وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : سورة الشرح - تفسير الآيآت 1 - 8 حمل الدعوة وعبء الهدى.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً، وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

إذا تأمل الإنسان ما في الكون من آيات أورثه تأمله خشيةً في قلبه تدفعه إلى طاعة الله:


أيُّها الإخوة المؤمنون: سورة اليوم هي سورة الشرح أو الانشراح، ربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب (8)﴾

[ سورة الشرح ]

قبل شرح هذه الآية لا بُدَّ من مقدمة، الإنسان إذا فكَّر في آيات الله الكونية مَليّاً، واستنبط منها أن لهذا الكون إلهاً عليماً، رحيماً، عادلاً، قوياً، غنياً، إذا فكَّر في آيات الله، واستنبط هذه الحقائق يتوَّلد في قلب الإنسان خشية، هذه الخشية تدفعه إلى طاعة الله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

إذا تأملت ما في الكون من آيات، أورثك تأمُّلك خشيةً في قلبك، هذه الخشية تدفعك إلى طاعة الله عزَّ وجل، فإذا أطعت الله عزَّ وجل ماذا يحصل؟ يحصل في النفس ثقةٌ بأن الله راضٍ عنها، بهذه الثقة تُقبِل النفس على ربها، فإذا أقبلـت على ربها اشتقَّت من كماله، عندئذٍ تصطبغ النفس بالكمال الإلهي.

كلما ارتقى الإنسان في سلم الكمال اتسعت دائرة اهتمامه:


كلما ارتقت النفس في سُلَّم الكمال اتسع اهتمامها بالآخرين، لو أنَّ الإنسان صعد إلى قمة جبل قاسيون ماذا يرى؟ يرى مدينة دمشق منبسطة، يرى المزة  والمهاجرين والميدان، لأنه ارتفع، فإذا ركب طائرةً قد يرى مسافة تزيد عن مئة كيلو متر، فإذا صار على ارتفاع أربعين ألف قدم يرى ما يزيد عن مئة كيلو متر بنظرةٍ واحدة،  ورواد الفضاء رأوا الأرض بكاملها، رأوا القارات والبحار وبقية الكواكب، فكلما ارتقى الإنسان في سُلَّم الكمال، اتسعت دائرة اهتمامه، فالأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه اهتمّوا بالبشر، المؤمنون قد يهتمّوا ببعضهم بعضاً، فكلما ضعف إيمان المرء تقلَّصت دائرة اهتمامه، وغير المؤمن لا تعنيه إلا ذاته؟ فهذا سؤالٌ دقيق، انظر إلى نفسك ما الذي يعنيك؟ إن كان لك أخٌ مؤمنٌ لا يجد مأوى هل تهتم له؟ هل تتمنى أن تقدم له كل ما تملك من أجل أن تيسِّر له عمله؟
النبي عليه الصلاة والسلام لشدة إقباله على الله عزَّ وجل، اشتقَّ من الله كمالاً يُعد قمة الكمال البشري، اللهُ سبحانه وتعالى ألقى في قلب الأمهات رحمةً، وما في قلب جميع الأمهات من رحمة لا يعدل جزءاً يسيراً من رحمة الله عزَّ وجل.

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه الرحمة التي في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام مُشتقةٌ من رحمة الله.

﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ۚ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58)﴾

[ سورة الكهف ]

الرحمة كلها عند الله.

أرحم الخلق بالخلق هو النبي عليه الصلاة والسلام فهو أرحم بنا من أنفسنا:


وأنت يا محمد (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) ، الشيء الثابت أن أرحم الخلق بالخلق هو النبي عليه الصلاة والسلام، هو أرحم بنا من أنفسنا.

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)﴾

[ سورة التوبة ]

سيدنا عمر رضي الله عنه، قال له سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: "إنّ الناس يشكون شدتك، فبكى وقال: واللهِ يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن الأمر لا يناسبه إلا كما ترى" حينما فكَّر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو في غار حراء بربه من خلال آيات الكون، من خلال الشمس والقمر، من خلال الليل والنهار، من خلال الحيوان والنبات، من خلال خلق الإنسان، حينما فكَّر بآيات ربه تولَّد في نفسه خشيةٌ عظيمة، هذه الخشية حملته على طاعة الله عزَّ وجل، طاعة الله عزَّ وجل ولّدت في نفسه ثقةً جعلته يُقبِل على الله عزَّ وجل، وهذا الإقبال العالي اشتَّق الكمال اللامتناهي، لذلك أكمل البشر هو المصطفى عليه الصلاة والسلام.

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

لكماله العالي الذي اشتقَّه من الله عزَّ وجل، تألم على الخلق، وقد رآهم في ضياع، وفي بُعدٍ عن الله، رآهم في جهالةٍ عمياء، رآهم في ضلالٍ مبين، رأى قويّهم يأكل ضعيفهم، ورآهم يقترفون الآثام، ويأتون الفواحش، يقطعون الرحم، ويسيئون الجوار، يخونون الأمانة، رآهم في هلاكٍ وفي ضياعٍ، وفي شقاء، هذه الرؤية وهذا الكمال الذي انطوى عليه قلبه الشريف بسبب إقباله على الله، بسبب استقامته، بسبب خشيته، بسبب تفكره بآيات الله، جعله يُفعَم قلبه بالهم والحزن.

هداية البشر وتعريفهم بربهم كان من خلال النبي محمد عليه الصلاة والسلام:


فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ يقلق، كيف السبيل إلى هداية البشر؟ كيف السبيل إلى إنقاذهم مما هُم فيه؟ كيف السبيل إلى تعريفهم بربهم وهُم غافلون؟ كيف السبيل إلى إنقاذهم؟ ما الطريق إلى هدايتهم؟ ماذا أعمل؟ ماذا أقول؟ كيف أهديهم؟ إلى أن نزل عليه الوحي، حينما نزل عليه الوحي، وعرف أنه مكلفٌ بهدايتهم، وأنَّ الله سبحانه وتعالى ناصره، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعله هادياً لهذه الأمة، وكما قلت لكم في درسٍ سابق: امتلأ قلبه فرحاً وغِبطةً حينما رأى أول الطريق، لم يحدث شيء حينما اقترب أجله، وتوعكت صحته، وألقى على أصحابه نظرةً وهُم في الصلاة، ابتسم حتى بَدَتْ نواجذه الشريفة، وقال: 

(( وفَدْتُ سابعَ سبعةٍ مِن قَوْمي على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا دخَلْنا عليه وكلَّمناه، أعجَبه ما رأى مِن سَمْتِنا وزِيِّنا، فقال: ما أنتم؟ قُلْنا: مؤمِنون، فتبسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: إنَّ لكلِّ قولٍ حقيقةً، فما حقيقةُ قولِكم وإيمانِكم؟  قُلْنا: خَمْسَ عَشْرةَ خَصْلةً؛ خَمْسٌ منها أمَرتْنا بها رُسُلُك أن نؤمِنَ بها، وخَمْسٌ أمَرتْنا أن نَعمَلَ بها، وخَمْسٌ تخلَّقْنا بها في الجاهليَّةِ، فنحن عليها الآن، إلا أن تَكرَهَ منها شيئًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وما الخَمْسُ التي أمَرتْكم بها رُسُلي أن تؤمِنوا بها؟ قُلْنا: أمَرتْنا أن نؤمِنَ باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والبَعْثِ بعد الموتِ. قال: وما الخَمْسُ التي أمَرتْكم أن تَعمَلوا بها؟ قُلْنا: أمَرتْنا أن نقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، ونُقِيمَ الصلاةَ، ونؤتيَ الزكاةَ، ونصومَ رمضانَ، ونحُجَّ البيتَ الحرامَ مَن استطاع إليه سبيلًا. فقال: وما الخَمْسُ التي تخلَّقْتُم بها في الجاهليَّةِ؟ قالوا: الشُّكْرُ عند الرَّخاءِ، والصبرُ عند البلاءِ، والرِّضا بمُرِّ القضاءِ، والصدقُ في مواطنِ اللقاءِ، وتَرْكُ الشَّماتةِ بالأعداءِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: حكماءُ علماءُ، كادوا مِن فِقْهِهم أن يكونوا أنبياءَ، ثم قال: وأنا أَزِيدُكم خَمْسًا، فتَتِمُّ لكم عِشرون خَصْلةً إن كنتم كما تقولون، فلا تَجمَعوا ما لا تأكلون، ولا تَبنوا ما لا تسكُنون، ولا تَنافَسوا في شيءٍ أنتم عنه غدًا تزُولُون، واتَّقوا اللهَ الذي إليه تُرجَعون، وعليه تُعرَضون، وارغَبوا فيما عليه تَقدَمون، وفيه تُخلَّدون، فانصرَف القومُ مِن عندِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحَفِظوا وصيَّتَهُ، وعَمِلوا بها. ))

[ شعيب الأرناؤوط إسناده ضعيف ]

هذا نهاية الطريق.
أمّا حينما جاءه الوحي كان هذا بداية الطريق، انشقَّ الطريق، وأضاء بصيص الأمل، وعرف مهمته، وعرف الطريق إلى الله، عرف الطريق إلى هدايتهم، فحينما انقطع الوحي، وظنَّ أن ربه قد قلاه، وأنه قد ودّعه، وتركه، وشمِت به الأعداء، نزل قوله تعالى:

﴿ وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)﴾

[ سورة الضحى ]

قال بعض المفسرين: هذه الآية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) أرجى آيةٍ في كتاب الله.

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ(7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)﴾

[  سورة الضحى ]


سبب ضيق النبي عليه الصلاة والسلام:


الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) حصل انشراح الصدر، من له مصلحةً أو صنعةً، أحياناً يصبح الطريق أمامه مسدوداً، وتضيق نفسه، ويغتم، ويشعر بالضجر، فإذا انفتح له طريق الحل شعرَ بالراحة، هذا مثلٌ بسيط، النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرشده الله عزَّ وجل إلى أول الطريق، شُرِح صدره، أمّا كلمة (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) شرح الصدر فيه معنىً عكسي، معنى ذلك أنه كان متضايقاً عليه الصلاة والسلام، فما الذي كان يُضايقه؟ الآن جاء دور الموازنة، قل لي: ما الذي يضايقك؟ أقل لك: من أنت؟ قد يأسف الإنسان على الدنيا فله صَغَار عند الله، قد يأسف الإنسان على مالٍ فاته، أو على امرأةٍ فاته الزواج منها، أو على بيتٍ سُبِق إليه، أو على وظيفةٍ لم تُتح له، أو على شيءٍ من حطام الدنيا، مادام الألم والحزن والأسف على الدنيا فهذا شأن معظم البشر، مع أنَّ سيدنا الصدِّيق رضي الله عنه مما أُثر عنه أنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط.
ما دام النبي عليه الصلاة والسلام قد شُرح صدره، فما الذي كان يضايقه؟ ما الذي كان يؤلمه؟ ما الذي كان يُحزنه؟ كان يُحزنه ضلال البشر، كان يُحزنه ضياعهم وانحرافهم، كان يرى نهايتهم أنهم هالكون، كان يرى شقاءهم الذي ينتظرهم، فهذا الذي كان يحزنه، فأين أنت يا أخي من هذه المشاعر؟!!

النبي عليه الصلاة والسلام كانت نظرته إنسانية:


نيرون قال: "من بعدي الطوفان"، وهناك أشخاصٌ كثيرون إذا تحقَّقت لأحدهم مصالحه، يقول كما قال نيرون: مِن بعدي الطوفان.
فما دام دخله وفيراً، وبيته متسِعاً، وحاجاته متوافرة، فالناس لا شأن لهم عنده، هذه صفات أهل الدنيا، هذه صفات المُعرضين عن الله عز َّوجل، لكن المؤمن يَعنيه أخاه المؤمن، فكلما ارتقى إيمانه اتسعت دائرة اهتمامه، إنَّ عامة الناس يَعنيهم أبناؤهم فقط، فإن كانوا أكرم من ذلك فيعنيهم إخوتهم الذكور والإناث، وإن كانوا أكرم من ذلك فقد يعنيهم قرابةٌ ثالثة، وإن كانوا أكرم من ذلك قد يعنيهم أبناء حيِّهم، وقد تعنيهم أبناء مدينتهم، وقد يعنيهم وطنهم، وقد تعنيهم أمتهم، لكن قمة الكمال أن تعنيهم الإنسانية جمعاء، لذلك هناك دولٌ متقدمة تُحقِّق لشعبها مستوىً معاشياً مرتفعاً، ولكن على حساب شعوبٍ أُخرى، وهذه نظرةٌ ليست إنسانية لأنهم يُسببون آلاماً لا نهاية لها لبعض الشعوب، ويحققون لأفرادهم مستوىً معاشياً رفيعاً، وهذه نظرةٌ قاصرة، ونظرةٌ لا تليق بالإنسان، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت نظرته إنسانية.

