- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت الحكيم، اللهم العليم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(105) ﴾
السعادة والشقاء مرهونان بعمل الإنسان في الدنيا :
كانوا في الدنيا، الذين استقاموا وعملوا الصالحات، بعد أن عرفوا الله عز وجل يأتون إلى الله يوم القيامة سُعداء، والذين غفلوا، وجهلوا، وعَصَوا، وأساءوا في الدنيا هم يوم القيامة أشقياء، كأن يدخل الطلاب الامتحان، فمنهم ناجِحٌ لأنه درس، ومنهم راسبٌ، لأنَّه قصَّر
﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(105)فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
الزفير والشَّهيق كِنايةٌ عن بذْل الجهد الذي لا يُحْتَمل في تَحَمّل العذاب، كِنايةٌ عن بذل الجهد في تَحَمّل العذاب
﴿
أيْ خالدين في جهنَّم
﴿ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(107)وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾
موضوعات مستنبطة من هذه الآية:
موضوعات كثيرة في هذه الآية:
1 ـ الموضوع الأول: حرية الاختيار وتبعاته:
أنَّ الله سبحانه وتعالى أعْطانا الخِيار
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3) ﴾
﴿
ما دام الله سبحانه وتعالى أعْطانا الخِيار فنحن سوف نتحمّل تَبِعَة اخْتِيارِنا، وتَبِعَةُ اخْتِيارنا شَقاءٌ إلى الأبد، أو سعادةٌ إلى الأبد هذه تَبِعَة الاختيار، ما ينْتج عن الاختيار، إن صحَّ اختيارك وحسُنَ، وأصاب اختيارك فأنت من السُّعداء، وإن أسأْتَ في اختيارك فهذا صاحب الإساءة في الاختيار من الأشقياء.
2 ـ الناس فريقان في الدنيا ويوم القيامة بتقسيم الكتاب والسنة :
يوم القيامة يُفرز الناس إلى فريقين، هُم في الدنيا آلاف الأنواع، بيضٌ وسود وصُفْر، ريفيُّون أو مَدَنِيُّون، أغنياء، فقراء، أقوياء، ضعفاء متحضِّرون ومتوحِّشون، متقدِّمون ومتخلِّفون، منتجون أو مستهلكون، أرستقراطِيُّون كادِحون، في الدنيا تقسيمات لا نهاية لها، ولكنَّ البشر جميعاً على اختلاف عِرْقهم، وعلى اختلاف أجناسهم وألوانهم، وعلى اختلاف مشاربهم ومللِهم، وعلى اختلاف نِحَلهم وأصلهم، وعلى اختلاف ألوانهم ولغاتهم، شَقِيّ وسعيد، لذلك عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:
(( يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عبيةَ الجاهليةِ وتعاظُمَها بآبائها فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ والناسُ بنو آدمَ وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ قال اللهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))
هذا تقسيم النبي عليه الصلاة والسلام، و ليس في القرآن الكريم إلا نوعان
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ
﴿
﴿
كأنّ القرآن الكريم يُقَسِّم البشر على اختلافهم إلى نوعين، مؤمنٌ وكافر، ومقبلٌ ومدبر، متَّصِلٌ ومنقطع، ومحسنٌ ومسيء، مخلصٌ وزائغ، هذا التقسيم الأساسي في الدنيا كما قسَّمه النبي عليه الصلاة والسلام
3 ـ الجهل هو السبب الأول للشقاء :
شَقُوا بِبُعْدهم عن الله عز وجل، وشَقُوا بِجَهلهم، شَقُوا بانْحِرافهم وإساءتهم، وشَقوا بِطُغْيانهم، وشَقُوا بِتَجاوُزِهم الحدود، هذه أسباب الشقاء، وعلّة العلل الجهل، أعْدى أعداء الإنسان الجهل، جهلوا الله وما عرفوه، فَشَقوا بِجَهلهم، ابن آدم اطْلبني تَجِدني فإذا وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فِتُّكَ فاتَكَ كلّ شيء، وأنا أحبّ إليك من كلّ شيء
كما قلتُ قبل قليل كِنايَةٌ عن العذاب الأليم الذين يتحمَّلونه، إنَّهم يبْذلون جُهداً كبيراً في تَحَمّل آلام النار، وفوق ذلك هم خالدون
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ
1 ـ وقفة مع : مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أما كلمة ما دامت السماوات والأرض، هذه (ما) مصدريّةٌ ظرفيّة كما أعربها العلماء، تؤوَّل على الشكل التالي: خالدين فيها مدّة دوام السماوات والأرض.
أنَّ هذه كِنايةٌ على لغة العرب، وهي كِنايةٌ عن الأبديّة، لو قلتُ لواحِدٍ منكم: أُعطيك هذا المال كل شهرٍ ما أشرقَتْ شمسٌ، إذا ربطتُ هذا العطاء بِسُنّةٍ كونيّةٍ ثابتة فهذا العطاء دائمٌ أبديٌ سرمدي، فكلمة ما دامت السماوات والأرض كِنايةٌ عن الأبديّة، ولكنّ بعضهم يقول
﴿
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2) ﴾
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) ﴾
﴿ وَحُمِلَتْ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً(14) ﴾
2 ـ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ليست دائمة :
بعضهم يقول: السماوات والأرض ليستا مُستمرّتين، لا بُدّ من يومٍ تنتهي السماء وتنتهي الأرض.
وبعض العلماء قال: السماء والأرض اسمُ جنسٍ، فأيّ شيءٍ تستقر عليه قدمُكَ هو أرض، وأيّ شيءٍ يُظلّك هو سماءٌ، وفي الجنةِ أرضٌ وسماء، أهل الجنة ألَيْسوا على أرض الجنة؟ أليس فوقهم سماءٌ تُظِلّهم؟ إذاً في الجنة أيضاً أرضٌ وسماء، والدليل قوله تعالى:
﴿
الأرض في الجنةِ غير هذه الأرض، والسماء في الجنةِ غير هذه السماء، ولكن في الجنة أرض وسماء، وما دامت أرض الجنةِ أرضاً، وسماء الجنةِ سماءً فأنت في الجنة منعَّمٌ فيها، وهذه أيضاً كِنايةٌ عن الأبدِيَّة، والأبديّة يصعب تصوّرها، أشرحها شرحاً رياضيّاً.
وسأشرحها شرحاً تمثيلياً: لو كان معك رقمٌ الواحد في دمشق والأصفار إلى القطب الشمالي! ووضعت هذا الرقم صورة على كسرٍ قيمته لا نهاية، فهذا الرقم قيمته صفر، فأيّ رقم مهما كبر إذا نُسِبَ إلى اللانهاية فهو صفر، فإذا عاش الإنسان ألف مليون مَليون مليُون حتى ينقطع النفس، سنة، هذه إذا قستها بالأبديّة فهي لا شيء.
لو أتَيْتَ بِكِيس طحين، ووضَعت أصبعك بعد أن بلَلْتها، فكم ذرَّةً عَلِقَتْ على أصبعك؟! أحضِر مُكَبِّر وعُدَّها! لو أخذتَ مِلعقةً من طحين أو كأساً من طحين أو كيلو من طحين، هذا الكيس كم ذرَّة؟ لو أنَّ كلّ ذرّة من هذا الكيس ترمز إلى ألف مليون سنة، هذا الرقم في النهاية محدود، ليْسَتْ هذه هي الأبديّة، الأبديّة ما دامت السماوات والأرض، فما دام في الجنة أرض تُقِلك، وسماء تُظلّك فأنت في الجنة، لو فكّرنا في الأبديّة لَزَهِدنا في الدنيا.
سنواتٌ معدودة يُمْضيها الإنسان في نصَبٍ وتعبٍ، وهمٍّ وحزنٍ، وقلقٍ وخوفٍ، وهو متعلّقٌ بها! لو فكّرنا في الأبديّة لهانَتْ الدنيا علينا، ولصَغُرَت في أعيُنِنَا، ولانْتَقَلَت من قلوبنا إلى أيدينا، من عرف الله زَهِدَ فيمَا سِواه، من عرف ما عند الله من نعيم زَهِد في الدنيا وما فيها من لذّائذ
(( أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه ، اقرأوا إن شئتم فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ ))
أيها الإخوة المؤمنون، فَكِّروا في الأبديّة، فكِّروا في حياةٍ لا تنقضي، وحياة الإنسان كَيَومٍ أو بعض يوم، مضى مِن عمرنا كذا سنة، أغلبُ الظنّ بالنِّسبة لبعضنا أنَّه لن يعيش بِقَدْر ما مضى من حياته، الحياة قصيرة تمضي سريعاً، إلى أن تستقرّ تحتاج إلى أربعين سنةً من الجهد والتَّعب والكدّ، لِيَأتي مَلكُ الموت في السِّتين أو السَّبعين، لن تستمتع في الحياة بِقَدْر ما بذلْت لها! هكذا الحياة!! لم نُخْلَق للدنيا، خُلِقْنا لِحَياةٍ أبديّة.
حينما كان النبي عليه الصلاة والسلام يُدْعى إلى اللَّهْوِ كان يقول: لم أُخْلق لهذا، هذا هو السرّ، إما أن تظنّ أنَّك خُلقْت للدنيا، فهذه المُصيبة الكُبرى، والجهل الفاضِح، وهذه هي الطامّةُ الكُبرى، البُطولة أن تعرف أنَّك لم تُخلق للدنيا، وأنَّك خُلقْت للآخرة، والله سبحانه وتعالى يقول في الأثر القدسي:
3 ـ معْنًى آخر لدوام السماوات والأرض :
معْنىً آخر، أنَّ السماوات والأرض مخلوقاتٌ، وكلّ مخلوقٍ خُلِقَ من نور العرش، ونور العرش لا يفْنى، كلّ مخلوقٍ في الكونِ خلق من نور العرش، ونور الله سبحانه وتعالى لا يفنى، وهو الباقي على الدوام إذاً هذا هو معنى الأبديّة.
سيّدنا ابن عباس رضي الله عنه يقول مؤيِّداً هذا المعنى: << لِكُل جنةٍ سماء وأرض >>، يؤكّد هذا المعنى قوله تعالى:
إذاً في الجنةِ أرضٌ، وفي الجنةِ سماءٌ، وما دامت أرض الجنةِ أرضاً، وسماء الجنةِ سماءً فأنت في الجنة، وهذا معنى تقييدُ البقاء بِدَوام السماوات والأرض، أيُّ سماءٍ؟ سماءُ الجنّة، وأيّ أرضٍ؟ أرضُ الجنّة، وإن أخذتها على المعنى القريب حتى أرض الدنيا وسماؤُها تعْنِيان الدَّوام، ما دامت السماوات والأرض كِنايةٌ يستخدمها العرب عن الدَّوام والبقاء والاستمرار، لكن كما قال تعالى:
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ
1 ـ الخلود في الجنة والنار مقيَّد بمشيئة الله :
هنا استثناء، وهذه لها معنى دقيق، العلماء قالوا: الخلود في النار والجنةِ مُقيّد بِمَشيئة الله، حتى لا يقول الإنسان: أنا مستحقّ هذه الجنّة سوف أبقى فيها إلى الأبد! لا، هذا الفضل الإلهي مُقيّدٌ بمَشيئة الله تعالى فالخلود في النار أو الجنّة مُقيّدٌ بِمَشيئة الله، ومشيئة الله اقْتَضَتْ هذه السُنّة، ولكنّ هذه السُنّة لا تُقيِّد مشيئة الله، فمثلاً: لو أراد الإنسان أن يُسافر فَعَلِمَ أنَّه إذا دفَعَ صدقَةً فالله سبحانه وتعالى يحْفظهُ في هذه السَّفْرة دفعَ صدَقَةً، وظنّ أنَّ العلاقة حَتْمِيَّةٌ بين هذه الصَّدقة وبين سلامته في هذه السَفرة! وأنَّ هذا المبلغ الذي دفعَهُ وحْده يكفي لحِفْظهِ فاطْمأنَّ بهذه الصَّدقة واعْتزّ بها، واعتدّ بها، وظنّ أنَّه لن يُصيبهُ مكروه!! لا، مشيئة الله لا تقيّد بهذه الصَّدَقة، لا بُدّ من أن تبقى مع الله في هذه السَّفْرة حتى يحفظك فإذا نسيته، وغفلْتَ عنه، ولو أنَّك دفعْت هذه الصَّدَقة قد تُعالجُ أثناء السَّفر من قِبَل الله عز وجل، المعنى دقيق جدّاً، فمشيئة الله لا تُقيّد، لو أنَّ إنساناً قال: أنا دفعْت هذه الصّدقة ولن يُصيبني مكروه، نقول له: لا، لن يُصيبكَ مكروه بِمَشيئة الله، وحِفْظ الله، هذه الصَّدقة سبب، وهذه الصَّدقة لا تخلق المُسبَّب، ولا تخلق النتيجة، ولكنّها تُعبِّر عن رجائِكَ، وطلبك، وسؤالك لله عز وجل، فإذا صلّى الإنسان، وقال: أنا أصلّي، وفعلَ الخير، وظنّ أنَّه فَعَلهُ من تِلْقاء ذاته، وأنَّه يستحقّ قطْعاً أن يُعَوِّض الله عليه أضعافاً كثيرة دون أن ينظر إلى فضْل الله عز وجل، وإلى توفيق الله، وإلى كرم الله عز وجل، وقعَ في نوعٍ من الشِّرك، مشيئة الله سبحانه وتعالى لا تُقيّد، ومن هذا القبيل قال عليه الصلاة والسلام :
(( أن أمَّ العلاءِ - امرأةٌ من الأنصارِ- قد بايعتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - أخبرتْه أنهم اقتسموا المهاجرينَ قُرْعَةً يعني : فَطَارَ لنا عثمانُ بنُ مظعونٍ أنزلناه في أبياتِنا ، فوجع وجَعَه الذي تُوفي فيه ، فلما تُوفي وغُسِّلَ وكُفِّن في ثلاثٍ دخل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، قالت : فقلتُ : رحمةُ اللهِ عليك أبا السائبِ ، شهادتي عليك لقدْ أكرمَك اللهُ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : وما يَدريِك أنَّ اللهَ أكرمَه ، قلتُ : بأبي أنت يا رسولَ اللهِ فمنْ أكرمَه اللهُ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : أمَّا هو فوالله لقد جاءه اليقينُ والله إني لأرجو له الخيرَ ، والله ما أدري وأنا رسولُ اللهِ ماذا يفعلُ بي ، فقالت : واللهِ إني لا أُزكي أحدًا بعدَه أبدًا ))
2 ـ مشيئة الله نافذة في كل شيء :
الله سبحانه وتعالى له نِظام، مثلاً: لو اشترى رجلٌ حديداً، وأشاد به بِناءً، يقول لك: أنا وضَعْتُ النِّسَب النِّظامية في الإسْمنْت، من جعل لهذا الحديد قوّة التَّماسك؟ الله سبحانه وتعالى، والذي أعطى قوّة الحديد التماسك قادِرٌ في كلّ لحظةٍ أن يسْلبَ الحديد خواصّه، ينْهارُ البناء! فإذا بقِيَ البناءُ متماسكاً فهذا بِمَشيئة الله، وليس بعيداً عن مشيئته تعالى، الذي أعطى الحديد هذا الصّفات، وأعطى الإسمنت هذه الصفات، قادِرٌ في كل لحظة أن يسْلب الحديد والإسمنت صفاته فإذا البناء في الأرض، ولكن شاءَتْ حكمة الله أن يثبِّت خواصّ الأشياء، فلمَّا اقْتضَتْ مشيئتُهُ أن يُعَدِّل بعض الخواص، أن يجعل البحر طريقاً يبساً جعله، كما فعلَ لِسَيّدنا موسى، علماء التوحيد يقولون: عندها لا بها! أي النار لا تُحْرق، ولكنّ مشيئة الله تعالى تجعلها تحرق، والسّكين لا تقطع، عند مشيئة الله لا بها، والأفعى لا تلدغ، ولكن عند مشيئة الله تلدغ، فالله سبحانه وتعالى أعطى لكل شيء خاصّةً، فهناك مواد فيها فعاليّة، وهذه المواد لا تفعل فِعْلها إلا إذا شاء الله، فإذا لم يشأ لا تفعلُ فِعْلها، قد يأخذ المريض الدواء ولا يشْفى، وقد يأخذ مريضٌ آخر هذا الدواء فيشْفى! شاء الله لهذا الدواء أن يكون فعّالاً في فلان، وأن يكون عاطلاً في فلان، وهذا هو التوحيد، لا شيء يغلبُ مشيئة الله عز وجل، فعَّالٌ لما يريد، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فالإنسان لا يظنّ أنَّه مَلكَ شيئاً ما دام أنّه اسْتقام على أمر الله لا بُدّ من أن يحفظه الله تعالى، هذا بمعنى آخر، بِفعَل الله ووفائه وكرمه يحفظك الله، ولكن هذا ليس قهْراً، مِنَّةً وفضلاً، فرْقٌ بين أن يكون الحفظ قهراً، وبين أن يكون الحفظ مِنَّةً وفضلاً، فهؤلاء الذين هُم في النار
3 ـ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ
لم يقل الله عز وجل: إلا من شاء ربّك، وقال: ما شاء ربك، يعني هناك عدد، فـ (ما)تعني العدد، و(من)تعني الأشخاص، بعض المفسِّرين قالوا: هناك عددٌ من أهل النار يمضون فيها حِقَباً من الزَّمَن ثمّ ينتقلون إلى الجنة لِقوله عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ ))
﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) ﴾
4 ـ معنى آخر من معاني هذه الآية :
يُفْتحُ نحو الجنّة باتِجاهٍ واحد، فَرُبَّما أمضى من كان في قلبه ذرةٌ من إيمان حِقَباً كثيرة في جهنّم، تطهَرَتْ نفسُهُ، ونما هذا الخير، ونما إلى أن أصبح غالباً عليه فاسْتحقّ دخول الجنّة، وهذا معنى آخر من معاني هذه الآية
لا يخلد في النار إلا من شرد على الله شرود البعير ليس فيه ذرّةٌ من خير، ولم يفكّر في حياته كلّها بربه، ولم يعمل عملاً صالحاً في حياته كلها
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ
لا أحد يسأل الله عما يفعل :
الإنسان قد لا يستطيع أن يفعل ما يريد، ولكنّ ربّك فعَّال لما يريد، فليس أحدٌ فوقه، وليس من إلهٍ غيره، ولا يُسأل عمَّا يفعل، ولا أحدَ في الكون يُحاسِبُه، فعَّالٌ لما يريد
﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ
إذاً الآية الأولى
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
1 ـ الأمور الثابتة الدائمة مُقيّدة بِمَشيئة الله لا بِطَبيعتها :
الأمور الثابتة الدائمة مُقيّدةٌ بِمَشيئة الله لا بِطَبيعتها، دَقِقوا في هذا الكلام: شروق الشّمس مثلاً، منذ أن كُنَّا في هذه الدنيا وحتى الآن، ما مِن يومٍ إلا وأشْرقتْ فيه الشَّمس، ما مِن مكانٍ إلا وفيه هواء، الماء دائماً مفيدٌ، التفاح دائماً حُلْوُ الطَّعم، المولود دائماً يأتي من نوع الأب والأم، ما مرّ أنّ إنساناً يلد حيواناً!! الإنسان يلد إنساناً، والحيوان يلِدُ حيواناً، الدجاجة تبيض بيضةً ثم تنتهي إلى دجاجة، هذه سُنَن ثابتة، ليْسَت ثابتة بذاتها بل بِمَشيئة الله وبفضله، فالله هو الذي ثبَّتها، ولو شاء لغيَّرها .
المطر مثلاً ما ثبَّته الله، تأتي الأمطار في عامٍ غزيرةً، تشح في عام وتنقطع في عام آخر، هذه بيَد الله لو تعمَّقْت في الأمور لوجدْت كلّ شيءٍ كالمطر، لكنْ شاءَتْ مشيئة الله أن تجعل نزول المطر متغيّرٌ، أما شروق الشمس فثابت، لكنّ شروق الشمس، هذه السنّة الثابتة ليْسَتْ بِطَبيعتها ثابتة، ولكن بِمَشيئة الله ثابتة وبِفَضْل الله وبِمِنَّة الله تعالى، وبِكَرم الله، فأنْ ترى أنَّ زوْجتك أنْجبَتْ مولوداً من البشر، هذه بفَضْل الله، ولو شاء الله لأنْجَبَتْ حيواناً، لكنّ الثبات يوحِي للناس أنَّ هذا شيئاً طبيعياً، ثباتُ خواص الأشياء يوحي للناس أنّ هذا شيئاً طبيعياً، وأنَّ السِّكين تقطعُ دائماً هذا بِمَشيئة الله تعالى، فالموضوع توحيدي دقيق، مشيئة الله سبحانه وتعالى لا يحدُّها شيء، ولا يُقَيِّدُها شيء، والأشياء كما هي عليها لا بِذاتها، بل بالله عز وجل، وهذا معنى قول الله تعالى:
﴿
قيام الشيء بالله عز وجل، الكائنات الحيّة حياتها بيَدِ الله، هذه الشجرة من بثَّ فيها الحياة، وهذه البزرة تبقى خمس سنوات، تزرعها في الأرض فتُنبِتْ، من بثَّ في رشيْمِها الحياة؟! الله عز وجل
2 ـ لا شيء يحدّ ِمَشيئة الله :
الله سبحانه وتعالى شرّعَ لنا شرْعاً، وقال على لِسان النبي عليه الصلاة والسلام:
(( حصِّنوا أموالَكم بالزَّكاةِ ودَاوُوا مرضاكم بالصَّدقةِ وأعِدُّوا للبلاءِ الدُّعاءَ ))
(( مَا تَلَفَ مَالٌ فِي بَرٍّ، وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ بِحَبْسِ الزَّكَاةِ ))
لو أنَّ تاجراً دَفَعَ زكاة ماله واعْتدَّ بهذه الزكاة، وتساهَلَ في بقيّة الأوامر، وأكل مالاً حراماً، ومدَّ عَيْنيه إلى ما لا يَحِلّ له، وسافرَ فطغى في هذه السَّفْرة، وهو يظنّ أنَّهُ دفعَ زكاة ماله، ولن يُتْلفَ مالهُ! لا شيءَ يَحُدّ مشيئة الله عز وجل، وقد يرجعُ إلى بلده، وقد طغى وبغى في سفره، فإذا مالهُ مُصادرٌ أو تالفٌ أو مالهُ محترِقٌ، تفسير ذلك أنّ مشيئة الله لا يحدّها شيء، لا يُنْجيك من الله إلا أن تكون معه فقط ! لا يُنجيك من الله إلا أن تُقبل عليه وتتَّصل به، وأن تكون يقظاً، أما أن تعتمد على سُنّةٍ سنَّها الله، وتُهْمِلَ أشياء كثيرة، عندها إلا ما شاء ربّك.
3 ـ الاستثناء في المشيئة حتى تعتمد على اتصالك بالله :
إذاً مَن دفَعَ زكاة ماله فالله سبحانه وتعالى يحفظ ماله إلا ما شاء ربّك، وعلى هذا فَقِسْ، فهذا الاستثناء استثناء المشيئة من أجل أن لا تعتمد على الطاعة، بل على صِلتك بالله عز وجل، كُن مع الله ترى الله معك، لا تتَّكل على فعلٍ فعلْتهُ ثمّ تغفلُ عنه، إذا غفلْت عنه فإنّ هذا الشيء الذي فعلتهُ لن يُنجيك.
طالبٌ جاء إلى المدرسة ومعه باقة ورْد إلى معلِّمه، أثنى عليه وأثنى على لطفِهِ وعلى ذوْقِهِ وعلى أدبِهِ وأخلاقه، في اليوم الثاني هذا الطالب الذي قدَّم هذه الهديّة لم يكتب الوظيفة، أَتَرَوْن أنَّ هذا المعلّم تقيّده هذه الهديّة عن معالجة هذا الطالب؟ لو أنَّ هذا المعلّم مقابل هذه الباقة تركهُ وشأنه طوال العام، كأنَّ هذه الباقة قيَدَتْ مشيئتهُ، وقيَّدَتْ خِبْرتهُ، وقيّدت رحمته ومعالجته!! لا، ولو أنَك قدَّمْتَ هذه الباقة، ففي اليوم الثاني إن لم تكتب الوظيفة فلا بدّ من التحذير والتَضييق، أَتُراكَ بِهذه الباقة تُقيدُني، وتعطِل خِبرتي في التربية؟!
﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) ﴾
فكيف نوفِّق بين الآية السابقة وهذه الآية؟
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ
عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
1 ـ عطاء الجنة غير مقطوع :
هذا العطاء الذي اسْتحقَه أهل الجنة لن يزول عنهم، ولن يقْطع، جذَّ بِمَعنى قطَعَ، عطاءً غير مجذوذ، ففي الآية الأولى:
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ(106)خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(107)وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾
2 ـ الجنة ندخلها برحمة الله ونقتسمها بالأعمال :
اطْمئِنُّوا، إذا دخلتم الجنّة فلسْتُم منها بِخارجين، وهذه الآية.
مثلٌ آخر يوضّح لكم ذلك: والدٌ وعدَ ابنه أنَّه إذا نجح سيشتري له درَّاجة من النوع الجيِّد، فهذا الابن على تفكيره الضعيف والضيّق، نجح وأخذ ورقة الجلاء وهو ناجح، وتوجَّه مباشرةً إلى بائع الدراجات، وقال له: أعطني هذه الدراجة وخُذ هذا الجلاء!! هذا لا يعقل، فهذه الدراجة لا يتمّلكها إلا إذا دفع أبوه الثَّمَن، لا يكفي هذا الجلاء، فلا بُدّ مِن أن يدفَعَ أبوه الثَّمَن، فالجنّة ندخلها برَحمة الله، ونقتسمها بالعمل
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
بالعمل يُسْمحُ لنا بِدُخولها، ولكنّ دخولها بِرَحمة الله تعالى، نجاحهُ أهَّلَهُ لِهذه الدراجة، ولكنّ هذه الدراجة لن يتملَّكها إلا إذا دَفَعَ أبوه الثَّمَن، وهذا هو التوفيق بين قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ. وفي روايةٍ بهذا الإسْنادِ، ولَمْ يَذْكُرْ: وأَبْشِرُوا. ))
سيّدنا جعفر يقول:
3 ـ لا تتكئ إلا على رحمة الله وفضله :
إذاً: هذه الآية تُعلّمنا أشياء كثيرة، إذا ذهب أحدهم إلى الطبيب، وبِجِسْمه أشياء، وأجرى تحاليل، فإذا التحليل يشير إلى أنه صحيح مائة بالمائة، والنِّسَب كلّها نِظاميّة، لا يتَّكِئ على التحليل، ولكن على فضل الله عز وجل، وما أدراك أنَّ بعض المواد في التحليل غير فعَّالة، وأنّ هناك نِسَب مرتفعة من بعض النِّسب التي لا يجوز أن تكون مرتفعة في الإنسان؟ الإنسان لا يتَّكئ إلا على فضل الله، فإذا اتَّكأ على شيء آخر فهذا أحد أنواع الشِّرْك، إذا اتَّكأْت على عِلمك فهذا شِرْك، اللهم لا عِلم لي إلا ما علَّمتني، ويظلّ المرء عالماً ما طلبَ العِلم، فإذا ظنَّ أنَّه قد عَلِم فقد جهل، إذا اتَّكأْت على أولادك فإنهم يُخَيِّبون ظنَّك، إذا اعتمَدْت على زوجتِكَ يظهر منها مواقف لئيمة، وإذا اعتمدْت على مالك تأتيك مشكلةٌ لا تُحل بالمال، أيّ شيءٍ تعتمد عليه لا يحدُّ مشيئة الله عز وجل، لذلك يؤتى الحَذِرُ من مأمَنِه!
طبيبٌ متخصِّص بِأمراض جهاز الهضم، يعرف ما يجوز وما لا يجوز، وما يُصْلحُ المعدة وما يفْسدها، فإذا هو يُصابُ بِقَرْحةٍ في المعدة، اعْتمَدَ على عِلمه، ومعه بورد في أمراض جهاز الهضم، وأصبح معه قرْحة!!! وطبيب آخر متخصِّص في أمراض القلب، يعرف بالضَّبط ما يصلحُ القلب وما يفسدُه، اتَّكأ على عِلْمهٍ، فأُصيبَ بِأزْمةٍ قلبيَّة، لذلك الإنسان أيّ شيءٍ يتَّكأُ عليه يخيِّب الله ظنه فيه، حتى يُعَلِّمَهُ التوحيد، لقد أشْركْت، إيَّاك أن تُشْرك
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ
قد يعتمد الإنسان على ذكائه، فيرْتَكِبُ عملاً فيه حُمْقٌ لا يوصَف، يُقال له: كيف فعلْتَ هذا؟ أَمِثْلُكَ يفعلُ هذا؟! قد يعتمد الطالب على دراسته، ففي المواد التي هو واثقٌ منها يأخذ علامات قليلة، وفي المواد التي اعتمَدَ فيها على الله عز وجل تأتي الأسئلة بِشَكلٍ موافق لِمَعلوماته.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109)﴾
فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ
هذه الآية دقيقة جدّاً، هؤلاء المشركون الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام يعبدون أصناماً، وآلهةً من دون الله تعالى، اسْتقرار الإنسان وهو على معصِيَة، وبقاؤُه حيّاً وهو على معصيَة، وبقاؤُه قوياً وهو على معصِيَة لا ينبغي أن يُزَلْزِل المؤمن، إنسانٌ يكفر بالله، ويتمتَّع بِصِحَّة جيِّدة، ويتمتَّعُ بِمَوْقفٍ قويّ، وبِمكانٍ مرموق، وهو في معصيَة الله، لا ينبغي للمؤمن أن يهتزّ لهذا
معنى : نَصِيبهُمْ
العلماء في كلمة نصيبهم على ثلاثة أقوال:
بعضهم قال: نصيبهم من الرِّزْق، عبْدي لي عليك فريضة، ولك عليّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي، لم أُخالفْك في رزقك، الكفار يأكلون ويشربون، ويتمتَّعون، ويسرحون ويمرحون، ويسهرون ويسمرون، يفعلون ما يشاءون بِحَسب الظاهر، إياك أن ترى هؤلاء وقد تمتَّعوا في الدنيا، واسْتَعلوا فيها، إياك أن تراهم على حقّ
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) ﴾
الآية الكريمة:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126) ﴾
ليس فقط من آمن، ولكن من كفر كذلك! إنَّ هذه الدنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر، فلْينظر ناظرٌ بِعَقلِه أنَّ الله أكْرمَ محمَّداً أم أهانهُ حينما زوى عنه الدنيا، فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فقد أهان غيره حينما أعطاه الدنيا، يا بُنيّ، ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌّ بعده الجنة بِشَرّ، وكلّ نعيم دون الجنة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافِيَة، لذلك إذا رأيْت الله يُتابِعُ نِعَمهُ عليك، وأنت تعصيهِ فاحْذَرْهُ!
أوَّل معنى مُوَفُّوهم رزقهم، عبْدي لي عليك فريضة، ولك عليّ رزق فإذا خالفتني في فريضتي، لم أُخالفْك في رزقك.
وإنا لَمُوَفُّوهم نصيبهم من العذاب، أيْ كما عذَّبنا قوم عادٍ وثمود ولوط، هؤلاء العُصاة المنحرِفون لا بُدّ من أن يصيبهم مثل ما أصاب أسْلافهم، لا مندوحة، مهما امْتدَّ بهم العُمر، ومهما طال بهم الأمد، ومهما اسْتَعْلَوا في الأرض، يقول الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام: هؤلاء كفّار مكَّة، ولو رأيْتهم قد رسخوا في الأرض ولو رأيتَهُم يتمتَّعون بالأولاد والجاه والقوّة والسلطان، فلا بُدّ من أن يُصيبهم ما أصاب أسْلافهم المكذِّبين، هذا المعنى الثاني.
وإنا لمُوَفُّوهم نصيبهم غير منقوص، يعني الوعْدُ والوعيد، الشيء الذي وعد الله به لا بُدّ من أن يقع، والشيء الذي توعَّد الله به لا بُدّ من أن يقع، وهذا هو معنى هذه الآية.
نكتة بلاغية مستنبطة من الآية : الإعراض عن حطاب الكفار لقلة شأنهم :
إلا أنَّ عُلماء البلاغة لفتوا النَّظَر إلى شيء بليغ في هذه الآية، لو فرضنا طالباً مقصِّراً وقف المدير مع المعلِّم، فيقول له: أما هذا الطالب فسوف نفْصِلُه مِن المدرسة، الحديث يدور بين المدير والمعلّم على مَسْمَعٍ من الطالب لِقِلَّة شأن الطالب غفلنا عنه، ولم نوجِّه الحديث له، فالحديث يدور بين المدير والمعلِّم، وهذا أُسلوب فيه تأثيرٌ بليغ، أيْ أنت بهذا الذَّنْب لا شأْنَ لك عندنا، ولن تسْتحقّ أن نُوَجِّه لك الخِطاب
فكما أنَّ الأقوام السابقة كذَّبوا أنبياءهم فاسْتَحَقُّوا الهلاك، هؤلاء أيضاً سيُصيبُهم ما أصاب أسْلافهم، ولكن إدارة الحديث مع النبي عليه الصلاة والسلام دون توجيه الخِطاب إليهم، هذا لِهَوانهم على الله، وهذا أفْعلُ في نفوسهم، لو أنَّ القاضي الْتَفَت إلى مسْتشارِه عن يمينه، وتشاوَر معه فيما يُقَرِر من عقوبةٍ بِحَقّ هذا المذنب والمذنب يستمِعُ، إنَّ مُشاوَرَة القاضي لِزَميلهِ على مَسْمَعٍ من المذنب أشدّ أثراً في نفسه ممَّا لو توجَه له بالحُكْم، كذلك ربّنا عز وجل يُعلِّمنا الأسلوب الحكيم.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) ﴾
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
في أكثر من موطن في القرآن الكريم فيه إشارة إلى هذه الكلمة
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129) ﴾
العذاب له أجل مسمًّى :
ما هذه الكلمة؟ هذه الكلمة تأتي في القرآن كثيراً، نُرجئ الحديث عنها إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين