وضع داكن
21-11-2024
Logo
الندوة : 06 - قيم البطولة والفداء في تاريخ أمتنا العربية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

أيها الأعزاء؛ أهلاً ومرحباً بكم في ندوتنا هذه التي سوف نتناول من خلالها قيم البطولة والفداء في تاريخ أمتنا العربية، وكم هي كثيرة منذ بدايات تشكل هذه الأمة التي تشكلت منذ بدايات التاريخ الإنساني، وقدمت صفحات ناصعة من البطولة والفداء على مدى تاريخها الطويل، فقد احتلت هذه الأمة منذ قيامها قلب العالم، والأماكن التي كانت دائماً محط أنظار كل القوى التي تتشكل عبر هذا التاريخ الممتد طويلاً، لطالما تعرضت لاعتداءات كثيرة، ولطالما دافعت عن وجودها، ودافعت عن كرامتها، وفي أحايين كثيرة كانت تخرج برسالة الخير إلى غير مكان من هذا العالم الفسيح، وكان الإسلام الذي انطلقت من خلاله برسالة السماء لتعمم هذه القيم السمحاء في عالمنا الواسع، يسعدنا في هذه الندوة أن نستضيف الدكتور محمد راتب النابلسي وهو أستاذ محاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، أهلاً وسهلاً بك دكتور .
دكتور راتب حبذا لو نبدأ أولاً بروحية الفداء، مفهوم الفداء لدى الأمة منذ بداية تشكلها، و كيف تطور هذا المفهوم على مدى تاريخ هذه الأمة الطويل؟

الإنسان هو المخلوق الأول المكلف و المكرم :

الدكتور راتب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
بادئ ذي بدء :الـجـمـاد شيء يشغل حيزاً وله أبعاد ثلاثة .النـبــات شيء يشغل حيزاً وله أبعاد ثلاثة وينمو .الحيوان شيء يشغل حيزاً وله أبعاد ثلاثة وينمو ويتحرك. الإنسان شيء يشغل حيزاً وله أبعاد ثلاثة وينمو ويتحرك ويفكر، أي أن الله سبحانه وتعالى ميز هذا المخلوق الأول بالقوة الإدراكية، فالقوة الإدراكية من خصائص الإنسان، وهي الحاجة العليا في الإنسان وما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة فقد هبط مستواه إلى مستوى آخر، لذلك الإنسان هو المخلوق الأول:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾

[سورة الأحزاب : 72]

والإنسان هو المخلوق المكرم:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[سورة الإسراء : 70]

والإنسان هو المخلوق المكلف بعبادة الله، والعبادة هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.

 

مسارات التضحية :

