- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (035)سورة فاطر
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
رحمة الله سرٌّ من أسراره:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة فاطر.
وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية الثالثة من سورة فاطر، وكنا قد أنهينا الآية الثانية التي تبدأ بقوله تعالى:
رحمة الله وعلاقتها بالعلم والعُمر:
أيها الإخوة الأكارم؛ العلم الغزير، والعمر الطويل، والمقام الطيب، هذه لها علاقة نفيسة برحمة الله عز وجل، فقد يكون علماً غزيراً لا يُنتَفع منه، وقد يكون عمراً طويلاً لا يُستفاد منه، وقد يكون المقام مقاماً طيباً ومع ذلك يغدو شقاءً على صاحبه، لكن رحمة الله عز وجل إذا توافرت في عبدٍ علمه القليل يثمر وينفع، وعمره القصير أحياناً يغنيه الله بالأعمال الصالحة، ودخله القليل يبارك الله له فيه، فإذا بارك الله لك بدخلك القليل كان أنفع لك من دخل كثير، محجوب عن رحمة الله، وإذا كان لك عمر أغناه الله بالعمل الصالح كان خيراً لك من عمر مديد مفعم بالمخالفات والتقصيرات، وإذا منحك الله علماً استعملته.
قيل لأحدهم: ما هذا المقام الذي حصّلته؟ قال: بالعلم، فقال: واللهِ هناك أناس تعلموا أكثر منك، فما السر؟ قال: ذلك علم حُمِل، وهذا علم استُعمل، فرق كبير بين العلم الذي يحمل، والعلم الذي يستعمل.
مِن رحمة الله عز وجل الشعورُ برحمة الله:
أيها الإخوة الأكارم؛ مِن رحمة الله عز وجل أن تحس برحمة الله، فإن لم تشعر بها كنت محجوباً عنها، مِن رحمة الله عز وجل أن تنتظرها، فإن لم تنتظرها كنت محجوباً عنها، من رحمة الله عز وجل أن تثق برحمة الله فإن لم تثق بها، كنت محجوباً عنها، من رحمة الله أن تنتظرها، من رحمة الله أن تحسها، من رحمة الله أن ترجوها، من رحمة الله أن تجدها، من رحمة الله أن تثق بها، فإن لم تجدها، ولم تشعر بها، ولم تنتظرها، ولم تضع ثقتك فيها، كنت محجوباً عن رحمة الله، لهذا قال الله عز وجل:
﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
رحمة الله لا تعز على أيّ طالبٍ لها:
يا إخوة الإيمان؛ رحمة الله لا تَعِز على أيّ طالبٍ لها، أيُّ طالبٍ لرحمة الله يجدها في أي مكانٍ، وفي أي زمان، أين وجدها إبراهيم عليه السلام؟ وجدها في النار.
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾
جاءته رحمة الله وهو في النار، فأصبحت النار برداً وسلاماً.
أين وجدها يوسف عليه الصلاة والسلام؟ وجدها في الجب، حيث الموت جوعاً وخوفاً، ولكن رحمة الله عز وجل أنزلها عليه وهو في الجب:
﴿
رحمة الله عز وجل وجدها يوسف عليه السلام وهو في السجن، والسجن وما أدراكم ما السجن! مكان ضيق، وظلام دامس، ورطوبة بالغة، وقسوة غير معقولة، ومع ذلك إذا جاءت رحمة الله عز وجل أصبح هذا المكان الضيق جنةً، والذين عرفوا الله عز وجل، وعرفوا رحمته، صادقون فيما يقولون، هذا النبي العظيم وجد رحمة الله عز وجل وهو في السجن.
سيدنا يونس أين وجدها؟ وجدها وهو في بطن الحوت، ما من مصيبة على وجه الأرض أشد من أن تكون في ظلمات ثلاثة، في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة الليل، ومع ذلك طلبها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت.
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
فجاءت رحمة الله عز وجل وأنقذته.
وجدها موسى عليه السلام وهو في اليم، في صندوق خشبي، طفل صغير رضيع عاجز عن أن يتنفس، أُلقي في صندوق، وأُلقي الصندوق في اليم، لكن رحمة الله جاءته فسيّر الله هذا الصندوق إلى شاطئ قصر فرعون، وألهم امرأة فرعون أن تكون في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، على شط نهر النيل، ووقعت منها التفاتة، فإذا صندوق يتحرك، أخذته وفتحته، فإذا هو غلام، قالت:
﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ
جاءت رحمة الله وهو في قصر فرعون، قَتل أبناء بني إسرائيل جميعاً، من أجل ألا يأتي غلام منهم يقضي على ملكه، والذي سيقضي على ملكه رباه في قصره، هذه رحمة الله عز وجل.
أصحاب الكهف جاءتهم رحمة الله وهم في الكهف.
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
أيها الإخوة الأكارم؛ لعلكم تقولون: لقد أطال في تفسير هذه الآية، إنها رحمة الله، إذا سعينا إليها أسعدتنا، إذا سعينا إليها أنقذتنا، إذا سعينا إليها ألقت في قلوبنا نوراً، وحبوراً، وثقةً بالله عز وجل.
رحمة الله وجدها النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الغار، وقد تعقبه الكفار، عن أبي بكر رَضِي اللَّه عَنْه:
(( قُلتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟! ))
إلى أن قال أبو بكر رَضِي اللَّه عَنْه يا رسول الله لقد رأونا، وقعت العين على العين، قال: يا أبا بكر، ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا
رحمة الله إذا جاءتك فأنت أسعد الناس، وإذا حُجبت عنك، لو كنت أقوى الناس، لو كنت أغنى الناس، لو كنت أصح الناس، فهي شقاء في شقاء.
لا ممسك لرحمة الله إذا فتحها:
أيها الإخوة الأكارم؛ متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، أقول لكم هذا الكلام، وهذا الكلام زبدة هذا الدرس: رحمة الله يجدها كل طالبٍ لها، يائس مما سواها، إن طلبتها صادقاً، ويئست مما سواها نلتها مهما كنت، كن أي إنسان في أي مكان، وفي أي زمان، لذلك من الدعاء الشريف:
من لوازم الشعور برحمة الله عدمُ الخوف من الناس:
لذلك استنباطاً من هذه الآية الكريمة:
إذاً: الاستنباط البسيط أنه ينبغي ألا تخاف أحداً، وألا ترجو أحداً، لأن أحداً لا يستطيع أن يمنحك إياها إذا حجبك الله عنها، وإن أحداً لا يستطيع أن يحجبها عنك إذا أرسلها الله إليك، الاستنباط الواضح القطعي ما دامت رحمة الله هكذا إنْ فتحَها فلا ممسك، وإنْ أمسكَها فلا مرسل، إن كانت كذلك إذاً فمن الغباء، وضيق الأفق، والحمق، أن ترجو أحداً، أو أن تخاف أحداً، من الشرك وضعف الإيمان أن ترجو مخلوقاً، وأن تخاف من مخلوق، قلت أحداً، أعني به الإنسان، الآن قلت: مخلوقاً، أن ترجو مخلوقاً، أو أن تخاف من مخلوق، بل من الشرك أن ترجو شيئاً، أو أن تخاف من شيء، بل من الشرك أن تخاف فَوْت الوسيلة، فإذا تجلّى الله عليك برحمته كان هو الوسيلة، وأن ترجُوه مع الوسيلة، فإذا حجب الله عنك رحمته لا قيمة للوسيلة، هناك أسباب، إن جاءت رحمة الله فلا معنى للأسباب، وإن حجبت رحمة الله فلا معنى للأسباب. إذاً ملخص هذه الآية حديث شريفٌ بليغٌ موجزٌ جامعٌ مانعٌ، قيل: "لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه"، لا ترجُ أحداً، ولا تخف أحداً، لا ترجُ مخلوقاً، ولا تخف من مخلوق، لا ترجُ شيئاً، ولا تخف من شيء، لا ترجُ وسيلةً إذا حُجِبت عنك رحمة الله، ولا تخف فوَتْ وسيلةٍ إذا جاءتك رحمة الله.
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا
وهي مبذولة لكل عباده المؤمنين، لا فرق بين أبيضهم وأسودهم، ولا بين غنيهم وفقيرهم، كلكم لآدم وآدم من تراب.
الاستقامة سبب لرحمة الله:
أيها الإخوة الأكارم؛ قد تأتيك رحمة الله عز وجل ولا شيء يتغيّر مِن حولك، ولكن شعورك برحمة الله هو من رحمة الله، ولكن شعورك بالطمأنينة هو من رحمة الله، فإذا وجدت الله وجدت كل شيء، وإن فاتتك رحمة الله فاتك كل شيء، ورحمة الله تحتاج إلى معرفة أولاً، وإلى استقامة ثانياً، وإلى عمل صالح ثالثاً، فإذا توافرت لك المعرفة عن طريق التفكّر، وعن طريق حضور مجالس العلم، وإذا توافرت لك الاستقامة عن طريق معرفة منهج الله عز وجل، والالتزام به، وإذا أكرمك الله بعمل صالح خالص لوجهه فقد أصبت رحمة الله، ولا تنس قوله تعالى:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
لأن الذي يجمعونه مهما كبر حجمه، يتركونه في الدنيا، ويدخلون في قبورهم حفاة عراة، لا شيء ينفعهم إلا العمل الصالح، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، والنفس طماعة عوّدها القناعة،
وإذا العناية لاحظتك جفـونها نـم فالمـخاوف كلـهن آمـان
* * *
إذا كنـت في كل حال مـعـــــــــــي فعـن حمل زادي أنا في غـنى
فأنتـم هو الحـق لا غيركــــــــــــم فيـا ليت شـعري أنا مــــــن أنا
* * *
هذه رحمة الله، الشيء اللطيف أنها مبذولة، وأنها لكل الخلق.
أبلغ كلمة قالها سيدنا عمر رَضِي اللَّه عَن عمر لسيدنا سعد بن أبي وقاص، وسيدنا سعد بن أبي وقاص خال رسول الله، وكان يحتل مكانة عليّة جداً عند النبي عليه الصلاة والسلام، فهو الوحيد الذي كان إذا دخل عليه داعبه، وقال: عن جابر بن عبد الله:
(( أقْبَلَ سَعْدٌ ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : هذا خالي فليُرِني امرُؤٌ خالَه. ))
هو الوحيد الذي فداه النبي بأبيه وأمه، عن علي قال:
(( يَا سَعْدُ، ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. ))
هذا الصحابي الجليل الذي قال مرة:
هذا الصحابي الجليل قال له عمر بن الخطاب:
الإنسان بطاعة الله يصل إلى رحمته سبحانه:
أنت بطاعة الله وحدها تصل إلى رحمة الله، وبمعصية الله وحدها تُحْجب عن رحمة الله.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
لا فضلَ لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، أنا لا أغني عنك من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، مَن يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه، أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً، هذا هو الدين.
وقف بلال وصهيب، وقف أبو سفيان زعيم قريش، سيد قريش، في باب عمر بن الخطاب ساعات طويلة فلم يؤذن له، وصهيب وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان، فلما دخل أبو سفيان آلمه هذا الموقف، قال: زعيمُ قريشٍ يقف في بابك ساعات طوالاً، وصهيب وبلال العبدان الأسودان يدخلان ويخرجان بلا استئذان؟! فقال عمر كلمة واحدة، قال: << أأنت مثلهما >> ؟ ليسوا سواء، من آمن من قبل الفتح وأنفق، الذي آمن برسول الله في زمن الضعف، وأنفق ماله لا يستوي هذا مع من أسلم عندما قوي الإسلام، وعظمت شوكته.
سيدنا بلال وضع سيدنا الصديق يده تحت إبطه، وقال:
لا تقل أصْلي وفصلــــــــي أبــداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
* * *
كن ابن ما شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النســــب
* * *
هذه رحمة الله عز وجل، رحمة الله لمن عرف الله، واستقام على أمره، وعمل الصالحات، هذا يرفعه الله مكاناً عالياً، هذا يرفع الله له ذكره.
النفس مفطورة على حبّ مَن أحسن إليها:
الآية التي بعدها:
نعمة الإيجاد والرشاد والإمداد:
الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
سخر لك ما في السماوات والأرض، نعمة الوجود مضافٌ إليها نعمة التكريم، مضاف إليها نعمة العقل، مضاف إليها نعمة الاختيار، مضاف إليها نعمة الأمانة، مضاف إليها نعمة الشهوات التي أودعها الله فيك، لترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، مضاف إليها نعمة الفطرة السليمة، مضاف إليها نعمة الرسالة، نعمة الكتاب، نعمة العبادات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ يمكن أن نلخص هذه النعم كلها بنعم ثلاثة؛ نعمة الإيجاد، ونعمة الإرشاد، ونعمة الإمداد، أمدك بكل شيء، أيُّ شيء أنت محتاج إليه خلقه الله لك في الأرض، مثلاً - وإن كان هذا المثل بعيداً عن سياق الدرس- هؤلاء الحجاج حينما يطوفون بالبيت الحرام، الحرّ هناك شديد، قد تصل حرارة المسجد الحرام إلى 59 درجة فوق الصفر، نوع من الرخام وُجَد في بقعة نائية من العالم، لو أن الشمس بقيت مسلطةً عليه عشر ساعات لا تزيد حرارته عن عشر درجات، وُضع في أرض الحرم، وفي مقام النبي عليه الصلاة والسلام، أليس هذا من نعمة الله؟ مَن صمم هذا الرخام ليرفض امتصاص الحرارة؟ الله سبحانه وتعالى، ما من شيءٍ نحتاجه نحن إلا وقد وفره الله لنا، هذا الحديث يطول، لو وقفت في أحد أسواق المدينة، فرأيت أنواع السلع، وأنواع النباتات، وأنواع الخضراوات، وأنواع الأدوية، وأنواع الأدوات، وأنواع الآلات، وأنواع المعادن، وأنواع أشباه المعادن، شيء لا ينتهي، هذه نعمة الله، نعمة الله في الإيجاد، ونعمة الله في الإمداد، ونعمة الله في الهدى والرشاد، هذا من نعمة الله، هذا الدرس من نعمة الله عز وجل، أن يُنَزل الله على نبيه كتاباً فيه منهج، فيه ذكر مَن قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، فيه أمرٌ ونهي، فيه حلال وحرام، فيه وعد ووعيد، فيه إنذار وبشارة، فيه خبر الأقوام السابقين، فيه ما قبل أن نأتي إلى الدنيا، فيه ما بعد الموت، كتاب بين أيدينا، فيه تِبيان لكل شيء، هذا من نعمة الله عز وجل، نعمة الإيجاد، أنت موجود على سطح الأرض، لك اسم، لك حيز، وتأكل، وتشرب، وتسكن بيتاً، ولك زوجة، وأولاد، ولك أجهزة وأعضاء، وغدد صم، وغدد غير صم، وقلب، ودسامات، وأوردة، وشرايين، وأعصاب، وعضلات، ومئة وثلاثون مليون مخروط بالشبكية، وثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعر وريد، وشريان، وعصب، وغدة دهنية، وغدة صبغية، وعضلة، وخلايا، وأجهزة، شيء لا ينتهي، نعمة الإيجاد.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾
من أنت قبل خمسين عاماً؟ لمن كانت سنه قبل الخمسين طبعاً، لا شيء، ما لك اسم، تقول: أنا.
مرة رأيتُ طفلاً في مكان في بهو عام، يبدو أن أهله كانوا مسافرين، وضعوا له من الفوط حول وسطه ما جعله كالكرة، قلت: هذا الإنسان حينما يبدو صغيراً، بعد أن يكبر ينسى الله عز وجل، يقول: أنا، من أنت؟ كنت طفلاً صغيراً بحاجة إلى كل شيء، فلما كبرت سنك، وقوي عودك، وعلا شأنك نسيت الله عز وجل:
الله تعالى هو الخالق الرازق:
الشيء الدقيق في هذه الآية:
الله تعالى هو الرزاق وعلى الإنسان ألا يتجه لغيره:
مركز ثقل الآية:
العلماء قالوا: السماء هو المطر، كم هي الفرحة عارمة حينما نرى هذه الأنهار، وقد طفحت، وارتفع منسوبها إلى خمسة أضعافِ العامِ الماضي، من خمسة أمتار مكعبة في الثانية الواحدة إلى أكثر من خمسة وعشرين متراً مكعباً في الثانية الواحدة غزارة بعض الأنهار، هذه الفرحة بهذه المياه الغزيرة أين كانت لولا أن الله تفضَّل علينا بهذا المطر؟ العلماء قالوا:
قلت مرة لأحد الإخوة وعنده مزرعة نحل أو خلايا نحل فسألني: أفي النحل زكاة؟ قلت: نعم، هكذا نص العلماء، زكاة النحل كزكاة الزرع، إن كان في أعشاش طبيعية فالعشر، وإن كان في خلايا صناعية فنصف العشر، قلت له: وإلا إنْ لم تدفع زكاة النحل فالقراد جاهز، القراد آفة تصيب النحل، آفة عظيمة، أصابت خلايا النحل قبل عامين فطاشت عقول أصحاب المناحل، آفة اسمه قراد النحل، فإما أن تدفع وإما القراد جاهز، إما أن تزكي زكاة هذا النبات، وإما فالصقيع جاهز، تارة دودة، تارة فأر حقل، تارة حشرة، تارة ذبابة، ذبابة بيضاء أحرقت الحرث والنسل في الساحل، حتى الآن ليس هناك دواء لها، كل النباتات تتجعد وتموت بفعل الذبابة البيضاء، فما تلف مال في بر أو بحر إلا بحبس الزكاة، في الداخل وفي الخارج، وفي أي مكان، إذا حُبِست الزكاة تلف الزرع، فلذلك هذه قوانين:
أحياناً تقل أمطار البادية فنضطّر إلى استيراد علف بما يزيد على عشرات مئات الملايين إذا قلّ المطر في البادية، والعشب الطبيعي يغني عن ألوف الملايين:
معركة الحق والباطل أزلية:
لا قرار إلا للحق:
لكن الأمر كله لله، الله عز وجل يقول:
﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
الأمور تدور وتدور، والقوى تصطرع، ولا يستقر إلا الحق:
﴿
الأمور تدور، والقوى تتصارع، وهناك مَن يعلو، وهناك من يسفل، وفي النهاية لا يستقر إلا الحق على قدميه.
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ
ورأيتم بأم أعينكم كيف أن قوى الباطل قد تهافتت، وتساقطت لأسباب صغيرة جداً، ما كان يُظَن أن تتهاوى لهذه الأسباب، ولكن شاءت مشيئة الله ذلك، أي إلى الله ترجع الأمور، لو أنهم كذّبوك فالله معك، قال له: يا عدي بن حاتم، لعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ما ترى من حاجتهم؟ كانوا فقراء، كان أصحاب النبي فقراء جداً، فعدي بن حاتم كان ملكاً من ملوك الجزيرة، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام كان يظنه ملكاً، فلما دخل عليه ما عرفه، لأنه كان بين أصحابه، فقال النبي له من الرجل؟ قال: أنا عدي بن حاتم، فرحب به النبي عليه الصلاة والسلام، وانطلق به إلى البيت تكريماً له، قال: في الطريق استوقفته امرأة تكلمه طويلاً في حاجتها، وقف يستمع لها، قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، إنه نبي، فدخلت بيته، دفع إليّ وسادة من أدم محشوة ليفاً قال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس هو على الأرض، ليس في بيته إلا وسادة من أدم محشوة ليفاً، واحدة، قال: يا عدي بن حاتم، لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، وايم الله، ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها هذا لا تخاف، لاستتباب الأمن للعرب المسلمين، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وايم الله ليوشكن أن ترى القصور البابلية مفتحة للمسلمين، ولقد عاش عدي بن حاتم حتى رأى هذا كله بأم عينيه، وإلى الله ترجع الأمور، الأمر بيد الله، والله عز وجل يقول:
﴿
وعدُ الله واقع لا محالة:
الموتُ واقع لا مفر منه:
أحياناً الإنسان يرى شيئاً له نتيجة حتمية، يتنبأ بهذه النتيجة قبل أن تقع، ليقينه بأنها لابد من أن تقع.
إذا كان هناك شخص - لا سمح الله - راكباً مركبة، وتعطل معه المكبح فجأة، والطريق منحدر، والسرعة شديدة، وهناك منعطف حاد في نهاية هذا المنحدر، ولن تقف معه المركبة، أول صيحة يصيحها يقول لك: هلكنا، يستخدم الفعل الماضي، لتحقق الوقوع، يستخدم الفعل الماضي لتحقق الوقوع: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ الإنسان مهما عاش:
كل ابن أنثى وإن طالت ســــلامته يوماً على آلة حدباء محمـــــول
فإذا حملت إلى القـبور جنـــــــازة فأعلم بأنك بعدهـا محـمـــــــولُ
* * *
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خَلق جديد، وعلى عملك شهيد، تزوّد مني فإني لا أعود. النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ يقول: عن حذيفة:
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. ))
ما دمتَ قد استيقظت فقد سمح الله لك بيوم جديد:
الدنيا تغر وتضر وتمر:
دخلوا على سيدنا أبي عبيدة الجراح فرأوه يسكن غرفة، وهو قائد جيش المسلمين، يسكن غرفة فيها قِدْر ماء مغطى برغيف خبزٍ، وسيفه معلق على الجدار، ويجلس على جلد غزال، فقيل له: ما هذا؟ قال: هو للدنيا، وعلى الدنيا كثير، ألا يبلّغُنا المقيل؟ يقول الله عز وجل:
الدنيا حظوظ والغرور أن تراها بغير حجمها الحقيقي:
أيها الإخوة؛ هذه الآية تحتاج إلى تفصيل طويل، على كل نقف عند كلمةٍ واحدة منها:
الدنيا فيها حظوظ، المال حظ، بمعنى نصيب، وفيها القوة، وفيها الجمال، وفيها الذكاء، وفيها البيت، وفيها الزوجة، وفيها الأهل، هذه الدنيا لها حجم عند الله، ما الغرور؟ أن تراها بحجم كبير جداً، أكبر من حجمها، إن عرفت حجمها، إن رأيتها زائلة، وماضية، وإن رأيتها ممراً وليست مقراً، وإن رأيتها دار عمل، وليست دار جزاء، إن رأيتها سرادقاً إلى الجنة، إن رأيت الدنيا مزرعة الآخرة، فهذه رؤية صحيحة، وهذا حجمها الحقيقي لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
فهي لها حجم، مالُها قد ينفع المؤمن في بلوغ الجنة، والعلم فيها ينفع المؤمن، هي مزرعة الآخرة، ليس بخيركم مَن ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يأخذ منهما معاً، فإنّ الأولى مطية للثانية، أما أن نلتفت إلى الدنيا وحدها، وأن ننسى الآخرة، وأن نجعلها كبيرة جداً، تطغى على كل أهدافنا، وننسى ربنا من أجلها عندئذ وقعنا في الاغترار، الاغترار أن ترى الدنيا بحجم أكبر من حجمها الحقيقي، أو ألا تعرف حقيقتها، ولا سرَّ وجودك فيها، ولا طبيعتَها المتقلبة، أما الغَرور فهو الشيطان.
على كل لنا مع هذه الآية وقفة متأنية إن شاء الله تعالى في الدرس القادم، إلا أن الشيء الذي لابد من ذكره أن ربنا عز وجل يحذرنا من أن نرى الدنيا بحجم أكبر من حجمها، ويحذرنا أن نقع في المعاصي، وأن نطمع في مغفرته، هذا فعل الشيطان، الغرور، يدفعك إلى المعصية، ويقول لك: سيُغفر لك، أما يوم القيامة فيفاجئك:
﴿
يدعونا الله عز وجل في هذه الآية إلى أن نرى الدنيا على حقيقتها، أن نراها مزرعة الآخرة، أن نراها ممراً، وليست مقراً، أن نراها دار عمل، وليست دار جزاء، أن نراها مطية للآخرة، أن نرى أن أثمن شيءٍ فيها معرفة الله، والاستقامة على أمره، والتقرب إليه، هذا أثمن ما في الدنيا، وما سوى الدنيا باطل في باطل.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين