- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (026)سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
مقام النبوّة منزَّه عن الكذب:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس العشرين من سورة الشُّعراء.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
أيها الإخوة الأكارم؛ هذه الآية اسْتئناف، الجُمَل تكون ابْتِدائِيَّة واسْتِئْنافِيّة، فهذه الآية اسْتِئنافٌ ساقهُ الله سبحانه وتعالى لِيُبَيِّن اسْتِحالة تنزّل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في آيات سابقة قال الله عز وجل:
كأنَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يُبَيِّن مقام النبوَّة؛ إنَّه مقامٌ منزَّه عن الكذب.
بالمناسبة فإنَّ الكذب يتناقض مع الإيمان، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن مصعب بن سعد ، عن سعدٍ قال :
(( المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلَّا الخيانةَ والكذبَ. ))
في بعض أقواله صلى الله عليه وسلم:
(( لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ))
لذلك الذي يقول: التِّجارة شطارة ! أي مبنيَّة على الكذب، هذا خلاف الدين، بين المِهَن هناك من يقول لك: لا بدّ من الكذب، هذا كلامٌ مرفوض، المؤمن لا يكذب، ورزقهُ على الله، ومن ترَكَ شيئًا مخافة الله عز وجل عوَّضَهُ الله خيرًا منه، أي إذا كان الرِّزْق لا يأتي إلا بالكذب فلا يكن هذا الرّزق، والله هو الغنيّ، أَنْ تقول: إنَّ الكذب ضرورة، هذا كلام الشَّيطان، فالله سبحانه وتعالى يُبَيِّن في هذه الآية أنَّ من يدَّعِي أنَّ الشياطين تتنزَّل على النبي عليه الصلاة والسلام هذه دَعْوة باطلة؛ لماذا؟ لأنَّ الشياطين لا يتنزَّلون إلا على كل أفَّاك أثيم، ومقام النبوة مقام عظيم مُنَزَّه عن هذا الوصْف.
الشياطين لا تتنزل إلا على من كان عنده اسْتِعداد لِقَبولها:
هناك نقطة مهمَة جدًّا لابدّ من أن نقف عندها، يقول الإمام القاشاني: تنْزِلُ الشياطين على مَن عنده اسْتِعداد لِقَبُولها، من الذي عنده اسْتِعداد لِقَبول الشياطين؟ مَن كان على شاكلتهم من الخُبْثِ، والكَيْد، والمكر، والفساد، والخِيانة، وسائر الرذائل، هذا القَوْل ينقلنا إلى حقيقة هو أنَّ أحدًا لا يستطيعُ أن يُضِلّ أحدًا، الشيطان يضِلّ من كان على شاكلته، من كان عنده اسْتِعداد لِتَقَبُّل أفكاره، لِتَقبُّل وساوسِه، لتقبّل انْحِرافاته، الإنسان له جِبِلَّة، هذه الجِبِلَّة فطرها الله سبحانه وتعالى فِطْرةً نَقِيَّة، صفْحةً بيْضاء، فإذا دنَّسَها الإنسان بانْحِرافاته، ومعاصيه، وشهواته، وجاء الشيْطان لِيُوَسْوِسَ لهذا الإنسان البعيد المنقطع؛ إنَّ هذا الإنسان البعيد المنقطع يستجيب لهذا الشيْطان، الشيطان لا يستطيعُ أن يؤثر إلا لِمَن كان عنده اسْتِعداد لِقَبوله،
من صفات المؤمن عدم سماعه أقوال الشياطين:
شيء آخر؛ المؤمن لا يمكن أن يُصْغي إلى قول الشياطين، لا يمكن أن يُصغي إلى وساوسهم، لا يمكن أن يستجيب لهم، هذه حقيقة، هذا الذي يقول لك: لا أستطيع، هكذا فَعَلَ بيَّ الجن، هكذا دخلوا بي، هذا كلُّه كلام لا يقْبلُ وساوس الشياطين، ولا يقبل إيحاءات الجنّ، ولا يقْبَلُ تعاوُنَهُ مع الجنّ إلا إذا كان على شاكلتهم، وهذه حقيقة واقعة في الحياة اليوميّة، الإنسان السيّئ يُفْسِدُ مَن كان مثلهُ سيِّئًا، أوْ من كان يمْلِكُ اسْتِعدادًا للفساد، عندهُ رغْبةٌ في الفساد يأتي المُفْسِد فَيُفْسِدُهُ، أما الذي سَمَتْ نفسُهُ، وارْتَقَتْ روحُه، واستقام على أمر ربّه، وأقبل عليه، وشعَرَ بالطهر والعفاف، وشعَرَ بالقُرْب من الله عز وجل؛ مِثْل هذا الإنسان لا يستطيعُ شيطان الإنس ولا شيطان الجنّ أن يُفْسِدَهُ، فلذلك أن يقول الإنسان كلّما زلَّتْ قدَمَهُ: لعن الله الشيطان، هذا كلام غير مقبول، لأنَّ الشيطان نفسه يوم القيامة يقول:
﴿
هذا كلام ربّ العالمين، هذا في القرآن الكريم، ما كان لي عليكم من سلطان، إذاً لا يستطيع أن يُفْسِدَ إلا من كان عنده اسْتعداد للفساد، إلا من كانت عنده رغبة الفساد، إلا من كان على شاكلة الشيطان من الخبث، والانحراف، والكَيْد، والخِيانة، والكذب، والفجور، والإثم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
كسبوا السيّئات فجاء الشيطان فأزلَّ أقْدامهم، فلذلك إذا زلَّتْ قدمُ الإنسان يجب أن يعلم عِلْم يقين أنَّه وحده يتحمَّل المسؤوليَّة كاملةً، ولا ينبغي له أن يُحَمِّلها ولا أن يُحَمِّلَ بعضها للشيطان:
الاستعاذة بالله من شر الشياطين والسحرة:
(( سَأَلَ أُنَاسٌ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقالَ: إنَّهُمْ لَيْسُوا بشيءٍ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، فإنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بالشَّيْءِ يَكونُ حَقًّا، قالَ: فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تِلكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فيُقَرْقِرُهَا في أُذُنِ ولِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فيه أكْثَرَ مِن مِئَةِ كَذْبَةٍ. ))
الحديث طويل، ولكن لو اكْتَفَينا بهذا الكلام لكفى
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾
ودلَّنا أن نستعيذ مرَّةً ثانية:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾
والله سبحانه وتعالى وصف المتَّقين فقال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)﴾
وفي آية رابعة يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾
أما أجمل ما في هذه الآية الأخيرة:
تفسير قوله تعالى : يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ:
المعنى الآخر؛ المنحرف يُلقي سمْعهُ، الأفَّاك يُلقي سَمْعهُ إلى الكذب، لذلك في نِظام المحاكمات يُقال: لا تُسْمعُ هذه الدَّعوى، القاضي يرفض سماعها في الأصل، إذا كانت لم تسْتَوْفِ شُروطها الإجْرائِيَّة، ومضمونها الصحيح، دَعْوى غير مَسْموعة، والمؤمن كذلك إذا كان في عالم القُدُس، وكان مع الله سبحانه وتعالى، وكان في طهارته وعِفَّتِهِ، لا يُلقي السَّمْع للشياطين، ولا لِوَساوِسِهم.
صور من كذب ومبالغات الشعراء:
هناك من يقول: إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام شاعر، وفي آيات كثيرة أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه التُّهمة التي اتُّهِمَ بها النبي عليه الصلاة والسلام من أنَّه كاهن، ومن أنّه شاعر، في بعض الآيات الكريمة يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)﴾
لا هو بِقَول شاعر، ولا هو بِقَول كاهن، بل هو قول رسول كريم، تنزيل من ربّ العالمين، هذا هو الحق، فهناك من ادَّعى، ومن زعمَ من كُفَّار قريش أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام شاعر، فكان هذا الردّ، قال: إذا زعمتم أنَّه شاعر فالشُّعراء يتَّبِعُهم الغاوون، الشُعراء ليْسُوا كذلك.
من هو الشاعر؟ هذا الذي يتكلَّم كلامًا وفْق هواه فقد يمدحُ مديحًا كاذبًا، وقد يهْجو هِجاءً ظالمًا، وقد يصِفُ حالةً ساقطة، وقد يُبالغ، هناك من الشُّعراء من يبالغ :
ولو أنّ النّســاء كمـن فقَدْنا لَفُضِّلَت النِّساء على الرِّجال
* * *
أراد شاعِرٌ أن يتقرَّبَ إلى المعتصِم، فلما َتُوُفِّيَت أُمّ المعْتَصِم، مَدَحَ أُمَهُ بِقَصيدةٍ مَطْلعها:
ولو أنّ النّســـاء كمن فقَـدْنا لَفُضِّلَت النِّساء على الرِّجال
* * *
من أجل هذه المرأة التي لا يعرف التاريخ عنها شيئًا، قال الشاعر:
ولو أنّ النّســـاء كمن فقَـدْنا لَفُضِّلَت النِّساء على الرِّجال
* * *
هذا كذب، هذه مبالغة، مبالغة كبيرة، بعض الشُّعراء يمدح مديحاً كاذباً، مديحاً لا أصل له، يسبغ على ممدوحه صفات البطولة، والكرم، والشجاعة، والتَّقوى، وهو ليس كذلك، إذًا هذا المديح الكاذب فيه معْصِيَة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يغضب إذا مُدِحَ الفاسق، فَمِن أجل مكاسب رخيصة، من أجل نوال محدود، من أجل عطاء قلَّ أو كثر، كان هذا الشاعر يُصْبغُ على ممدوحهِ صِفاتٍ كلّها غير صحيحة، لذلك ربّنا عز وجل قال عن هذا النبي الكريم:
﴿
لأنَ من شأن الشعراء أن يكذبوا، هناك لقَطَاتٌ كثيرة من أقوال الشعراء، مثلاً هذا الذي قال:
أيَّ عظـيــمٍ أتَّقـي وأيَّ مكانٍ أرتقــي
وكـــــــلّ مــا خلـق الله وما لـم يخلـق
محتقر في نظري كشَعْرةٍ من مرْفقي
* * *
هذا قول المُتَنَبِّي، هذا شعر، ما قيمة هذا الشِّعر؟ هذا الكون العظيم الذي تحار به العُقول قال عنه المُتَنَبِّي: إنَّه محْتقرٌ في نظرهِ، فهل يُعْقَلُ أن يكون النبيّ شاعرًا؟! هذا المتنبِّي الذي قال مرَّة:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبـي وأسْمَعَت كلماتي من بِهِ صمَـــــــــمُ
أنام ملء جُفوني عن شـواردهـــا ويســهر الخلْق جرَّاها ويخْتصِـــــــمُ
الخيل والليل والبيـداء تعرفنـــــــــي والسيف والرمح والقرطاس والقلم
* * *
بطل، فارس، مِغْوار، شجاع، لا يهاب المنايا، كان في طريقه من بغداد إلى حلب أو من البصرة إلى حلب، خرج عليه كمين فولَّى هاربًا، فقال له غلامه: ألم تقل:
الخيل والليل والبيـداء تعرفنـــــــــي والسيف والرمح والقرطاس والقلم
* * *
فقال: قتلتني قاتلك الله، وعاد وقاتل حتى قُتِل، إذًا هناك مبالغات، شيءٌ غير صحيح، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أعظمُ بِكَثير، وأسْمى بِكَثير من أن يكون شاعرًا،
حكم الشعر في الإسلام كلام حَسَنُهُ حسَن وقبيحُهُ قبيح:
إلا أنّ الشِّعْر كما يقول العلماء: كلام حَسَنُهُ حسَن، وقبيحُهُ قبيح، هذا حُكمٌ فقهي في الشِّعر، نوَّهَ به النبي عليه الصلاة والسَّلام، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن عبد الله بن عمر :
(( أنَّهُ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، أوْ: إنَّ بَعْضَ البَيَانِ لَسِحْرٌ. ))
(مِن) هذه للتَّبعيض، أي بعض الشِّعر فيه حِكمة، وبعض البيان فيه سِحر، ما كلّ البيان ساحر، وما كلّ شعر حكيم،
(( أصدَقُ بيتٍ قالتِ العربُ ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللَّهَ باطِلٌ. ))
ولكنَّه عليه الصلاة والسلام ما أتمَّ البيت، لأنَّ في تمام البيت مخالفة للحقيقة، فالبيت أصله:
ألا كلّ شيءٍ ما خلا الله باطل وكـل نعيم لا محالـة زائل
* * *
نعيم أهل الجنَّة لا يزول، وهذا الكلام غير صحيح.
شيءٌ آخر؛ إذاً الإسلام لم يُهاجم الشِّعر لذاته بل هاجمهُ لِمَضْمونه، لأنَّ الشِّعر كلامٌ حسَنُهُ حسَنَ، وقبيحُهُ قبيح، لو أنَّ الشاعر اسْتَخْدم شِعرهُ في الحديث عن الله عز وجل، أو عن هذا الكون العظيم، أو عن النبي الكريم، أو أثار الهِمَم للأعمال الطَّيِّبَة، فهذا الشِّعر حسَن، بعض الشعراء يقول:
اُنظر لِتِلك الشَّجـــرة ذات الغُصون النّضـرة
كيف نَمَتْ مِن حبَّــةٍ؟ وكيف صارَتْ شَجَـرة
فابْحَث وقل مـــن ذا الذي يُخرجُ منها الثَمرة؟
وانْظر إلى الشمــس جذوتها مُسْتَعِــــرة
فيها ضِيـــــــاء وبها حرارة منتشــرة
من ذا الذي أوْجَــدَها في الجوّ مثل الشَّــرَرة
وانْظر إلى الليـــل فمن أوْجَدَ فيه قمره
وزانـهُ بأنْجُــــمٍ كالدُّرر المنتشــــرة
وانْظر إلى الغَـــيم فمن أنزل منه مطــرًا؟
فصيَّـــــرَ الأرض بـــه بعد اصْفِرارٍ خَــضِرة
ذاك هو الله الــذي أَنْعُمُهُ مُنْهَمِــــــرة
ذو حِكمةٍ بالغـــة وقدرةٍ مقــــــتدرة !
* * *
هذا شعر، إذاً الشِّعر ليس حرامًا لِذاته، لكنَّ المديح الكاذب، والهِجاء الرَّخيص، والغزل، وإثارة الغرائز؛ هذا الذي هاجمه الإسلام، إذاً إذا كان الشاعر في هذا المسْتوى فأنْعِم به من شاعر.
استثناء الشعراء المؤمنين من شرّ الغواية:
القرآن الكريم بعد قليل استثنى قال:
لا تشْترِ العَبد إلا والعصا معه إنَّ العبيد لأنجـاس مناكيدُ !
* * *
وقال:
وفي كلّ أرضٍ وطِئْتُها أمم تُرعى بِعَـبْد كأنَّهم غَنَـم
سْتخشِنُ الخزّ حين يلْبسُهُ وكان يُبْرى بِظُفرِهِ القلَمُ
* * *
هذا الشِّعر، رفعُه إلى مستوى عال جدًا، فلمَّا أحْبط مسْعاه ويئسَ منه جعَلَهُ في أسفل سافلين، كذب، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد نهانا عن أن يحمِلَكَ الغضب على أن تُبالغ، أو أن يحمِلَكَ الرضا على أن تُبالغ، يجب أن تقف عند الواقع، عند ما هو كائن، فكلّ زِيادة وكلّ مبالغةٍ ليست من شأن المؤمن.
حال الشُّعراء مُنافيَةٌ لِحال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، النبي عليه الصلاة والسلام في مراتب عليا من الطَّهر، من العفاف، من الصِّدق، من المروءة، من الواقِعِيَّة، أما هؤلاء الشُّعراء فإنهم يمْدحون، ويهْجون، ويتغزَّلون، ويصفون، ويُحَلِّقون بالخيال، ويبتعدون عن الواقع، إذاً ليس من يقول: إنَّ النبي شاعر مُحِقّ بل إنه مبطِل:
تفسير قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ:
رمضان ولَّى هاتِها يا ساقي مشْـتاقةً تسْعى إلى مُشتاق
* * *
يقصِدُ بها الخمر، إذا مدح النبي يمدحه، وإذا مدح الخمر يمدحه، هَذا مسلِم؟ هذا إنسان منضبِطٌ يؤخَذُ عنه؟ بلا انضباط، بلا حدود، الأمور عنده ليست منضبطة، الأمور فوضى، فلذلك ربّنا سبحانه وتعالى قال:
حرص سيدنا عمر على استعمال ولاة من أعلى مستوى:
لعلّ أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجَـوثق المتهدِّم
* * *
فبَلَغَ سيِّدنا عمر هذه القصيدة، فقال: إي والله، إنَّه لَيَسُوءني ذلك، ومن لَقِيَهُ فلْيُخْبرْهُ أني عَزَلْتُه، وكتَبَ إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3) ﴾
أما بعد فقد بلغني قولك: واَيْمُ الله إنَّهُ لَيَسُوءُني ذلك، قد عَزَلْتُك ! فسيّدنا عمر كان حريصًا حِرْصًا بالغًا على أن يكون هذا العامل الذي يسْتَعْملهُ على مِصْرٍ، أو على قُطْرٍ من أقطار بلاد المسلمين في المستوى الراقي الذي لا تشوبُهُ شائبة.
موقف بعض شعراء الصحابة بعد نزول قوله تعالى : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ:
شيءٌ آخر مُتَعَلِّق بِهذا الموضوع؛ هو أنَّ بعض أصحاب النبي عليهم رِضوان الله، منهم سيدنا حسَّان بن ثابت، كان شاعراً، ومنهم سيّدنا عبد الله بن رواحة، كان شاعراً، ومنهم كعب بن مالك، كان شاعراً، حينما نزَلَ قوله تعالى:
أما هذا الاسْتِثناء مهمّ جدًّا، الإنسان الآن إذا كان يمْلكُ قُدْرةً لُغَوِيَّة، قدرة شِعْريَّة، ووظَفَها في الحق، هذا عمل طيِّب، والآن بالمقاييس المعاصرة للشِعر يَعُدُّون الشِّعْر الملْتَزم من أرقى أنواع الشِّعْر، هذا الشِّعر الذي يُنافحُ عن قضِيَّة، الذي يلْتَزِمُ مبدأً، الذي يُسَخَّرُ لِخِدمة أهداف كبرى، هذا شِعر مُلتَزِم، سيّدنا حسَّان بن ثابت في شعره، وسيدنا عبد الله بن رواحة في شعره أيضاً، وسيدنا كعب بن مالك في شعره، كان شِعرهم مُوَظَّفًا في خِدمة الحق، فالنبي عليه الصلاة والسلام اسْتَثناهم كما جاء من قوله تعالى:
مجاهدة المؤمن بِسَيفه ولسانه:
وقد أُثِرَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قال لِحَسَّان بن ثابت: هاجِهِم وجِبريل معك، للكفار، سيدنا حسان كان شاعراً وله ديوان وأكثره أو جله في مدح النبي عليه الصلاة والسلام وفي الرد على خصومه، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام قال: هاجهم وفي رواية: اهجهم وجبريل معك، وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده عن كعب بن مالك أنَّه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية فقال:
(( إنَّ المؤمن يُجاهد بِسَيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّما ترمونهم به نضح النبل. ))
أيْ هذه القصائد التي ينظمها أصحاب رسول الله في الردّ على أعداء الإسلام كأنَّها نِبال تُصيبهم، هذا بعض ما جاء في السنَّة المطهَّرة عن شعراء الإسلام الذي نافحوا بِشِعرهم عن هذا الدِّين العظيم.
صفات الشعراء:
الأمرُ بالردِّ على شعراء الأعداء:
اللغة هي الوسيلة الوحيدة للدعوة إلى الله عز وجل:
إذاً إذا الإنسان تعلم اللغة، سيدنا عمر قال:
(( إنّ من البيان سحراً، وإنّ من الشّعرِ حكمةً. ))
فإذا وظفت هذه كما وظفها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في الحق فهنيئاً لك، وإذا كان هذا الذي امتلك ناصية البيان كهؤلاء الشعراء المنحرفين الذين يكذبون، ويأفكون، ويتهمون، ويزورون، ويظلمون فالويل له لقول تعالى:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة، وكان في أثناء حفر الخندق يقول:
هذا الحِمالُ لا حِمالَ خَيْبَرْ هذا أَبَرُّ رَبَّنَا وأَطْهَرْ
* * *
وكان يقول:
(( عن جندب بن عبد الله دَمِيَتْ إصْبَعُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في بَعْضِ تِلكَ المَشَاهِدِ، فَقالَ: هلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيتِ... وفي سَبيلِ اللهِ ما لَقِيتِ. ))
النبي كان أفصح العرب، وهكذا يقول:
يوجد أقوال كثيرة حول الفصاحة، والبلاغة، والقدرة على التعبير، والقدرة على نقل الحقائق، هذه إذا أخذنا بها ووظفناها في الحق، هذا هو المطلوب، أما أن تنحرف فهذا الذي لا يريده الله سبحانه وتعالى.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين