- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم ، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أيها الأخوة والأخوات ، السلام عليكم ورحمة الله ، وأرحب بكم في برنامج : "مكارم الأخلاق" وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
اللهم يا رب هب لنا السكينة ، موضوعنا السكينة ، فالسكينة هدوء في النفس والأعصاب وارتياح ، وكل ما في هذه الكلمات من معنى ، وحتى لا أقول عن السكينة كلمات مترابطة أترك تعريفها ضمن المعنى الاصطلاحي لكم.
طريق السكينة طريق واحد وهو ذكر الله والإقبال عليه :
الدكتور راتب :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، أستاذ عدنان على وجه الأرض ستة آلاف مليون من بني البشر ، ما منهم واحد إلا ويبحث عن سلامته وسعادته ، والسعادة محلها القلب ، فالقلب قد يشعر بسعادة يطير من خلالها ، وقد يشعر بضيق يدفع نفسه إلى الموت انتحاراً من شدة الضيق ، فهذا القلب موطن السعادة والشقاء ، موطن الرضا والسخط ، موطن الحب والكراهية ، السكينة مصطلح قرآني في أدق تعاريفها ما يجده القلب من طمأنينة ، قال تعالى :
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
أي طريق السكينة طريق واحد ، أن تذكر الله ، أن تقبل عليه ، أن تتوكل عليه ، لأنه وحده المعطي ، المانع ، الرافع ، الخافض ، المعز ، المذل ، مصدر السكينة اتصالك بالله:
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
السكينة أحد أكبر ثمرات الإيمان بالله عز وجل :
الحقيقة الإنسان إذا أعرض عن الله ضاق قلبه ، وشعر بالاضطراب ، وشعر بالقلق ، وشعر بالخوف ، وأصبح وضعه مرضياً
الصحة النفسية أن تتصل بالله ، فلذلك بين المؤمن الذي اتصل بالله وهو يشعر بالسكينة ، وبين الذي شرد عن الله وانقطع عنه فامتلأ قلبه قلقاً ، و ضيقاً ، وإحباطاً ، مسافة كبيرة جداً ، الحقيقة السكينة ـ وهذا من أخطر ما يقال فيها ـ يسعد بها الإنسان ولو فقد كل شيء ، وجدها أهل الكهف بالكهف ، كانوا في القصور ، وجدها سيدنا يونس في بطن الحوت ، وجدها النبي عليه الصلاة والسلام في الغار :
﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
قد يجدها الإنسان في أصعب ظروف حياته ، وقد يفتقدها وهو في قمة الدنيا ، في قمة البحبوحة ، في قمة المال ، في قمة القوة ، شيء عجيب كما أن الحكمة أحد أكبر ثمرات الإيمان كذلك السكينة أحد أكبر ثمرات الإيمان ، هي سعادة الإنسان بربه ، هي شعوره أنه في حمى الله عز وجل ، في عين الله عز وجل .
الإنسان يسعد بالسكينة ولو فقد كل شيء ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء :
النقطة الدقيقة قد يجد الإنسان السكينة وهو في السجن ، كما وجدها سيدنا يوسف، وفي الغار كما وجدها النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي النار كما وجدها إبراهيم عليه السلام:
﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
وقد يفتقدها وهو في أفخر بيت ، وفي أرفه مركبة ، وفي أجمل حديقة ، إذاً يسعد بها الإنسان ولو فقد كل شيء ، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء ، هذا الذي قاله بعض العارفين بالله : "لو يعلم الملوك ما نحن عليه من السعادة والسكينة لقاتلونا عليها" .
عطاء الله قد يكون مرئياً ، وقد يكون غير مرئي ، الله عز وجل يعطي الصحة ، يعطي زواجاً سعيداً ، يعطي مالاً تشتري به بيتاً ، يعطيك أحياناً شيئاً لا يرى بالعين ، يعطيك طمأنينةً ، يعطيك توازناً ، يعطيك حكمة ، السكينة أحد ثمرات الإيمان الكبيرة التي يهبها الله لعبده المؤمن ، لأنها جزاء استقامته ، وإقباله ، وإحسانه للخلق .
الأستاذ عدنان :
دكتور لعل تعريف السكينة من خلال اللغة يعطينا شيئاً يترافق مع هذا المعنى الاصطلاحي الذي ذكرتموه ، فمثلاً كلمة مسكناً ، كلمة بيت ، منزل ، مقطن ، وما إلى ذلك ، كان العرب في القديم يطلقون كلمة بيت على المكان الذي يكون للمبيت ، الدار هي التي في شكلها الخارجي مدورة ، مسكن للذي يسكن فيجد الراحة الكاملة فيه ، منزل للذي ينزل في مكان من سفر ، إذاً موضوع السكينة موضوع يدل على خصوصية في الراحة الكاملة لهذا الإنسان .
السكينة من السكون والسكون من الطمأنينة والطمأنينة من السعادة :
الدكتور راتب :
يدل على السكون ، الإنسان حينما يضطرب يتحرك ، يتحرك حركة عشوائية ، أما حينما يسعد يسكن ، فكأن السكينة والسكون من أصل واحد ، الحقيقة أن السكينة شيء يمكن أن يذوقه المؤمن لمجرد أنه اصطلح مع الله ، إذا رجع العبد إلى الله ، نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .
بل إن الله عز وجل ذكر في معرض آياته الدالة على عظمته في الزواج قال تعالى :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
فكيف يسكن الرجل إلى زوجته ؟ لأنه يكمل نقصه بها ، يكمل نقصه العاطفي بها، وكيف تسكن هي إلى زوجها لأنها تكمل نقصها القيادي به ، إذاً الزوجان يحسان بالسكينة لأن كل طرف مفتقر إلى ما عند الطرف الآخر ، إذاً السكينة من السكون ، والسكون من الطمأنينة ، والطمأنينة من السعادة ، ولا سعادة إلا بالاتصال بالله ، والدليل قول الله عز وجل:
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
والسكينة طمأنينة القلب .
الأستاذ عدنان :
دكتور في قوله تعالى :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
إلى جانب :
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
هذا يشير إلى أن الإيمان وذكر الله يزيد سكينة في قلوب المؤمنين ، إذاً للسكينة درجات يمكن أن نتابعها مع شرح الآية الكريمة .
أنواع الهداية :
الدكتور راتب :
بادئ ذي بدء ، هداية الله أنواع عديدة ، من أنواعها هداية المصالح ، أعطانا الله عز وجل سمعاً ، وبصراً ، وفكراً ، وتوازناً ، وآليات معقدة جداً من أجل ضمان سلامتنا ، هذه الهداية الأولى لكل الخلق ، تشمل الكائنات كلها ، لكن هناك هداية الوحي ، الله عز وجل أوحى إلى أنبيائه كتباً من أجل هداية الخلق ، الهداية الثالثة : هداية التوفيق ، الإنسان حينما يختار منهج الله ، حينما يختار طاعة الله ، يعنيه الله على اختياره ، هذه :
﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
السكينة تزيد الإيمان قوة :
لمجرد أن تتخذ قراراً بالتوبة ، أو بالصلح مع الله بالتعبير المعاصر ، أو بطاعة الله ، أو باتباع منهج الله ، تأتي عناية الله فتسهل لك تنفيذ هذا القرار ، تحبب الإيمان إلى قلب المؤمن ، تبغض إليه الكفر ، والفسوق ، والعصيان
هذه معاونة الله عز وجل ، إنهم فتية اتخذوا قراراً بالإيمان ، هذا من عندهم ، من عند الله وزدناهم هدى ، فلذلك السكينة من نتائجها الدقيقة أنها تزيد الإيمان قوة ، الحقيقة الذي يشد الإنسان إلى الدين ليس أن الدين قدم للإنسان تصوراً دقيقاً ، وعميقاً ، ومتناسقاً للكون ، والحياة ، والإنسان ، ليس أن الدين قدم تفسيراً لكل ما تقع عليه العين ، الدين فوق ذلك يعطي الإنسان شحنة روحية ، الإنسان حينما يتصل بالله يأخذ قوة روحية ، ويرى أن الله يعامله معاملة من نوع آخر :
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
يعامله بالحفظ ، يعامله بالتأييد ، يعامله بالنصر ، إذاً هذا الذي يزيد الإيمان إيماناً، أنك حينما اتصلت بالله رأيت معاونة من الله ، أو بتعبير آخر معاملة جديدة ، هو الذي يزيد الإيمان وقد قيل : إن الدعاء المستجاب يزيد الإيمان ، أنت حينما تدعو الله ، وتعلم أن استجابة الدعاء لا تكون إلا بفعل من الله عز وجل ، ويستجيب الله لك ، تزداد ثقة بعظمة الله، وبأنه يحبك ، وبأنه يسمعك ، وبأنه ينفذ الذي ترنو إليه .
درجات السكينة :
1 ـ الخشوع :
على كلٍّ درجات السكينة درجات كثيرة ، أحد هذه الدرجات درجة الخشوع في الصلاة ، الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها بل من فرائضها :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
أنك تقف بين يدي الله عز وجل ، لكن الذي له معاص وآثام محجوب عن الله ولو توضأ ، ووقف ، وركع ، وسجد ، إذا سبق الصلاة استقامة ، وانضباطاً ، وإحسان لخلق ، عندئذ يستطيع إذا وقف بين يدي الله عز وجل أن يتصل به ، وأن تتنزل على قلبه السكينة في أثناء هذا الاتصال ، وهذا هو الخشوع في الصلاة أحد درجات السكينة .
2 ـ الطمأنينة :
هناك درجة أخرى عند الاضطراب ، عند الفزع ، عند الاجتياحات ، عند الحروب ، عند المقلقات ، عند المصائب الكبيرة ، عند النوازل ، الناس ينهارون ، يفقدون وعيهم ، الآية الكريمة :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
والله أعرف أستاذ عدنان امرأة أصاب بلدتها زلزال ، فحملت وليدها الرضيع وانطلقت خارج البيت من شدة فزعها ، فلما وصلت إلى الطريق لم يكن الذي حملته وليدها .
الأستاذ عدنان :
هل كانت وسادة ؟
الدكتور راتب :
لا ، حذاء زوجها :
﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
فالمؤمن عند الشدائد ، عند الأزمات ، عند النوازل ، تأتي السكينة فتثبته ، يكون هادئاً مطمئناً هذه الدرجة الثانية ، درجة في الصلاة هي الخشوع ، ودرجة في النوازل والنكبات هي الطمأنينة .
3 ـ الرضا بما قسم الله لك :
ولها مرتبة أخرى الإنسان أعطاه الله وجوداً ، أعطاه الله لهذا الوجود خصائص وصفة ، فالإنسان له شكل معين ، له إمكانات معينة ، ولد من أسرة معينة ، في بيت معين ، في مكان معين ، في زمان معين ، في مستوى طبقي معين ، قد
يولد فقيراً
قد يولد غنياً ، هذا واقع الإنسان ، السكينة حيال هذا الواقع الرضا بما قسمه الله لك ، ليس معنى الرضا أن تقعد عن طلب المزيد ، لا ، أما حينما تبذل قصارى جهدك لكي ترقى بمستواك ثم لا تستطيع ارضَ عن الله ، فالسكينة إحدى درجاتها الخشوع في الصلاة ، وإحدى درجاتها الطمأنينة في أثناء النوازل والنكبات ، وإحدى درجاتها حينما ترضى بما قسم الله لك .
إنسان كان يطوف حول الكعبة يقول : يا رب ، هل أنت راضٍ عني ؟ كان الإمام الشافعي يمشي وراءه ، قال له : " يا هذا ، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال له: سبحان الله ! من أنت ؟ قال : أنا محمد بن إدريس ، قال : كيف أرضى عن الله وأنا أتمنى رضاه ؟! قال : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله " .
الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين . فلذلك درجات السكينة كما ذكر .
الأستاذ عدنان :
دكتور ما شرح الآية الكريمة :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ﴾
السكينة محلها القلب :
الدكتور راتب :
الحقيقة أن الله عز وجل من قوله
﴿هُوَ﴾
أي أن السكينة بيد الله وحده ، يعطيها لعباده المؤمنين :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
إذاً السكينة محلها القلب ، يوجد بقلب المؤمن من الطمأنينة صدق ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
هو مؤمن بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، وأنه خالق هذه الأكوان ، ورب العالمين ، والمسير ، وأسماؤه حسنى ، وصفاته فضلى ، لكن كلما ألقى الله في قلب المؤمن هذه السكينة ازداد سعادة بالله ، وازداد معرفة به ، وازداد قرباً منه ، وازداد طاعة له :
﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
الأستاذ عدنان :
دكتور من الممكن في بعض الأحيان أن يسعى الإنسان في هذه الدنيا لتأمين حاجاته الدنيوية ، إذ يشعر بأنه لو أدى وحصل على الحاجة الفلانية سعد بها ، وأسعد أهل بيته ، هل يمكن أن تكون هذه هي السعادة فعلاً ؟
الفرق بين السكينة واللذة :
الدكتور راتب :
هي جزء ، ولكن السعادة المثلى كما بينتم أنها من عند الله عز وجل :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ﴾
وليست الحاجات الدنيوية ، لكن كما قلت : يمكن أن يقول قائل : أنا عندما أؤمن حاجاتي يمكن أن أصل إلى شيء من السعادة ، هذا الكلام التعليق عليه أن هناك فرق بين السكينة أي السعادة ، وبين اللذة ، أي تأمين الحاجات المادية تحقق لذائد للإنسان ، أما تأمين اتصاله بالله ورضاه عن الله يحقق له السعادة التي هي ترادف السكينة ، فرق بين السكينة وبين اللذة ، الحاجات المادية ؛ الطعام ، والشراب ، والكساء ، والأجهزة ، والأدوات، والسيارة ، وكل وسائل الراحة في الحياة الدنيا هذه تحقق اللذائذ ، يستمتع بها الجسد ، أما هذه النفس التي بين جنبي الإنسان سعادتها بقربها من الله :
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
هناك حديث شريف رائع يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ))
الإنسان عندما يحضر مجلس علم قد يكون الجلوس على الأرض وليس هناك ضيافة إطلاقاً .
الأستاذ عدنان :
ضيافة قلبية .
الرحمة مطلق عطاء الله تبدأ من الصحة وتنتهي بالرفعة :
الدكتور راتب :
نعم لكن الله عز وجل يكافئ هؤلاء الذين تجشموا ، وحضروا مجلس العلم ، وجلسوا على ركبهم ، يعطيهم عطاءً قد لا يرى بالعين ، هذا العطاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ))
يقول لك : والله سعدنا بهذا اللقاء ، سعدنا بهذا الدرس ، نحن في قمة السعادة :
(( وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ ))
الرحمة مطلق عطاء الله ، تبدأ من الصحة وتنتهي بالرفعة ، مطلق عطاء الله :
(( وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ))
أي ألهمتهم الخير واستجابوا لهذه الإلهامات ،
(( وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ))
أنت حينما تذكر الله بين الناس يذكرك الله فيمن عنده أي :
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
﴿ أَلَم نَشْرَح لَكَ صَدْرَك وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
كل مؤمن بحسب إيمانه ، واستقامته ، وإخلاصه له من هذه الآية نصيب .
(( مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ))
المؤمن متفائل يرى أن الله لا يتخلى عن عباده :
لذلك :
(( مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ ))
أحاديث الدنيا ، والحسد ، والبغضاء ، و رد التهم ، والغمز ، واللمز ، والغيبة، والنميمة ، هذه مجالس الشيطان ، لذلك لا يستطيع الجالسون أن يقفوا على أقدامهم من شدة القلق ، والخوف ، واليأس ، أنت تجلس مع إنسان يملأ قلبك تفاؤلاً ، وثقة بالله ، وتجلس مع إنسان يريك المستقبل أسود اللون ، مظلماً ، لا أمل بذلك ، لذلك المؤمن متفائل ، المؤمن يرى أن الله لا يتخلى عن عباده ، ولو ضاقت بهم السبل ، لكن فرج الله قريب ، والمؤمن لا ييئس ولا يقنط من رحمة الله .
الأستاذ عدنان :
الحقيقة هذه من ثمار السكينة ، و ثمار الإيمان ، يمكن أن يجده في كل ما يدل على خلق الله عز وجل أيضاً ، تسمعوننا ونشاهد معكم في نهاية كل حلقة شيئاً من الإعجاز العلمي الذي يتصل بمخلوقات الله عز وجل .
عجائب القندس :
الدكتور راتب :
نحن أمام بحيرة هذه كانت شيئاً آخر قبل أن تكون بحيرة ، كانت جدول ماء ، بل لم يكن هناك بحيرة أصلاً ، كانت حصى مفروشة على التراب الجاف ، إلا أن عمالاً نشيطين عملوا كثيراً ، وبذلوا جهداً كبيراً حتى أنشؤوا هذه البحيرة ، العمال النشيطون هؤلاء هم هذه الحيوانات المحببة التي تسمى القنادس ، مفردها قندس .
تبني القنادس بيوتها إلى جانب هذه البحيرة التي أنشأتها ، تبدأ حكاية القنادس برحلة ذكرٍ وأنثى لبناء مأوى جديد لهما .
سيبني زوجا القنادس هذان بيتهما على الماء الجاري ، إلا أنهما قبل هذا العمل يجب عليهما إيقاف جريان هذا الماء ، ولقطع هذا الجريان يستخدمان الأسلوب نفسه الذي استخدمه الناس منذ مئات السنين في إنشاء السدود ، نحن الآن نرى حيواناً هو وأنثاه يبنيان سداً ، ليجعلا هذا الجدول بحيرة ، تمهيداً لبناء بيت في هذه البحيرة .
يلزم للبدء في إنشاء السد أولاً إيجاد المواد اللازمة ، إنها جذوع الأشجار وأغصانها ، تبدأ القنادس عملها بذهابها إلى غابة الأشجار قرب الماء الجاري ، وتأكل قليلاً من أوراق الأشجار التي تجدها في طريقها أولاً ، أما عملها الأساسي فهو قطع الأشجار وإسقاطها ، وتفعل هذا بقضم جذع الشجرة بمهارة ، لها أنياب حادة تقضم جذع الشجرة إلى أن تسقطها على الأرض ، ثم تجرها إلى جدول الماء وتضعها عرضاً .
الجانب المحير في الأمر أنها تقضم الأشجار بحيث أن الشجرة التي تنتهي من العمل بها تقع في اتجاه الماء ، أي آخر قضمة من مكان معين بحيث تنهار إلى جهة الماء حصراً ، فقضم الأشجار وإسقاطها في هذه المرحلة للإنشاء ، كما تقوم القنادس بعد ذلك بفرز أغصانها واحدة واحدة ، وترتيبها أمام أكبر جذعٍ أسقطته ، وتبدأ ببناء السد أمام الماء الجاري، تسحب هذه الشجرة وتسحب أغصانها ، تضعها عرضاً أمام الماء الجاري .
جميع ما استخدمته أثناء هذا العمل فمها فقط وأيديها ، بل إن أسنانها أحياناً حينما تنبري من شدة القضم تنمو لها أسنان جديدة ، لأن سلاحها الوحيد في إنشاء السد أسنانها .
تدأب على هذا العمل بصبر عجيب ، يسقط زوج القنادس في السنة أربعمئة شجرة ، أما الأشجار البعيدة عن الماء فتنسق أغصانها واحدةً واحدة ثم تجرها إلى السد الذي أنشأته .
بنية القنادس من آيات الله الدالة على عظمته :
تستخدم القنادس أثناء قضم الشجرة أسنانها الأمامية ، تتآكل هذه الأسنان بسبب استخدامها الدائم وتتكسر أحياناً مع مرور الزمن ، غير أن فك القندس خلق بشكلٍ متناسبٍ مع هذا العمل ، الأسنان الأمامية الحادة كأظافر الإنسان تماماً ، تطول باستمرار وكأنها أظافر الإنسان .الأستاذ عدنان :
أي مطلوب منها بشكل دائم أن تعمل .
الدكتور راتب :
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
الله تعالى خالق هذا الحيوان أوجد لها أسناناً متناسبةً مع العمل الذي تقوم به ، بفضل هذا تستطيع دفع الماء بسهولة ، أما أجسام القنادس فقد خلقت بتصميمٍ خاص يسهل عليها السباحة في الماء ، لأن بيتها في الماء ، و ما بين أصابعها مغطى ، وبفضل هذا تستطيع دفع الماء بسهولة ، كأرجل البطة ، لتكون أرجلها مجدافاً ، أما ذيلها الخلفي كمجداف ضخمٍ ، وبفضل هذا تسبح في الماء بسهولة تامة .
تقعر السّد الذي تنشئه القنادس نحو الداخل مهارة خلقت مع القندس بقدرة الله عز وجل :
تستمر القنادس في إنشائها بعملٍ دؤوب ، وتنسق القنادس جذوع الأشجار وقطع الأغصان الصغيرة بمهارة ، وتعمل على توسيع السد مع الوقت ، وكلما ارتفع السد ترتفع معه بركة الماء ، وبعد نشاطٍ يدوم أشهراً عديدة تتكون بحيرةٌ
كبيرة من خلال هذا السد
إلا أنه كلما كبرت البركة يجب على القنادس تثبيت وتصليح شقوق السد ، في صيانة دائمة ، هي تضع الأشجار عرضاً ، والأغصان بين الأشجار ، والأغصان مع الأوراق ، فإذا كان هناك تسرباً للماء أو شقوق تصلحها ، وتقوم بهذه المهمة الصعبة بصبر وجَلد ، المنظر الذي يظهر نتاج تعبٍ ، تعب أشهرٍ عديدةٍ وبكلمةٍ واحدة هو إنجاز رائع ، يظهر
سدٌ حقيقيٌ شبيهٌ بما يصنعه الإنسان
إذا دققنا بصنع القنادس سدها على شكل قوسٍ مقعر إلى الداخل ، من أجل تحمل ضغط الماء ، هذا ليس شكلاً عشوائياً لأن أكثر السدود تحملاً لضغط الماء هو السد المقام بشكلٍ مقعرٍ إلى الداخل .
الأستاذ عدنان :
والآن لو صورنا سدود من الجو لوجدناها مقعرة نحو الداخل .
الدكتور راتب :
وباختصار القنادس ملهمةٌ منذ ولادتها إلى هذا الإنشاء الذي لم يصل إليه البشر إلا بعد زمنٍ طويل ، من لقنها هذه المعلومات ؟ بلا شك لا يمكن أن يكتسب كائنٌ خبرة إنشاء سدٍ كهذا مصادفةً ، ولا يمكن أن نرى سداً صمم بأفضل السبل لمقاومة الماء مصادفةً ، ولا تستطيع القنادس نقل هذه الخبرات إلى الجيل التالي لها . لا يوجد تعليم عندهم ، يولد القندس مع هذه الخبرات ، الله تعالى هو الذي وهب القنادس هذه الخبرات ، هو خالق الكائنات كلها والذي ألهمها أعمالها ، الحقيقة شيء مدهش أن الإنسان بعد التقدم ، والرقي ، والحضارة ، والجامعات ، وكليات الهندسة ، يكتشف أنه لا بدّ من سدٍّ مقعر نحو الداخل ، ويأتي حيوان أعجم معه خبرات من الله مباشرة يبني سداً بأحدث ما توصل الإنسان إليه .
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان :
القباب نجدها بهذا الشكل لتكون أمتن وأقوى الجسور تحملاً على الطريقة نفسها ، فسبحان الله كيف خلق هذه العجماوات لتكون ملهمة من الله عز وجل ، وهذا ما يزيدنا سكينة وإيماناً ، فشكراً لكم .
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ، في كليات الشريعة و أصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .