- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الناجحون في الحياة يستخيرون الله ويستشيرون أولي الخبرة من المؤمنين :
أيها الأخوة, لا زلنا في موضوع العلم قال تعالى:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
وقال تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾
من خلال هاتين الآيتين يتضح أن أهل الذكر هم الخبراء في كل علم من العلوم, كل علم له خبير، فأنت إن أردت النجاح في الحياة, عليك أن تسأل أهل الذكر, وهذه قاعدة أساسية في الحياة، ينبغي أن تستخير الله, وينبغي أن تستشير أولي الخبرة من المؤمنين الناجحين في الحياة, كما إن الله عز وجل أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال له:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
الناجحون في الحياة يستخيرون الله, ويستشيرون أولي الخبرة من المؤمنين؛ فكل مصلحة, كل حرفة, كل نشاط, كل قطاع له خبراؤه.
من أراد أن يعرف الله فليبحث عن عارف به :
بعد أن تستخير الله, وترتاح إلى أن الله أجابك إلى هذا الطلب, الآن تنكفئ على أهل الخبرة فتسألهم, هناك طائفة من العلماء يعرفون الله عز وجل, إن أردت أن تعرف عن الله شيئاً:
﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾
هناك خبراء بالزراعة, خبراء بالصناعة, خبراء بالتجارة, أطباء متخصصون بالأمراض. فأنت في أي جانب من جوانب الحياة بحاجة إلى عالم تستشيره في هذا الجانب, أما إن أردت أن تعرف الله فينبغي أن تستشير الخبراء لله عز وجل:
﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾
العلماء قسمان؛ علماء الدنيا و علماء الآخرة :
وقد دعا الإمام الغزالي إلى تقسيم العلماء إلى قسمين: علماء في الدنيا, وعلماء في الآخرة؛ علماء الدنيا هم الذين يعرفون دقائق الأمور, وعلماء الآخرة هم الذين يعرفون الله عز وجل.
فأنت في كل قضية يجب أن تسأل عنها الخبير, أما إن أردت أن تعرف الله فابحث عن عارف بالله, عن عالم بالله.
والإمام الغزالي أيضاً له توجيه: "العلم حيثما ورد في القرآن الكريم المقصود منه العلم بالله".
قيل لأحمد بن حنبل: "إذا كتب الرجل مئة ألف حديث, أيحل له أن يفتي؟ قال: لا, قيل: بمئتي ألف حديث؟ قال: لا, قيل: بثلاثمئة ألف حديث؟ قال: أرجو".
أي قضية الفتوى أخطر شيء, قضية حلال وحرام, ففي الفتوى لا يوجد حلوى.
نحن في الحقل الديني عندنا مفتي, ومجتهد, وقاض, وداع, هذه اختصاصات, فمن أجل أن تفتي تحتاج إلى أن تتوسع في دقائق الأحكام الشرعية.
فقيل له: "...ثلاثمئة ألف حديث؟"
أي أرجو الله أن يكون أهلاً للفتوى, بعد أن يحفظ ثلاثمئة ألف حديث طبعاً في شؤون الفقه, والأحكام الشرعية.
نظر رجل إلى إسحاق بن راهويه, وقد وضع قلنسوة على رأسه, فقال له إسحاق: "ما هذا المنظر!؟ فو الله! ما وضعتها على رأسي, حتى حفظت أربعين ألف حديث".
قضية العلم عند السلف الصالح شيء خطير جداً.
يروون أن أحد العارفين بالله أخطأ خطأ, فاعتكف سبع سنوات حتى تمكن من العلم, وألقى العلم على الناس.
إذا عرفت الله ازددت معرفة بنفسك :
قال ابن عطاء الله السكندري في معنى قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً﴾
قال: علماً بالله عز وجل, وعلماً بالنفس.
وقد قال الإمام علي -كرم الله وجهه-: "من عرف نفسه عرف ربه".
أي إذا عرفت الله, ازددت معرفة بنفسك, وإذا عرفت نفسك, ازددت معرفة بالله.
ويقال: إن يحيى وعيسى -عليهما السلام- كانا يصطحبان, فإذا بلغا باب قرية أو مدينة يقول عيسى: "دلوني على أفجر رجل في هذه المدينة وأطغاها, ويقول يحيى: دلوني على أبر رجل وأتقاه, فيقول يحيى لعيسى: يا بن خالة! ما لك لا تنزل على الأبرار والأتقياء؟ فيقول: إنما أنا طبيب؛ أعالج أهل البلوى- أداوي المرضى-.
هذه الكلمة تذكرني بكلمة عالم جليل: يا بني! لا تأتني بأناس من عند العلماء, ائتِ بأناس من الملاهي.
أي بطولتك لا أن تأتي بإنسان له شيخ, تفسده على شيخه, وتقنعه أن شيخه ليس بجيد, وتأتي به إليّ, بطولتك أن تأتي بإنسان من الملهى, إنسان لا يصلي, إنسان شارد, إنسان يغرق في المعاصي, هذه بطولتك.
لذلك هناك رجل قال كلمة: الجيد لا يحتاجك.
الإنسان يجب أن يتجه إلى إنسان شارد؛ إذا كان عنده قوة إقناع, يرى إنساناً بعيداً عن الله عز وجل, يقربه, فهذه بطولة كبيرة جداً, أما إنسان ملتزم, مستقيم, أكثر الأمور محصلها, بقي فقط أن يقنعه أن هذا الشيخ ليس جيداً, تعال إلي؛ هذه ليست دعوة إلى الله عز وجل, هذه عملية إفساد, وعملية فتنة.
العلم أرفع من المعرفة :
وقال بعض العلماء في معنى قوله تعالى:
﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾
قال: "السابق: هو العالم, والمقتصد: هو المتعلم, والظالم: هو الجاهل".
سابق, مقتصد, ظالم.
الإمام الجنيد يقول: "العلم أرفع من المعرفة, وأكمل, وأسلم"، لذلك: تسمى الله بالعلم, ولم يتسم بالمعرفة قال:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾
قال:
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
ترتيب العلماء و المؤمنين على درجات :
وقد رتب المؤمنون والعلماء على درجات فقال:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾
الاعتقاد بالتوحيد لا يُقبل تقليداً :
وخاطب نبيه بأتم الأوصاف فقال:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه﴾
وهذه الآية أيها الأخوة:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
تعني أن الاعتقاد بالتوحيد لا يُقبل تقليداً, ولو فرضنا أن الله يقبل من عباده اعتقادهم به تقليداً, لما كانت أية فرقة ضالة محاسبة عند الله عز وجل؛ لأن كل أبناء فرقة ضالة, وكل أبناء طائفة ضالة, حجتها: يا رب, هكذا قال شيخنا, أو هكذا قال من نعتقد أنه عظيمنا, أما لأن قضية العقيدة قضية خطيرة جداً, فلا يمكن أن تكون تقليداً, والدليل:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
لم يقل قلد, حتى لو إنك اعتقدت صواباً اعتقاداً عن تقليد غير مقبول, لو اعتقدت صواباً, لا بد من أن يكون معك الدليل, الدليل ينفي عنك التقليد، لذلك قالوا: العلم حكم مقطوع بصحته, مطابق للواقع، عليه دليل.
هذا أدق تعريف للعلم: مقطوع بصحته يقيني ليس ظني, ومطابق للواقع كل شيء خالف الواقع صار عليه دليل, وإلا كان تقليداً؛ لو ألغينا مطابقة الواقع لكان الجهل, لو ألغينا الدليل لكان التقليد, لو ألغينا القطع لكان الظن؛ فالعلم ليس ظناً, وليس مخالفاً للواقع, وليس مفتقراً إلى الدليل, يوجد معه دليل.
الحق لا يخشى البحث أبداً لأن الحق هو الله :
وهناك بعض الكلمات يقولها العلماء: الحق لا يخشى البحث أبداً, لا تخف الحق هو الله.
أي لا تدقق فتضيع؟ لا، لن تضيع, العلم بحر تغرق فيه؟ لا, لن تغرق فيه؛ الحق لا يخشى البحث, والحق لا يحتاج أن تكذب عليه, ولا أن تقلل من خصومه, ولا أن تبالغ به, ولا يُستحيا به, الحق هو الله.
وقيل: إن هارون الرشيد دعا الأوزاعي إلى حضرته فأبى, فجاء إليه, وسأله عن شيء فأجابه, فقال له: ما بالي ملئت منك غضباً وغيظاً فلما رأيتك ملئت فزعاً ورعباً؟! فقال الأوزاعي: سمعت أنساً يقول: قال -عليه الصلاة والسلام-: "من تعلم العلم لله لم يخف من شيء, وخاف منه كل شيء, ومن تعلم العلم لغير الله خاف من كل شيء, ولم يخف منه شيء".
من هاب الله هابه كل شيء :
والشيء الدقيق جداً أن الإنسان إن تعلم لله, الله يكسبه هيبة, فإن تعلم لغير الله, ليس له هيبة إطلاقاً.
والمشكلة لما سئل الإمام الحسن البصري: ما هذا المقام الذي حباك الله به؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس, وحاجتهم إلى علمي.
أي الإنسان إذا تعلم لله, ألبسه الله عز وجل ثوب المهابة.
قلت لكم مرة: الحجاج أمر بقتل الحسن البصري, وهيأ السياف, وكل شيء جاهز لقتله في حضرته, فلما دخل الحسن البصري, ورأى السياف, فهم كل شيء, فتمتم بكلمات لم يسمعه أحد, فإذا بالحجاج يقف له, ويرحب به, ويجلسه جنبه في السرير, ويسأله, ويعطره, ويضيفه, ويستفتيه, ويشيعه إلى باب القصر, فتبعه الحاجب- طبعاً الحاجب صعق, والسياف صعق؛ لأنه جيء به ليقتل, فإذا بالحجاج يرحب به- قال له: يا أبا سعيد! لقد جيء بك لغير ما فعل بك, فماذا قلت لربك وأنت داخل؟قال له: قلت: "يا ملاذي عند كربتي, يا مؤنسي عند وحشتي, اجعل نقمته علي برداً وسلاماً, كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم".
يقول الظاهر بيبرس: "والله ما استقر ملكي حتى مات العز بن عبد السلام".
هناك قصص كثيرة جداً، قيل للإمام مالك: "أجب أمير المؤمنين, فقال لهم: قولوا لهارون: إن العلم يُؤتى ولا يأتي, فقال: صدق, نحن نأتيه, فلما سمع أنه سيأتيه, قال: قولوا له: ألا يتخطى رقاب الناس, قال: صدق, فلما جاء أجلسوه على كرسي, فقال: من تواضع لله رفعه, ومن تكبر وضعه, فقال: خذوا عني هذا الكرسي, وجلس على الأرض".
فلذلك: الإنسان عندما يكون مخلصاً, يلبسه الله ثوب المهابة، من هاب الله هابه كل شيء, وفي تاريخ المسلمين مواقف للعلماء يشهد لها التاريخ قوة, وجرأة, والإنسان يكون قوياً, وله هيبة، بقدر إخلاصه, وطاعته لله, فإذا ضعف الإخلاص, وضعفت الطاعة لله, لم يعد له هيبة, فصار ألعوبة بيد الآخرين.
سمعت عن رجل -رحمه الله- عالم, له مثل لطيف: إذا الباخرة شربت من ماء البحر شيئاً, ابتلعها البحر كلها – أي إن خرقت ودخل ماء البحر إليها غرقت, ابتلعها البحر- وإذا الإنسان اقترب من الأقوياء, وأخذ منهم شيئاً ابتلعوه.
العلم إظهار الربوبية أما الإسلام فإظهار العبودية :
آخر شيء: قال الإمام الواصفي في معنى قوله تعالى:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
قال: "هما دعوتان؛ دعا رسوله محمداً إلى العلم بقوله: (فاعلم), ودعا رسوله إبراهيم إلى الإسلام بقوله: (أسلم)":
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
فالإسلام: هو الانقياد, والانقياد إظهار العبودية لله, وإن الله ابتلى إبراهيم حين قال:
﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ﴾
أما العلم ففي قوله تعالى:
﴿فَاعْلَمْ﴾
هو إظهار الربوبية, وعلى هذا فالعلم أعلى منزلة في الإسلام:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
العلم إظهار الربوبية, أما الإسلام فإظهار العبودية.
فسيدنا إبراهيم قال له: (أسلم), وسيدنا محمد قال له:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