- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (032)سورة السجدة
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الثالث من سورة السجدة، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿
معنى تدبير الله لشؤون الخلق:
التدبير بمعنى أن يُهيّئ تصرُّفاً إثر تصرف، عملاً إثر عمل، فعلاً إثر فعل، تدبَّر الشيء أي تتبع الشيء إلى نهايته، وهيَّأ له في كل موطنٍ تصرُّفاً، وفي كل مرحلةٍ سلوكاً، وفي كل درجةٍ علاجاً، فالتدبير تقريباً يُشابه التربية، فالله المربي أي المدبر.
لا مدبِّر إلا الله:
أي أن الله عزَّ وجل في السماء إلهٌ، وفي الأرض إلهٌ، والسماء رمز العلو، والأرض موطن الإنسان، فأمر الإنسان إلى الله عزَّ وجل، فهذه الفكرة التي أتحدث عنها كثيراً لماذا أُكرِرُها؟ لأنها أصل الدين، فما دام الإنسان يرى أن في الأرض مدبراً غير الله، مربياً غير الله، فاعلاً غير الله، رافعاً غير الله، خافضاً غير الله، مُعزاً غير الله، مُذلاً غير الله، مُعطياً غير الله، مانعاً غير الله، إذا رأيت أن في الحياة من سوى الله ينفعك أو يضرُّك فهذا هو الشرك، ولن تكون مؤمناً كما أراد الله عزَّ وجل إلا إذا اعتقدت أنه لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله كلمة التوحيد، ولا إله إلا الله لا تكون كلمةً تقولها في ساعةٍ، وينتهي الأمر، إن قول لا إله إلا الله بمعناه الدقيق مُحَصِّلَةُ إيمانك كله، فتفكرك من عشر سنين، وحضورك مجالس العلم من عشر سنين، ومحاكمتك، وتدبُّر آيات القرآن الكريم، وتأمُّلك في خلق السماوات والأرض، ونظرك إلى الحوادث، وما ينطوي تحتها من حكمةٍ بالغة ومن موعظةٍ كبيرة، إن النظر إلى الحوادث، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وتدبر آيات القرآن الكريم، والتأمل الذاتي والتلقِّي عن الآخرين، إن كل هذا النشاط على تنوّعه، وعلى امتداده، إن هذا النشاط في محصلة المحصلة ينقلك إلى الإيمان بأنه لا إله إلا الله، فإذا اعتقدت أنه لا إله إلا الله سِرْتَ في طريقٍ ذات اتجاهٍ واحدة، سِرْتَ في ممرٍ إجباري، لأن الإنسان المؤمن:
﴿
أنت متى تختار؟ إذا كان عندك خيارات كثيرة، أما إذا رأيت أن الأمر كلَّه بيد الله، وأن الله وحده هو الحقيقة العُظْمى، الإنسان ماذا يحب؟ دقق.. بمن يتعلَّق قلبك؟ الإنسان فُطِرَ على حب العظيم، وحب المحسن، وحب الجميل، متى يتحرَّك القلب؟ القلب ينبض بمشاعر الحب متى؟ إذا لاقى عظيماً، أو لاقى جميلاً، أو لاقى محسناً، لا عظيم إلا الله، ولا محسن إلا الله، والله سبحانه وتعالى أصل جمال الكون، فإذا عَكَفْتَ على معرفة الله، واقتربت منه زَهِدْتَ فيما سواه، وما تعلق الإنسان بما سوى الله عزَّ وجل إلا دليل ضعف إيمانه بالله، لو قوي إيمانك بالله وَحَّدت الوجهة إلى الله، إذاً ربنا عزَّ وجل يقول لك:
فلسفة العوام:
الحقيقة أيها الإخوة، الإنسان في الأصل فيلسوف، حتى العوام لهم فلسفة، فالتقِ مع رجل عامي يعطك فلسفته بالحياة، يقول لك: "غُب على قدر ما تقدر"، هذه فلسفة، يأتي إنسان آخر يقول لك: "لا تؤذِ فلن تؤذى"، هذه فلسفة، لن تجد إنساناً إلا وله فلسفة معينة، لا يوجد إنسان ينطلق في حركته اليومية إلا وفق تصور، فمن هو البطل؟ هو الذي يكون تصوُّره صحيحاً، قلت لكم كثيراً: ما هو الجهل؟ قد يظن الإنسان الجهل عدم المعرفة، لا، يا ليت ذلك، يا ليت الجهل ألّا تعرف، لا، إن الجهل أن تملك معلومات كلها مغلوطة، تصورات خاطئة، علاقات غير صحيحة، مقدمات لا تُفْضي للنتائج، فالإنسان الجاهل قد يكون متعلماً، قد يكون يحمل أعلى شهادة، لكنه قد يكون ممتلئاً علاقات غير صحيحة، مفاهيم مغلوطة، تصورات كلها خاطئة.