﴿ طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2)﴾

[ سورة طه ]

كان عليه الصلاة والسلام متواصل الأحزان، كان الحُزن يغلب عليه، لماذا؟ كيف تريد من أمٍّ أن تضحك ولها ابن مُعذَّب، ولها ابنٌ مسافر، ولها ابنٌ ذو عاهة، كيف تريدها أن تكون مسرورة؟ معظم الأمهات إذا كان أبناؤها مقدمين على امتحانٍ قريب تراهنّ مهموماتٍ أكثر منهم، ماذا في قلب الأم من الرحمة؟ في قلب النبي عليه الصلاة والسلام من الرحمة ما لا يصفه الواصفون، لذلك حينما شرح الله عزَّ وجل صدره للإسلام، حينما بيَّن له طريق الهداية، أصابه سرورٌ بالغ، فقال له تعالى مسليّاً إياه، ومُمّتناً عليه: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) كنت في ضيق.

لا يعرف الإنسان انشراح الصدر إلا إذا كان مغتماً:


الإنسان أحياناً يقول له الطبيب: الحمل عند الزوجة غير طبيعي، وقد تكون الولادة عَسِرة، وفي الصور المبدئية هناك تشوه في الجنين، منذ أن قال الطبيب هذه الكلمة كأن الهم بدأ يأكل قلب هذا الزوج، كيف سيكون هذا المولود؟ أيكون مشلولاً؟ أيكون مشوَّهاً؟ أيفقد بعض حواسه؟ فإذا وضعت الزوجة المولود سليماً يشعر أن كابوساً قد أُزيح عن صدره، ويشعر أن جبلاً كان جاثماً على صدره وأُزيح عن كاهله، هذه أمثلة مبسطة.
النبي عليه الصلاة والسلام لمّا رأى الناس في ضلالٍ، وفي ضياعٍ، وفي شقاءٍ، وفي هلاكٍ ضاق صدره واغتم، وضاقت عليه الأرض، فلما نزل قوله تعالى مُسلياً إياه، ومُمتناً عليه، ومُبيناً له طريق الهدى، ذكر ربنا عزَّ وجل: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) هذه الهمزة للاستفهام الإنكاري، ولم حرف نفي، ونفي النفي إثبات، لذلك: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) معناها لقد شرحنا لك صدرك. 

﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛأَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)﴾

[ سورة الأعراف ]

معناها أنت ربنا، نفي النفي إثبات.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فما معنى الشرح؟ قال بعض المفسرين: الشرح هو التوسعة والانبساط، وضده الضيق والقبض، ولا يعرف الإنسان انشراح الصدر إلا إذا كان مُغتماً، وقالوا: وبضدها تتميز الأشياء.

معانٍ متعددة لكلمة (شرح الصدر):


وربنا سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة يُقلِّب العبد بين الغم والفرح، وبين الهم والانشراح، لا يعرف الانشراح إلا من أُصيب بالهم، ولا يعرف الفرح إلا من أُصيب بالحزن، فالنبي عليه الصلاة والسلام أصابه حزنٌ، وأصابه همٌ وغمٌ، وأصابه انقباض، ثم انشرح صدره بالإسلام (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
وبعضهم قال: شرح الصدر انبساطه وتوسعته بالعِلم والمعرفة، وبعضهم قال: شرح الصدر اتساعه بمكارم الأخلاق، وبعضهم قال: شرح الصدر توسعته بأعباء النبوَّة، وتلقي المُعارضين، وبعضهم قال: شرح الصدر لمهام الدعوة التي كلَّفه الله بها، لذلك بعض العلماء قال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) لِمَ ربنا سبحانه وتعالى قال: لك؟ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) أي هذا إكرام، أي شرحنا لك صدرك، إكراماً لك، وتقديراً لهمومك الشديدة، والنبي عليه الصلاة والسلام سُئل: 
عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول اللّه أينشرح الصدر؟ قال: نعم وينفسح، قالوا: يا رسول اللّه، وهل لذلك علامة؟ قال: (نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت) .

(( تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن النور إذا دخل الصدر انفسح " فقيل: يا رسول الله هل لذلك من علم يعرف؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله . ))

[ أخرجه البيهقي ]

لذلك قال بعضهم: زيارة القبور تشرح الصدور، لماذا؟ لأنها تُذيب حُبَّ الدنيا من النفس، إن كان للمرء عملٌ طيِّب واستقامةٌ طيبة، وزار القبور، رأى مقامه في الآخرة، ورأى هذه الحياة الأبدية، ورأى  سرعة خلاصه من متاعب الدنيا، لذلك النبي الكريم حينما رأى جنازةً قال: 

(( أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ ))

[ رواه البخاري ومسلم ]

مُستريحٌ من أعبائها، لأنك في دار تكليف، والآخرة دار تشريف، وأنت في دار عمل، والآخرة دار جزاء.

الحمل النفسي أشد ثقلاً من الحمل المادي:


(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) هذا الغم والهم والضيق والحزن، هذا الذي أتعبك يا محمد، هذا الذي أقلقك لقد زال عنك، لقد بان لك الطريق، فقُم واصدع بما تؤمر.

﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)﴾

[ سورة الحجر ]

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) الوِزر هو الحِمل، فأيُّ حِملٍ هذا؟ إنه الحِمل المعنوي، أحياناً قد يمرض الابن مرضاً شديداً، وقد يُسمِع الطبيب كلماتٍ يائسة للأُم، فتراها تشعر أنَّ في قلبها حِملاً لا تكاد تقوى على حمله، وأحياناً قد يجلس الإنسان ويقول: ليس لي أرجُل أقف عليها، ماذا على كاهله؟ لا شيء.
الحِمل النفسي أشدُّ ثقلاً من الحِمل المادي، فقد يحمل الإنسان ثلاثمائة كيلوغرام ويرفعها على ظهره، ويسير بها، ولكن قد يسمع خبراً مؤلماً يجعل الإنسان يقعد ولا تقوى رجلاه على حمله، وقد يبرُك، (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) أحمال الدنيا ثقيلة، فكيف بهذه الأحمال المقدسة، لو أنَّ قائداً في معركةٍ رأى أنَّ العدو قد أحاط به من كل جانب، وأنَّ الأمل في النجاة أصبح قليلاً، وأنَّ المصير مؤلمٌ، وأنه لا مفر من الاستسلام، فماذا يشعر؟ يكاد قلبه ينفطر، هذا هو حِمل القلب، لو أنَّ طياراً عرف أنَّ هناك خللاً خطيراً في الأجهزة، وأنَّ هذا الخلل سوف يتفاقم، وأنه لن ينجو هو وركاب الطائرة، بماذا يشعر ربان الطائرة؟ لو أنَّ ربّان باخرة شعر أن العواصف تجتاح باخرته، وأنها صدَّعت شقها الأيمن، وأنَّ الماء يتسرب إليها، بماذا يشعر؟ هذه أحمال النفس، قد لا يقوى الإنسان على حَملها، لذلك ربنا عزَّ وجل جعل عبء الدعوة وزراً ثقيلاً، قد ينوء به المرء، لكن الله سبحانه وتعالى أمدّ نبيه الكريم بطاقةٍ لتحمُّل هذا العبء.

إحاطة النبي بأصحاب مخلصين في مستوى دعوته و هذا من إكرام الله له:


(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) أزحناه عن كاهلك، بيّنا لك الطريق، رسمنا لك الهدف، أعنَّاك على هداية القوم، لانت قلوب بعض الناس إليك، سارعوا إلى الإيمان بك، وصدَّقوك، حينما أُسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، وعاد من الإسراء والمعراج، وبدأ يحدِّث الناس بما رأى، ارتدَّ كثيرٌ من الناس على أثر هذه الأخبار، فلمّا جاء بعضهم إلى سيدنا أبي بكرٍ رضي الله عنه، وقالوا له: يزعم صاحبك أنه أُسري به إلى القدس، وعرج من هناك إلى السماء!! فقال: هو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: إن كان قال ذلك فقد صدق، "لقد صدَّقناه على خبر السماء، أفلا نصدّقه على خبر الأرض" .
من إكرام الله للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه أحاطه بأصحابٍ مخلصين في مستوى دعوته، فعرفوا قدره، وعرفوا قيمته، وعرفوا سُموّه، وعرفوا هدفه النبيل، آثروه على أنفسهم، فدوه بأموالهم وأبنائهم، وقدَّموا له كل شيء، قدّم له سيدنا الصدّيق ماله كله، فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله.

((  أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ: يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؟ فقالَ أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا. ))

[ أخرجه الترمذي وأبو داوود ]

كان أحدهم يدافع عنه ويقول: صدري دون صدرك، ونحري دون نحرك، فما هذه التضحية والفداء؟! ما رأيت أحداً يُحب أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) .
يا أخي الكريم اطمئن لكل آيةٍ في كتاب الله، وإن كان في ظاهرها توجيهٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإنَّ لك منها نصيباً، ولا يمكن لمؤمنٍ على وجه الأرض إلا أن يكون له من هذه الآية نصيب، على قدر إيمانه وعلى قدر مكانته، وعلى قدر كرامته، ومهما ضاقت بك الدنيا، لا بُدَّ من أن يشرح الله صدرك، ومهما احلولكت عليك الخطوب، لا بُدَّ أن يشرح الله صدرك، ومهما ضاق بك الأمر فلا بُدَّ من أن يشرح الله صدرك.

(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكثِرُ أنْ يقولَ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبِّت قلبي على دِينِك فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ آمَنَّا بكَ وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟ قال: نعَمْ، إنَّ القُلوبَ بين إصبَعَينِ مِن أصابِعِ اللهِ، يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ. ))

[ أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه ]


حمل الدعوة وعبء الهدى ونقل الرسالة خطير وثقيل:


لا تعرف الانشراح إلا بعد الضيق، ولا تعرف الشبع إلا بعد الجوع، ولا تعرف الري إلا بعد العطش (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) .
يعني إذا وضعت على الناقة حِملاً ثقيلاً، ودعوتها للمسير سمعتَ صوت أضلاعها وكأنها تنوء بهذا الحِمل، فحِمل الدعوة وعبء الهدى ونقل الرسالة، إنسانٌ وحيد جاءته الرسالة، ومضى على تبليغها إياه ربع قرن، فإذا بالهدى قد عمَّ الأرض، حينما قُبض النبي عليه الصلاة والسلام كان مبتسماً، رأى أنه بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغُمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
لذلك عندما يقف الإنسان أمام مقام النبي عليه الصلاة والسلام الشريف، يجب أن يقول: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، أشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأدّيت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغُمة، وجاهدتِ في الله حق الجهاد.
ألكَ من هذا نصيب؟ ألكَ رسالة أيها الأخ الكريم؟ أم الطعام والشراب وتأمين الحاجات، هذه كلها هموم الناس؟ ألكَ رسالة في الحياة؟ أتشعر أنك خُلقت لهدفٍ نبيل؟ أتشعر أن الله سبحانه وتعالى جاء بك إلى الدنيا لتتعرف إليه أولاً، وتُعرِّف الناس به ثانياً، ولتعمل الصالحات ثالثاً، أتشعر بهذه الرسالة؟ إن كنت كذلك فلا بُدَّ من أن يشرح الله صدرك.

(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، و أَشرافَها، و يَكرَهُ سَفْسافَها ))

[ الألباني صحيح الجامع ]

ما استرذل اللهُ عبداً إلا حظر عليه العِلم والأدب، ومعنى استرذله أي رآه سخيفاً، ورآه شهوانياً، ورآه متعلقاً بالدنيا، حيث جعلها أكبر همه ومبلغ علمه، ورآه أرضيِّاً لا سماوياً، رآه إذا فاته من الدنيا شيء ندب حظه وأخذ في البكاء.
قال بعض الفقهاء: من بكى في الصلاة على شيءٍ فاته من الدنيا فإنّ صلاته فاسدة، فلا ينبغي أن تبكي على الدنيا إن أقبلَت أو أدبرَت.

النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذاته وفني في محبة ربه فرفع اللهُ تعالى ذِكره:


(( أَيُّها الناسُ إنَّ هذه الدنيا دارُ التِوَاءٍ لا دَارُ اسْتِوَاءٍ ومَنْزِلُ تَرَحٍ لا مَنْزِلُ فَرَحٍ فَمَنْ عَرَفَهَا لمْ يَفْرَحْ لِرَجَاءٍ ولَمْ يَحْزَنْ لِشَقَاءٍ ألا وإِنَّ اللهَ تَعَالَى خلق الدنيا دارَ بَلْوَى والآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى فَجَعَلَ بَلْوَى الدنيا لِثَوَابِ الآخِرَةِ سَبَبًا وثَوَابَ الآخِرَةِ من بَلْوَى الدنيا عِوَضًا فَيَأْخُذُ لِيُعْطِيَ ويَبْتَلِي لِيَجْزِيَ وإِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ وشِيكَةُ الانْقِلابِ فَاحْذَرُوا حَلاوَةَ رَضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا واهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِهَا لِكَرِيهِ آجِلِهَا ولا تَسْعُوا في عُمْرَانِ دَارٍ وقَدْ قَضَى اللهُ خَرَابَهَا ولا تُوَاصِلُوهَا وقَدْ أَرَادَ اللهُ مِنْكُمُ اجْتِنَابَهَا فَتَكُونُوا لِسَخَطِهِ مُتَعَرِّضِينَ ولِعُقُوبَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ ))

[ أخرجه الديلمي ]

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ما ذكرني عبدي في نفسه إلا ذكرته في ملأٍ من ملائكتي، وما ذكرني في ملأٍ من خلقي إلا ذكرته في ملأٍ خير منه: 
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:

(( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي ملأٍ ذَكَرْتُهُ فِي ملأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً  ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذاته، وفنيَ في محبّة ربه فما الذي حصل؟ لقد رفع اللهُ سبحانه وتعالى ذِكره.

حيثما ذُكِر الله عزَّ وجل ذُكر معه النبي صلى الله عليه وسلم:


أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، في الشهادة، وفي الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة، وفي القرآن.

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)﴾

[  سورة الأنفال ]

حيثما ذُكِر الله عزَّ وجل يُذكر معه النبي صلى الله عليه وسلم، هل من مقامٍ أعلى من هذا المقام؟ ادْخُل الحجرة النبوية المُطهَّرة، لن تشعر أنَّ في الدنيا أحداً عظيماً إلا صاحب هذا المقام، فما هذا الشأن الرفيع؟ بعد ألفٍ وخمسمائة عام من وفاته صلى الله عليه وسلم، إذا وصلت إلى قبره اقشعر جسمك، وتشعر أنك تريد البكاء، مع أنّكَ لم تلتقِ به، ولم تره بعينك، ولم تصاحبه، لكنك سمعت عن كماله، عن تواضعه، عن لطفه، عن رأفته، كان يُصغي الإناء للهرة، كان يقول: (أكرموا النساء فو الله ما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم ويغلبُهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً) .

(( خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلي، ما أكرمَ النِّساءَ إلَّا كريمٌ ولا أهانَهنَّ إلا لئيمٌ. ))

[ الألباني ضعيف الجامع ]

وكان يقول: (أول من يمسك بحلق الجنَّة أنا فإذا امرأةٌ تنازعني، تريد أن تدخل الجنَّة قبلي قلت: من هذه يا جبريل؟ قال: هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فلم تتزوج من أجلهم) .

((  أنا أولُ من يفتحُ بابَ الجنَّةِ، إلا أنَّ امرأةٌ تُبادِرُني، فأقول لها : ما لَك ! ومن أنتَ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قعدتُ على أيتامٍ لي. ))

[ الألباني ضعيف  ]

كان يعطف على الأرملة واليتيم، وكان يجلس جلسة العبد، وكانت المرأة الضعيفة تستوقفه في الطريق، فتكلمه فيقف معها طويلاً، ويستمع إليها، وقد رُوي أنه جاءته امرأةً فقالت: يا رسول الله إن زوجي تزوجني وأنا صغيرة ذات مالٍ وأهلٍ، فلمّا كبرت سنِّي، ونثر بطني، وتفرق أهلي، وذهب مالي، قال: أنتِ علي كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، فجعل النبي يبكي.

(( تبارَكَ الَّذي وسِعَ سمعُهُ كلَّ شيءٍ، إنِّي لأسمعُ كلامَ خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ ويخفَى علَيَّ بعضُهُ، وَهيَ تشتَكي زَوجَها إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهيَ تقولُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَكَلَ شَبابي، ونثرتُ لَهُ بَطني، حتَّى إذا كبُرَتْ سِنِّي، وانقطعَ ولَدي، ظاهرَ منِّي، اللَّهمَّ إنِّي أشكو إليكَ، فما برِحَتْ حتَّى نزلَ جِبرائيلُ بِهَؤلاءِ الآياتِ : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ))

[ صحيح ابن ماجه ]


معانٍ متعددة للآية التالية:


1 ـ المعنى الأول أي قرنت اسمك مع اسمي يا محمد:

كان في قلبه رِقّة، فلذلك: فإنّ اسمك يا محمد اقترن مع اسمي، ومعنى (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) الإنسان له ذِكر، رافقْ إنساناً لساعات يحدِّثك في التجارة، فهذا ذِكره، وإنسان يحدِّثك بالبيوت فهذا ذِكره، والمُنحط يتحدث لك عن النساء فهذا ذِكره، فكلما التقيت بإنسانٍ فله ذكرٌ مُعيَّن، في التجارة، في الصناعة، في الزراعة، في الرحلات، في ألوان الطعام، في موضوعاتٍ كثيرة، أمّا النبي عليه الصلاة والسلام فترَّفع عن هذه الموضوعات، ورفع الله له ذِكره، فجعل ذِكره مُقدَّساً.
كان حديث النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه دائماً. 

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون ]

وكل ما سوى الله لغو، المعنى الأول (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) أي قرنت اسمك مع اسمي يا محمد.

2 ـ المعنى الثاني جعلنا ذكرك عالياً وسامياً:

المعنى الثاني جعلنا ذِكرك عالياً، سامياً، اجلس مع الناس، ماذا يتحدثون؟

(( ما مِن قومٍ يَقومون مِن مجلِسٍ لا يَذكُرونَ اللهَ فيه إلَّا قاموا عن مِثْلِ جِيفةِ حِمارٍ، وكان لهم حَسرةً. ))

[ أخرجه أبو داوود والنسائي وأحمد ]

موضوعاتٌ تبعث في النفس اليأس، والقلق، والحسد، والغيرة، والحقد، والضغينة، والبغضاء، واليأس من رحمة الله، اجلس مع مؤمن فإنه يحدِّثك حديثاً آخر، فترتاح له، وتستبشر، وتطمئن، وتفرح، وقد تمضي ساعاتٌ طويلة ولا تشعر بالوقت (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، جعلنا ذِكرك عالياً، وحديثَك مقدَّساً، وجعلناك تهتم بمعالي الأمور لا بسفاسفها، هذا هو المعنى الثاني.

3 ـ المعنى الثالث أنّ الله تولى البيانَ عنه:

والمعنى الثالث أنَّ الله تولى البيانَ عنه.

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)﴾

[ سورة النجم ]

قالوا: يا رسول الله إنك تغضب، فإذا كنت غاضباً أنأخذ عنك؟ فأمسك النبي عليه الصلاة والسلام بلسانه، وقال: والذي بعثني بالحق لا ينطق إلا بالحق.

(( عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كنتُ أكتُبُ كلَّ شيءٍ أسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أُريدُ حِفْظَهُ، فنهَتْني قريشٌ، وقالوا: أتكتُبُ كلَّ شيءٍ تسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرٌ يتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟! فأمسَكْتُ عَنِ الكِتابِ، فذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَوْمأَ بإِصْبَعِهِ إلى فِيهِ، فقال: اكتُبْ؛ فو الذي نفْسي بيدِهِ، ما يخرُجُ منه إلَّا حقٌّ. ))

[ صحيح أبي داود ]

هذا اللسان لا ينطق إلا بالحقّ، في غضبه وفي سروره، وفي حزنه وفي فرحه، وفي السراء والضراء، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ)،(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) .

ما من مؤمن إلا وله من آيات الله نصيب:


وكما قلت لكم قبل قليل: ما من مؤمنٍ إلا وله من آيات الله نصيب، مع أنَّ هذه الآية في ظاهرها خاصةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنك يا أخي الكريم إذا نسيت ذاتك وأنكرتها فمن أنت؟ أنت عبدٌ من عباد الله، تحدَّث عن ربّك، وعرِّف الناس به، فلا بُدَّ من أن يرفع الله لك ذِكرك على قدر إيمانك، وعلى قدر كرامتك، وعلى قدر إخلاصك، لك من هذه الآية نصيب، والذِكر الحسَن شيءٌ نفيسٌ في المجتمع، أن تقابل الناس وهم يُثنون على أخلاقك فهذه ثروةٌ طائلة (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) .
يا محمد، ويا أيُّها المؤمن إذا عرَّفت الناس بالله عزَّ وجل، وكان همَّك تعريف الناس بي، وكان همَّك هدايتهم، أنت ترضيني وأنا سوف أرضيك.

﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)﴾

[ سورة التوبة ]

جاء جبريل عليه السلام إلى سيدنا رسول الله وقال: (يا محمد أبلِغ صاحبك أبا بكر أن الله راضٍ عنه، فهل هو راضٍ عن الله؟)

(( عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل جبريل، فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال؟! فقال: أنفق ماله علي قبل الفتح، قال: فإن الله يقول: اقرأ عليه السلام، وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟" فقال أبو بكر رضي الله عنه: أأسخط على ربي عز وجل إني عن ربي راض، إني عن ربي راض. وذكر القرطبي الحديث بزيادة وهي: قال: "فإن الله يقول لك: قد رضيت عنك كما أنت عني راض"))

[ إسناده ضعيف ]

لم يحتمل الصدّيق رضي الله عنه هذا الكلام، وهل في الأرض شيءٌ أثمن من أن تكون لك مع الله مودةٌ، مع ربِّ السماوات والأرض، وأن تكون بعينه، وبحفظه، ألا تكفيك هذه الآية:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]


منزلة النبي عليه الصلاة والسلام عند الله سبحانه:


ألا تكفيك هذه الآية:

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾

[ سورة طه ]

ألا تكفيك هذه الآية:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)﴾

[ سورة مريم ]

ألا تكفيك هذه الآية:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾

[ سورة الحج ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾

[ سورة المائدة ]

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾

[ سورة البقرة ]

(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، الملوك تُسمّي أنفسها خادم الحرمين الشريفين، فهل هناك مقامٌ  كهذا المقام، تتشرف الملوك بخدمة عتبته، لا بخدمته هو صلى الله عليه وسلم، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، ذِكره على الأفواه، ألف مليون مسلم يذكرونه ويتأثرون لذكره، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( إذا سمعتُمُ المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقولُ، ثمَّ صلُّوا عليَّ، فإنَّهُ من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليْهِ بِها عشرًا، ثمَّ سلوا ليَ الوسيلةَ فإنَّها منزلةٌ لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عبادِ اللَّهِ وأرجو أن أَكونَ أنا هو، ومن سألَ ليَ الوسيلةَ حلَّت عليْهِ الشَّفاعةُ ))

[ أخرجه مسلم والنسائي والترمذي ]

تقول في الصلاة:

(( اللَّهُمَّ رَبَّ هذِه الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَاماً محموداً الذي وعَدْتَهُ، حَلَّتْ له شَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ. ))

[ صحيح البخاري ]

ومِن رَفعِ ذِكره صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى جعله باباً له، فأنت باب الله يا محمد، فأيُّ امرءٍ أتى اللهَ مِن غيره لا يقبل، ولا يُدخل، بابُ الله الوحيد، والأنبياء جميعاً يدخلون على الله من باب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان إمامهم ودليلهم، وكان بابهم إلى الله عزَّ وجل (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) .

الله سبحانه وتعالى غني عن تعذيبنا وإذا بعث لنا همّاً أو غمّاً فلمصلحتنا:


(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) كان يجب أن يقول: فإن بعد العسر يسراً، لكنَّ لِمَ ربنا سبحانه وتعالى قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ؟ بحسب المنطق يجب أن يقول: فإن بعد العسر يسراً، لكنه قال: إنَّ مع، لذلك إنَّ العُسر فيه بذور اليُسر، قد يكون المرء منحرفاً، ولا يعيّ على خير، فيأتيه مرضٌ عُضال، ويتكلم الأطباء بكلامٍ بإلهام الله عزَّ وجل، أنْ لا أمل، أو الأمل ضعيف جداً، فتضيق النفس، وتضجر، وتيأس، ثم تذكر أنَّ الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وأنَّ الشفاء بيده، فتلتفت إلى الله عزَّ وجل، فإذا التفت النفسُ إلى الله عزَّ وجل، أَذِن بالشفاء، فهذا المرض فيه بذور الشفاء، المرض دواء النفس وشفاؤها، فالإنسان المؤمن العاقل لو أنَّ الدنيا ضاقت به فليذكر هذه الآية: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ، مع الضيق الفرج، ومع الفقر الغِنى، ومع المرض الصحة، إن الله سبحانه وتعالى غنيٌ عن تعذيبنا، إذا بعث لنا بشيء فلمصلحتنا، ومن أجل أن نُقبِل عليه.

لا بُدَّ من يسر بعد العسر:


(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) كم من مرضٍ أفضى بالإنسان إلى الهدى، وكم من مرضٍ عُضال، رجلٌ منحرف دُعِيَ إلى الصلاة فأبى، ودُعِي إلى الاستقامة فأبى، ودعاه جيرانه سنواتٍ طويلة فلم يستجب، فأصابه مرضٌ عضال، ثم أرشده الطبيب إلى الصلاة، فلمّا صلّى أذن الله له بالشفاء، هذا المرض أفضى به إلى الصلاة، يوم القيامة يرى أنه نعمةٌ عُظمى (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) .
هذه الآية عظيمةٌ جداً، فأيُّ مصيبةٍ على وجه الأرض، نفسيةٍ أم جسميةٍ، مصيبة المال، مصيبة النفس، مصيبة الجسد، قلق، هم، حزن، فقر، خوف، ضياع، فقد حرية (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) .
العُسر معرَّف بأل، وهذا تعريف الاستغراق، العلماء قالوا: أي كل أنواع العُسر، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، ماديِّها ومعنويها، تشمل كل أنواع العُسر، التعريف تعريف استغراق، تقول: الحديد في الأرض، يعني كل أنواع الحديد،(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) قال: يسراً، تنكير تعظيم، يُسراً كبيراً، صِفه بأنه كبير، صِفه بأنه سريع، وبأنه كريم: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) .

العسر الذي أصاب الإنسان في الدنيا له نتيجتان:


لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( لن يغلبَ عسرٌ يُسرينِ. ))

[  أخرجه البيهقي والحاكم  ]

فإمّا أن تكون الثانية تأكيدٌ للأولى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وإمّا أن يكون اليسر الثاني غير الأول، لذلك بعض العلماء قال: إنَّ مع العُسر في الدنيا يُسراً في الدنيا، وإنَّ مع العُسر في الدنيا يُسراً في الآخرة، هذا العُسر الذي أصاب الإنسان في الدنيا له نتيجتان، يُسرٌ في الدنيا، ويُسرٌ في الآخرة، سعادةٌ في الدنيا، وسعادةٌ في الآخرة.

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾

[ سورة الرحمن ]

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)

ما من عبد مؤمن أصابه همّ وقرأ هذه الآية إلا شرح الله صدره:


سيدنا عمر يقول: "مهما ينزل بعبدٍ مؤمنٍ من منزل شدة ٍإلا وجعل الله بعده فرجاً."

 كُنْ عَنْ هُمُومِكَ مُعْرِضَاً        وَكِلِ الأُمُورَ إلى القَضَا

 وَابْـشِــرْ بِــخَـيْرٍ عَاجِـلٍ        تَـنْـسَى بِه مَا قَدْ مَضَـى

فَـلـَرُبَّ أَمْـــرٍ مُـسْــخِـطٍ         لَـكَ في عَوَاقِبِـهِ رِضَــا

وَلَرُبَّمَـا ضَـاقَ المَضِـيقُ        وَلَـرُبَّمَا اتَّـسَـعَ الفَضَـــا

اللهُ يَـفْــعَـلُ مَـــا يَـشـَـاءُ        فَـلَا تَـكُـنْ مُـعْـتَــرِضَــا

اللهُ عَـــوَّدَكَ الــجَـمِــيـلَ        فَقِسْ عَلَى مَـا قَدْ مَضَى

[ صفي الدين الحلي ]

* * *

وَلَرُبَّ نـازِلَةٍ يَضـيقُ لَهـا الفَتى           ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها           فُـرِجَت وَكُنـتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

[ الإمام الشافعي ]

* * *

اشتـدي أزمـة تنفرجـي           قـد آذن ليـلك بالـبلـج

[ ابن النحوي ]

* * *

(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فما من عبدٍ مؤمنٍ أصابه همٌ أو ضيمٌ أو حزنٌ أو غمٌ وقرأ هذه الآية إلا شرح الله صدره (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) .
أمّا كلمة (مع) أبلغ من كلمة (بعد)، أبلغ من إن (بعد) العسر يسراً، مع، أيْ هذا المرض معه الشفاء، وهذا الضيق معه الفرج، وهذه المصيبة معها الهُدى، وهذا الخطر معه التعرُّف إلى الله عزَّ وجل، لذلك يفرح الإنسان.

أوجه معاني تفسير الآية التالية أنك إذا فرغت من الدعوة إلى الله فانصب لذكر الله:


(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)  لهذه الآية ثمانية معانٍ، وأَوْجَه هذه المعاني: إذا فرغت من الدعوة إلى الله فانصب لذكر الله، لماذا؟ لأن هذا الذكر بمثابة الشحن لهذه البطارية، فبقدر صلتك بالله ينطلق اللسان، بقدر ما لك إلى الله من وجهة يؤثِر الإنسان في كلامه، أمّا الدعاة الذين ينصرفون إلى الناس وصِلتهم بالله ضعيفة لا يؤثِّرون فيهم، فإذا فرغت من الدعوة إليه، فانصب قائماً إلى الصلاة، واتصل بي، واذكرني، وأقبِلْ عليَّ، من أجل أن تستمد الطاقة مني، ومن أجل أن تستمد النور، وتستمد قوة تحمُّل المعارضين، وتستمد الكمال الإنساني، حتى يُفتن بك أصحابك (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) .  
هذا المعنى للنبي عليه الصلاة والسلام، سيدنا سليمان أحبَّ حُبَّ الخير عن ذكر الله فعاتبه ربه

﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)﴾

[ سورة ص ]

وسيدنا داود على العكس أحبَّ ذكر الله أكثر من العمل الطيِّب، جاءه ملَكان على شكل متخاصمين، قال تعالى:

﴿ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)﴾

[  سورة ص ]

سيدنا داوود له مع الله وجهةٌ عالية، أراد أن يعود إليها سريعاً فأسرع في الحُكم.

﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)﴾

[ سورة ص ]

قال أنا لا أريد أن آخذها منه، بل أريد أن أرعاها له، وأريحه من رعايتها (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ)

إذا دعوت إلى الله فالتفتْ إلى الله بقلبك حتى تستمد منه القوة على توضيح المعاني:


سيدنا داود يُمثِّل أنه أميَل إلى الصِلة بالله أكثر من العمل الصالح، وسيدنا سليمان غَلب عليه عمله الصالح على الصِلة بالله، وكلاهما عوتب، أمّا النبي الكريم: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) .  
"فرسانٌ في النهار، رهبانٌ في الليل" ، إذا دعوت الناس إلى الله، فالتفتْ إلى الله بقلبك حتى تستمد من الله عزَّ وجل القوة على توضيح المعاني، إذا دعوت الناس إلى الله وفرغت من هذا العمل، فانصب متصلاً بي حتى تستمد مني قوة الاحتمال، فهناك مُعارضون، وهناك ضغوط ومغريات،(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)
وللمؤمن من هذه الآية نصيب، فإذا كان حديث عن الله باستمرار وصلة بالله ضعيفة، فهذا الكلام لا يؤثِّر في الناس بعد فترة، يَضعُف سحر الكلام، ويَضعُف الأثر، ويصبح كلاماً مُعاداً، ولكن إذا كانت لك صِلةٌ بالله عزَّ وجل، وحدّثت الناس تفعَلَ ذلك فِعْلَ السحر (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) .  
هذا للنبي الكريم، ولكل مؤمنٍ صادق، والمعنى الأقل من ذلك: إذا فرغت من الدنيا فانصب إلى ذكر الله.

كلما أتى شيء يهمك في الدنيا فأنجِزْه وانتهِ ثم انصب:


الامتحان انتهى، هذا المحل أسّسته وانتهى هذا التأسيس فالتفِت إلى الله عزَّ وجل، الولادة انتهت والولد سليم ومعافى، قُم وصلِّ واقرأ القرآن (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) .  
الحياة كلها مشاغل، والمعنى الثاني يتناسب مع عامة الناس، كلما أتى شيء يهمك في الدنيا فأنجِزْه وانتهِ ثم انصب(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) ، إمّا أن تأخذه على المعنى الأول، أن تجمع في الدعوة بين التعليم والصِلة بالله عزَّ وجل، وإمّا أن تأخذه على المعنى الثاني، عندك عملٌ مهم انتهى، بعد ذلك ارغب إلى الله عزَّ وجل، وانصب إلى الله (وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) .

همُ الأحبةُ إنْ جاروا وإنْ عدلوا       فليسَ لي معدلٌ عنهمْ وإنْ عدلوا

إني وإنْ فَتَـتوا في حُبهمْ كَبـدي       بـاقٍ على ودهمْ راضٍ بما فعلـوا

[ عبد الرحيم البرعي ]

* * *

  وما مقصودهم جنـات عـدنٍ        ولا الحور الحسان ولا الخياما

 

سوى نظر الجليل فذا مُناهم        فـيا بشـرى لـهم قـوما كـرامــا

[ علي الجمل العمراني ]


من طلب الآخرة أتته الدنيا وهي راغمة:


(وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) بماذا ترغب يا أخي؟ لو شُقَّ عن صدور الناس، فهذا في صدره أنْ يملك سيارة، وعندما يمتلكها يكون مَلَك الجنّة، ولكن لم يمتلكها، وهذا في ذهنه أن يتزوج يريد زوجة تروق له، وآخر يريد بيتاً له مواصفات محددة، وغيره يريد محلاً تجارياً في الشارع الفلاني، ويكون رائج البيع، فإذا بلغ هذا الشيء فقد انتهت كل مطالبه، مسكين!  مادام لا يوجد شيءٌ للآخرة فوالله قليل، الشهوات محدودة وتنتهي (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) ترغب بماذا؟ من كان راغباً في الدنيا تعِسَ وشقي.
ملخَّص الملخَّص، مَن بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبه من الآخرة، ولم يبلغ من الدنيا ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة أدرك نصيبه من الدنيا، ونال من الآخرة ما يريد.
من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ، كلام بمنتهى الإيجاز، اطلب الآخرة، واللهِ الذي لا إله إلا هو سوف تأتيك الدنيا وهي راغمة.
 المؤمن يسعد في الدنيا أضعاف ما يسعد الكافر بها، وتأتيه الدنيا وهي راغمة، اطلب الدنيا تضِيعْ منك الدنيا والآخرة.

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر ]

ذلك هو الشقاء، لذلك: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب)

على الإنسان أن يرغب بالله عزَّ وجل:


ما معنى ارغب إلى الله؟ أي أطِعْه، اقرأ القرآن وتفهَّمْه، واحضُر مجلس عِلم، يجب أن يكون مجلس العِلم أغلى عليك من أي اجتماع، ومن أي سهرة، ومن أيّة نزهة، ومن أي شيءٍ هذا شيءٌ مقدس، هذا وقت الله عز َّوجل (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) .
يجب على الإنسان أن يرغب بالله عزَّ وجل، وقد ذكر ابن القيِّم في طريق الهجرتين هذا الأثر: "ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كل شيء، والله أحب إليك من كل شيء" ، فلا تعجز عن ركعتين قبل الشمس أكفِك النهار كله.

(( عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن اللهِ عز وجل أنه قال: ابنَ آدمَ اركعْ لي أربعَ ركَعاتٍ من أولِ النهارِ أكْفِكَ آخِرَه. ))

[ أخرجه الترمذي ]

ومما جاء في الأثار القدسية من الكتب السماوية السابقة: << خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعِزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي، وكنتَ عندي مَذْموماً >> .
تراه مثل الضائع من الساعة السادسة مع الهواتف حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ورسائل، ووصَلت البضاعة، وبيع وشراء، وفجأةً يأتي ملك الموت.

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)﴾

[ سورة التكاثر ]

لذلك : "وعِزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي"  

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور