- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (029) سورة العنكبوت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، فالآية الثانية من سورة العنكبوت، وهي قوله تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾
تُعَدُّ هذه الآية من أخْطَر الآيات في حياة المؤمن، لماذا ؟! لأنَّ الله سبحانه وتعالى خلَقَ الخَلْق في الدنيا لِيَمْتَحِنَهُم، والأصْل في الحياة الدنيا أنَّها دار ابْتِلاء، ونحن في حياةٍ هي في جَوْهَرِها دار ابْتِلاء والآخرة دار جزاء، وهي في جَوْهَرِها دار تَكْليف، والآخرة دار تَشْريف، وهي في جَوْهرِها دار عمل، والآخرة دار عطاء.
نِظام الحياة الدنيا كما قال تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ(6)﴾
لن تَصِلَ إلى شيء إلا بعد بَذْل الجُهْد المكافئ له، أما في الآخرة فالنِّظام آخر ؛ بِمُجَرَّد أن يخْطر بِبَالِكَ شيء تَجِدُهُ أمامك، قال تعالى:
﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا(16)﴾
قال تعالى:
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51)يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ(52)أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ(53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ(54)فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)﴾
نِظام الآخرة نِظام عَطاء، ونِظام راحة وطمأنينة واسْتِقرار، ولا همَّ ولا حَزَن، ولا حروب ولا تنافس، ولا تقَدُّم بالسِّن، ولا تنكُّس شَيْخي ولكن إكرامٌ مُسْتَمِرّ إلى أبَدِ الآبدين، أما ثَمَن هذه الحياة الآخرة أن تأتي إلى الحياة الدنيا وأن تُمْتَحَن، فالامتحان مِحْوَر الحياة الدنيا، وقد ورَدَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
((إنَّ هذه الدنيا دار الْتِواء لا دار اسْتِواء، ومنزِل تَرَحٍ لا منزل فرح، فَمَن عرفَها لم يفْرَح لِرَخاء، ولم يحْزن لِشَقاء، وجعلها الله دار بلْوى، وجعل الآخرة دار عُقبى فجَعَلَ بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سببًا، وجعل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضًا، فيأخُذ لِيُعْطي ويبْتلي ليُجْزي.))
أردْتُ من هذه المُقَدِّمة أن يعرف الإنسان حقيقة الحياة الدنيا، مِحْوَرُها الابْتِلاء والامْتِحان، وقد سُئِل الإمام الشافعي رحمه الله: أَنَدْعو الله بالابْتِلاء أم بالتَّمْكين ؟ فتَبَسَّم وقال: لن تُمَكَّن قبل أن تُبْتَلى ! والله تعالى قال:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)﴾
وقال تعالى:
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106)﴾
سيِّدُنا إبراهيم كان ابْتِلاؤُهُ عظيمًا فقد أُمِرَ أن يذْبَحَ ابْنَهُ، هل يستطيعُها أحد ؟! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذهب إلى الطائف فَكَذَّبوه وسَخِروا منه ورَدُّوا دَعْوَتَهُ وضَرَبوه، فقال: إنّ الله ناصِرٌ نَبِيَّهُ، وفي الهِجْرة وُضِعَت مائتا ناقَةٍ من أجل مَن يأتي به حَيًّا أو مَيِّتًا ! فَلَقِيَهُ سُراقة، فقال يا سُراقة: كيف بِكَ إذا لَبِسْتَ سِواري كِسْرى ؟! الحقيقة المسلمون ومعهم رسول الله عليه الصلاة والسلام مَرُّوا بامْتِحانٍ لا يُحْتَمَلُ في غَزْوَة الخَنْدق، قال تعالى:
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10)﴾
حتَّى قال بعضهم: أَيَعِدُنا صاحِبُكم أن تُفْتَحَ علينا بلاد قيصر وكِسْرى وأحَدُنا لا يأمَنُ أن يقْضِيَ حاجته !! قال تعالى:
﴿وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10)﴾
ولكن قال تعالى:
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
وكذا بِحُنَين قال تعالى:
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾
لمَّا الجسم يفْقِدُ مناعتهُ فإنَّهُ ينْهار لأدْنى مرَض، الله عز وجل يَمْتَحِنُ المؤمن وكُلّ امْتِحان يسوق له مُشْكِلة، فيَدْعو الله فَيُنَجِّيهِ الله منها ويثِقُ بِقُدْرة الله ورحْمة الله، وبِعِلْم الله وحِفْظِهِ، فالجِسْم لمَّا نُعْطيهِ جُرْثومًا مُضَعَّفًا، يصْنَع مَصل مُضادّ يُصْبِحُ مُحَصَّنًا ضِدَّ الكوليرا وإذا أعْطَيْناهُ الطاعون المُضَعَّف فَيَصْنَعُ الجِسْم مصل مُضادّ للطاعون حينها يُصْبِحُ مُحَصَّنًا ضِدَّ الطاعون، فالله عز وجل يُعْطي مُشْكِلات هي مِن أجْل أن تُحَصِّن الإنسان، والمؤمن كُلَّما تقدَّم به السِّن أصْبَحَ كالجَبَل، لولا هذه الامتحانات المُتتالِيَة، تَدْعو الله فيسْتَجيب لك ويقيك ويرْفعُ ذِكْرَكَ، فلولا هذه فلن تَقْوى، أذْكُر أنَّني دَخلْتُ لِمَعْمل خُيوط نايْلون، أوَّل خُروج الخَيْط، أعْطاني صاحِبُ المَعْمل قِطْعة من هذا الخَيْط، فشَدَدْتُهُ شدًّا بسيطًا فانْقَطَع، أما عند التبريد ثمّ التَّسْخين وإعادة الكرَّة فإنّ هذا الخيط يثْبُت ويصبه عاصِيًّا ومتينًا، فالله عز وجل في الدنيا يسوق للمؤمن من الشدائد، ولكنَّ الله تعالى حكيم يسوق لك مِن الشِّدة التي تَحْتَمِلُها ؛ يسوق لك شِدَّة ويرسِل لك مَن يَعِظك، يفْتَحُ لك باب الدُّعاء فَتَدْعوهُ ويُنْجيكَ من هذه الشِّدَّة، وبِهذا تُصبِحُ لك خِبْرة مع الله تعالى، مُمَارسَة، فَكُلّ مُشْكِلَة تُقَوِّي إيمانَك إلى أن يأتِيَ وقْتٌ لو أنَّ أهْل الدنيا جميعُهم كفروا لن تَكْفُرَ، ولو أنَّ كُلَّ الضُّغوط اجْتَمَعَتْ عليك تقول: أحَد أحَد، والله الصَّمد، أما إن لم تتعوَّد على الشَّدائِد فأوَّل ضَغْط أو إغْراء تنْحلّ ! فَرَبُّنا عز وجل جاء بِنَا إلى الدنيا لِيَمْتَحِنَنَا ولِيُرَبِّيَنَا، فهل في الأرض كُلِّها جامعة يُقَدِّم فيها الطالب طلب انْتِساب ويُصْبِحُ أحد طلابها، وآخر السنَّة يطلب الطالب طلبًا يقول فيه: أنا واثِق من عِلْمي لذا يُرْجى مَنْحي الشَّهادة ؟ فهذه الجامِعة لا توجد على الإطلاق ؛ دون أن يُقدِّم الطالب فحْصًا تُمْنَحُ له شهادة ! ولن تكون لِهذه الشَّهادة قيمةً إطْلاقًا، فالآية الكريمة:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ﴾
صلَّى وصام وحجَّ وزكَّى، وأمورهُ سهْلةً ومُيَسَّرة لكنَّ النَّفس فيها مليون مرض نفسي، يسوق الله لك شِدَّة تجعلُكَ لا تعْتَزَ بِنَفْسِك ويسوق لك شِدَّة لِيُنْجيك من مرض، فهذا أحَدُ الأغنياء قال: كُلّ شيءٍ يُحَلُّ بالمال ! والدراهم مراهِم، فسيق إلى السِّجْن وبقِيَ فيه سِتِّين يوْمًا وتأتيه الخواطِر ؛ هل ينْحَلُّ هذا بالمال ؟! وقد كان بريئًا من هذه التُّهْمة فَهذا تأديب من الله عز وجل، فهذه الآية تَدْخل بِحَياتِنا اليَوْمِيَّة:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ﴾
يقول لك: والله لو تَزَوَّجْت لأجْعَلَنَّ زوْجتي خادِمَةً لأُمِّي ! مُجَرَّد كلام فإذا تزوَّج، يأتي ظُهْرًا فَيَجِدُ مُشْكِلَةً بالبيْت، يلْتَفِتُ لأُمِّه ويقول لها: كُلّ البلاء منك !!! آثَرَ شَهْوَتَهُ على أُمِّه، والإنسان مع الحق دائِمًا فقد سُئِلَ النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أعظم الناس حقًّا على المرأة ؟ قال: زوْجُها، وذاك يقول لك: والله لو رزقني الله مالاً لأعْمَلَنَّ كذا وكذا، يُصْبِحُ معه المال، وتأتيه لجْنة فيقول لها: معنا الْتِزامات !! وهو معه الملايين، فأين كلامه السابق، وذاك يقول لك: إذا تَزَوَّجْت أَغُضُّ بصري، فإذا به بعد الزواج ينظر أكثرَ، امْتَحَن ورسَب والآخر يقول: لما أُصْبح غَنِيًّا أبني جامِعًا، فلمَّا اغْتنى بنى ملْهى ! فَكُلّ واحِد يُمْتَحَن امْتِحانًا دقيقًا، ولا ينْجو من الامتِحان بما فيهم الصحابة الكرام حتى قال أحدهم: ما وَعَدَنا الله ورسوله إلا غُرورًا، قال تعالى:
﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10)﴾
حتَّى قال بعضهم: أَيَعِدُنا صاحِبُكم أن تُفْتَحَ علينا بلاد قيصر وكِسْرى وأحَدُنا لا يأمَنُ أن يقْضِيَ حاجته، عشْرة آلاف مُقاتِل ما اجْتَمَعت في أنحاء الجزيرة جاءوا لِيستأصِلوا المسلمين، وتعاوَن معهم اليهود وانْكَشَف ظهْر النبي عليه الصلاة والسلام، وصَدِّقوني حسْب المنطق التاريخي الإسلام بَقِيَ مُجَرَّد ساعات ! الرِّسالة مع الدَّعوة مع النبي والوَحْي ! قال تعالى:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾
فالإنسان إذا أيقَنَ أنَّ الله يفتح عليه بالإسلام، ويُصبِحُ في بَحْبوحة، وَ يُعْطيه زوْجة صالحة ومالاً وفيرًا، وتِجارة رائِجة، وصِحَّة تامَّة ؛ هذا وَهم !! نحن في دار ابْتِلاء لا في دار جزاء، لكنَّ المؤمن يسْعَدُ في الدنيا لأنَّهُ يشْعُر أنَّهُ راضٍ بالله عز وجل، يشعر بالطمأنينة والرِّضى الداخلي أما المؤمن فَهُوَ مُعَرَّض للابْتِلاء، لذلك قال عليه الصلاة والسلام عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:
(( أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ))
فهذه الآية دقيقة:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ﴾
تُمْتَحَنُ بِمالِكَ وأولادك وبالغِنى والفقْر، والفقْر أصْعَب، فقد يَمُدُّ يدهُ للحرام، ويقول لك: عندي أولاد ! امْتُحِنَ فرَسَب، وامْتُحِنَ بالغِنى فرسَب، وامْتُحِنَ بالزَّواج فَنَظر للأجنبيات وامْتُحِنَ بعدم الزَّواج فزلَّتْ قدَمُه، والمؤمن مُنيبٌ ومُستقيم قبل الزَّواج وبعدهُ، وفي الغِنى والفقْر فهو في الرَّخاء صَبور، وفي الشِّدَّة صَبور قانِعًا بالذي له ولا ينظر لِمَا ليس له، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾
تُقَدِّم طلبًا للانتِساب إلى الجامعة، وفي آخر السنة تنُقَدِّم طلبًا آخر يُرْجى مَنْحي شَهادة اللِّيسانس !! دون أن تُقَدِّم امْتِحانات ! هل يُعْقَل أن يُعطيك الشيخ شهادة حِفْظ القرآن دون أن يمْتَحِنَكَ ! مِن أوَّل القرآن ومن وسَطَهِ ومن آخره، فكَيف خالق الكون ؟ قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) ﴾
فقد يسْبح الإنسان باتِّجاه النَّهْر، وهذا شيء سَهْل، وبِأدنى جُهْد يقْطع أطْوَل مسافة، ولكنَّ البُطولة في السِّباحة أن تسْبح مُعاكِسًا لاتِّجاه النَّهْر فقد تأتي الظُّروف مُوافقَة لِطَاعَتِكَ لله تعالى، ولكن أحْيانًا توضَعُ في ظَرْف صَعْبٍ ؛ إمَّا أن تعْصي الله تعالى، وإما أن تقَعَ في مُشْكِلة ماذا تقول ؟ سألني أحدهم: التَّأمين ما حُكْمُهُ ؟ فقلتُ له: هناك كُلِّي وآخر إجْباري ! فَلَغَى التأمين، في اليوم الثاني ضَرَبَ سيَّارتهُ فدَفَعَ مائة وثمانون ألف ليرة !! فجاءني وعاتبني وقال: لو أنَّني ما سألْتُكَ لما دَفَعْتُ هذا المَبْلَغ ! وتألَّم، فقلْتُ له: والله، إنَّ الله قد امْتَحَنَ إيمانَك فباعَ السيارة، واشترى فيها بيْتًا، وأقْسَمَ لي قبل شَهْرٍ أنَّه باعها بما يزيد عن أربع مائة ألف عن سِعْرها الحالي، وربِحَ في البيت ثلاثمائة ألف، ففي أوَّل الأمْر كان الأمْر قاسٍ، ودَفَعَ مائة وثمانون ألف فالامتحانات موجودة، ولا ينْجو منها أحد، وأحيانًا الأشياء مُتساوِيَة وسَهْلة، وكُلّ الرِّبْح بالمَعْصِيَة، وإذا هذه حرام وهذه حرام لما بقيَ شيء ! لو أنّ الحلال سهلٌ لأقبلَ الناس إليه لا لأنَّهُ، ولكن لأنَّهُ سهْل ولو أنَّ الحرام صَعْب لَتَرَكَهُ الناس لا لأنَّهُ حرام ولكن لِكَوْنِهِ صَعْبًا فمثلاً قبل عشرين سنة لو الواحِد سافَرَ وَدَعَتْهُ امرأة ذات جمالٍ ومنصب، وقال: إنِّي أخاف الله رب العالمين لأخذَ عليها مليار أجْر أما الآن فلا يخاف من المعصِيَة ولكن يخاف من الإيدْز ! قال تعالى:
﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا(102)﴾
وطِّن نفْسَكَ ؛ جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض دون امْتِحان ولا أجْر ولا جهْد ! مُستحيل، ألا إنَّ سلْعة الله غاليَة فلو أنَّ أحدهم أراد أن يفتح أكبر محلّ غسالات، ووجَدَ موضوع الكمبيوتر غالي، وصَعْب تركيبهُ وحينها أصْبح يلْغي كلّ شيء يعْتريه صعْبًا لأصبحت هذه الغسالة علبة وكذا إذا أراد الإنسان أن يكون الإسلام رخاء وسُرور وموالد واحْتِفالات، لوَجَدْتَهُ يُصَلِّي مثل الصَّنم، ولكن لمَّا يدْفَع ثمَن الدِّين غاليًا وحينما يؤثر الله ورسوله والدار الآخرة ويتحمَّل المتاعب عندها يُعطيه الله الدنيا والآخرة.
لذا هذه الآية أساسِيَّة في حياة المؤمن ؛ قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
قد تُدعى لِحَفلٍ كبير ولكن فيه اخْتِلاط، وأحيانًا دَعْوى فيها منكرات وأخرى دَجَل، فالإنسان عليه أن يحْتاط، وإنَّ هذه الدنيا دار الْتِواء لا دار اسْتِواء، ومنزِل تَرَحٍ لا منزل فرح، فَمَن عرفَها لم يفْرَح لِرَخاء ولم يحْزن لِشَقاء، وجعلها الله دار بلْوى، وجعل الآخرة دار عُقبى فجَعَلَ بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سببًا، وجعل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضًا، فيأخُذ لِيُعْطي ويبْتلي ليُجْزي.