الشيء الذي أعيده كثيراً: لاحظ نفسك؛ بجوارحك وأعضائك تهتم بها اهتماماً بالغاً، لو أصاب العين ـ لا سمح الله ـ غلطاً بسيطاً، ضعفاً في الرؤية، تشوشاً في الرؤية، ذبابة طارت أمام عينيك، هذا أحد أمراض العين، لو شعرت بأن خللاً في العين تبادر إلى الطبيب، تدفع أي مبلغ، تنتظر أي زمن، لماذا؟ كذلك يجب أن يهُمُّك أمر دينك، هذا كلام خطير.
(( يا ابنَ عمرَ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ و دمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، و لا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا.))
احرص على دينك، الزم دينك، تقصَّ أمر دينك،
الفساد حركة على غير منهج الله:
ما هو الفساد؟ هو الحركة من غير منهج الله.. انظر إلى الكون، كلُّه يعمل وفق نظامٍ دقيق، انظر إلى الكائنات غير المختارة تعمل بانتظام، انظر إلى النحل، إلى النمل، إلى أية مجموعة من المخلوقات، إن لم تكن مختارة تعمل بأمر الله وَفْقَ أكمل صورة، لأن الله عزَّ وجل كماله مطلق، والأمر كله بيده، لكن الإنسان حينما يتحرَّك بدافعٍ من شهواته من دون هدىً من الله عزَّ وجل يقع الفساد، وإفساد الشيء إخراجه عن صلاحه، الماء صالح للشرب، يكون إفساد الماء إذا لوَّثته، إذا أخرجته عن صلاحه، إفساد الشاب إذا أخرجته عن دينه، إفساد الفتاة إذا أخرجتها عن عفَّتها، إفساد المواد إذا أخرجتها عن مقوِّماتها، فالإنسان حينما يتحرَّك بدافعٍ من شهوته، بلا منهج لا بدَّ من أن يكون فاسداً مفسداً.
فالأمر ليس سماع مجلس علم، سماع تفسير آية، الأمر يتعلق بمصير كلٍ منا، لاحظ ما من مشكلةٍ تعاني منها إلا بسبب خطأ في السلوك الناتج عن خطأ في التصوّر، خطأ في العلم، خطأ في السلوك، مشكلة، لما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾
فهذه الآية إذا تغاضينا مبدئياً عن خصوصية السبب الذي نزلت من أجله، وهي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا أخذنا عموم اللفظ؛ الله عزَّ وجل يقول لك: اقرأ، والقراءة رمز التعلم، أي تعلم لأنك إنسان، أودع الله في الإنسان قوةً إدراكية، أودع الله في الإنسان فكراً، أودع الله في الإنسان عقلاً، أودع الله في الإنسان معرفةً، قال له: اقرأ، فإذا لم تقرأ ما الذي يحصل؟ لا أريد أن أقرأ، أي إذا الإنسان قال: لا أريد هذا الدين، إذا أدار ظهره للقرآن، إذا نسي المبتدى والمنتهى، إذا قال: هذا الدين باطل، لا مانع، بادئ ذي بدء أن تقول هذا الكلام.
ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟؟؟
لكن انظر ماذا ينتظرك؟ ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال:
(( بادِروا بالأعمالِ سبعًا هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا أو غنىً مُطغيًا أو مرضًا مُفسدًا أو هرمًا مُفندًا أو موتًا مُجهزًا أو الدجالَ فشرُّ غائبٍ ينتظرُ أو الساعةُ فالساعةُ أدهى وأمرُّ. ))
تصور إنساناً ما، يا ترى هل سيبقى كل يوم يستيقظ كاليوم السابق، وإلى ما شاء الله؟ لا يمكن، سنة سنتين، خمساً، عشراً، وفي أحد الأيام يستيقظ على خلل في جسمه، هذا الخلل قد يكون بداية النهاية، إذاً هناك نهاية، هل هناك إنسان امتد به العمر إلى ما شاء الله؟ قد يُعَمِّر، ولكن لا بدَّ من الموت، إذاً قال النبي منبهاً:
الدنيا، النجاح في التجارة، كسب الأموال الطائلة، تغيير نمط الحياة، الانغماس في الملذَّات، في الترف، في النعيم، هذا الذي يظنه الناس نعمةً هو من الله ابتلاء.
فالنبي الكريم قال:
انظر إلى الكون وتحركْ نحو الحقيقة:
الإنسان له فلسفة، أو له تصوّر، فالبطولة أن تبحث عن فلسفةٍ صحيحة تنطبق مع هذا الكتاب، ما حقيقة الكون؟ الكون مسخَّر لك، ما هذا الكلام؟ نعم، الكون بمجرَّاته، بمذنباته، بكازاراته، بكواكبه، بالمجموعة الشمسية، بدرب التبَّانة، هذه النجوم العملاقة، فإذا كان أقرب نجم ملتهب يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، فإنك تحتاج لتصل إليه بمركبةٍ أرضيةٍ إلى خمسين مليون عاماً، هذا كلام، الذي عنده آلة حاسبة فليجرِّب، أنا أقول لك هذا الكلام: أربع سنوات ضوئية، أي ما يقطعه الضوء في أربع سنوات تحتاج أنت لتصل إليه بمركبتك الأرضية إلى خمسين مليون عاماً. ونجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية، وهناك مجرة مليون عاماً، كما أن هناك مجرة ستة عشر ألف مليون، هذا الكون كله مسخرٌ لك، ما هذا الكلام؟ كلام خالق الكون.
﴿
لماذا سخَّره؟ لشيئين؛ تعريفاً وتكريماً، ماذا ينبغي أن تعمل؟ أن تؤمن، وماذا ينبغي أن تعمل؟ أن تشكر، لذلك ما دُمت في طريق الإيمان والشُكر فأنت في بحبوحة، قال تعالى:
﴿
ما دمت في طريق الإيمان والشكر فأنت في بحبوحة، فإذا اختل الإيمان أو ضعف الشُكر جاء العلاج، يا الله هذه آية واضحة جداً، لاحظ نفسك حينما يضعف إيمانك تنصرف عن الله عزَّ وجل، والإيمان ليس اعترافاً فقط، قد يظن بعضهم أن الإيمان تصديق، الإيمان تصديق وإقبال، لو كان تصديقاً فقط، ماذا فعلت أنت؟ فأنا في رابعة النهار، والشمس ساطعة أقول: أنا فكَّرت، تأمَّلت، درست، قررت، وقلت: إن الشمس ساطعة، نقول له: خير إن شاء الله، ماذا فعلت؟ وإذا قلت: إن الشمس ساطعة، ماذا قدمت؟ ماذا أضفت؟ الإيمان بالشيء لا قيمة له إلا إذا تحرَّكت نحوه، انظر:
﴿
هذه المشكلة، المشكلة هناك أناسٌ كثيرون يُقِرّون بوجود الله وباليوم الآخر، وما داموا لا يتحركون باتجاه طريق الحق فهم ليسوا جديرين أن يُسمَّوا مؤمنين: "يا عبدي ماذا فعلت من أجلي؟ هل واليت فيَّ ولياً؟ هل عاديت في عدواً؟".
فموضوع الإيمان موضوع نادر جداً؟ ما قولك بأن أطغى طغاة الأرض فرعون قد قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24)﴾
ولا يوجد إنسان الآن يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قال فرعون، لكن فرعون قال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
لا يوجد إله غيري، هكذا قال فرعون، فرعون الذي ذبَّح أبناء بني إسرائيل، واستحيا نساءهم، حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ
متى ينبغي أن تؤمن ؟
فإذا آمنت فهل أنت فرِح بذلك؟ الإيمان حاصل، المشكلة هي مشكلة وقت فقط، المشكلة لا أن تؤمن أو لا تؤمن، يا ليت، المشكلة متى يجب أن تؤمن، أجل متى يجب أن تؤمن؟ الإيمان سيحصل.
﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا
المشكلة متى ينبغي أن أؤمن؟ إذا قلت: أنا أؤمن، وفرعون آمن عند الغرق، وما من مخلوقٍ اقترب منه الموت إلا وهو يؤمن، بل الأغرب من ذلك أنني اطلعت على كتاب، الحقيقة الذي ألَّفه بذل جهداً كبيراً في تأليفه، في جميع أنحاء العالم هناك حالات وفاة مؤقتة، القلب يتوقف سبع دقائق، يوجد حالات سبع دقائق، أربع دقائق، ثم صحا من غيبوبة، هذا الإنسان الذي واجه الموت، ثمَّ نجا منه، انتابته مشاعر، هذه المشاعر سجَّلها، جاء مؤلِّف، واستقصى كل هذه المشاعر المكتوبة في المستشفيات، وجَمَّعها في كتاب، لو قرأت هذا الكتاب لصدقت أن هذا القرآن حق، أيْ أن أيّ إنسان من أية ملةٍ، من أي مذهب، من أي دين، حتى المُلْحِد حينما يواجه الموت يؤمن كما آمن فرعون، ويستعرض كل سنواته السابقة، ويفحص عمله الصالح والطالح، المشكلة أن الإيمان سيحْصل، لكن الذي يعنينا أن نؤمن في الوقت المناسب، أن نؤمن ونحن أصحَّاء، ونحن أشحاء، نرجو الغنى، ونخشى الفقر، أن نؤمن ونحن أقوياء، ونحن شباب، ونحن في ميعة الصبا، ونحن في طور الرجولة، كي نستثمر الإيمان.
مِن لوازم الإيمان:
الذي يقول لك: الإيمان تصديق فقط، يجب أن تقف عنده وقفة متأنية، الإيمان تصديق وعمل، والكفر تكذيب وإعراض، من لوازم الإيمان الإقبال على الله عزَّ وجل، والاتجاه نحوه، ومن لوازم الإيمان أن تتحرَّك نحو الله.
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)﴾
لماذا جعل الله عزَّ وجل طبيعة الإنسان تختلف عن التكليف ؟
هنا يعترضنا سؤال: لماذا جعل الله عزَّ وجل طبيعة الإنسان تختلف عن التكليف؟ هذا الجسم يحتاج إلى النوم، والأمر الإلهي أن تصلي الصبح حاضراً، الأمر بصلاة الفجر يتناقض مع طبيعة الجسم، الجسم يميل إلى الراحة، الأمر بغض البصر يتناقض مع طبيعة النفس، النفس تميل إلى النظر، الأمر بإنفاق المال يتناقض مع طبيعة النفس، النفس تميل إلى الأخذ، إذاً: لماذا كان الأمر والنهي مخالفاً لطبيعة النفس؟
فإذاً: الإيمان ليس أن تؤمن بالله فقط، وأن تتحرك وفق شهواتك، يجب أن تؤمن، وأن تُوقِع حركتك اليومية وفق منهج ربك.
الخطأ في التصور يتبعه خطا في السلوك:
فلذلك يا أيها الإخوة، الأمر أنا أقول خطير، وأعني ما أقول، لأن أي خطأ في تصورك يتبعه خطأٌ في سلوكك، وأي خطأٍ في سلوكك يتبعه مشكلةٌ فشقاء، فلما ربنا قال:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾
قال:
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(7)﴾
إذًا: الإنسان إذا لم يقرأ، ولم يعلم، ولم يتفكر، ولم يتأمَّل، ولم يطلب العلم، وإن لم يتدبَّر، ويتفكر في الكون، وإن لم يدبر القرآن، ولم ينظر في الحوادث، فسيبقي جاهلاً، يبقي على هامش الحياة، وماذا سيحصل له من بعد؟ سيطغى.
عودة إلى تدبير الله في الكون:
تربية الله لعباده كاملة:
أي أمر العباد، أمر المخلوقات، رزقهم، إيمانهم، طِباعهم، أمراضهم، نفوسُهم، تربية كاملة، أنا أقول: تربية جسمية وعقلية ونفسية واجتماعية.
التربية الجسمية:
يربِّيك جسمياً؛ الخلايا تنمو، والشرايين تتسع، والكُتلة تزداد وزناً وحجماً، والغذاء متوافر، والغدد، والأجهزة، والأعضاء، كلُّها تعمل بانتظام بيد الله عزَّ وجل، لو اختل النمو لكان المرض الخبيث، ما المرض الخبيث؟ اختلالٌ في نموِّ الخلايا، فالله يدبر لك جسمك، وينمي لك عقلك، يريك من آياته، تقرأ آية من القرآن تتعامل مع الناس، ثم ترى في تعاملك مع الناس ما يؤكِّد هذه الآية، لا إله إلا الله، يقول لك:
﴿
يريك في المجتمع كيف أن المرابي محقه الله عزَّ وجل، يقول لك:
﴿
خلقها خصيصى لكم، هذا تدبير الجسم.
التربية العقلية:
يدبِّر العقل؛ يريك من آياته، ينمو عقلك بآيات، أحياناً تظن أن السبب هو خالق النتيجة، لكن لا يلبث سبحانه أن يخرق لك هذه العادة، ويظهر خرقاً للعادات، من أجل أن تعلم أن الله هو الخالق، وليست الأسباب.
التربية النفسية:
إذاً نما عقلك، وأصاب النفس الكبر، فأرسل لها من يهينها فتابت إلى الله، ربي لك نفسك، فربنا عزَّ وجل يربي لك جسمك، يربي عقلك، يربي نفسك، أنت منعزل عن الناس، الناس أحياناً يتكلمون بحقك، لكنك تعود إلى صف المجتمع بعلاقةٍ طيبةٍ طاهرة.
رد فعل العباد تجاه نِعم الله:
﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(5)﴾
ما يفعله الله في يوم لا يفعله العباد في ألف سنة:
فلو فرضنا سكان الصين الذين يعدّون ملياراً ومئتي ألفاً، لو كانوا جميعاً موظفين، وأنت محاسب، لا يوجد غيرك، فكم تستغرق لإعطائهم رواتبهم؟ لو أن كل واحد يحتاج خمس دقائق تقول له: الاسم الكريم، وتفتح الدفتر تبحث عن اسمه، تسلمه الراتب، وتقول له: وقّع، يحتاج خمس دقائق، فمليار ومئتا ألف كيف يتم دفع رواتبهم؟ ولو فرضنا إنساناً على سبيل المثال والتقريب تمكَّن أن يقَبِّض كل هؤلاء المليار والمئتي ألف، فهذا شيء عظيم جداً، فربنا عزّ وجل من باب التقريب قد لا تكون (ألف) بمعناها الكَمّي، بل بمعناها التكثيري، ربنا عزّ وجل ما يفعله من تدبير شأن العباد في يومٍ واحد لا يستطيع البشر مجتمعين أن يفعلوه في ألف عام، وهذا تقريب، ولله المثل الأعلى، تقريب؛ ما يفعله الله من تدبير أمر السماوات والأرض.
فإذا كنت مديراً عاماً وجاءك هاتف، وعليك أن ترد على المكالمة، وعندك مراجع فتقول له: لحظة لكي أتكلم، رفعت السماعة، فبدأ يتكلم فجاءك هاتف ثان.. لحظة، أنت كبشر لا يوجد عندك إمكان أن تعالج قضيتين في آنٍ واحد، لا تقدر، في الوقت الواحد تنصرف إلى شيء واحد فقط، لكن لو فرضنا عندك ألف موظف، وأنت مدير معمل، هل بإمكانك بآن واحد أن تتفحص أحوالهم، أوضاعهم المعيشية، أوضاعهم في بيوتهم، ما يعانونه من ضائقة، أن تعالج المريض، وأن توقِف المتجاوز عند حدِّه، وأن تأمر هذا، وأن تنهى هذا؟ هذا شيء فوق طاقة البشر، إلا بالتسلسل، وإلا بالأمر العام، وبالأمر الكتابي، ويساعدك معاون، ومعاون المعاون، ونائب، ومدير شؤون قانونية، وشؤون ذاتية، وشؤون علاقات عامة، حتى تتمكَّن من أن تتحرك حركة إيجابية، وفي الساعة التالية تقول: رأسي صار مثل الطبل.
فربنا عزّ وجل يقرِّب لك المعنى، أنه ما يفعله الله في يومٍ واحد لا يستطيع البشر مجتمعين أن يفعلوه في ألف عام، أي أن خمسة آلاف مليون إنسان في ألف عام لا يستطيعون أن يدبروا ما يفعله الله في يومٍ واحد، لذلك هذه الآية تبيِّن عظمة الله عزّ وجل وكيف أن أمره كن فيكون، زُل فيزول.
من معاني التدبير: مراقبة الله لجميع البشر في وقت واحد:
الإنسان يلاحظ نفسه، فهو أحياناً يخطر في باله خاطر يتحاسب عليه، وهذه تحدث مع المؤمنين، فقد يفكِّر في شيء غير صحيح، أو لا يليق بالمؤمن، يكون ماشياً في الطريق، وهو لا يدري فصُدم بعامود، لأنه كان منتبهاً لجهةٍ ثانية، تأتي الضربة على جبينه لتوقظه أنَّك في خواطر لا ترضي الله، ماذا يفكر الإنسان؟ أتظن أنك لوحدك في الكون، ولا أحد غيرك؟ لا، فإنَّ الله معك، كل واحد منا يشعر أن الله معه، مطَّلعٌ على خواطره، على نواياه، أحياناً الإنسان ينوي نية طيبة فيجد العمل الطيب مقابلها.
مثلاً: زار أحد الناس مزرعة، فاستغرب إذ رأى نهراً، وعلى كل ضفةٍ منه أرض، وكل أرض لها صاحب، وكِلا الأرضين زُرِعتا قمحاً، القمح الأول نامٍ نماءً شديداً جداً، والقمح الثاني ضعيف، رجل له معرفة بالله، سأل صاحب هذه الأرض: ما قِصتك؟! قال: والله أنا لي أخ فقير نويت أن أعطيه نصف المحصول، فقط خاطر داخلي، فإذا بهذا الزرع ينمو، الأرض الثانية رأى فيها العامل، قال: والله إن صاحب الأرض بخيلٌ جداً، وفي نيتي أن آخذ من الغَلة شيئاً لي من دون أن يدري، فإذا شعر الإنسان أن الله عزّ وجل يحاسبه على الخاطر، فالله مع على كل إنسان، وكل مخلوق، إذاً:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ
ربنا يا ترى مع زيد وعبيد وفلان؟ مع أهل الشام وأهل مصر، وأهل الحجاز وأهل العراق، وأهل إفريقيا، هذه كلها شعوب، الله مع الشعوب، مع الأمم، مع البشر، مع المؤمنين، مع الدعاة، مع روَّاد المساجد، مع روَّاد المقاهي، مع المنحرفين، مع العصاة، مع الأتقياء، مع الأنقياء، مع كل مخلوق، حتى مع البهائم، مع المخلوقات كلها، هذا التدبير، أنت لا تقدر إذا كنت مدير مدرسة، وعندك ستة وثلاثون مدرساً تجد نفسك مضطرباً مشتتاً، فتقول: يا أخي، لا أقدر أن أتحمل، صعب أن أدير مدرسة كاملة، وتعلن أنك تحتاج إلى معاونين، وتحتاج إلى موجِّهين، وإلى هاتفٍ، وتحتاج إلى أجهزة، وتحتاج إلى من يوصل أمرك إلى الطُلاَّب، وأحياناً تجد الطلاب غير منضبطين. أما خالق الكون فمع كل مخلوق، مطلع يحاسبه على خواطره، وعلى أعماله، يثيبه على طاعته، يسوق له الشدائد على معاصيه، وهكذا، فمعنى تدبير الأمر: أي أن الله مع كل مخلوق.
لذلك أنا أقول لإخواني المؤمنين: حينما تبدأ تشعر أن الله فعل كذا من أجل كذا، وأصابني بما أصابني من أجل كذا، وأكرمني لأجل كذا، حينما تسمع نداء الحق يُلْقى في أذنك أن هذا العقاب من أجل هذه الكلمة التي قُلتها.
فلو أن أحداً عنده في البراد ما لذَّ وطاب، وقال له آخر: أريد منك حاجةً مما عنده في هذا البراد، فقال له: لا شيء عندي يا أخي، ثم ترك البيت شهراً، ورجع، فإذا بماس كهربائي فانقطعت الكهرباء، وأصبحت كل هذه المؤونة فاسدة، فيجب أن تعلم أن هناك سراً إلهياً، أنت منعت هذا الإنسان شيئاً مما عندك وقلت له: هذا ليس عندي، فَحُرِمْتَ ما في هذه الثلاجة كلها، هذا تدبير إلهي.
امرأة من أحياء دمشق القديمة كان عندها شجرة ليمون تحمل أربعمئة ليمونة في السنة، ما من إنسان يطرق الباب إلا وتعطي له ليمونة من أهل الحي، توفيت هذه المرأة، وبقي في البيت صبية، وهي زوجة ابنها، فأول ما طرق الباب قالت: لا يوجد ليمون، وفي السنة الثانية يبست الشجرة.
هناك تدبير، تعطي الله يعطيك، وإن تمنع الله يمنع عنك، فليست القضية معك فقط، بل مع كل مخلوق.
النقطة اليوم: أن هناك شمولاً، كل إنسان وحده يفهم أن الله معه ويحاسبه، لكن يجب أن تتصور أن الله مع المخلوقات كلها، مع ألف ومئتي مليون مسلماً، مع خمسة آلاف مليون إنساناً، فإذا كان الطيور في العالم وعددها فرضاً مئة مليار طائراً، إذا كان هناك خمسة آلاف مليوناً كل إنسان له عشرون طائراً، كم سمكة موجودة؟ مليون نوع من السمك في البحر، واللهُ مع كل سمكة، والمعتدية يحاسبها، وكذلك كم طائراً؟ كم حيواناً؟ كم نملة؟
﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ
وجدوا في قمة جبل نبع ماء في الهند، هذا شيء غريب جداً، هذه الظاهرة لا يمكن أن تُفَسَّر إلا بوجود جبل أعلى، ومستودع هذا النبع في الجبل الأعلى، مستحيل، إن هذا الجبل العالي جداً وجد في قمته العالية نبع ماء، إذاً: هناك تمديدات إلى جبلٍ بعيدٍ أعلى، ولكن لمن؟ قال: لبعض الوعول التي تعيش في قِمَمِ الجبال.
موقف العباد من ابتلاءات الله:
﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6)﴾
هذا هو الله، فإذا أنت أمضيت حياتك، أفنيت شبابك، أبليت عُمُرك في معرفة الله، ليس هذا كثيراً، بل هو قليل، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، لكن يا خسارة إنسان أفنى شبابه لإنسان آخر، أفنى عمره لمخلوقٍ مثله، يأتي يوم القيامة، وقد شعر بالخسارة الكبرى، ذلك الذي:
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ(7)﴾
انظر إلى مخلوقات الله: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت؟ كيف التفاوت؟ في الخلق إحكام ما بعده إحكام، دقق في الجَمل، دقق في الحيتان، في الفيل، في النملة، في البعوضة لها ثلاثة قلوب؛ قلبٌ مركزي، ولكلِّ جناحٍ قلب، أجنحتها تَرِف رَفاً دقيقاً جداً في الثانية، أعداد كبيرة جداً، لها محاجم، لها مخالب، لها جهاز رادار، جهاز تحليل دم، جهاز تمييع دم، جهاز تخدير، وطنين، هذه هي البعوضة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
بالمناسبة الشكل البيضوي هو أقسى، وأمتن شكل هندسي، أي شكل منحنٍ، فإن القوة موزعة على كل السطح بالتساوي، لكن الشكل البيضوي ضعيفٌ جداً من الداخل، متماسكٌ جداً من الخارج، لذلك الشكل البيضوي مهما تلقى ضربات من الخارج فإنه يتحمل، بينما من الداخل لا يتحمل، الصوص من الداخل، يكفي أن يدفع قشر البيضة بهذا الرأس المدبب الصغير الذي نما على منقاره حتى يخرج إلى الهواء، فإذا خرج إلى الهواء تلاشى هذا الرأس المدبب، إن الله أعطاه مفتاحاً لهذه العلبة، مفتاحاً مؤقتاً، يدفع القشرة نحو الأعلى، فتنكسر البيضة، ويخرج منها، بعد أن يخرج منها فإن هذا النتوء يذوب شيئاً فشيئاً ليعود منقاراً عادياً، يد من هذه؟ هذا القلب لدى الجنين، الجنين لا يقوم بعملية تنفس، ولا استنشاق، ولا رئتان تعملان، ولا دورة صغرى، ربنا فتح لدى الجنين ثقباً بين البطينين، فحينما يولد الطفل .هكذا قال لنا طبيب. تأتي جلطة تُغْلِق هذا الثقب، فيتحول الدم من أذين إلى أُذين سابقاً، ويتحول من أُذين إلى رئة إلى بطين، من قَلب الدورة؟ من سد هذا الثقب في الوقت المناسب؟
الملخَّص المفيد: معرفة الله نصف الطريق على الحق:
فملخَّص الدرس حينما تصل إلى أن تدرك على الله أنه فعل كذا من أجل كذا، وكذا من أجل كذا، وأنه:
إذا وصلت في معرفتك بالله إلى هذا المستوى فقد قطعت نصف الطريق، جميل جداً أن تتأمل حياتك، لماذا أعطاني هنا؟ شخص عليه زكاة مال قدرها ثلاثة عشر ألف وثمانمائة وخمسون، اختلف مع زوجته، عندنا طقم الأرائك بحاجة إلى إصلاح، ضغطت عليه وصرفته عن دفع الزكاة، مركبته أصابها حادث، فالذي دفعه إجمالاً بالقلم والورقة ثلاثة عشر ألف وثمانمائة وخمسين، فالله يدبر الأمر، إنه تأديب عندما جعل الله الرقمين يتطابقان تماماً، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن منع الزكاة سبب تلف هذا المال، فالنتيجة التي أتمناها عليكم جميعاً وعلى نفسي معكم أنه كلما أصاب الإنسان شيء يتأمل لماذا أصابني هذا الشيء؟ يتهم نفسه فلعل الله يهديه إلى سر ما أصابه.
تطبيق عملي لهذه الآية:
أيها الإخوة الأكارم، كتطبيقٍ عمليٍّ لهذه الآية، الحقيقة ليس القصد من هذه الآية أن نمضي ساعة في آيةٍ واحدة، القصد أن يَبْقى الإنسان يقظاً في تأمله لما يجري معه، ليعلم علم اليقين أن هناك إلهاً حكيماً؛ هو الذي أعطاه، وهو الذي منعه، الذي يسَّره له، والذي عسَّره عليه، حينما يصاب بانشراح أو بانقباض، حينما يُوفَّق في زواج أو لا يُوفَّق، حينما تنشأ مشكلة في البيت، دقق هناك معصية، هناك مخالفة، ابحث عن مخالفةٍ مع الله، ابحث عن معصية، هناك ارتباك في العمل ابحث عن سبب، كلما وجدت شيئاً لا يروق لك.. الحديث القدسي معروف عندكم:
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ))
الإنسان يستسلم إلى الله، لكن لا يكنْ ساذجاً، لا يمرّ مرّ غير الكرام على الحوادث، بل يتساءل، لماذا أعطاني؟ لماذا منعني؟ لماذا عسَّر عليّ هذا العمل؟ لماذا ابتلاني؟ دائماً اتهمْ نفسك، ودائماً قلْ وراء ما يجري سبب وجيه، لأن الله حكيم، والله عزّ وجل عادل وحكيم، ورحيم وعليم، وخبير، فالإنسان المؤمن العاقل لا يقول: ظروف الحياة هكذا، لا تقل: الدهر يومان، يومٌ لك ويومٌ عليك، لا تقل: القدر سَخِر مني، لا تقل: هكذا حظي، لا تقل: حظ، لأنه لا حظ، بل هناك توفيق وتعسير..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾
الإنسان يلاحظ، ربنا عزّ وجل قال:
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)﴾
ما قال: والذي يمرضني، بل قال:
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
المرض في أصله خروجٌ عن منهج الله عزَّ وجل، هذا هو أصل المرض، طبعاً هناك حالات أخرى نادرة، لكن في الأصل الإنسان مُجَهَّز تجهيزاً كاملاً، فإذا تحرك على خلاف منهج الله أصابه خلل في جسمه.
فيا أيها الإخوة الأكارم، كلمة يدبِّر الأمر والله لا أشبع منها، لأنها واسعة كثيراً، يدبر أمرَ من؟ أمرَ كل شيء، لهذا قالوا في تعريف اسم العزيز: هو الذي يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء؛ أي يدبِّر أمر كل شيء في كل شيء، أمر كل شيء، أنت وزوجتك وأولادك، أحياناً يكون لدى الزوج تقصير مع الله، الابن ترتفع حرارته، يأتي الطبيب فيلهمه الله أن يُكَبِّر الأمر على الأم والأب، تجد الأم والأب يغليان غليان الحرقة على ابنهما، إلى أن يتوبا إلى الله عزّ وجل، فلعَلَّ مرض الابن كان تأديباً للأب والأم.
أحياناً الإنسان يأتيه الدخل الكبير تكريماً، وأحياناً امتحاناً، وأحياناً استدراجاً، وأحياناً يمنع عنه المال تأديباً، وأحياناً امتحاناً، وأحياناً ابتلاءً، هذا الفكر اجعله يعمل، اجعل هذا الفكر يعمل في فهم ما يجري، لأنه
أنا أقول لكم: الإنسان الذي يسوق الله له من الشدائد من أجل أن يردعه عن بعض المُخالفات، ومن أجل أن يضطَّره إلى باب الله عزّ وجل، هذا الإنسان إذا لم يفهم على الله مراده فهو المصيبة، ليست مصيبته في هذه المصيبة، بل هو نفسه المصيبة، فلذلك هذه الآية هي محور درسنا:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.