الآن الإنسان مجبول أو مفطور أو مبرمج بالتعريف الجديد على حبّ ذاته، على حبّ وجوده، وحبّ سلامة وجوده، وحبّ استمرار وجوده، وحبّ كمال وجوده، لكن لأن الله أودع فيه قوة إدراكية قد يدرك إما بحسب تأمله الذاتي أو بحسب الوحيين الكتاب والسنة أنه مخلوق إلى الجنة، والجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكن الجنة سلعة الله، وسلعة الله غالية، ولها ثمن قد يكون باهظاً، فحينما يعتقد الإنسان أنه مخلوق للجنة، وهذه الجنة أبدية، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا بد من دفع ثمنها في الدنيا، لذلك حينما يضحي الإنسان بحياته، بماله، بمكانته، بمنصبه، بوقته، بخبرته، بعلمه، بعضلاته، حينما يضحي بهذه الأشياء هو في الحقيقة يبحث عن سعادته الأبدية ليأخذ مكانها أضعافاً مضاعفة في جنة الله، فمنطلق التضحية لا يمكن أن يضحي الإنسان إلا إذا ظنّ أنه بهذه التضحية هو الرابح، لأن حبّ الذات، وحبّ سلامة الذات، وكمال الذات، واستمرار الذات جزء من جبلته، فأنت حينما ترى إنساناً يضحي بحياته هو في الحقيقة يبحث عن سعادة أرقى، أما من دون هذه العقيدة الصحيحة فالتضحية نوع من العبث، ومن الجنون، قد يضحي إنسان لوهم توهمه، أو لعقيدة زائغة اعتقدها، أو لفطرة أودعت فيه، كحب الولد من قبل الأم أو الأب، التضحية لها مسارات ثلاثة، إما لأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، أو لعقيدة صحيحة جاءتنا من الوحيين الكتاب والسنة، أو لجبلة أودعها الله بالإنسان لاستمرار الحياة .
الأستاذ جمال:
أحياناً الاضطرار يكون بمعنى أن يتعرض الإنسان في ظروف ما للتحدي، يلامس مسألة الوجود تماماً كما يتعرض له أبناء شعبنا العربي الفلسطيني الآن، الحياة أصبح فيها نوع من الاستحالة، التضييق بلغ حدوده القصوى، فهنا الإنسان يجد نفسه مخيراً بين أن يكون مع احتمالات أن يعيش ذليلاً، أو أن يواجه هذا التحدي الذي يصيب منه الوجود، ويصيب منه الكرامة، ويصيب المقدسات التي يقدس .

 

ظلم المعتدين دفع الشباب إلى التضحية والفداء :

الدكتور راتب:
أنا أعتقد أن العدوان الصهيوني، وقسوة هذا العدوان، وظلم هذا العدوان، هو الذي دفع الشباب إلى التضحية والفداء، لأن هذا الإنسان مقتول، ولن يسأل عنه أحد، إذاً قبل أن يقتل رخيصاً ينبغي أن يقتل كثيراً .
الأستاذ جمال:
وأن يقتل بطلاً فذلك لا شك أسمى وأنبل، سوف نأتي إلى هذه المسألة لكن دعونا نعدو إلى سياقات الحديث.
لا شك هذا المفهوم تطور أي عرفته العرب- مفهوم البطولة والفداء - منذ أن تشكلت هذه الأمة، وتطور هذا المفهوم لا شك عبر التاريخ هذه أمة إلى أن بلغ هذا الشكل الأسمى والأنضج من خلال الإسلام، فأصبح للفداء معنى، وللبطولة أصبح معنى، وكان هناك رسالة خير حملها العرب إلى العالم، نشروها في كل أصقاع العالم، واعترف الكثير من المنصفين ممن يسمون بالمستشرقين منهم بفضل العرب على الحضارة الإنسانية، وكلنا يعرف كتاب الألمانية التي رحلت مؤخراً زيغريد هونكه: شمس الإسلام تسطع على العالم، ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المقولة المشهورة في كتابها هذا، إذاً أصبح للتضحية والفداء معانٍ ودلالات وغايات أسمى وأنبل، ما خرج العرب يوماً غزاة، ما خرجوا يوماً معتدين، ما خرجوا يوماً مذلين لغيرهم، وإنما خرجوا لإحقاق الحق، لنشر العدالة، لنشر الخير والمساواة، بين أصقاع الدنيا، ويسوقنا في الموضوع مباشرة إلى ما يجري من غرابة في هذا الزمن الذي نعيشه، هذه النقطة التي نعيشها الآن، التناقض بأغرب صوره، وهو هذا القياس بمعيارين متناقضين، ما تقوم به إسرائيل من عملية بطش، من عملية قتل للأطفال، للشيوخ، للنساء، من عملية تشريد، من عملية إبادة، من عملية انتهاك للمقدسات، كل هذا يسمى دفاعاً عن النفس، وأما دفاعنا عن أنفسنا وهم المعتدون فهو إرهاب، هكذا التناقض، وهكذا المعايير المزدوجة، وهكذا قلب الحقائق، لكن لنعود إلى موضوع البطولة والفداء، وكم هي الصفحات مشرقة دكتور راتب في تاريخنا الطويل، وكم هي المواقع والمآثر الكبيرة التي تدلل على أن هذه الأمة قادرة دائماً على أن تصد أعتى القوى التي اجتاحت، واستطاعت أن تدفع العدوان عن أرضها، وكرامتها، ومقدساتها، وأن تنتصر في النهاية للحقيقة، لأن الحقيقة لا بد من أن تنتصر.

تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف و تكريم :

الدكتور راتب:
الإنسان حينما قبِل حمل الأمانة سخر الله له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، هذا التسخير على نوعين، تسخير تعريف وتسخير تكريم، وقد يلفت النظر قوله تعالى:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

[سورة النساء : 147]

ولأن هذا الكون العظيم مسخر للإنسان تسخرين تسخير تعريف وتسخير تكريم، ينبغي أن تكون استجابة الإنسان لتسخير التعريف أن يؤمن، وينبغي أن تكون استجابة الإنسان لتسخير التكريم أن يشكر .
الآن الشكر على أنواع ثلاثة؛ النوع الأول: أن تعزو النعمة إلى الله، النوع الثاني: أن يمتلئ قلبك امتناناً لله عز وجل، لكن النوع الثالث الذي هو معني في هذه الندوة أن تقابل هذه النعم بعمل، فقد قال الله عز وجل:

﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾

[سورة سبأ : 13]

والتضحية والفداء من العمل الصالح، بل إن علة وجودنا على وجه الأرض أن نعمل صالحاً، بدليل أن الإنسان وهو على فراش الموت لا يتمنى إلا أن يعود إلى الدنيا ليعمل صالحاً:

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾

[سورة المؤمنون: 99-100 ]

أنواع العمل الصالح :

والعمل الصالح على أنواع؛ من هذه الأنواع أن تلتزم الأمر والنهي، ذلك أن في الإنسان طبعاً ومعه تكليف، فطبع الإنسان يقتضي الراحة، والتكليف يقتضي أن تبذل الجهد للآخرين، طبع الإنسان يقتضي أن تتكلم في فضائح الناس، والتكليف يقتضي أن تصمت، طبع الإنسان يقتضي أن تنظر إلى محاسن امرأة أجنبية، والتكليف أن تغض البصر، فطبع الإنسان فردي والتكليف جماعي، فحينما تبذل العمل الصالح وتقع التضحية والفداء في أعلى قائمة الأعمال الصالحة، إذاً الإنسان حينما يؤمن وحينما يضحي يكون قد حقق وجوده، وحقق الهدف الذي من أجله خلق، وعندئذٍ لا يعقل أن تتابع المعالجة لقوله تعالى: " مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ".

 

قيم البطولة قيم أصيلة في أمتنا :

أستاذ جمال- جزاكم الله خيراً- الإنسان عنده دافع إلى الطعام والشراب للحفاظ على وجود كفرد، وعنده دافع إلى الجنس للحفاظ على النوع، لكن عنده دافع آخر عجيب دافع تأكيد الذات، الإنسان لو أنه أكل وشرب، لو أنه تزوج، عنده حاجة - لأنه مخلوق لأهداف نبيلة جداً- إلى تأكيد الذات، فالإنسان حينما يضحي بالغالي يشعر أنه حقق إنسانيته، حينما يبذل ماله أو عرقه أو وقته أو جهده، وحينما يجود بنفسه يشعر أنه إنسان، حينما يعيش على أنقاض الآخرين، يبني مجده على أنقاضهم، يبني غناه على فقرهم، يبني حياته على موتهم، يبني أمنه على خوفهم، يشعر أنه حقير ودنيء، ولو كان يتمتع بأعلى مباهج الحضارة الحديثة، فقيم البطولة قيم أصيلة في أمتنا، بعض المفكرين وصفوا الحضارة الإسلامية بكلمة واحدة: ضبط الذات. وصفوا حضارة الغرب بالسيطرة على الطبيعة، وشتان بين الحضارتين

أحد كبار زعماء بريطانيا قال: ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا، البطولات التي يمتلئ بها تاريخ أمتنا الحقيقة موطن اعتزاز لنا، والتاريخ العظيم ينبغي أن يكون مستمراً، وأن يدفع الأجيال المعاصرة إلى هذه التضحية، أنا أذكر بعض الأمثلة تأكيداً لما تفضلتم به قبل قليل، حينما سقطت طائرة في لوكربي واتهمت بها جهة عربية، الآن يطالبون هذه الجهة بمليارين وسبعمئة مليون دولار، على أساس أن بها مئتين و سبعين راكباً، فكل راكب ديته خمسمئة مليون ليرة سورية، أما هؤلاء الآلاف، عشرات الألوف الذين يقتلون كل يوم من المسلمين، أين ديتهم؟ وأين كفارة قتلهم؟ الحقيقة ما من صفة أحقر بالإنسان من أن يكيل بمكيالين، والحقيقة هناك من يكيل بمئة مكيال، يقول الله عز وجل :

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾

[سورة البقرة: 56]

لمَ لم يقل الله عز وجل فمن يؤمن بالله؟ أنا أعتقد أنه لا يمكن أن نؤمن بالله قبل أن نكفر بطواغيت الأرض، وما دامت الآمال معلقة على طواغيت الأرض فالطريق إلى النجاح مسدود، لا بد من أن نعقد الأمل على الله عز وجل.
أنا أقول لكم: قبل خمسين عاماً نخبة قليلة جداً من المثقفين يعرفون حقيقة الغرب، أما الآن فأطفالنا الصغار يكشفون حقيقة الغرب، والله كنت ألقي محاضرة في مكان باللاذقية قبل أسبوعين، طفل صغير والله لا يزيد سنه عن ست سنوات، قال لي بالحرف الواحد: أنا أستاذ لا أحتمل ما أشاهد على التلفزيون ماذا أفعل؟ الحقيقة أنهم أعانونا على أن نكفر بهم، هذه من إيجابيات الذي حدث، هناك سلبيات كثيرة لا تعد ولا تحصى، الإيجابيات أن الغرب كشف على حقيقته، الأقنعة سقطت، المثل الفارغة أصبحت في الوحل، ادعاءاتهم بحقوق الإنسان والسلام والديمقراطية والحرية وحق المقاضاة أصبحت بالوحل، وعادوا إلى أساليب همجية يترفع عنها الإنسان، وأنا أجمع هذا كله في بيت من الشعر:

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مـسلم مسألة فيها نظر
***

الأستاذ جمال:
بيت الشعر لمحمد الفيتوري الشاعر السوداني المعروف،نحن عندما نتذكر مناسبة تشرين التحرير نتذكر قيم البطولة والفداء في تاريخ أمتنا العربية لأننا نعتبر هذه صفحة من صفحات المشرقة في تاريخ هذه الأمة، ولأننا أكثر من أي وقت مضى نعيش في هذه الظروف - في هذه المرحلة بالغة الدقة- التي تواجه الأمة فيها التحديات في الوجود وفي الهوية، أعتقد بأن للذكرى معانٍ أكثر أهمية في هذه المرحلة دكتور راتب؟

المؤمن الصادق لا يتردد بأن يدفع حياته في سبيل الله :

الدكتور راتب:
سأذكر بيتاً من الشعر قال أحد الشعراء في البطل يوسف العظمة قال:

هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلق الأغرابا
***

كما تفضلت موقن أنه لن ينتصر، ليس هناك من تكافؤ إطلاقاً بين الجيشين، ولكنه آثر أن يموت شهيداً عن أن يعيش ذليلاً.
أستاذ جمال: يوجد نقطة دقيقة جداً نستنبطها من حادثة وقعت في معركة مؤتة، ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام عين قواداً ثلاثة على هذه المعركة:
أولهم سيدنا زيد، وثانيهم سيدنا جعفر، وثالثهم سيدنا عبد الله بن رواحة، فأخذ الراية سيدنا زيد وقاتل بها حتى قتل، ثم أخذ الراية سيدنا جعفر وقطعت يمينه، ثم قطعت شماله، ثم ضمّ الراية بعضديه، ثم قتل سيدنا ابن رواحة تردد فيما يساوي عشر ثوان، عشرة بالضبط، كان شاعراً قال:

يا نفس إن لم تقتلي تموتِي هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلِي فعلهمـا رضــــــــــيتِ وإن تـــوليــــــت فقد شـــــقيتِ
***

فأخذ الراية فقاتل بها - حوار مع الذات- فالشيء اللطيف والدقيق والعميق أن النبي عليه الصلاة والسلام حدث أصحابه عما جرى بوحي من الله، قال: أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم سكت النبي، فلما سكت النبي عليه الصلاة والسلام قلق أصحابه على أخيهم عبد الله، قالوا: يا رسول الله ما فعل عبد الله؟ قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه .تصور أستاذ جمال في النهاية بذل حياته في سبيل الله، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، لأنه تردد، أنا أقول لك: المؤمن الصادق ليس مسموحاً له أن يتردد في حياته في سبيل الله، لأن الله وعده بجنة عرضها السموات والأرض:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

[سورة آل عمران : 169]

بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى،

﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾

[سورة يس :26]

أنا سألت طبيباً من الأطباء ماذا يرى في مرضاه أثناء الموت؟ قال: إنهم يلومون أنفسهم، يصرخون، ويبكون .
التقطت من السيرة قصة رائعة لسيدنا سعد بن الربيع، تفقده النبي عقب معركة أحد فلم يجده، فقال: ابحثوا عنه، فذهب صحابي جليل إلى أرض المعركة ليبحث عن سيدنا سعد بن الربيع، إذا به بين القتلى لكنه لم يمت بعد، قال: يا سعد إن رسول صلى الله عليه وسلم قد أمرني أن أتفقدك هل أنت بين الأحياء أم بين الأموات؟ قال: بل أنا بين الأموات، ولكن أبلغ رسول الله مني السلام، وقل: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، أي كان في قمة سعادته وهو ينازع، وقال لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.

 

الإسلام عمّق في المسلم قيمة التضحية والفداء :

إذاً الإسلام عمّق في المسلم قيمة التضحية والفداء، لأنك حينما تبذل شيئاً تأخذ أشياء من الله عز وجل .
يقول الإمام علي كرم الله وجهه: الغنى والفقر بعد العرض على الله .
وللنبي عليه الصلاة والسلام خطبة رائعة قال:

((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء - لأن الرخاء مؤقت والشقاء مؤقت - قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ))

[ من كنز العمال عن ابن عمر ]

هؤلاء الذي نصروا النبي عليه الصلاة والسلام هم في أعلى عليين، هؤلاء الذين عارضوا دعوته وأثاروا حظوظهم من الدنيا وشهواتهم هم في مزبلة التاريخ، فلذلك التضحية طريق إلى الرقي، يقول الله عز وجل:

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

[سورة البقرة: 5]

الهدى رفعهم .

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 4]

وقد قال علماء التفسير: لكل مؤمن من هذه الآية نصيب، الإنسان حينما يضحي يرفع الله له ذكره، والله أنا قبل مدة وازنت بين فتاة في عمر الزهور- هذه الأخرس التي ضحت بنفسها والتي هزت كيان العدو- وبين فتاة مهندسة قتلت قبل أسابيع بتهمة أنها تنقل المعلومات إلى العدو، قلت: هاتان الفتاتان لو وقفتا يوم القيامة أمام رب العالمين، الأولى ضحت بحياتها وهي مخطوبة وعرسها في الصيف، وفتاة متفوقة في دراستها، ولكن أرادت أن تهز كيان العدو، والفتاة الثانية من أجل مبلغ من الدولارات يسير باعت دينها، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان:

(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا قَلِيلٍ ))

[ أحمد عن أبي هريرة]

الأستاذ جمال:
لكن يكفينا فخراً في هذه الأمة دكتور راتب أن الأخيار مستعدون لأن يدفعوا حياتهم ثمناً للدفاع عن وطنهم وكرامتهم ومقدساتهم وهم الكثرة الغالبة، وإن كان بينهم قلة بالطبع هم غير ذلك، لكن كم هي مشرقة الصور التي نراها كل يوم، كل ساعة، عبر هذه الانتفاضة الباسلة انتفاضة الأقصى المبارك، صورة واحد من الفتيان، وأنت تعرف هذه الفتاة تذكرت صورة واحد من الفتيان فارس عودة الذي أخذ عهداً على نفسه أن يستشهد، وقد فعل ذلك بعد مرور أيام من استشهاد ابن عم له، استشهد قبله بأسبوع، منذ استشهاد ابن عمه قرر في نفسه أن يستشهد، وكان له ذلك، وهاجم دبابة إسرائيل وانقض عليها، والصورة ذكرتني بما سمعت عن صورة ليوسف العظمة في ميسلون حينما نفذت الذخيرة ونفذ السلاح من بين يديه انقض على دبابة للفرنسيين، وهذا صورة موجودة لدى الفرنسيين، لأنهم اعترفوا بأن هذه بطولة ما عرفوها لكن عرفناها نحن أيضاً من خلال هذه الانتفاضة الباسلة انتفاضة الأقصى المباركة، بعد أن ظن البعض أن البطولة انتهت من هذه الأمة، وانحسرت، وذهبت إلى غير رجعة، لكن هذه الأمة تؤكد يوماً بعد يوم بأنها ما زالت أمينة على البطولة، وإن كان هؤلاء الأعداء مزودين بأحدث آلات القتل والدمار.

 

المظلوم أقوى من الظالم إن ضحى بحياته اختياراً :

الدكتور راتب:
أنا سمعت بأذني تصريحاً لشارون يقول: كانت مشكلتنا الأمن، الآن مشكلتنا الوجود، أي هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم ماذا فعلوا؟ ألغوا السلاح النووي، ألغوا إف 16، ألغوا الأباتشي، ألغوا هذا التفوق العملاق، لذلك مرة قال موشي ديان- وزير دفاعهم السابق- حينما جاء فدائي وفجر نفسه وقتل ستة عشر شخصاً، فدخل إلى الكنيست وهب النواب يلومونه، فقال ببساطة: ماذا أفعل مع إنسان جاء ليموت؟ أنا أقول: أقصى ما تملكه على المظلوم أن تزهق روحه، فإذا اختار هذا المظلوم أن يضحي بحياته باختياره أصبح أقوى من الظالم، و أقلق مضجعه .

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ جمال:
والآن إن لم يعودوا إلى رشدهم هؤلاء الذين يقيسون بمقاييس مختلفة، هؤلاء الذين يفترون على الحقائق ويعكسونها، إن لم يعودوا إلى رشدهم أعتقد بأنهم سوف يدفعون بهذه الأمة جميعاً إلى الشهادة، وإلى البطولة، وإلى الفداء، وهي قادرة على ذلك دفاعاً عن الحق، وعن الكرامة، وعن الأرض، وعن المقدسات، لا اعتداء على أحد، وهي ما كانت يوماً تحب الاعتداء، وما اعتدت يوماً على أحد، واليوم يطول حديث البطولة والفداء وما أجمله في مناسبة كالتي نعيشها، وما أدعاه وأكثر ضرورته في ظروف كالتي نعيش، الشكر الجزيل للأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، لك الشكر الجزيل . 

نص الزوار

إخفاء الصور