدَّ منها، فالله يقول:
الإنسان الآن مخيَّر أما حينما يتوفى الله النفس فلا يستطيع أن يفعل شيئاً:
لذلك:
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾
الإنسان الآن مخيَّر بإمكانه أن يصلي أو ألا يصلي، بإمكانه أن يطلب العلم أو ألا يطلب العلم، بإمكانه أن يستقيم أو ينحرف، يُخلص أو يخون، يُحسن أو يسيء، يصدق أو يكذب، مخير، أما حينما يتوفى الله النفس، خُتِمَ العمل، وانقضى الأجل، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً.
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾
القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران:
إذاً نحن في النوم يتوفى الله أنفسنا، موتٌ مؤقَّت، وعند الموت الحقيقي يتوفى الله النفس توفِّياً نهائياً، إذاً نقدم على الله عزَّ وجل بأعمالنا، "يا قييس إن لك قريناً يُدْفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك ألا وهو عملك" لهذا قيل:
أخ كريم دخل في مشروعٍ شعر أن هناك شبهة، فقال لي كلمةً لا أنساها، قال لي: أنا غنيّ عن هذا المشروع المشبوه إنني أخاف من الله ساعة أوضع في قبري. كل واحد لابُدَّ من أن ينزل في هذه الحفرة، فبطولتك وذكاؤك وتوفيقك أن تُعِدَّ لها، أن تجعلها مدَّ بصرك، أن تجعلها روضةً من رياض الجنة؛ لكن الذي يأكل مالاً حراماً، ويعتدي على أعراض الناس، ويكذب، ويحتال، ويخرج عن منهج الله عزَّ وجل، يجعلها حفرة من حفر النيران، وقد ورد:
الموت سيفٌ مُسلَطٌ فوق رقبة كل إنسان:
طبعاً الآية التي قبلها:
﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)﴾
هناك أشخاص يكتب شهادة لنفسه:
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾
هذا قبر المرحوم يكتب اسمه، فلان الفلاني الذي توفاه الله يوم نقطتان خط مائل خط مائل ثان، خط ثالث، ألف وتسعمئة، هذا التاريخ لابد من أن يكتب، ما دام الله عزَّ وجل أخفى عنا ساعة الموت يجب أن نكون في استعدادٍ دائم.
ما من ميتٍ إلا وفي ذهنه أنه سيعيش طويلاً، الموت يفاجئ، سرعة المغادرة، الإنسان إذا ركب مركبة يجوز أن يموت بحادث، يموت أحياناً بسكتة دماغية، أحياناً بسكتة قلبية، أحياناً بلا سبب، موت مفاجئ، فما دام الموت سيفٌ مُسْلَطٌ فوق رقابنا، ما البطولة؟ أن نستعد له، فالموت لا أحد ينكره، لا أحد من بني البشر بإمكانه أن ينكر الموت، ولكنهم يتفاوتون بين مستعدٍ له، وبين غير مستعدٍ له، الإنسان حينما يستعد للموت لا يفاجأ به، إذا هيأ أو كاتب وصيَّته، حرر دخله من الحرام، ضبط جوارحه كلها، ضبط عينه، ضبط أذنه، ضبط يده، ضبط لسانه، ضبط بيته، زوجته حجَّبها، بناته ربَّاهم، أولاده ربَّاهم، إذا فعل كل ما عليه الموت لا يفاجأ به، إذا جاء الموت مرحباً بلقاء الله، قالت له:
عظمة الإيمان أن الموت الذي يعده الناس أكبر مصيبة يراه المؤمن السعادة المطلقة:
أتمنى وأرجو الله عزَّ وجل ألا يكون نظركم للموت نظراً سوداوياً ولا تشاؤميَّاً، والله الذي لا إله إلا هو إذا آمنا حقّ الإيمان، واستقمنا على أمر الله، وعملنا صالحاً، والله يصيب المؤمن ساعة الموت من السعادة ما يرى الدنيا كلها حقيرة:
﴿ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)﴾
أضرب مثلاً: إذا انتقل شخص مساحته خمسون متراً تحت الأرض، رطوبة، وضجيج، والمجاري مكشوفة، والأولاد كُثُر، إلى بيت كبير بأرقى أحياء دمشق، أثناء نقل الحاجات هل يتألم أو يحس بضيق؟ بالعكس المؤمن حينما يأتيه أجله هذا عُرْسُهُ، العجيب اقرؤوا تاريخ الصحابة أيها الإخوة ما من صحابي أدركه الموت إلا وهو في أعلى درجات سعادته.
يا أيها الإخوة؛ عظمة الإيمان أن الموت الذي يعده الناس أكبر مصيبة يقول لك: مسكين مات.
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
رجل مات بحادث لكنه إنسان مؤمن له دعوة إلى الله رآه تلميذه في المنام، قال له: يا بُنيّ:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
يجب ألا نأخذ الموت بشكل مخيف، ولا بشكل سوداوي، فلان يقول لك: حزني، خذ الموت وكأنه ساعة اللقاء مع الله، من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، رجل صالح وهو على فراش الموت، وحوله أولاده، فقال لابنه: بني حضر عمك فقم وسلم عليه، أين عمي لا يوجد أحد، الله عزَّ وجل أرسل له مَلَكَ الموت في صورة أحب الناس إليه، من تحب أنت؟ كذا أنت يأتيك ملك الموت في صورة أحب الناس إليك، أحياناً يرى الميت في الرؤيا - والرؤيا حق - يطمئن أهله، أنا في سعادة، أنا في خير، أنا في بحبوحة، ألا نقرأ دعاء الميت:
الله عزَّ وجل رحيم يعطي الإنسان إنذاراً مبكراً أن اللقاء قد اقترب فاستعد:
المؤمن حينما يموت ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، شخص يكون ببطن أمه في مكان سعته تقدر بسبعمئة وخمسين سنتيمتراً مكعَّباً، محصور حصراً، يخرج، يكبر، يقول لك: كنت بكندا، ذهبت إلى أمريكا، ذهبت إلى اليابان، يركب طائرات، يركب بواخر، ينتقل من قارة إلى قارة، حجم الأرض على حجم الرحم مسافات كبيرة جداً، الخمس قارات تساوي خمس الأرض وأربعة أخماس الأرض بحراً، وقارة أسيا وأمريكا وأوقيانوسيا وإفريقيا، هذه قارات، كل حجم الرحم عبارة عن سبعمئة وخمسين سنتيمتراً مكعَّباً، فالمؤمن حينما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الطفل من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا. الحقيقة عندما تكون آخر محطة بالحياة للإنسان هي الموت وهي محببة له، والله هذه سعادة كبرى، الشيء الذي يخافه الناس، ترتعد مفاصلهم، اسأل طبيباً له علاقة مع أمراض وبيلة، انظر إلى إنسان لا إيمان له أصابه مرض عُضال تجده انتهى، يسقط على الأرض، شيء مخيف لأنه لقي الله بلا عمل صالح؟! قال له: "يا بشر لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً؟"، والله إذا شعر الإنسان أنه اقتربت نهايته لمرض أصابه، مرض متعلق بالأعضاء الحساسة، ليس جلدياً، هذا القلب الداخلي، إذا شعر أن هناك خللاً بالأعضاء الحساسة، تغير لونه رأساً، لم يعد يتكلم، لمَ لا تتكلم؟ يريد أن يلقى الله بلا عمل، بالعكس يلقاه بالمعاصي، بالآثام، بيت اغتصبه، محل اغتصبه، لعب بالإرث، لعب بالوصية، باع بضاعة محرمة، يغش الناس، مرة قلت لكم: رجل يركب سيارته وبجانبه زوجته، أصابته أزمة، فانكفأ على مقود السيارة، لحكمةٍ أرادها الله كان إلى جانبه صديقه، قاد السيارة إلى المستشفى، دخل العناية المشددة، ثم انتعش قليلاً، فحينما صحا من نوبته طلب مسجلة، سجل حقوق الآخرين التي اغتصبها، بعد عدة أيام شفي فقال: أين الشريط؟ أحضروه له فكسره، عاش ثمانية أشهر ثم جاءته أزمةٌ قاضية، هذه إنذار مبكر.
إخواننا الكرام؛ ربنا عزَّ وجل رحيم، أحياناً يعطينا إنذاراً مبكراً، المصائب أحياناً إنذار مبكر، انتبه يا عبدي، لابُدَّ من اللقاء، حتى إن بعض العلماء قالوا: هذا الشيب، ضعف البصر يضع نظارات، يركب بدلة، تجده صار معه آلام المفاصل، ومعه عدة أشكال، بالحمية، بالدم يقول لك: أسيد أوريك، هذه كلها إشارات لطيفة من الله أن يا عبدي قرب اللقاء هل أنت مستعد؟ هذه الأمراض أمراض الشيخوخة عبارة عن أجهزة إنذار مبكِّر، تقول للإنسان: قرب اللقاء هل أنت مستعد؟
الدنيا دار تكريم وعمل أما الآخرة فدار تشريف وجزاء:
المؤمن الحق لا يخاف من الموت، لا يتمنى الموت لكن إذا جاء لا يخافه، لماذا لا يتمنَّاه؟ لأنه كلما ازداد عمره ازداد عمله الصالح، لقول النبي الكريم: عن أبي هريرة:
(( خيركم من طال عمره وحسن عمله. ))
لا يتمنَّى الموت، أما إذا جاء فيلقاه بشجاعةٍ فائقة، وهو ينتظره لأنه موعد اللقاء مع الله عزَّ وجل، فكل هذا العمر لهذه الساعة، لم أجد مثلاً أوضح من طالب درس في بلد أجنبي، فقير جداً، اشتغل بمطاعم، غسل صحوناً، اشتغل حارساً حتى استطاع أن ينال شهادة الدكتوراه، موعود بأعلى منصب ببلده، بأجمل زوجة، بأحسن بيت، بعد أن أخذ الدكتوراه، وأخذ الوثيقة وصدّقها، وجهز نفسه، واشترى بطاقة الطائرة، وسُمح له بالركوب، وضع قدمه في درج الطائرة، ألا يرقص قلبه فرحاً؟ انتهى عهد التعب، انتهى عهد الدراسة، عهد العمل الشَّاق، مغمور لأنه سيعود إلى وطنه يحمل أعلى شهادة، ينتظره منصب رفيع، هذا من باب التقريب، فالانتقال من حياة متعبة إلى الجنة، إلى الإكرام، الدنيا دار تكليف أما الآخرة فدار تشريف، الدنيا دار عمل، الآخرة دار جزاء، فالموت شيء مُحَبَّب، لكن البطولة أن تستقيم على أمر الله، أن تضبط دخلك، تضبط سمعك، بصرك، لسانك، زوجتك، بناتك، أولادك، أن تستقيم على منهج الله، وتأكد أنك لا تخاف الموت، هذا الذي يخافه الناس يصبح عندك مُحَبَّباً مقبولاً، تشتاق إليه. واكربتاه يا أبت، قال:
سيدنا سعد بن الربيع تفقَّده النبي عقب معركة أحد فلم يجده، كَلَّف صحابته أن يبحثوا عنه، انطلقوا إلى ساحة المعركة، رأوه بين القتلى لكن في النزع الأخير، قال له أحدهم: يا سعد لقد كَلَّفَنِي رسول الله أن أتفقَّدك، فأنت مع الأموات أم مع الأحياء؟، قال: أنا مع الأموات، ولكن أبلِغ رسول الله مني السلام - وهو في النزع الأخير - قل له:
الموت عند المؤمن محبب أما عند الكافر فترتعد منه فرائصه:
اقرؤوا تاريخ الصحابة، اقرؤوا عن كل صحابي ساعة وفاته كان في جنة، في عرس، تحفة المؤمن الموت، نحن مؤمنون والحمد لله، الموت عندنا مُحَبَّب، أما العصاة، التائهون، الشاردون، المقصرون الذين يرتكبون المعاصي ليلاً نهاراً، والله الموت عندهم يجعلهم ينسحقون سحقاً، ترتعد منه فرائصهم، لذلك هذه الآية من أدق الآيات أيها الإخوة، كل يوم عندنا موت مؤقت، لما تستلقي انظر إلى الدعاء:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين