- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠32ندوات مختلفة - قناة سوريا الفضائية
ضرورة الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله :
حديثنا اليوم حول الهجرة ، هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من مكة إلى المدينة ، بسبب ما لاقوه من ضغوط اقتصادية ونفسية واجتماعية ، و بسبب ما وقع عليهم من ظلم وعذاب واضطهاد ، ونقف أمام أمور هامة ، مولد النبي صلى الله عليه وسلم، بداية نزول الوحي ، ثم الهجرة ، أما مولده صلى الله عليه وسلم فكان كمولد أي طفل يولد في مكة المكرمة ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل سراً إلهياً ، وهو أنه سيكون خاتم المرسلين برسالة هي رحمة للعالمين ، أما بداية نزول الوحي ، بداية اتصال السماء بالأرض فقد كانت بمثابة حجر الأساس لمشروع ديني وإنساني كبير ، ولكن هذا المشروع لم يظهر بعد ، ثم كانت الهجرة .
تعلمنا الهجرة أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، الله جلّ جلاله شاءت حكمته أن يخلق كل شيء بسبب ، عطاؤه بسبب وعقابه بسبب ، وأن هذه الأسباب لا تخلق النتائج لكنها ترافقها .
شيء آخر ؛ النبي عليه الصلاة والسلام من خلال سيرته نقتبس أشياء كثيرة ، فحينما هاجر من مكة إلى المدينة أخذ بالأسباب وكأنها كل شيء فهيأ من يمحو الآثار ، وهيأ من يأتيه بالأخبار ، وسار مساحلاً ، وبقي في غار ثور ثلاثة أيام تمويهاً للمطاردين ، ثم اختار خبيراً آثر فيه الخبرة على الولاء ، هذا كله من الأخذ بالأسباب ، لكن حينما وصلوا إلى الغار أكد لنا أنه متوكل على الله عز وجل فقال لسيدنا الصديق : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ "
هذه حقيقة يحتاجها المسلمون أيما حاجة ، يجب أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وينبغي أن نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، فكأن الطريق الكامل عن يمينه واد سحيق وعن يساره واد سحيق ، إن أخذنا بالأسباب واعتمدنا عليها فقد وقعنا في وادي الشرك ، وإن لم نأخذ بها وقعنا في وادي المعصية ، أهل الدنيا كأنهم انقسموا إلى فريقين قسم أخذ بالأسباب واعتمد عليها وألهها فقد أشرك ، وقسم لم يأخذ بها فقد عصى ، لكن الموقف الأكمل أن نأخذ بالأسباب لأنها طريق الأهداف ثم نتوكل على الله ، لأن الله جلّ جلاله لا يمكن أن يعطي لهذه الأسباب فاعليةً إلا بمشيئته ، فالموقف الإيماني الكامل موقف يجمع بين العمل وبين التوكل ، أما أن نلغي العمل ونتوكل فهذا اسمه التواكل ، النبي عليه الصلاة والسلام تستنبط من سيرته حقائق كثيرة جداً ، أحد هذه الحقائق التي نأخذها من هجرته صلى الله عليه وسلم الأخذ بالأسباب والتوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب .
حقيقة الهجرة :
خاطر فكري يمر بالذاكرة ، الهجرة لم تكن محاولة نجاة بل جاءت في موعدها مع القدر لتحقيق أهداف إنسانية ودينية سامية ، فما حقيقة الهجرة ؟
حقيقة الهجرة أن يأخذ المؤمن موقفاً ، أن يتحرك ، فالإيمان ما إن تستقر حقيقته بالنفس حتى يعبر عنه بحركة ، بصلة ، بقطيعة ، برضى ، بغضب ، هذه الحركة هي التي تؤكد حقيقة الإيمان ، وكأن الأصحاب الكرام كانوا في مكة فلما أمروا بالهجرة فرزوا ، فالذي أراد الله ورسوله والدار الآخرة ترك موطنه وترك كل ما في هذا الموطن من خصائص وميزات ذلك أن الآخرة تحتاج إلى تضحية ، فالذي آمن ولم يهاجر كأن إيمانه لم يقطف ثماره إطلاقاً .
الصحابة الكرام تركوا كل شيء في سبيل الله ، و ما لم يضحِ الإنسان في سبيل الله بشيء هو عنده ثمين فإن ثمار الإيمان لم يقطفها أبداً ، الأصحاب الكرام تركوا بيوتهم وأموالهم وتجارتهم ومركزهم في بلدهم وانتقلوا إلى بلد ليسوا فيه على شكل يريحهم ، ولكن الله عز وجل هو الذي أراد لهم أن يفرزوا ، وأن ينجحوا في هذا الامتحان .
المعنى الدقيق للهجرة أن تغادر بلداً لا تستطيع أن تقيم فيه شعائر الله ، ولا أن تضمن سلامة دينك ودين أهلك و أولادك إلى بلد يمكن أن تطيع الله فيه ، وأن تضمن سلامة دينك ودين أولادك ودين أهلك .
الهجرة في المعنى الدقيق هي انتقال من بلد إلى بلد يشبهان مكة والمدينة ، أما الانتقال من مكة إلى المدينة الآن فهذا لا معنى له إطلاقاً ، لأنه لا هجرة بعد الفتح ، لكن ممكن أن تنتقل من بلد إلى بلد يشبهان مكة والمدينة .
شيء آخر ؛ لو وسعنا مفهوم الهجرة : عمل لا يرضي الله ينبغي أن تنتقل منه إلى عمل آخر يرضي الله ، علاقة لا ترضي الله ينبغي أن تنتقل منها إلى علاقة ترضي الله ، بيئة لا ترضي الله ينبغي أن تنتقل منها إلى بيئة ترضي الله ، فالمعنى الدقيق للهجرة أن تبحث عن مكان تعبد الله فيه ، وأن تضمن سلامة دينك ودين أولادك ودين أهلك ، بالمعنى الواسع أن تبحث عن بيئة صالحة تعينك على طاعة الله ، وأن تبحث عن مجتمع يزيدك إيماناً بالله ويبعدك عن فتنة الدنيا .
الهجرة موقف عملي ، وما لم يأخذ الإنسان هذا الموقف العملي لا يعد مؤمناً بالمعنى الدقيق ، قال تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
قال الله تعالى في كتابه الكريم :
﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾
معاني الهجرة :
لقد كانت الهجرة حدثاً فريداً من أول يوم ، ذلك اليوم الذي كان بداية التاريخ الإسلامي.
حق للهجرة أن تكون مبدأً للتاريخ الإسلامي ، ذلك أن المسلمين حينما انتقلوا من مكة إلى المدينة أصبح لهم كيان ، هذا الكيان أعطاهم عمقاً في حياتهم ، وأعطاهم شخصيةً متميزة ، فمن الضياع إلى أن وجد المسلمون أنفسهم في المدينة ، من أرض يضطهدون فيها إلى أرض يعتزون بها هذا هو المعنى الأول .
المعنى الثاني من التفرقة ، من العداوة والبغضاء ، من العنعنات الجاهلية ، من العصبيات الجاهلية إلى الأخوة ، والمحبة ، والعطاء ، والتضامن ، والتعاون ، بون شاسع بين ما كانوا عليه في الجاهلية وبين ما أصبحوا به بعد أن أسلموا ، وأن انتقلوا إلى المدينة المنورة ، من مجتمع الاضطهاد والفقر إلى مجتمع الكفاية والعدل ، من مجتمع الضياع إلى مجتمع الهدى ، من مجتمع الشقاء إلى مجتمع السعادة ، فهذه الهجرة التي عدت نقلةً نوعيةً حادةً في حياة المسلمين حق للمؤرخين ولمن أراد أن تكون الهجرة بداية التاريخ الإسلامي أن يجعلها بداية لهذا التاريخ .
أيها المشاهدون الكرام ؛ تلك كانت لمحات عن هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كل عام وأنتم بخير ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .