- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
تزكية النفس ثمن جنة الله عز وجل :
أيها الأخوة: كما يُطلب العلم على أهله يُطلب الحلم على أهله.
الإنسان يطلب العلم, ويطلب الحلم؛ أي: لا بد لهذه النفس أن تُزكيها, وتزكيتها ثمن جنة ربها؛ فقد تعلم ولا تكون حليماً, لا تكون ذا حال ترقى بك إلى الله عز وجل.
فالأحنف بن قيس قال: "كنت أطلب العلم عند مالك بن أنس, وأطلب الحلم عند قيس ابن عاصم, ولقد حضرت يوماً عنده, فإذا بجماعة منهم مقتول ومكتوف, فوقفوا بين يدي, وقالوا: هذا ابنك, قتله ابن أخيك -مكتوف ومقتول-, فو الله ما حل حبوته حتى قال لابن له: قم؛ فحلَّ وثاق ابن عمك, ووار أخاك, وسق مئة من الإبل إلى أمه, فإنها غريبة, ثم التفت إلى ابن أخيه فقال: قتلت قرابتك, وأفرحت عدوك, وأذهبت عزك, وقطعت رحمك, فلا أبعد الله غيرك".
كتعليق على هذه القصة أو على مضمون هذا الدرس: الله عز وجل قال:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
تزكية النفس هي ثمن جنة الله عز وجل, في النهاية, المحصلة: الخلق الكريم هو الذي يؤهلك للجنة.
الخلق الحسن ثمنه الجنة :
قد نستنبط من قول النبي -عليه الصلاة والسلام-:
((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه))
الإنسان قد يكون ديِّناً, لكن أخلاقه غير جيدة؛ يصلي, يصوم, يؤدي ما عليه, لكن فظ, قاس, عنده غلظة:
((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه, فزوجوه))
فأنت كما أنك تطلب العلم, يجب أن تزكي نفسك, وكاد الحليم أن يكون نبياً, والحلم سيد الأخلاق. أي غير مقبول أن تكون طالب علم ولك نفس خشنة, الكلام فيه قسوة, الحديث فيه كبر, هذا يتناقض مع أهل الإيمان.
أكثر من ستة أحاديث صحيحة تؤكد أن أعظم شيء في الدين حسن الخلق, والذي له حسن خلق يسبق من أمضى وقته كله في العبادات, لأن الخلق الحسن ثمنه الجنة؛ فكما أن العلم يطلب من أهله, كذلك ينبغي أن تطلب تزكية النفس من أهلها.
ويقول: " لقد كان فيما مضى مجالس للمتقدمين, يجتمعون عليها, قد اندرست, فكان للصالحين في علم اليقين مقامات, يتذكرها أهلها, ويطلبون أربابها, وقد عفت لقلة الطالبين, وعدم الراغبين بها, وذهاب السالكين طرقها؛ منها طلب علم الحلال, والفرق بين شبه الحلال وشبه الحرام، شبه الحلال: الشيء يغلب عليه الحلال لكن فيه شبهة حرام, أما شبه الحرام فيغلب عليه الحرام, لكن فيه شبهة حلال".
الجهل أعدى أعداء الإنسان والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به :
لذلك:
(( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس))
طبعاً شرب الخمر بديهي, يعرفه كل مسلم؛ القتل حرام, الزنا حرام, أن تتزوج هذا شيء حلال, وأن تشتري بيتاً تسكنه هذا حلال؛ لكن بين هذين الشيئين, الواضحيين, البينين, آلاف بل عشرات الآلاف من الأشياء يغلب عليها الحلال وفيها حرمة, أو يغلب عليها الحرام وفيها بعض الحلال, لا بد من طلب العلم، "إن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون علمكم".
المشكلة في النهاية أزمة علم:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
فأنت مهيأ أن تكون مؤمناً كبيراً, وأن تكون من أهل الجنة, لكن العقبة الكأداء الجهل؛ لذلك: الجهل أعدى أعداء الإنسان, والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.
فهناك من يطلب علم الحلال والحرام, والفرق بين شبه الحلال وشبه الحرام, وهناك علم الورع في المحاسبات والمعاملات, وهناك علم الإخلاص, وعلم آفات النفوس, وعلم فساد الأعمال, وعلم نفاق العمل ونفاق القول, والفرق بين نفاق القلب, ونفاق النفس, ونفاق الروح, ونفاق العقل, وعلم إخفاء النفس شهوتها, وعلم الفرق بين سكون القلب بالله وسكون النفس بالأسباب.
الفرق الكبير بين سكون القلب بالتوكل على الله و سكونه بامتلاك الأسباب :
أحياناً الإنسان يتوكل على الله يرتاح, وهناك إنسان معه عملات من كل الأنواع, أينما سافر له حسابات, يشعر براحة. فرق كبير بين أن تسكن إلى الأسباب, وبين أن تتوكل على الله.
أحياناً الشخص تلتبس عليه الأمور، حينما تأخذ بالأسباب, تتوهم أنها تكفي, وأنها تحميك من كل آفة.
شخص من الأغنياء, في جلسة من الجلسات أخطأ, قال: كل شيء يحل بالمال, والدراهم مراهم, وقع بورطة, اضطر أن يبقى ثلاثة وستين يوماً في المنفردة, وكل يوم تأتيه خواطر: أين مالك؟
الإنسان أحياناً يرتاح إذا أخذ بالأسباب, أو معه مال, أو مركزه قوي, وأحياناً الإنسان يرتاح إذا كان متوكلاً على الله.
فرق كبير بين أن يسكن القلب بالتوكل على الله, وبين أن يسكن القلب بامتلاك الأسباب, لأن ربنا لما يؤدب إنساناً لو معه كل الأسباب:
(( إن الله تعالى إذا أحب إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه ))
والفرق بين سكون القلب بالله عز وجل, وسكون النفس بالأسباب, وعلم خواطر النفس, وخواطر الروح, وخواطر اليقين, ولمة الشيطان, ولمة الملك, وغير ذلك.
كشرح لمة الشيطان: ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام الزيدي, أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
((إنَّ للشَّيْطانِ لَمَّة بابْنِ آدَمَ، ولِلْمَلَكِ لَمَّة؛ فأَمَّا لَمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشَّرِّ وتكذيبٌ بالحق، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ فإيعادٌ بالخَير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك، فلْيعْلَم أنَّه من الله))
من كان منضبطاً بمنهج الله كان الطريق أمامه سالكاً إلى الله :
الحقيقة يمكن أن تطلب العلم الشرعي, أما علم أحوال القلب وأحوال النفس فهذا شيء مهم جداً, هذا هو سبب سعادتك؛ فكلما كنت على منهج الله منضبطاً كلما كان الطريق إلى الله سالكاً, وكلما كان الطريق إلى الله سالكاً كلما كانت التزكية أعلى, التزكية تشعر بالقرب من الله, تشعر بالافتقار إلى الله, دائماً تعتمد لا على مالك بل على الله عز وجل, كن بما في يدي الله أوثق منك في يديك.
وأما أهل العلم فقد اختلفوا في معنى قول النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))
بعضهم قال: قال بعض علماء الشام: "إنما عُني به طلب علم الإخلاص, ومعرفة آفات النفوس, -لأنه: إنما الأعمال بالنيات, لو كان لك عمل كالجبال, ولا يوجد إخلاص جعلناه هباء منثوراً".
الإخلاص أخطر شيء في الدين :
أخطر شيء في الدين الإخلاص, لو كان لك عمل كالجبال:
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾
حديث الآن -لا أذكره مرة شرحته في درس طويل-: إنسان قد يأتي وله أعمال كالجبال, فيجعلها الله هباء منثوراً, فقيل:
((يا رسول الله! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ– يصلون ويصومون-, وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
أي مظهره رائع جداً, انتزع إعجاب الناس, أما إذا خلا مع نفسه فينتهك حرمات الله, فكل عمله الظاهر لا قيمة له, عمله للناس, معنى هذا أن علم الإخلاص مهم جداً.
قال: "هناك إخلاص يحتاج إلى إخلاص, إنما عني به طلب علم الإخلاص, ومعرفة آفات النفوس, ووسواسها, ومعرفة مكائد الشيطان وغروره, وما يُصلح الأعمال, وما يفسدها".
طبعاً في البدايات تصلي, تتحرى الحلال, لكن إن أردت أن ترقى إلى أعلى من ذلك, يجب أن تعلم ما الذي يفسد العمل؟ الكبر أحياناً يفسد العمل, أحياناً الزهو بما أنت فيه يفسد العمل.
العلوم الأساسية التي ينبغي على الإنسان أن يطلبها :
وقال بعض علماء البصرة: "طلب علم القلب, ومعرفة الخواطر, وتفصيلها, وبماذا يُدفع خاطر العدو, وهذه فريضة – أيضاً- يحتاج فيها صاحبها إلى أن يفرق بين وسوسة النفس, وعلم اليقين, وقوادح العقل, وهذا مذهب مالك بن دينار".
علماء قالوا: "علم الإخلاص", وعلماء قالوا: "علم القلب".
سيدنا عمر يقول: "تعاهد قلبك".
لو فيه كبر, الكبر يفسد العمل:
((الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ))
وقال بعض السلف: "معناها: طلب علم ما لم يسع جهله من علم التوحيد, وأصول الأمر والنهي, والفرق بين الحلال والحرام".
بعضهم قال: "الأساسيات علم التوحيد, صحة العقيدة, والحلال والحرام".
هذا مذهب ثالث, أو اتجاه ثالث.
وقال إبراهيم بن أدهم: "معناه: طلب علم الحلال إذ قد أمر الله به".
أي طلب العلم فريضة, هذه كلمة عامة: إذا إنسان أخذ لسانس في الفنون الجميلة مثلاً, دخل في الحديث فرضاً, يمكن أن تدرس في المعهد الموسيقي, معك شهادة من المعهد الموسيقي, أخي, أنا طالب علم؟ أي طالب علم هذا!!
العلم المقصود به: "أول رأي: علم الإخلاص, الرأي الثاني: علم أحوال القلب, الرأي الثالث: طلب الحلال والحرام, الرأي الرابع: طلب علم ما لم يسع جهله, طلب علم الحلال إذ قد أمر الله به".
وقال بعض فقهاء الكوفة: "معناه: طلب علم البيع والشراء, والنكاح والطلاق".
أي في البيت متزوج, وفي النهار له عمل, هناك بيع, وهناك شراء, فإذا كان في عمله وفق منهج الله, وفي بيته وفق منهج الله, معناها هذا رأي آخر.
وقال بعض المتقدمين, ومنهم ابن المبارك: "معناه: أن يكون الرجل في منزله, فيريد أن يعمل شيئاً من أمر الدين, أو تخطر له مسألة لله سبحانه وتعالى, إذا كانت القضية لله وفعلها لغير الله فليتركها".
أي يراقب مقصوده من كل شيء.
يقول مؤلف الكتاب:"والذي عنده: أنه طلب علم الفرائض الخمس, التي بني الإسلام عليها, من حيث لم يُفترض على المسلمين غيرها, وعلم التوحيد داخل في هذا الطلب, لأنه من قول لا إله إلا الله".
طبعاً الفرائض الخمس, وفيها علم التوحيد.
من عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم :
قال ذو النون المصري: "سافرت ثلاث سفرات؛ فأول سفرة جئت بعلوم يفهمها العام والخاص, وفي السفرة الثانية جئت بعلوم يفهمها الخاص ولا يفقهها العام".
لأنه من عمل بما علم, أورثه الله علم ما لا يعلم؛ أي هناك علم بسيط, وعلم أرقى؛ أن تعرف الله, أن تعرف أسماءه الحسنى, وصفاته الفضلى.
نحن في عصر الفتن يقظى, والدنيا تجذب الناس إليها, وتأخذهم إليها, فلا بد من علم يكافئ هذه الشهوات, وهذه الفتن, حتى يبقى الإنسان مع الله عز وجل.